من أجل من؟
دقَّ جرس التليفون بجوار رأسي حادًّا صارخًا مُلحًّا، فتقلبتُ في فراشي، أُبعِد رأسي عنه، أهرب منه، ولكنه ظل يهدر في سكون الليل، يُمزِّق من حولي ستائر النوم المخدِّرة اللذيذة، يلاحقني كلما هربت منه. وامتدت يدي بلا إرادة، ورفعت المسماع إلى أذني، وقلت وأنا أتثاءب: ألو!
وجاءتني حشرجةٌ خشنة، تبيَّنت فيها صوت رجل، يقول: الدكتورة موجودة؟
– أيوة.
– أرجوكِ اسعفِيني، أنا مريض.
– أين تسكن؟
– شارع الجيزة رقم كذا …
– حاضر، سآتي إليك حالًا.
قلت الجملة الأخيرة بلا تفكير، وخلعت ملابس النوم، وارتديتُ ملابس الخروج، وأخذت حقيبتي المُعدَّة، وخرجت إلى الشارع، وركبتُ سيارتي الصغيرة، واتجهت إلى الجيزة، وكنا في فبراير والجو قارس البرد، والليل شديد الظُّلمة بلا قمر، ولا أكاد أرى طريقي، إلا من خلال أنوار المصابيح المتناثرة، بعضها منير، ومعظمها مُطفَأ، لا أدري لمَ!
وضغطت بقدمي لأُطلق العِنان للسيارة، فانطلقت بي كالطائرة، ووجدتني بعد دقائق قليلة في شارع الجيزة، ووقفت في عرض الشارع لاهثة، ووضعت يدي على قلبي في أسًى.
آه … لقد نسيتُ رقم بيت المريض، وأخذت أستجمع ذاكرتي، وأركِّزها في الكلمات التي سمعتها من المريض لكي أذكر الرقم الذي قاله دون جدوى، كأنما أصبح عقلي مادةً صلبة من الحجر لا تعي شيئًا.
وسِرتُ بالعربة يائسةً تائهة، أتخيل الرجل المريض وهو ينتظرني بين لحظةٍ وأخرى وأنا لا أجيء، ويظنُّ أنني تلقيت استغاثته ثم استسلمتُ للنوم، ولا يعلم أنني ربما أمرُّ من أمام بيته دون أن أعلم!
وفجأةً من بين يأسي وحزني، لمحتُ نورًا خافتًا في إحدى النوافذ، فخفَق قلبي من الفرح والأمل، وقلت لنفسي: هو! … المريض ينتظرني! مَن غيره يستطيع أن يسهر إلى هذا الوقت من الليل؟
ونظرت إلى ساعتي، كانت الثالثة صباحًا، فانطلقتُ بعربتي تجاه النور، وأوقفتها أمام البيت، وصعدت السُّلم، ووضعتُ يدي على الجرس، وقبل أن أضغط على الجرس، أحسستُ بهاتفٍ من أعماقي يقول لي: وماذا لو لم يكن بيت المريض؟ وخفتُ من المغامرة، وهممتُ بأن أعود أدراجي، لكني تذكرت صوت المريض الضعيف الحائر، وتخيَّلتُه جالسًا ينتظرني، فاندفعت إلى الجرس، وضغطت عليه بكل قوَّتي، وسمعتُ صوتَ أقدامٍ تقترب من الباب، ورأيت «الشراعة» تُفتح، ويطل منها رأس امرأة مشعَّث، ونظرت إلى المرأة في دهشةٍ كبيرة، فقلت لها على الفور: «متأسِّفة، هل يسكن هنا المريض الذي …»
وقاطعتني المرأة في صوتٍ حادٍّ مُستنكِر: «مريض؟!» ورشقتني بنظرة ارتياب بالغة، فاعتذرت لها بسرعة، وهرولت إلى السُّلم أجري، وقد أحسستُ أنها ستجري خلفي، وتمسكني من ملابسي.
وركبت عربتي وعُدتُ إلى شارع الهرم، أسير على مهلٍ، وفي قلبي ثقل كبير. ووصلت البيت، ووضعت مفتاح الشقة في الباب ودخلت، فإذا بي أرى زوجي واقفًا في الصالة، ولما رآني أقبَل عليَّ، وسألني قائلًا: «أين كنتِ، لقد استيقظت بالصدفة فلم أجدك، أين كنت؟»
وحكيت له القصة من بدايتها، منذ سمعت المحادثة التليفونية، حتى ضغطتُ على جرس البيت المجهول، ولاحظت أن أنفاسه تعلو وتهبط، ورأيته ينظر إليَّ دهشة وفزع، وسألني: ومَن الذي فتح الباب؟ رجل أم امرأة؟
ونظرت إليه في أسًى، وقلت: لم يكن هو بيت المريض.
لكنه لم يأبه لكلامي، وأعاد سؤاله قائلًا: رجل أم امرأة؟
قلت وأنا شاردة: امرأة.
فهدأت ملامح وجهه، وعاد ليُواصِل في راحة بال واطمئنان.
وجلست في الصالة أفكر … أشياء كثيرة ترتطم برأسي، وتُسبِّب لي ألمًا، ولم أدرِ إلا ونور الصباح يملأ المكان، وأنا أجلس وقد غلبتْني سِنَة من النوم تشبه اليقظة.
وانقضت على تلك الليلة أيام كثيرة خِلتُ أنني نسيتها، حتى كان يومٌ كنت أجلس في عيادتي، وقال لي التمورجي إنَّ رجلًا يريد مقابلتي … ودخل الرجل، ورأيته ينظر إليَّ متفحصًا، ثم قال: حضرتك الدكتورة سعاد.
– أيوة.
فمصمص شفتَيه وقلَّبَهما، وسكت قليلًا ثم قال: حضراتكم عاملين دكاترة؟
ودهشتُ لهذا الهجوم المفاجئ، وقلت في فزعٍ: ماذا تقول؟
فقال في ثورة: أنا كنتُ على وشك الموت، ولا دكتور واحد رضي يسعفني، وفضلت للصبح لغاية ما جاني دكتور … لكن بعد إيه؟! حتى انتي يا دكتورة قلتي لي إنك جاية وكذبتِ عليَّ؟
وترددتُ قليلًا في أن أحكي له القصة، ثم رويتُ له ما حدث، لكنه لم يصدقني وخرج وهو يقول: «طبعًا، كل الدكاترة بيقولوا كدة.»
وجلست، وضعتُ رأسي على كفي، وفي قلبي ألمٌ يعتصره بلا رحمة أو شفقة، وقلت لنفسي في أسًى ما من أحدٍ عرف الحقيقة، لقد ارتابت المرأة التي فتحتْ لي الباب في أمري، وارتاب زوجي في الشخص الذي كان بالبيت المجهول، وارتاب المريض في أنني خرجتُ لأُسعفه! وأنا؟! وأنا أعلم أنني فعلت ذلك بكل وعيي وكامل إرادتي، ولكن ما الفائدة وما من أحدٍ غيري يعلم؟
وأحسست بدموعٍ ساخنة تسيل على وجهي، ولم أَدرِ ما سببها، هل كنت أبكي من أجل الناس؟ أم كنت أبكي من أجل نفسي؟!