مجرد صورة
صعدت هند سُلَّم القطار، وقفَزت داخل الديوان لتَلحق بالمقعد المُجاوِر للنافِذة، تمامًا كما كانت تَفعل وهي طفلة، لم تُغيِّرها عشرة أعوام طويلة، كبرت فيها واستدارت ونضجت، ونالت الليسانس وتزوَّجت، لكنها هي هند التي يُسعدها أي شيء، وأقل شيء، مثل السَّفر وركوب القطار، والجلوس بجوار النافذة.
وجلَس إلى جوارها زوجها حسين، بعد أن شبَّ على قدميه، ووضع الحقيبة فوق الرف، ونفض يديه بتأنٍّ. إنه هادئ الأعصاب، كما يبدو من ملامحه الهادئة، فيما يشبه الابتسامة، وحركاته البطيئة، كأنه لا يتعجَّل شيئًا، واثقٌ أن كل شيء يأتي في أوانه.
وتحرَّك القطار وهند تطلُّ من النافذة، وتراقب بيوت القاهرة، وهي تتراجَع إلى الوراء، والقطار متجه ناحية الشمال إلى الإسكندرية.
وجفَّت الابتسامة على شفتَيها، وانتشر على ملامحها وجومٌ سريع. هذه أوَّل مرة تسافر إلى الإسكندرية بعد زواجها، وكانت آخر مرة في صيف العام الماضي بعد أن نالت الليسانس بدرجة «جيد جدًّا»، وعُيِّنت في وظيفة ممتازة بعد النجاح بشهرٍ واحد، وقبَضَت أول مرتب ستة عشر جنيهًا، وأخذت إجازةً مرضية وسافرت إلى الإسكندرية. وهناك وسط الأمواج الباردة، كانت تقذف جسمها الساخن، وتَنطلِق بذراعيها وساقيها، تسبح كأنها طائر يعوم في الهواء، ثم تخرج من الماء، وتنثر شعرها الناعم؛ ليَقذف بالماء عنه، وتمدد جسمها المبلل تحت الشمسية، وتضع رأسها على الرمل الدافئ، وعيناها نحو السماء تتقلبان وتفتشان في الزرقة العميقة الداكنة عن أشياء، أشياء كثيرة تفكِّر فيها أوَّلها سعادتها، سعادتها هي. لقد حبست نفسها عشرة أعوامٍ في المدرسة والجامعة والبيت لتُذاكر وتنجح وتنال الليسانس، وقد تحقَّق لها ذلك، ماذا بقي إذن؟ لا شيء سوى أن تعيش، أن تُطلِق من نفسها ما كانت تُكبِّله، ولم تكن تُكبِّل سوى مشاعرها، أحاسيسها كامرأة، رغباتها، استطلاعها، شقاوتها، وكانت شقية بطبيعتها، مُتحفِّزة مُتحمِّسة، مليئة بالحياة، متعصبة لها.
وقضت ثلاثين يومًا في الإسكندرية، تُساوي ثلاثين عامًا من عمرها الذي فات، عرفت أنواعًا كثيرة من الرجال، الشاب الذي يُدلي خصلة من شَعره على جبهته، ويلبس المايوه الضيق، ويَتبختر أمام الكبائن، يُطرقِع باللبان في فمه، والسلسة في يده؛ والرجل المُتفلسف الذي يلبس الشورت، ويجلس وقورًا أمام الكابين، ويُمسك كتابًا بالمقلوب؛ والرجل الهائم على وجهه، يزوغ بصره هنا وهناك، وتخرج من بين شفتيه من حينٍ إلى حين تقليعة أو تعليق، رجالٌ في كل مكان، يَكثُرون ويَتكاثَرُون في الصيف، كأنهم ذباب، وهي لم تعرف الرجال، وإن كانت قرأت عنهم في الكتب، لكنها في هذه الأيام القليلة، تريد أن تراهم عن كثب، أن تسمع كلامهم، أن تقرأ أفكارهم، أن تلمس عضلاتهم وشواربهم، ولم تكن تريد واحدًا بالذات، كان في خيالها رجل، فتى أحلامها، لكنها لم تكن تبحث عنه، أو أنها أجَّلَتِ البحث عنه، حتى ترى وتتفرَّج، وتتمعَّن في الفرجة، وأصبح كل يوم من هذه الأيام الثلاثين مليئًا بالمواعيد، مشحونًا بالشخصيات المُتناقِضة، في الصباح تُسابق في الماء شابًّا مائعًا، يُخيَّل إليها أنه فتاة قصَّت شعرها. وتحت الشمسية على الرمال، تجلس مع رجل يأكل الكلام، كأنه من جوعه للحم الآدمي يَلتهم لسانه، وينظر إليها كخرتيت طلع توًّا من الماء. وفي المساء تجلس في الكازينو المُطلِّ على البحر، مع رجلٍ أشيب، يخلط الأدبَ بالفلسفة والحبَّ بالموت، كأنه يضرب الرمل ويخط بالودع، ولم تكن تريد إلا أن تتفرَّج على الرجال، أن تعرفهم، أن تدرسهم. ووقَف القطار فأفاقت من خيالها.
