توجهات شرقية: القضايا
«من يعرف نفسه ويعرف الآخر، فسوف يعترف أيضًا بأن الشرق والغرب لا ينفصلان.»
«آه، الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا إلى حين تمثُل الأرض والسماء وشيكًا أمام عرش الرب يوم الحساب العظيم.»
الشرق: الآخَر في عين أوروبا
لكن حتى حين ينطوي الحديث على تقدير للشرق يسمو به إلى مكانة أرفع من الغرب «المتحلل»، نجد ما يؤكد أن الشرق هو «الآخر»، بل هو الغريب. مثال ذلك: سي جي يونغ، الذي كان نصيرًا متعاطفًا مع الشرق، شأنه شأن الجميع في القرن العشرين، نراه يحدثنا عما في الشرق من «غرابة قد تصل إلى حد استحالة فهم النفس الشرقية» (١٩٧٨م، ١٨٧). وها هو الكاتب المتخصص في البوذية ستيفن باتشيلور، أكد أن الأوروبيين «رأوا آسيا تمثل لهم شيئًا مجهولًا ومختلفًا غير مفهوم، بل ومثيرًا للخوف. إنه بلغة علم النفس لغز أمام اللاشعور الغربي، ومستودع لكل ما هو سر ملغِز مبهَم، أنثوي شهوي مقموع قابل للانفجار» (١٩٩٤م، ٢٣٤).
إذن، هدفي من هذا الكتاب هو أن يكون تحديًا لهذه الأسطورة. ولن نكتفي في هذا الصدد بكشف ضِيق أفق المحورية الغربية في مجال التأريخ للفكر، بل أيضًا أن نبرز في وضوح صارخ طبيعة التلاقي الفكري الحاسم الذي حدث بالفعل بين «طرفي العالم القديم». وطبيعي أن هذا التلاقي بين أفكار الشرق والغرب على مدى حقبة تاريخية مديدة يمثل في ذاته حدثًا مثيرًا للدهشة تمامًا. وتتجلى المفارقة بوجه خاص في أن هذا حدث خلال فترة التوسع السريع للقوة الغربية العسكرية والاقتصادية وهيمنتها على شعوب جنوب وشرق آسيا. ونلحظ أن هذه هي الفترة التي مارس خلالها الغرب تفوقه العالمي، مؤكدًا سيادته بوضوح في الكثير والكثير من مجالات النشاط الفكري. ويكشف الأمر في ظاهره عن شيء مثير للحيرة تمامًا. ويتمثل هذا في حقيقة أن الغرب الذي كان بمعنًى ما متفردًا بين القوى الإمبريالية الكبرى، ويمارس هيمنته على الشرق، إذ به في الآن نفسه معجبًا بالشرق، يُعلي من قدره ومكانته، ويرقى به إلى مستوى النَّموذج والمثل الأعلى الجدير بأن يستلهمه ويحاكيه. ومن ثم اعتاد أن يقصده كالحاج في ثياب خشنة وبين يديه حفنة من رماد تواقًا إلى السجود عند قدمي معلمه الرُّوحي (كويستلر، ١٩٦٠م، ١١). وما أكثر ما يكتنف تصور الغرب للشرق من ظلال وليدة التخييل والتفكير من منطلق الأماني. وسوف يبين لنا أن صور الشرق في أذهان المفكرين الغربيين كثيرًا ما تحدثنا عن عقول هؤلاء الغربيين أكثر مما تكشف عن عقول الشرقيين. ومع هذا، يظل ما يثير دهشتنا أن أجيالًا من المفكرين والباحثين، علاوة على عامة المتعلمين الذين اقتدوا بهم في ازدياد مطرد، لم يكفوا عن التماس الإلهام والبصيرة النافذة من أراضي الشرق البعيدة، وبذلوا الجهد ساعين لتجسيد الشرق في تفكيرهم. لكن، وعلى نقيض حضارات آسيا، كما يلحظ ويلهلم هالبفاس، التي لم تمتد تلقائيًّا لتصل إلى الغرب، فإن الشرق كان «الهدف والمرجع للتنبؤات الطوباوية، والبحث عن الهوية، وعن أصول نشأة أوروبا والشك الذاتي، وكذلك النقد الذاتي الأوروبي» (١٩٨٨م، ٣٦٩).
