ليست عذراء
أقفل الحاج بدوي دكانه بالقفل، ونفَض يده من التراب، ثم أدخلها في جيبه، وأخرج قرن قرنفل وضعه تحت ضرسه، الذي يُؤلِمه من ثلاثة أيام، ولم يُخرِج ورقة النشوق كعادته؛ ليشمَّ ويعطس؛ فقد كان مهمومًا حزينًا، نفْسه مصدودة عن النشوق وعن كل شيء.
حتى إنه حينما مرَّ في طريقه على قهوة بيومي، التي يَجلس عليها كل ليلة مع الحاج محمد؛ ليشرب الجوزة ويُدردش، ويراقب الست حمدية، وهي تجلس وراء الشيش الموارب، وعلى رأسها المنديل الحرير الأحمر، الذي يَلتهم حاجبها الأيمن، ويترك حاجبها الأيسر متدليًا على عينيها العسلية المُنكسِرة.
لم يَستطِع الحاج بدوي أن يُعرِّج على القهوة، ولا حتى أن يلتفت إليها، بل مرَّ من بعيد وهو يكبس عمامته على رأسه لتخفي جبهته، إنه لا يريد أن يراه أحد، ولا أن يرى هو أحدًا، يَكفيه ما سمعه من الناس، الذين ليس لهم عمل منذ ثلاثة أيام إلا الحديث عن الحاج بدوي، وشرف الحاج بدوي، وسيرته على كل لسان منذ ليلة الفضيحة، ولولا تجارته وحاجته إلى القروش التي يكسبها، من بيع البهارات والقرنفل والجنزبيل، لولا ذلك لبقيَ في بيته لا يبرحه أبدًا.
ووصَل الحاج بدوي إلى بيته وهو يَلهث، إنه لم يتعوَّد المشْي السريع هكذا، وأخرج المفتاح من جيبه وفتَح الباب، ودخل حجرة النوم، وأخَذ يَخلع ملابسه في تثاقلٍ، ثم وثَب على السرير، وحينما وضَع رأسه على الوسادة، سمع شخير زوجته الخافت وهو يعلو على أنفاسها، فالتفَت إليها وهي غائبة كالموتى في نومٍ عميق، وأخذ يتأمل بشرتها ذات التجاعيد، وشفتَيها اليابستين، ومصمصَ شفتَيه بازدراء، وأعطاها ظهره وهو ينفخ، وغطَّى رأسه باللحاف لينام، لكن صورة سعدية بملابس العرس ظهرت أمامه وهي تجلس في وسط كوشة من البنات والأزهار، وعلى رأسها تاج أبيض، والعريس ببدلته الكحلي يروح ويجيء بين الناس، والناس يُبحلقون في الناس ويشربون الشربات بالأربعة أكواب، والصوان الفخم مُقام، وصوت الميكروفون يذيع الأغاني والزغاريد، وإيقاع الرقص والصاجات، وحي السيدة زينب الذي يبيت كل ليلة بعد صلاة العشاء، ساهرًا في نوافذه يطل على ذلك العرس النادر، ويَحكي قصة العريس والعروس مئات المرات.
وقلبَ الحاج بدوي فجأة وجهه ناحية زوجته، ولمعت عيناه الضيقتان كعينَي الصقر، وهو يتأمل عظام فكَّيها البارزة المدبَّبة. إنه لا يذكر أن رأى لزوجته وجهًا غير هذا الوجه، ولكم دعا في كل ليلة بعد زفافه على أم يوسف الخاطبة، ولعَنَها ولعَن أجدادها، وبصق عليها وعليهم. عشر سنين مضت، وهو في كل ليلة يصبُّ اللعنات على رأسها كلما رأى وجه زوجته.
