الكوافير سُوسُو
كانت أصابعه الخشنة بعظامها العريضة البارزة، وجِلدها الأسمر الجاف، تبدو نشازًا بين خصلات الشَّعر الذهبي الناعم، تجمع بعضها وتُفرِّق بعضها، تلف بعضها وتفك بعضها، تَنتقِل في سهولةٍ ويسر بحركاتٍ فنية خفيفة، رغم شكلها الغليظ الثقيل، الذي يُوحي للرائي، أنها لم تُخلَق لتُمسك مشطًا أو دبوسًا، وإنما لتقبض على فأسٍ أو ساطور.
والشعر الذهبي بينها طيِّع مستكين، يَنهدِل تارةً وينتصب تارة، يتفرق ويتجمع، ويَنثني ويَنفرِد … حتى يتَّخذ في النهاية شكلًا أخيرًا، وكأنه أصبح شَعرًا غير الشَّعر، فيه تموُّجاتٍ جديدة، بعضها يذهب إلى اليسار وبعضها يَنحرِف إلى اليمين، فيه خصلة بيضاء، وخصلة رمادية، وخصلة كستنائية.
وتتقلَّص الأصابع الغليظة متكوِّرة مُحترِسة تُسوِّيه من بعيد، وتتحسَّس الشعرات الرفيعة النافرة، تضمُّها إلى أخواتها وتُعيد بلمساتها الخفيفة، نظرةً واثنتين وثلاثًا على الشكل الأخير، مرةً من بعيد، ومرة من قريب، من اليمين ومن الشمال ومن الخلف ومن الأمام، حتى تطمئنَّ اطمئنانًا كاملًا، فترتخي عضلاتها وتَبعُد مستريحة راضية هانئة.
كانت هذه الأصابع الغليظة هي كل شيء في حياة سعيد أو سُوسُو، كما كتَب على لافتة محله، وكما تُناديه الأصوات الرفيعة الناعمة، يُفكِّر بأصابعه، وينظر بأصابعه، ويشتم بأصابعه، ويعيش بأصابعه …
لكنه اليوم بدأ يحسُّ أن له رأسًا فوق عنقه، تثقله أفكار كثيرة.
سُوسُو!
أخذ الاسم يدق في رأسه كمطرقةٍ حادَّة، بينما راحت أصابعه السميكة تَسبح في رشاقة، بين خصلات الشعر الناعم.
سُوسُو!
وقلَّب شفتيه امتعاضًا، وهو يراجع اسمه بينه وبين نفسه، ما الذي جعله يُسمِّي نفسه سُوسُو؟!
ونظر إلى المرآة فرأى صدره يُغطِّيه شَعرٌ أسود كثيف، وتأمَّل قامته الطويلة العريضة، وهبطت نظراته إلى يدَيه، فرأى أصابعه الغليظة، وهي تنتقل بغير وعي بين خصلات الشعر. غريبة! كيف سمَّى نفسه سُوسُو؟! أو سمح لنفسه أن يُسمِّي هذه الجثة الضخمة المغطاة بالشعر سُوسُو؟! لماذا لم يُسمِّ نفسه طرزان أو ضرغامًا، أو أي اسم من تلك الأسماء المذكَّرة الخَشِنة، التي تليق برجولته، وتُجبِر الناس على احترامها؟
نظر إلى المرآة ثانيةً، يتفقد نفسه؛ ليكتشف أي شيء فيها يُشبه سُوسُو.
ولم يجد شيئًا إلا ذلك القميص المشجَّر، الذي يبدو شاذًّا على صدره العريض المشعر.
وأحسَّ بالدماء تغلي في رأسه، وودَّ لو خلع هذا القميص أو مزَّقه، وشطب اسم سُوسُو من اللافتة.
– أوه! حاسب شوية يا سُوسُو، المكوة لسعتني!
صاحت صاحبة الشعر الأسود الداكن، بعد أن مسَّت المكوة في يد سُوسُو الثائرة طرَف أذنها.
