لا شيء
كانت أنثى، في أنوثتها دفء، وفي جاذبيتها لهب. وكانت حرَّة لا يَمتلكها رجل؛ لأنها تَمتلِك رجالًا كثيرين يُحبُّونها ولا تحبهم، وكلما أحبُّوها لم تُحبَّهم، وكلما لم تحبَّهم أحبُّوها.
وكانت ذكية لم تبِع نفسها لرجل؛ فكل امرأة مثلها يَمتلكُها زوج كالأسد، يُراقبها ويُحاسبها، وقد يَصفَعُها أو يَركلها، ثم يخرج يشكو منها لامرأةٍ أخرى، ويبكي كالطفل بين يديها، لم تَقبل أن تعيش مع الأسد وهو يزأر، وانتظَرَت في بيتها كالملكة ليأتيها الطفل الشاكي الباكي، وكم من أطفالٍ اشتكَوا وبكَوا بين يديها، وكانت امرأة لكنها لم تكن نَمِرة. كان لها قلب يَنبِض أحيانًا، وإن تراكَمَ عليه غبار الطرق المُتربة التي تسير فيها؛ فلم يكن لديها وقت لتَنفض الغبار عن قلبها؛ لأنها مشغولة كرجال الأعمال ومُلَّاك الأطيان، تَمتلِك أطيانًا من الرجال لا حدَّ لها، من كل صنف، وكل طبقة، وتَعرف كيف تجعلهم يضعون رءوسهم على حِجرها، ويتنفَّسون بهدوءٍ واستسلام، ثم يَذرِفون الدموع ويشتكون.
ولم تكن تسمع شكواهم؛ لأنها كانت تَسرح دائمًا، تنظر بطرف عينها إلى الحياة بأستاذية وكبرياء؛ فالحياة تحت قدميها، كل شيء فيها موجود عندها في العربة، في الثلاجة، في الدولاب، على الرف، أو في جيب رجل، كل شيء سهل الحصول عليه من أي مكان، قريب أو بعيد. ليسَت في الحياة مسافات ولا مُستحيلات عندها، الحياة التي تذلُّ الملايين من النساء مثلها، وتربطهن في البيوت كالماشية، يَغسلن جوارب أزواجهن، وتَنصهِر بشرتهنَّ الرقيقة أمام نار الطهو والشَّيِّ، وبعد أن يلتهم كل زوجٍ الطعامَ الشَّهي، ويُبدل الجورب المتَّسخ، ويُصدر الشخطة أو التكشيرة، يفر من البيت والزوجة إلى الحياة … إليها!
وتتلقَّاهم باسمةً ناعمة مُعطَّرة؛ فهي لا عمل لها إلا أن تتزيَّن وتتعطَّر، وتُدلِّك ساقيها ويدَيها.
وكم تمنَّت هذه الحياة الخاملة، بلا واجباتٍ من زمنٍ طويل، حينما كانت في السابعة عشرة من عمرها، فتاةً صغيرة تتعلَّم الآلة الكاتبة؛ لتحصل على عمل، وفي أول شهر قبضت فيه ماهيتها، خفق قلبها ولمعت عيناها من الفرح، وهي تُخفي الستة جنيهات، بعد أن عدَّتها عشر مرات في بطانة حقيبتها، وضغطَت عليها تحت إبطها، حتى لا يَخطفها أحد الصبيان الذين يَقفِزون على سلَّم الترام، وأول ما وصلت بيتها أخرجت الجنيهات الستَّة لأمها، وهي تنظر في عينيها لتُشبع نفسها من السعادة الضخمة، التي تحسها وتراها، واغرورقت عينا أمها بالدموع، وهي تحتضنُها وتُقبلها قائلة: «ربنا يخليك يا فريدة يا بنتي، خلاص ربنا فرجها علينا، وعوَّضنا بك عن المرحوم!»