وثمة وجه آخر بطبيعة الحال لهذه القصة. إذ كانت شعوب وثقافات آسيا موضوعات للهيمنة السياسية والاقتصادية، مثلما كانت موضوعًا للغطرسة والازدراء العنصري في الغرب، إن قصة العلاقة بين القوى الاستعمارية الغربية وأمم الشرق ليست فقط قصة استكشاف ثقافي وفكري تنويري، بل كثيرًا ما كانت قصة تثير الخزي، استهدفت استغلال شعوب آسيا وتجريدهم من ممتلكاتهم، والنظر إليهم باعتبارهم العنصر الأحط شأنًا قياسًا إلى الغرب، وأنهم «الآخر» النقيض، وحامل الخصال السلبية، ويؤكد الغرب بذلك لنفسه تفوقه، ومن ثم حقه المشروع في السيطرة، وكم هو محزن أن نرى بوضوح كيف تقدم الغرب نحو آسيا، وقد تسلح بالحق على لسان المدفع والإنجيل (كويستلر، ١٩٦٠م، ١١). وعمَد بشكل منهجي منظم على أن يفرض على أمم الشرق عقائده الدينية، وقيمه الخاصة، ونظمه السياسية، غير عابئ بما يثيره كل هذا من حساسيات كلية، وغير مبال بالتقاليد الأصلية. علاوة على هذا، فإن دراسات معاصرة عن فترة ما بعد الاستعمار لفتت الأنظار إلى أمرين؛ أولًا: كيف سادت الاتجاهات العنصرية والقمعية في الواقع التاريخي للإمبراطورية، وثانيًا: كيف أن الأمر لم يقتصر على هذا فقط، بل إن هذه الاتجاهات العنصرية والقمعية باتت محفورة وراسخة ضمن الخطاب الغربي على مستويات عدة، حتى في عصر ما بعد تفكك الجهاز الاستعماري الرسمي تمامًا. معنى هذا أن النزعة الاستعمارية ثاوية في عقول ومجتمعات ما بعد حقبة الاستعمار. وهذا ما يوضحه كاتب معاصر تناول هذا الأمر، إذ يقول: «لم تنته الهيمنة الأوروبية مع رفع مئات الأعلام الوطنية، ذلك لأن تراثها من التفرقة والعنصرية لا يزال حيًّا باقيًا في الأوساط السياسية والإعلامية والتشريعية». (تيفين ولاوسون، ١٩٩١م، ٩). وقد أشرت سابقًا، كما سنكتشف بتفصيل أكثر على مدى صفحات هذا الكتاب، إلى أن هناك في الحقيقة تناقضًا مزدوجًا وعميقًا بشأن موقف الغرب تجاه الشرق، إذ على الرغم من أن نوايا ومواقف الغرب الواعية تجاه الشرق بدت في ظاهرها حسنة وموضع تقدير وتوقير، إلا إنه من العسير التخلي عن الشك في أن «نور آسيا» جرى استغلاله وفاء لأغراض غربية بأدوات ووسائل ملموسة وحقيقية تتصف بالقسوة، وسنجد من يدفع بأنه حتى يوم أن تحلت المصالح الغربية بأصدق وأخلص النوايا العلمية، فإن الأفكار الفلسفية والدينية الشرقية تحولت إلى سلعة، وتم انتحالها بوسائل تعكس وتعزز طبيعة التوسع الإمبريالي في أجلى مظاهره، وقد يمضي البعض شوطًا أبعد زاعمًا أن العلاقة بين الغرب والشرق في الحقبة الحديثة، حتى إن بدت رُوحانية نبيلة، إلا أنه يتعين علينا بالضرورة أن نفهمها في التحليل النهائي، باعتبارها «علاقة قوى وسيطرة مع درجات متفاوتة للهيمنة المعقدة» (سعيد، ١٩٨٠م، ٥).
الاستشراق: المصطلحات والأفكار
لكن على الرغم من أن كتابنا الذي بين يدي القارئ مَدين لإدوارد سعيد، إلا إنه سيلتزم نهجًا مختلفًا عنه من نواحٍ مهمة محددة؛ إذ بينما صور سعيد الاستشراق في ألوان كابية لتكون هذه الصورة أساسًا لنقده الأيديولوجي القوي لليبرالية الغربية، إلا أنني سأستخدمها للكشف عن نطاق أوسع من المواقف كابيةً ومضيئة، واستعادة نزعة استشراقية أكثر ثراء وأكثر إيجابية في أحيان كثيرة في محاولة لبيان أن الغرب سعى جاهدًا لتمثل ودمج الفكر الشرقي ضمن اهتماماته الفكرية بطريقة لا يمكن، في ظاهرها، فهمها فهمًا كاملًا تأسيسًا على «التسلط» و«الهيمنة». وإذا كان إدوارد سعيد اعتمد على كتابات ميشيل فوكو بشأن العلاقة بين المعرفة والسلطة ورأي الاستشراق بمنزلة «السردية الرئيسية» التي اعتمدت عليها الإمبريالية الغربية لكي تبني تصورها عما تراه «الآخر» في نظرها وتسيطر عليه، وقد أخضعته لسلطانها، إلا إنني سأصوره كمحاولة لمواجهة هياكل المعرفة والسلطة الغربية والاشتباك مع الأفكار الشرقية بوسائل أكثر إبداعية وذات بنًى أكثر انفتاحًا وأكثر استعدادًا للتبادل، مما كشف عنه نقد إدوارد سعيد.