ونزَلا من القطار، وهند تتأمل محطة سيدي جابر بوجوم؛ لقد انتهى صيف العام الماضي، وانتهت معه كل مغامراتها، ولم يبقَ في نفسها شيء بالمرة سوى مفاهيم دخلت رأسها عن الحياة والناس. وبعد الثلاثين يومًا عادت إلى القاهرة، لتَلتقي صدفةً بفتى أحلامها حسين وتتزوَّجه.
ونظرت إلى زوجها ورأت ملامحه الهادئة الباسمة، وأحسَّت أنها تَثق فيها كما تثق دائمًا، لكنها لم تكن تدري ما سرُّ ذلك الوجوم بداخلها.
إنها لا تخاف شيئًا، وضميرها لا يُؤنِّبها على شيء، كانت كلها مغامرات بريئة، مجرد تجارب نفسية، لا تُحرِّك إلا تفكيرها وتأملاتها، لم يمسَّ قلبها أو وجدانها إنسان، ولم يَهُزَّ أنوثتها رجل، كانت كالعالِم العجوز، الذي يُشرِّح في معمله مجموعةً من الضفادع والفيران. وعلى أي حال، فقد انتهى الصيف، ومات في الماضي كما يموت أي شيء، ولا يبقى له أثر، وعادت إليها طمأنينتها، حينما تذكرت مسألة الموت هذه. كانت تستخدم ذكرى الموت دائمًا لحل مشاكلها؛ لأنها تَشحنها بموجةِ استِخفافٍ بالحياة وما فيها من مشاكل واهتمامات وعُقد … وتقول لنفسها ما دام الإنسان حتمًا «ميتًا»، فكلُّ ما في حياته هين تافه، وبهذا استخدمت ذكرى موتِ جدِّها في التخفيف من وطأة حزنها على تأخُّرِها في التوجيهية، واستخدمت ذكرى موتِ أمِّها في التخفيف، من حزنها على أبيها وهكذا.
ولكن هذه الحالة لا تلبَث لحظات، كأنها ومضات رُوحية قوية، لا تلبَث أن تنطفئ، وتتركها «إنسانة» عادية في مهبِّ الحياة، تُحزنها أشياء صغيرة، مثل فقدان نصف ريال، ويسعدها أيضًا أشياء تافهة؛ مثل السفر وركوب القطار والجلوس بجوار النافذة.
وقضيا أيامًا سعيدة في الإسكندرية؛ الصباح كله للبلاج والبحر، والمساء كله للسهر والفسح والرقص.
حتى كان صباح، وهند وحدها تحت الشمسية، تُمدِّد جسمها المبلل بالماء على الرمل الدافئ، وعيناها ناحية السماء لا تتقلبان، ولا تُفتِّشان عن شيء، إنها سعيدة في حياتها، ولا تطلب مزيدًا من شيء، وفجأة وقف أمامها مارد طويل، حجب عنها السماء والبحر، ونهضت برأسها وهي تصيح في دهشةٍ: «مين؟»
وردَّ عليها صوته الغليظ: «مين! إيه نستيني؟»
وابتسمت في عدم اهتمام قائلة: «تقريبًا.»
واحمرَّ وجهه من لهجتها، ونظر إليها من قدمِها إلى رأسها، كأنه يَفحصُها بلا إعجاب، ثم قال: «تقريبًا يعني إيه؟»
وغاظتها نظرته الجريئة الوقحة، ولهجتُه الشديدة الآمرة، كان هو كذلك دائمًا؛ جريئًا وقحًا معتدًّا بنفسه مغرورًا، لكنها لم تَضِق به كما ضاقت هذه المرة. كانت في العام الماضي لا يُهمُّها شيء سوى أن تتفرَّج، وكانت تَقبل الناس على عِلاتهم وبأخطائهم وعيوبهم؛ لأنهم كانوا لا يُهمونها في شيء، لكنها اليوم، وبعد أن أحبَّت وتزوَّجت، يُهمُّها زوجها وتهمها سعادتها، وهي لا تسمح لأي رجل أن يكلِّمها بلهجةٍ شديدة آمرة، إلا زوجها في أوقات غضبه فقط ويعتذر بعدها، ولكن هذا الرجل مَن يكون؟ ذلك الشاب المُستهتِر الذي قابلته في الصيف الماضي، والذي لا مبدأ ولا عمل له، الذي يظهر على البلاج في موسم الصيف، كما يظهر التين الشوكي في شهر يوليو، والبلح في سبتمبر، مجرَّد كائن حي يمشي على رجليه، ويكسو صدره شعرٌ أسود ويلبس في أصبعه الصغير خاتمًا من الماس، وأبوه كان باشا أيام الباشوات.