ومن يومها وفريدة تُحسُّ أنها تفتح بيت المرحوم أبيها، وأنها تعول أسرتَها، وأصبحت تَثِق في نفسها، كما يَثق في نفسه أي رجل يَفتح بيتًا ويعول أسرة، ورفعَت رأسها وهي تَمشي؛ لتُشعِر العالم أي مسئولية ترعاها، وأي أهمية لوجودها. وحينما كان يعاكسها في الطريق شابٌّ رقيع، كانت تَنظر إليه شذرًا، كأنها تتعجَّب من جرأته على معاكستها، هي التي تقبض ماهية وتعول أسرة. أو حينما تُوشك على دَهسِها عربة تتعجَّب، كيف لا يَحترم الناس حياتها ويُقدِّرون وجودها؛ لأنه إن ضاع يضيع معه وجود أسرة بأكملها.
ولمَّا بلَغت فريدة العشرين من عمرها، واشتدَّ بروز نهديها وضمور خصرها تحت الفستان البسيط، الذي تلبسه في المكتب كلَّ صباح، لاحظت أن سكرتير «سعادة البك» يُطيل إليها النظر، وهي تكتب على الآلة الكاتبة، واختفَت لهجتُه الخشنة الآمرة، التي عوَّدها عليها بصفته رئيسها المباشر. وكأي أنثى فهمت بغريزتها السبب، ودبَّ الحماس الدافئ في داخلها، وجعلها تتمشى بخطواتٍ أخفَّ وأرشق، وفي بيتها بعد أن تأكل ما أعدَّته أمها، تذهب إلى سريرها وتُمدِّد ساقيها، لتقضي ساعة أو أكثر في تخمينٍ لذيذٍ، عما سيكون سببًا لهذه الرقة الجديدة.
ولم تَعِش أيامًا كثيرة في لذة هذا التخمين؛ إذ أصبح السبب مؤكدًا، واعترف لها السكرتير بحبِّه في ليلةٍ مقمرة بجانب النيل، وتذوَّقت طَعمًا جديدًا لم تعرفه من قبل، طعم الرجل، أنفاسه وعرقه. ولم يُعجبها هذا الطعم، أو لم يكن في مستوى خيالها الخصب، وأحسَّت أن الواقع صغير بالنسبة للخيال، لكنها قنعت به، وظنَّت أنها لن تجد واقعًا خيرًا منه؛ فهو رجل مثل كل الرجال وهو رئيسها.
وبعد أيامٍ قليلة اعتادت هذا الواقع وأَلِفته، وأصبح أجمل مما كان، ولم تتصوَّر أن هناك سعادة أكثر من أن تتزوَّج هذا السكرتير، لولا أنها اكتشفت سعادة أكبر؛ إذ تغيَّب السكرتير يومًا عن العمل، واضطرت إلى القيام بأعماله، ودخلت حجرة «سعاد البك» لأول مرة، وتعثَّرت قدماها في السجاد الفاخر، ولم تَجرؤ على التدقيق في ملامح «البك»، لكنها رأت ابتسامة على شفتيه، ابتسامة رقيقة، وبعد هذا اليوم أصبح «البك»، يطلبها إلى حجرته، ويُكلِّفها بأعمالٍ ليست من اختصاصها، وبعد انتهاء العمل في أحد الأيام لمحت «سعادة البك»، وهو يَركب عربته، ولم تتوقَّع أن يُناديها بالاسم، ويدعوها للركوب معه قائلًا: بيتك فين يا فريدة؟
وتلعثمت وهي تقول: في العباسية.
وابتسم وهو يفتح لها باب العربة قائلًا: عال، تبقي في سكِّتي، وأنا طالع مصر الجديدة.
وركبَت إلى جواره، وهي تَلتصِق بباب العربة، لتحصل على أكبر مسافة بينه وبينها، وأطرقت وهي تفرك أصابعها، إنها أول مرة في حياتها تَركب عربة ملاكي، وبجوار مَن؟ «سعادة البك» رئيس رئيسها، وصاحب الجاه والمال والمكتب وكل شيء. ولم يُساوِرْها شك في أن تصرفات البك معها، ما هي إلا إشفاق عليها، وخصوصًا وهي كما وصفَت نفسها في طلب العمل، يتيمة الأب وتعول أسرتها.