لسعةٌ خفيفة، أصابت جسمها بشيءٍ من الانتشاء، فعادت تتأوَّه من جديد، وهي تنظر إلى سُوسُو نظرة نداء مكتوم صارخ، وقالت في ميوعةٍ أنثوية: أوه! مش تحاسب عليَّ يا سُوسُو!
ولم يردَّ عليها سُوسُو، لم يجد في نفسه رغبةً للرد على هذا النداء المكتوم، كما كان يفعل دائمًا، ويقول لها في ميوعةٍ مذكرة: بعد الشر عنك، انشالله يا مدام أنا اللي أتلسع!
ويتعمَّد أن يلسعها مرة أخرى لسعة خفيفة، لتنتفض على كرسيِّها، وتنتشي أكثر وأكثر وتتأوه أكثر وأكثر.
كان يعلم أن أنوثتها الصائحة في المجتمع المحروم، في حاجةٍ إلى شيء من هذه الأشياء الصغيرة؛ لسعة خفيفة بالمكوة، قرصة في الذراع، نظرة اشتهاء خفيفة، شدة شعر مقصودة.
هذه الأشياء الصغيرة المُباحة في المجتمع، التي تُنفِّس بها النساء عن ضغط غرائزهن، أشياء صغيرة لا يُطلِق عنها المجتمع الإشاعات، ويَرضاها الأزواج كل الرضا، ما دامت الزوجة ستُصفِّف شعرها كما تفعل كل النساء. إن المجتمع لا يرضى عن الشذوذ أيًّا كان، حتى ولو كان شذوذًا فاضلًا، ويرضى عن المعتاد حتى ولو كان خاطئًا.
ثم إن هذه الأشياء الصغيرة، تحدث داخل صالون الكوافير سُوسُو، وسُوسُو هذا لا يثير غيرة الأزواج، يكفي أن اسمه سُوسُو، وأنه يلبس قميصًا مشجرًا، إنهم لا يعتبرونه رجلًا.
إن المجتمع ينظر إلى الكوافير سُوسُو على أنه امرأة لها شنب!
ووضع سُوسُو المكوة على النار، وراح ينظر إليها وهي تلتهب وتحمرُّ، وتذكَّر حادثة اليوم التي قلبت يومه إلى جحيمٍ أشدَّ نارًا من هذه النار التي يراها بعينيه. لقد قضى ست سنوات أو أكثر، وهو يُصفِّف شعور النساء، دون أن يشعر بأي خزي أو عار، وظل اسمه سُوسُو معلَّقًا على لافتة محله سنوات وسنوات، والنساء ينادينه سوسو، ولا شيء في ذلك يمس رجولته. وماذا كان يعنيه من تلك الكلمة الجوفاء الفارغة «رجولته»، ما دام يكسب في اليوم عشرين جنيهًا تقريبًا، وله رصيد ضخم في البنك، يزيد عن رصيد أي بيه محترم؟ ثم إنه في النهاية يعود إلى زوجته؛ ليُثبِت لها كل ليلة أنه رجل.
لكنَّ حادثة اليوم هي التي أصابت رجولته في الصميم. كان ذاهبًا في الصباح إلى محله ليفتحه ويبدأ عمله اليومي، حينما قابله في الطريق رجل يعرفه، وهو صاحب البقالة الجديدة، الكائنة بجوار محله، ووقف الرجل يتأمَّل القميص المشجر، ثم قال في ميوعةٍ وهو يربت على كتفه، كأنه يربت على كتف امرأة: إزيك يا سُوسُو! يا حنتوسو!
ولم يَعرف لماذا غلَى الدم في عروقه في تلك اللحظة! لقد ظلت النساء ست سنوات كاملة ينادينه سُوسُو ويُربِّتن على كتفه، لكنه لم يشعر في أي لحظة أنهنَّ يُعاملنه كامرأة، وبالعكس كنَّ يُشعرنه برجولته دائمًا، ولكنَّ هذا الرجل الصفيق يُناديه سُوسُو، ويعامله كامرأة.