واحمرَّ وجهها من الغيظ، وهي تراه يثني جسمه الطويل، ويجلس في برود بجانبها على الرمل، وانتفضت واقفةً على ركبتَيها، وهي تقول بشدة: «تسمح تقوم من هنا!» وأصابه برودٌ أشدُّ لثورتها، فأجاب بهدوء وعناد: «مش قايم!»
ولم يَشعُر إلا ويدها ترتفع، وتهوي على وجهه في لطمةٍ قوية، وهي تأمُرُه بلهجةٍ حادَّة كالكرباج: «اتفضل قوم بسرعة!»
واحمرَّ نصف وجهه الذي أصابته اللطمة، واصفرَّ النصف الآخر، ونظر إليها نظرةً ارتعدَت لها مفاصلها، نظرة فيها دهشة وشر وحقد، نظرة رجل مُصاب في كرامته، إلى أبعد حدود الإصابة، وفردَ جسمه الطويل، وقام في تثاقل، ومشى خطوتين ثم استدار إليها، وقال في صوتٍ مُتغيِّر غريب: «لازم أدفعك تمن الصفعة دي!»
ودقَّ قلبها بعنف، لماذا يقول هذا؟ وماذا يملك حتى يستطيع أن يفعل ضدها شيئًا، ويُغرِّمها ثمنًا أي ثمن؟ وغاب لون الدم من وجهها وارتعشت أصابعها في الرمل، وأحسَّت بيدٍ قوية تمسك قلبها، لقد تذكَّرت الصورة، الصورة التي التُقطت لها، وهي جالسة بالمايوه، وبجوارها ذلك الشاب يُوشوِشُها في أذنها، كانت أيامها تحيا في فكرةٍ معيَّنة عن الحياة، تريد أن تعيش فيها فترة، وقد انتزعت نفسها من بين البشر لتتفرج عليهم، وهي ليست منهم، فماذا يَضرُّها من صورة أو آلاف الصور؟ مجرد ورقة عليها رسومات! لكنها الآن تحسُّ شيئًا آخر.
صحيح أنها ورقة، ولكنها تسجل جزءًا من حياتها، تسجل موقفًا لها مع رجل، يستطيع مَن يراها، أن يَحكي عنهما ألف قصة وقصة. وشعرت بالخوف فتذكرت الموت، وقالت لنفسها: الناس تموت كل يوم، واليوم الذي يفوت لا يعود مرةً أخرى أي أنه يموت. ولكن هذا غير صحيح؛ الماضي قد لا يموت، قد تُسجِّله أشياءُ تافهة مثل ورقة أو صورة، فيُبعَث حيًّا من جديد، ورقة حقيرة صغيرة، يُذيبها قليلٌ من ماء البحر، لكنها تقف أمامها كأنها ثلاثون يومًا كاملة، بكل دقائقها وثوانيها، وكل حوادتها وشخصياتها ومفارقاتها، هذه الورقة في جيب هذا الرجل المغرور، إنها سلاح يمكنه أن يستعمله ضدَّها، والرجل الحقير لا يُلهِب حقارته مثل إهانة امرأة له.
وقضت هند صباحًا سيئًا، تُفكِّر في الصورة وتتصور الرجل، وهو يعطي زوجها الصورة، ويحكي له قصةَ حبٍّ خرافية، وأي قصة حبٍّ يُمكِن أن تُركَّب على صورة رجل وامرأة يتهامسان، وفجأة، أحسَّت هند بيدٍ على كتفها فانتفضَت، كان هو زوجها وقد عاد ومعه السندوتشات وزجاجة بيرة، ووضع الأشياء وهو يقول لها باسمًا: «إنتي نمتي وللا إيه؟»
وابتسمت في إعياءٍ، وهي تردُّ مازحة كعادتها: «إيه.» وضحك زوجها وهو ينظر في عينيها: «دمك خفيف، عمرك ما تنسي النكتة دي أبدًا.»