ولم يَدُم يَقينها بهذا الإشفاق قليلًا؛ إذ بعد ثلاثة أيام بالعدد، كانت تركب بجوار البك، ولم تكن تَلتصِق بالباب خجلًا، وإنما كانت تَلتصق بالبك نفسه، الذي حوَّطها بذراعه، وبين كل عموديِّ نورٍ، يَميل عليها ليأخذ قُبلة، وكانت فريدة تنظر إلى ما حولها، كأنها عمياء أو نائمة تحلم. وأوقف البك العربة فنزلت، وانحنى أمام المصعد، لتدخل أمامه فدخلت، وصعد المصعد إلى أعلى، كأنه يصعد إلى السماء، ثم وقف وخرجت أمامه، وأخرج البك من جيبه مفتاح شقته، وفتح الباب وانحنى لها لتدخل أمامه فدخلت.
لم تدرِ فريدة كيف فرَّطَت في نفسها مع هذا البك، رغم أن السكرتير لم يَستطِع أن يأخذ منها شيئًا، لكنها كانت لا تستطيع أن تُخالف البك، أو خُيِّل إليها أنه شرفٌ عظيم لها، أن تنام في أحضانه على فراشه الوثير، ولم تَعرف قيمة ما منحتْه له من نفسها، إلا بعد شهرٍ كامل، بعد أن ملَّها البك ولم يَعُد يوصلها إلى البيت أو يعطيها مواعيد لتلقاه بالليل كما كان يفعل. وعادتْ فريدة منكسرةً إلى مكانها، على الآلة الكاتبة بجوار السكرتير، وتباعَد عنها السكرتير أيامًا قليلة، ثم عاد يبثُّها غرامه، فعادت إليها ثقتُها بنفسها، وبكت على صدره، وهي تحكي له قصتها مع البك بالعكس؛ قالت إنَّ البك أحبَّها وظل يغريها، لكنها لم تحبَّه؛ لأنه سمين وله كرش، ثم تركها بعد أن يئس منها، وأحسَّت بالزهو وهي تَحكي، ولو بالكذب، عن انتصارها على البك، وزاد زهوها حينما لمحَت معالمَ التصديق في عينَي السكرتير.
وعرفت أنَّ السكرتير لن يتزوَّجها لأنه مُتزوِّج؛ ولهذا لم تلتزم معه العفَّة والأدب، وتعمَّدت أن تكون مُستهترة؛ فهي تقبله مرة، وتَهجُره مرة، وتحكي له بالكذب عن مغامراتها مع رجالٍ آخرين؛ لتعذِّبه وتهزأ من رجولته، وهي في الواقع تتمرن على الخلاعة، وتُجرِّب معه الحياة المستهترة بلا خلق، ولعل تجربتها السافرة هذه هي التي أفهمتها سرَّ الرجل؛ لأنها كانت تُقلِّبه وتفتش فيه بجرأة عن نقط ضَعفه؛ لذلك حينما سكن إلى جوارهم ذلك الشاب الطيب، الذي تخرَّج من معهد التربية واشتغل مدرسًا، استطاعت فريدة في الدقائق التي تمكثُها في البيت، أن تجذب عينيه إليها، ثم تَجذبه كله بعد أيام، ليطلب يدها من أمها، وقبلت فريدة الزواج بلا تفكير؛ لأنه شيء جديد لم يحدث لها من قبل؛ فقد عاشت مع البك في شقَّته أيامًا طويلة، لكنها لم تَعتبِر ذلك زواجًا؛ لأنها تريد أن يعرف الناس أنها تزوَّجت، أن يصبح لها زوج وبيت وأولاد، أن يكون لها رجل تضع يدها في يده في ضوء النهار كالناس الشرفاء، لا أن تتلصَّص معه في الظلام كالمشبوهين.
وحينما جلس الشاب الطيب أمامها، وأخذ يدها في يده اغرورقت عيناها بالدموع، دموع الحب، وأحسَّت وهو يُردِّد وراء الشيخ العجوز «لقد قبلتُكِ زوجتي يا فريدة» لأول مرة في حياتها، أنها تحبُّ هذا الشاب الطيب، الذي يُعلن زواجها أمام كل الناس بصوتٍ عالٍ.