وانتبه سُوسُو من حمية الصراع في رأسه، على ذراعٍ ناعمة بضة، تلتفُّ حول عنقه وصوت ناعم يهمس في أذنه: صباح الخير يا سُوسُو، اديني ميعاد عشان تعمللي شعري، أجيلك امتى؟
ونظر إليها سُوسُو في استغراب! إنها تُلصِق جسمها بجسمه، بشكلٍ يُلفت النظر، ولكنَّ كل النساء داخل المحل لا يَلتفِتن؛ إن ذلك شيء عادي جدًّا عند الكوافير سُوسُو في نظر المجتمع، وشيءٍ غير عادي جدًّا في حجرةٍ تضم رجلًا وامرأة متحابَّين!
وقال سُوسُو في تأدُّب: بعد ساعة يا مدام.
ونظرت إليه شزرًا وقرصته في أذنه، وقالت وهي تتأوه: هئ … مالك النهاردة كدة واخدها جد قوي؟ هئ … هئ …
وانطلقت حناجر النساء تقول جماعة: … هئ … هئ … مش عارفة سُوسُو ماله النهاردة؟ مبوز كدة ليه؟ شايل طاجن سته، الواد جد خالص، آل يعني … ما تتعدل يا واد يا سُوسُو وللا أجيلك، وانت عارف أنا باعمل لك إيه!
– إيه؟ بتعمليلو إيه يا روحية؟
– هئ هئ هئ … هو عارف، ده سر بيني وبينه.
– هئ … لازم بتقرصيه، أصله واد مضروب بيموت في القرص!
قرص!
نفذت الكلمة من أذنه إلى رأسه كطلقة المسدس. إن النساء تعوَّدْن أن يقرصنه من ذراعه، ومن رقبته، ومن أذنه! كيف سمح لهنَّ بذلك؟ كيف ترك جسمه نهبًا لأصابعهنَّ النهمة الجائعة؟
وأحس سُوسُو بمرارة في حلقه، تشبه المرارة التي تحسُّ بها المرأة التي تترك جسدها نهبًا لجوع الرجال، يعبثون به كيف شاءوا وأنى شاءوا.
إلى هنا لم يحتمل سُوسُو مزيدًا من الأفكار والهواجس، إلى هنا بلغت أعماقه قمة التوتر، فانفجر في النساء كالضرغام: بس! مش عاوز كلام ولا هأهأة، إنتم إيه؟ جايين تعملوا شعركم وللا جايين …
ولم يكمل، كان على وشك أن ينطق بكلمةٍ نابية، فأمسك نفسه بصعوبة، والعَرق الغزير يتصبَّب من رأسه ورقبته، ونظرت إليه النساء فاغراتٍ أفواههن، مشدوهات، وساد بينهنَّ الصمت لحظة، ثم أفقْنَ مفزوعاتٍ على شكله الغريب الثائر.
– هو جرى له إيه؟
– يا نهار اسود باين عليه اتجنن!
– اتجنن؟
– اتجنن؟
واندفعت النساء مذعوراتٍ خارج المحلِّ بشُعورهن المنكوشة، وكأنَّ ماردًا يطاردهن.
وجلس سُوسُو في المحل الخالي ورأسه بين يدَيه، ومن حينٍ إلى حينٍ يرفع رأسه، وينظر إلى شعر صدره العريض في المرآة، ثم إلى أصابع يديه الغليظة الخشنة، ويَهتف لنفسه بصوتٍ مكتوم: أنا راجل، أنا ضرغام، أنا سبع!
وبعد أيامٍ قليلة، كانت اللافتة المكتوب عليها «كوافير سُوسُو» قد اختفت، وظهر مكانها لافتة أخرى خشنة كُتب عليها: «جزارة سعيد الضبع»!