ونظرت إليه هند بعنايةٍ، كأنها تراه لأول مرة وتفحصه، وتُفتِّش في عينيه ويديه، عن مدى حبِّه لها وثقته فيها. رأت عينيه الباسمتين ويديه الهادئتين الواثقتين فهدأت، إنه حسين، زوجها الذي أحبَّته، والذي يملأ حياتها، ويستولي على قلبها، وتُحسُّ بكل الرجال إلى جانبه كأنَّهم نساء. وأعادت النظر إلى عينَيه ويدَيه، إنه رَجُلها وحبيبها، ولكن ماذا يكون من أمرِه إذا رأى الصورة؟ وأحسَّت بالقبضة تمسك قلبها، وسمعته يقول باسمًا: «ياللا يا هند قربي، أنا مت من الجوع!»
وأعاد لها صوته العميق الحنون ثقتها فيه، إنه لن يخذلها، هذا الرجل لا يُمكِن أن يفصلها عنه آلاف الناس، تتراصُّ بينه وبينها، فما بالها بقطعةٍ من الورق الصغير، مطبوع عليها رسومات، أي رسومات.
وعاد إليها هدوءُها كاملًا فأكَلَت، وشربت البيرة، واستلقت بجوار زوجها على الرمل، وطال بينهما الحديث كما يطول دائمًا.
وفي صباح اليوم التالي، كانت قد نسيَت تمامًا الرجل والصورة، لولا أنها لمحَت زوجها، مُقبلًا عليها من بعيد، ممسكًا بيد رجل طويل، ما إن تبيَّنتْه حتى عادت القبضة إلى قلبها تعتصره بشدة، ونهضت من رقدتها على الرمل، وجلست مُتحفِّزة تستعد لمواجهة الأمر، وتَستجمِع قواها الهاربة في أركان نفسها، ووصل زوجها وجلس بجوارها، فارتعدت وبلعت أنفاسها لتبدو هادئة، ونظرت إلى زوجها، إلى عينيه ويديه؛ لتطمئنَّ على حبه لها وثقته فيها، كان كما هو هادئًا باسمًا، لم تتغيَّر ملامحه، إلا من معنًى طفيف ساخر.
ووضع حسين الصورة في جيب قميصه بتأنٍّ، ونظر إلى زوجته وهو يبتسم، قائلًا: «تصوَّري يا هند الجدع يمشيني لآخر البلاج، عشان يوريني صورة!» ونظر إلى الرجل نظرةً ساخرة عميقة واثقة، وقال له: «حد قالك إني غاوي صور؟ هي صورة لطيفة فعلًا؛ لأن فيها هند، لكن انتَ تعَبت نفسك.»
وسكت حسين ووضع يده على جيبه، وربَّت على الصورة برفقٍ وحنان، وقال له: «خلاص يا سيدي الصورة وصلت مكانها، تقدر تروَّح.»
وبعدما اختفى الشاب من أمامهما، نظرت هند إلى زوجها في دهشة، فرأت عينيه الباسمتين في عينيها، وأحسَّت يديه الحبيبتين الواثقتين على يديها، وسمعت صوته الدافئ الحنون يقول لها: «أمَّا مغفل صحيح! إيه يعني صورة، وحتى لو كان فيه حاجة، إنتي عارفة إني لا يُمكن أحاسبك على حاجة قبل ما تعرفيني.»
ونظرت هند في عينيه، ودموع الفرح في عينيها، إنها لم تخطئ حينما عرفت من أول وهلة، أنه فتى أحلامها، إنه رجلها الذي يثق في نفسه وفيها، رجلها الوحيد الذي استطاع بقوَّته الناضجة الواعية، أن يمسَّ وجدانها ويهزَّ أنوثتها.
وابتسمت وهي تقول: «دي كانت مجرد مقابلات على البلاج.»
فقال وعلى جبهته تكشيرة، وفي عينيه ابتسامة: «كانت شقاوة يعني!»
وردَّت بسرعة: «شقاوة ببراءة.»
واقترب منها وقبَّل كتفها في حنان، وهو يهمس في أذنها: «أنا عارف يا هند إيه …» ثم نظر في عينيها، وهو يسألها باسمًا ككل مرة: «وللا ايه؟» وهو يَعرف أنها لن تنسى أن تقول له: «إيه.» وفعلًا كان. وضحكا معًا للمرة الألف على النُّكتة، حتى في هذه المواقف الخطيرة، لا تنسى هي هذه النكتة الصغيرة.