ودخلت معه بيته لأوَّل مرة، وهي تحسُّ أنها ستبذل حياتها إرضاءً لهذا الزوج الطيب، وأن تُخلِص له كل الإخلاص، لكنها لم تستطع؛ إذ شعرت بعد أيامٍ قليلة، أن أمنيتها تحققت، وأن الناس عرفوا أنها تزوجت، ونادوها بالعروسة ثم كفُّوا عن النداء، وانتهى الحماس الذي كانت تحسُّ به، نحو هذه الحياة الجديدة، ولم يَعُدْ عندها للزواج معنًى بعد هذا سوى ذلك الزوج البارد، الذي يتحرَّك في البيت بشبحه البطيء البليد، فيُثير في نفسها شعورًا بالكآبة، كأنها تعيش في قبرٍ وتدفن معها حيويتها وذكاءها وجاذبيتها. وحينما كان يجلس زوجها معها، يتكلَّم ويرى لسانه وهو يخرج ويدخل، ولعابه الأبيض وهو يتجمَّع عند زاويتي فمه، تشمئز من حديثه وغبائه، وتثور فيها نيران التمرد على هذا القيد السخيف، وتتأجَّج رغبتها في الانطلاق، في الحرية، في الاستهتار، في أن تعيش كل لحظات يومها وليلها، أن تنشر جاذبيتها أمام الرجال، وتَستمتِع بما تراه في عيونهم من رغبةٍ ولهفة.
وصمَّمت أن تُطلِّق هذه الحياة الراكدة؛ فهي لا تؤمن بالزواج أيًّا كان، ولا تحتمل أن تبيع أنوثتها ومواهبها لرجلٍ مقابل لا شيء، سوى قيود واحتكار والتزامات هي في غِنًى عنها.
وعادت فريدة بحقيبة ملابسها إلى بيتها، وقابلتْها أمُّها بالدموع؛ فالأم لا يفجعها شيء مثل طلاق بنتٍ من بناتها، ومسحت لأمها دموعها وهي تبتسم، وقالت لها إنها هي التي طلَّقَت زوجها؛ لأنه أناني أراد أن يستولي على كل إيرادها، ولا يترك شيئًا لأسرتها.
وتنفَّسَت فريدة بهدوء، كأنها أوقعت عصفورين بحجرٍ واحد، وجفَّفت أمُّها دموعها وهي تدعو على الرجل الأناني المخادع، وتُقبِّل ابنتها في حبٍّ وامتنان، وهي تقول: ربنا يسعدك يا بنتي ويعوضك، طول عمرك بتضحِّي علشانا.
وعادت فريدة إلى حياتها الأولى، عادت ربَّ البيت الذي يُنفق ويدبِّر، ويدخل ويخرج بلا حساب، وعادت إليها ثقتها بنفسها، وشعورها بأهمية وجودها، وعادت حرة لا يمتلكها رجل، وتمتلك رجالًا كثيرين يحبونها ولا تحبهم، وكلما أحبوهم لم تحبَّهم، وكلما كرهَتْهم أحبوها، لكنها تعرف كيف تجعلهم يضعون رءوسهم على حجرها، ويتنفَّسون بهدوء، وأصبحت الحياة تحت قدميها، كل شيء فيها موجود عندها في العزبة أو الثلاجة أو في الدولاب، أو في جيب رجل، ليس في الحياة مستحيلات عندها.
ورغم كل هذا لم تكن نَمِرة دائمًا، كان لها قلب ينبض من تحت الغبار الذي تراكم عليه، وحينما تحسُّ بقلبها وهو ينبض، تتطلَّع حولها كالمشدوهة، وتموتُ الابتسامة الدائمة على شفتيها، وتضع يدها على قلبها، وهي ترى الحياة أمامها ضخمة كالعملاق، وهي تحت أقدامه لا تستطيع أن تلمسه، لكنها تُحاول أن ترى شيئًا، فتنظر من بين أقدامه كالشاردة إلى نفسها، إلى حقيقتها، فتجدها لا شيء.