بَيْد أن هذا لا يعني على الإطلاق رفضًا كاملًا لموقف سعيد المنطوي على الشك تجاه الاستشراق، أو لمحاولاته النظر إلى الاستشراق من منظور سياسي، إذ من المسلم به يقينًا أن تصورات الغرب عن الشرق إنما أسهمت في صياغتها المصالح الاستعمارية والانحيازات العرقية. وثمة دراسات معاصرة اقتدت بفكر إدوارد سعيد وأكدت بالوثائق وناقشت الطبيعة القمعية والتمييزية للجانب الأغلب من الخطاب الغربي إزاء الشعوب والثقافات غير الأوروبية، لكن مع التسليم بألا سبيل إلى فهم الاستشراق فهمًا كاملًا إلا في إطار الاستعمار القديم والتوسع الإمبريالي الحديث من جانب الغرب، إلا إنني أود تجنب النظر إليه باعتباره مجرد قناع فقط للنزعة العنصرية، أو باعتباره مجرد مفترض ذهني غربي خالص يفيد في تبرير السيطرة الاستعمارية. إن الهيمنة الأوروبية على آسيا تمثل شرطًا ضروريًّا، ولكنها ليست الشرط الكافي للاستشراق. نعم تمت السيطرة بنجاح على الشرق بفضل تفوق المدافع وقوة العضلات التجارية، وكذا بفضل تطبيق مخططات للتنظيم والتصنيف والتي «تضع» الشرق داخل هيكل فكري غربي. وهذا في ظاهره لا يختلف جوهريًّا عن أسلوب أي أمة أو قبيلة نزاعة إلى التوسع وتسعى للهيمنة والسيطرة على موارد وعقول جيرانها، لكن الشيء المميز والمختلف في حالة الاستشراق هو الدرجة التي ارتقت إليها مكانة الأفكار موضوع الاستعمار بحيث تعلو على أفكار المستعمِر ذاته واستخدامها لتحدي وتعطيل فعالية السرديات المرجعية التي تستخدمها قوى الاستعمار، لذلك سأدفع بأن الاستشراق لا يمكن ببساطة القول بتطابقه مع أيديولوجيا القوى الإمبريالية الحاكمة وكأنهما شيء واحد، ذلك لأنه في السياق الغربي يمثل حركة مناهضة، قوة تحقق ذاتي «إنتِلِخيا» تدميرية، هذا على الرغم من أنه ليس حركة موحدة ولا منظمة عن وعي، وعمدت بوسائل متباينة في أحيان كثيرة إلى أن تدمر، لا أن تؤكد، البنى المنطقية التدميرية للقوة الإمبريالية.
ورغبة مني في أن أوفي هذه القضية حقها، سأدرس نطاقًا واسعًا من النصوص والسجالات الاستشراقية، ابتداء من القرن السابع عشر وحتى وقتنا الراهن. ظهرت دراسات كثيرة تحظى بالإعجاب والتقدير عن العلاقة بين الفكر الشرقي والغربي على مدى فترات زمنية محددة ومن منظور مختلف، وتركزت هذه الدراسات على سبيل المثال على فترة التنوير أو الفترة الرومانسية أو التي عُنيَت بدراسة أفكار أو مفاهيم أو مناظرات فكرية معينة، وسأفيد بهذه الدراسات وأعرض لها في الفصول التالية في الكتاب. ولكن الشيء الذي لم يحاوله أحد، في حدود معرفتي، هو صوغ نظرة عامة تحاول الربط بين هذه المحاور معًا على نحو يسهم في تحديد وضع الاستشراق تاريخيًّا ونقديًّا داخل إطار الحركة الواسعة على امتداد التراث الفكري الغربي الحديث.
