حينما أكون تافهة
جلستُ على المقعد الخشبي المؤلم، وأسندتُ ذراعي التي تحمل رأسي على مكتبي، وأخذت أفكِّر رغم أنفي، ورغم أنني عاهدتُ نفسي على ألا أفكِّر، وأن أشتغل في هذه الوظيفة كما يَشتغل الناس، لكني في هذه اللحظة شعرت بالعجز الكامل، عن مقاومة التفكير؛ فالأشياء التي تعيش داخل رأسي أحسُّ لها دبيبًا، وأسمع لها همسًا عاليًا يكاد يفلق رأسي نصفين.
واستسلمتُ في ضعفٍ لأن أفكِّر، فوضعتُ الملفَّ الغليظ في درج المكتب، وأغلقت القلم الحبر ووضعته في حقيبتي، وأعطيت ظهري للرجل الذي يَجلس بالقرب مني؛ لأحجب عن عيني رأسَه الغليظ ولأبعد أذني عن صوته الأجش.
وأخذت أفكاري تتقاذفني بسرعةٍ هائلة، وأنا بينها أدور وألفُّ كأنني داخل تروسِ ساقية، تدور وتئنُّ وتزِنُّ.
وسمعتُ الأشياء التي تعيش في رأسي، تدبُّ من فوقي وتقول: «ما هذا الذي أعمله؟ هل هذا هو طموحي؟ هل هذه هي آمالي؟ لا شيء! واحدة من الناس، من الملايين، أجلس على هذا المكتب الخشبي ست ساعات متواصلة، أقوم فيها لأتمشَّى مرة أو مرتين؛ لأليِّن مفاصلي ثم أجلس ثانيةً، لو متُّ هذه اللحظة فلن يفقد العالم شيئًا يُذْكر، بل لعله سيزيد مقعدًا خاليًا للآلاف المنتظرين على الأبواب يطلبون الشغل. لن يشعر العالَم بفقدي أبدًا، ربما سطرٌ أو سطران في ذيل جريدةٍ لا يقرؤهما إلا بعض الموظَّفين المُحالين إلى المعاش.»
وأحسستُ بوجومٍ يَجثم على صدري، فأغلقتُ درج مكتبي بالمفتاح، وأخذت حقيبتي وخرجت إلى الشارع، وكانت السماء تُمطر رذاذًا خفيفًا، وهواء الشتاء يهبُّ باردًا يلفح وجهي، ويُصيب جسمي برعدةٍ تصطكُّ لها أسناني، ووضعتُ يدي في جيبي لأُدفئهما، وسرت أنظر إلى العربات الفاخرة، وهي تجري ومن وراء الزجاج المحكم في تعالٍ وكبرياء، بلا إشفاق على حالي، وأنا أُصارع المطر، الذي بدأ ينهمر ثقيلًا على رأسي، فيُفسد تسريحة شعري التي دفعت فيها بالأمس ثلاثين قرشًا، اقتطعتها بمشقةٍ من ميزانية الأكل.
وضعت حقيبتي على رأسي، ونظرت شذرًا إلى امرأةٍ تجلس كملكة في عربةٍ طويلة جدًّا، وقلت لنفسي إنها عربة زوجِها بلا شك، تأخذها منه في الوقت الذي يعمل فيه لتَذرع بها الشوارع من أجلِ لا شيء. إن شكلها لا يدلُّ على أنها تشتغل شيئًا، وإنما أحدٌ يشتغل من أجلها، لا يمكن لهذه المرأة أن تصحو من النوم، قبل الحادية عشرة صباحًا. أيُّ لذةٍ تلك التي تجدها في الراحة والكسل؟!
ومضيتُ أُفكر، وخطرت لي فكرةٌ غريبة؛ سأستقيل من عملي وأبحث عن زوجٍ يشتغل من أجلي، وأنام حتى العاشرة صباحًا، لقد تعبت من القيام مُبكرة. ما جدوى كل هذا العناء الذي أنا فيه؟ لا شيء! حتى المأكولات التي اشتهيتها، وأنا تلميذة صغيرة، لا أستطيع أن أشتريها.
وأحسستُ ببرودةٍ أخرى غير قطرات ماء المطر، تتساقَط على رأسي، وأنا أشعر بطموحي وآمالي وأحلامي، كلها تتقلَّص وتنكمش، لتَنحصِر في هدفٍ واحد، هو العثور على زوج.