وكانت سعدية طفلة في العاشرة تجري وتلعب، وأحيانًا تقفز فيرى ساقَيها وفخذيها السمينتَين، ولم يدرِ لماذا كان يُطيل النظر إليها، وحينما كان يستدرجها إلى «البلكونة»، ويُجلسها إلى جواره، ويمرُّ بأصابعه على ساقيها، يتحسَّس بشرتها الناعمة كأنه يقول لنفسه: عيب يا حاج بدوي، ده انت خالها، وبتربيها بعد موت أبوها، عيب يا راجل، يا اللي حاجج بيت الله!
لكنه كان لا يستطيع أن يُقاوم هذه الرغبة الملحَّة كلما رآها وهي تَقفِز، فرقٌ كبير بين ساقيها الناعمتين وبين ساقَي زوجته الرفيعتَين اليابستين.
وأحيانًا حينما كان يَفقِد السيطرة على رغبته يضمُّها إلى صدره، ويُداعِب بشاربه الكثيف وجهها الناعم النضر، ولا يتركها إلا بعد أن تَخنُقها رائحة التبغ في أنفاسه فتصرخ، أو تعضُّ أصبعه.
وفي مرة لم يكن بالبيت سواها، وكان مستلقيًا على السرير، يُعربد بأنفاسه مع الجوزة، ويراقب سعدية وهي تلعب كعادتها، وأحس برغبةٍ جارفة، وشعر كأن دمه يغلي في عروقه، ولم يستطِع المقاوَمة، وقام إليها وحملها، ووضعها على السرير، وأحس الحاج بدوي بالعَرق يتصبَّب من جسمه، فأزاح عن نفسه اللحاف، وتذكَّر منظره وهو يَلبس ثيابه ويضع عمامته على رأسه، وينزل مهرولًا إلى السوق، ثم يعود إليها فيجدها كفَّت عن البكاء، وحينما يُعطيها الحلوى الكثيرة، تبتسم في سذاجةٍ وتنسى كل شيء، وأحسَّ بالراحة أنها لم تفهم شيئًا، لن تقول لأمها …
وجفَّ عَرق الحاج بدوي فأحسَّ بالبرد، وسحب اللحاف ليُغطِّي نفسه، فتعرَّت زوجته وظهرت ساقاها الرفيعتان، ينظر إليها بضيقٍ. إنه يكره زوجته من أول ليلة، ولقد كرهها أكثر بعد حادثة سعدية، وأحسَّ بالندم، وأصبح يفر من البيت إلى القهوة ليشرب الجوزة، ويدردش مع الحاج محمد، في الوقت الذي يبحلق فيه إلى «سيقان» النسوة، وهن يجتزن الشارع أمامه.
وانتشلته من ضياعه الست حمدية، تلك الأرملة السمينة التي تسكن في مواجهة القهوة، وكان يراها وهو يجلس على القهوة، تنظر بعينٍ واحدة من فرجة الشباك، ويرى يدَيها البيضاوين السمينتَين، وهي تُمسك بضلفة الشيش، وساعدته الست حمدية في التعرُّف عليها، وفي زيارتها، وفي كل شيء، واستعاض بها عن زوجته «الكركوبة»، ونسيَ بها سعدية.
لم يَعُد يُثيره منظر ساقيها وفخذَيها وهي تقفز، حتى بعدما كبرت واستدارت، وبرز صدرها بشدة، لم يَشعُر نحوها بأي شيء، لولا تلك الحادثة المؤلمة التي وقعت منه، والتي كانت تطفو على ذاكرته، كلما فكَّر في زواجها. ولقد اختار لها حسين أفندي عريسًا؛ لأنه رجل طيب، كان المرحوم أبوه رجلًا غبيًّا، ولا يُمكن لحسين أفندي أن يرث الذكاء عن أمه؛ لأنه فشل في تجارة الطعمية بعد أبيه، ونظره ضعيف، ولم يَصلُح إلا في وظيفته الحقيرة، التي توسَّط له فيها أحد أقاربه.