وأسرعت إلى بيتي، وقد غمرتني الفكرة الجديدة، بنوعٍ من الحماس، وحينما وصلت إلى العمارة، رأيتُ عربة خضراء طويلة، تقف وتنزل منها فيفي، ورأيت البوَّاب يقف لها في احترامٍ وإكبار، ولا يكاد ينظر إليَّ، وفتح لها باب المصعد فدخلت أمامي، ودخلتُ وراءها. كانت فيفي ممثلة ناشئة، لم تشتهر بعد، لكنها كانت تستأجر شقةً بأربعين جنيهًا، خمس غرف، وكنت أنا أعيش في غرفةٍ واحدة بعشرة جنيهات، ولا يتبقَّى لي من المرتب إلا ستة جنيهات تقريبًا، أنفقها في الأكل والملبس والمواصلات، ولا يبقى للبواب إلا عشرون قرشًا، أدفعها له في أول كل شهر في خزيٍ شديد، فيَرشقني بنظرة احتقار بالغة، وأبلع ريقي وأقول له: «معلهش يا عم محمد، إن شاء الله في الشهر الجاي أزوِّدك.»
وتمرُّ الشهور تلو الشهور، ولا أزيد شيئًا، بل لعلِّي كنت أنقص وزنًا.
وقلت لنفسي وأنا أدخل شقتي، سأستقيل من شغلي وأصبح مُمثلة، ولِمَ لا؟ إنه أسهل طريق للحصول على الفلوس واحترام الناس، أسهل من الحصول على زوج!
ونظرت إلى المرآة أتأمَّل ملامحي، وأتخيَّل نفسي على الشاشة، أُمثِّل والناس يَتفرَّجون، وأخذت أفتح فمي وأغلقه، وأنظر نظرة غرام مرة، ونظرة عتاب مرة، ونظرة انتقام مرة … مدهش! ورضيت على نفسي. إنني أصلح للتمثيل، يا للغباء! كيف ضللت طريقي ودخلت كلية الطب؟!
وخلعت ملابسي ولبست ملابس النوم، ودخلت السرير دون أن آكل، إن نفسي مصدودة، بعد أن انتشيت من بريق المجد والجاه والشهرة، التي رسمتُها لحياتي المقبلة، وغلَبني النوم فنِمت.
ولم أَدرِ كم مضى من الوقت، لكني صحوتُ على صوت طرقٍ شديد على باب شقتي، فقمت مذعورة لأرى مَن الطارق، ورأيت عم محمد البواب يقف لاهثًا، ويقول لي في استعطافٍ: «والنبي يا دكتورة عايدة، الست فيفي تعبانة جوي، وطالبة حضرتك دلوقت.»
ووضعتُ على كتفي روبًا صوفيًّا، وأخذت حقيبتي، وصعدت مع البواب إلى شقة فيفي، وهناك على السرير الناعم، الذي يَبرق بالحرير من فوق ومن تحت، رأيتها … فيفي التي سحرت لبِّي بعربتها وملابسها ومالها، تنام أمامي وحول عينيها هالتان سوداوان، وعلى وجهها صفرة بائسة. كانت ترتجف وتئن، ولما رأتني قالت في استعطاف: «أرجوكِ يا دكتورة أنا عيانة خالص، عندي صداع وحرارة، وجسمي كله بيرتعش، أرجوكِ تكشفي عليَّ.»
وجلست بجوارها، وأمسكت يدها لأعدَّ نبضها، ومضَتْ لحظة صمت رهيبة، كتمت فيها فيفي أنفاسها، ووقف البواب خلفي، وأحسستُ كأنه من رهبة الموقف كتمَ هو الآخر أنفاسه، ووقف في خشوعٍ وإجلال.
ومددت يدي في ثقةٍ، ووضعت السماعة في أذني، ونظر البوَّاب إلى الآلة الصغيرة في خشوعٍ كأنه ينظر إلى شيءٍ سحري إلهي فوق قدرته البشرية، ثم استدار وأعطانا ظهره متأدِّبًا.
وتركت فيفي صدرها تحت سمَّاعتي في استسلام، ونظرت إليَّ في ثقةٍ وإجلال، كأنني قادرة على منحها الشفاء، في اللحظة التي أسمع فيها دقَّات قلبها، وأتممت الفحص، وكتبت لها العلاج، ونصحتها بما يجب أن تتبعه.
ورأيت فيفي تَبتسم في راحةٍ، وأنا أضع أدواتي في حقيبتي، وأخرجَت من تحت وسادتها كيسًا، ومدَّت لي يدها بجنيهين.
لكن تراجعت في إباءٍ وكبرياء، وقلت لها باسمة: «لا، مش معقول، ده احنا جيران!»
نظر إليَّ البوَّاب مندهشًا، ثم أسرع فحمل عني حقيبتي، وسار خلفي في خشوع.
وعند باب شقتي أخذت منه الحقيبة، ثم أغلقت بابي، وذهبت إلى فراشي لأكمل نومي، وابتسمت لنفسي في سعادة، وأنا أحسُّ بدفء السرير، ونِمتُ أحلم بورقتين ناعمتين، كل منهما تساوي جنيهًا.