وانتفض الحاج بدوي في فراشه، وعاد إلى ذاكرته صوت حسين أفندي، ذلك الرجل الغبي الطيب كما كان يظن، وهو «يُجعِّر» بأعلى صوته، ويسبُّ الشرف ويَبصُق على العِرض، ويُصرُّ على أن يُطلِّق «بالثلاثة» قبل ظهور الشمس، وأن يستردَّ مهره وكل هداياه، وأن يتنازلوا عن المؤخَّر وعن النفقة، وأن يُنهوا الموضوع في السر، وإلا جعلهم مُثلةَ الحي.
وأحسَّ الحاج بدوي بنارٍ تتقد في بدنه، فقذف اللحاف عن جسده، ورماه على جثَّة زوجته، وقام يتمشَّى في الحجرة.
لقد أصبحَتْ رقبتُه في «قُصْر» السمسمة، وهو لا يستطيع أن يرفع رأسه في الحي، ولا أن يجلس على القهوة، ولا حتى أن يرى الست حمدية، إنه الآن في نظر الناس كلهم رجل بلا شرف، حتى يغسل شرفه، والرجل عندهم لا يغسل شرفه إلا بالدم!
وصعد الدم إلى وجهه. إنَّ سعدية تنام الآن في حجرتها، ولا يفصله عنها سوى باب غير مقفول.
وتصوَّر نفسه مرةً أخرى الحاج بدوي الذي يَمشي رافعًا رأسه، وجلس على القهوة مع الحاج محمد يشدُّ أنفاسه مع الجوزة ويدردش، وكل رجل يمرُّ عليه يُقرئه السلام، والست حمدية … آه! مرة أخرى يذهب إليها، وتأخذه بين أحضانها الدافئة، ثلاثة أيام مضَت وهو محروم من كل هذا.
ووضع الكوفية على رقبته وأدخل «المطوة» في جيبه، ثم مشى على أطراف أصابعه، ودفع باب سعدية ببطء.
وفي الظلام الدامس أخذ يتحسَّس بيديه حتى وصل سريرها. كان كل جسمه يرتعد وأنفاسه تتلاحَق بسرعة، وكاد يفر من الحجرة بسرعة، لولا أنه تخيَّل سرير الست حمدية، وهي راقدة عليه تفتح ذراعيها لأحضانه، وألهبَهُ الحماس فأخرج «المطوة» من جيبه، ومد يده على السرير يتحسَّس رقبة سعدية، ولكن يده لم تصل إلى شيء، فاستعان بيده الأخرى، ولم يعثر في الظلام عليها، ففتَح النور ونظر على السرير ليجده خاليًا، ونظر تحت السرير، وفي الدولاب، ووراء الشماعة … لكن سعدية لم تكن هناك.
وعاد إلى حجرته والعَرق يتساقَط من كل جسمه، وزحف على السرير بجوار زوجته. لقد هربت سعدية قبل أن يقتلها، قبل أن يُثبِت للحي أنه رجلٌ يغسل شرفه بالدم. كان يحب أن يقتلها أول ليلة، سيقولون إنه جبان، لن يستطيع الجلوس على القهوة، لن يرفع رأسه بين الناس، لن يستمتع بأحضان الست حمدية الساخنة، وجحظت عيناه في غيظٍ وحيرة، وكانت «المطوة» لا تزال في يده، ورأى زوجته راقدة كأنها ميتة!
ولم يدرِ لماذا أخذ يُبحلِق في رقبتها الرفيعة المعروقة، وهي تصعد وتهبط مع شخيرها، واهتزَّت «المطوة» في يده، وخُيِّل إليه أنه رفع يده بها، وأسقطها على رقبتها، وانفجرت دماؤها في وجهه واختلطت بعَرقه. لكنه كان لا يفعل شيئًا، وترك «المطوة» في يده وأعطاها ظهره. وحينما أغمض عينيه وراح في غيبوبته، ظهرت له صورة سعدية؛ طفلة صغيرة في العاشرة تمسك صرة ملابسها، وتسير في الشوارع ليس لها مأوًى، وفتح عينيه، وأحس بشيءٍ ساخن سخونة الدم، يَسيل على وجهِه، وسمع صوت نشيجه هو يعلو … ويعلو … على صوت أنفاسه.