وهذا مشروع طموح يستلزم قدرًا من التبرير بوجه خاص، نظرًا لموجة الازدراء السائدة إزاء كتابة التاريخ وفق منهج «خطي أحادي»، علاوة على الشكوك بشأن إمكان معالجة «التراث الغربي»، فضلًا على الشرقي بأسلوب متسق متلاحم. وثمة سؤال واضح تمامًا: لماذا نفسر ونحلل الاستشراق باعتباره قصة واحدة وسردية وحيدة؟ يقينًا كان إدوارد سعيد يؤمن بوجود تاريخ متمايز ومتسق منطقيًّا للتصور الأوروبي والنظرة الأوروبية الخاصة للشرق «إطار واضح وثابت ومميز للتحليل تجلى في فقه الإلهيات والأدب والفلسفة وعلم التاريخ» (تيرنر، ١٩٩٤م، ٢١). بَيْد أن هذه النظرة واجهت نقدًا وتحديًا في السنوات الأخيرة دفاعًا عن نهج أكثر تعددية وأكثر اتصافًا بالتغاير في عناصره. مثال ذلك ما قدمته مؤرخة الأدب ليزا لُو التي تشككت في «الافتراض القائل بأن الاستشراق يبني ذهنيًّا صورة أحادية متجانسة عن الشرق باعتباره الآخر بالنسبة إلى الغرب» (لاو ١٩٩١م، المقدمة، ص٩ و١٠). كذلك ما نراه عند المؤرخة روزان روشيه التي تنتقد إدوارد سعيد لأنه «ابتكر خطابًا وحيدًا غير متمايز في الزمان والمكان وعلى نطاق الهويات السياسية والاجتماعية والفكرية» (من كتاب بريكنريدج وفان دير فير، ١٩٩٣م، ٢١٥).
وقد يختلف مع هذا الرأي أيضًا، من منظور واسع، من يرونه مثالًا لأساليب التأريخ التقليدي التي تفترض استراتيجيات تؤكد جوهرًا ونظرة شاملة إلى التاريخ، ومن ثم تطمس معالم التمايز والاختلاف رغبة في الوصول إلى ما يشبه منظورًا متجاوزًا للتاريخ. والذي لا ريب فيه أن الاستشراق لا يشكل موضوعًا ثابتًا أو بسيطًا أو موحدًا، كما أنه لا يعبر عن التميز الواضح الواعي بذاته لأيٍّ من الكاثوليكية مثالًا أو العلم أو الماركسية، ولن أدخر جهدًا من أجل تأكيد مظاهر الانقطاع والتغير فيما يتعلق ببؤرة اهتمام الغرب تجاه الفكر الشرقي، وهذا هو ما حدث على مدى القرون القليلة الماضية. وسوف أؤكد تنوع الغايات والأغراض التي ستبين لنا واضحة بين المستشرقين والتي تتراوح ما بين دينية ورُوحانية وصولًا إلى غايات وأغراض سياسية وعلمية. بَيْد أنني مع هذا أعتقد بوجود مجموعة يمكن تحديدها من المواقف والاتجاهات الفكرية والممارسات التي يمكن أن يفيد فيها استخدام هذا الوصف للدلالة على الموضوع، ويكون أسلوبًا مميزًا للتفكير والاستجابة والتقييم، الأمر الذي يدعونا إلى بحث نقدي وتاريخي مفصل.
ولا ينبني هذا النهج في التناول على أي افتراض بشأن الشرق كموضوع ثقافي موحد، وسأدفع بأن هوية الاستشراق — ومن ثَم ما يميز موضوع كتابنا هذا — لا تكمن في الوحدة المفترضة للموضوع، والتي حاول تصويرها، إنما تكمن، على الأصح، في طائفة مميزة من المواقف وأساليب التناول التي التزم بها الأوروبيون دائمًا؛ أعني بذلك أسلوب المفكرين الغربيين خلال القرون من السابع عشر وحتى العشرين في وضع الأفكار الشرقية في فلَك اهتماماتهم الفكرية والثقافية، وصوغ تصورات عنها تحقق أهدافًا وتطلعات غربية. وسيبين لنا، مع هذا كله، في التحليل الأخير أن «الاستشراق» الذي نسرد قصته ونحلله في هذا الكتاب ما هو إلا مفترض ذهني، حكاية عن حكايات، ومن ثَم ليس سوى أسلوب من بين أساليب كثيرة ممكنة لإضفاء معنى على العالم، وصيغة من بين صيغ كثيرة أخرى ممكنة للتاريخ الفكري. وأود أن أتجنب هنا افتراض وجود شيء «واقعي» أو «جوهري» اسمه الاستشراق في الخارج هناك؛ أي «نوع طبيعي» يتطابق مع سرديتي الخاصة، لكن الاستشراق — مع هذا — شأنه شأن الداعية للمساواة بين الجنسين، أو الطبقة العاملة، أو مؤرخي تاريخ السود، أعاد رسم خارطة جديدة للتاريخ التقليدي، وذلك بأن وضع في الصدارة أطرًا فكرية تاريخية سبق أن حجبتها مصالح واهتمامات كانت لها السيادة. كذلك حال الكتاب الذي بين يدي القارئ هو محاولة لتجديد وإعادة التفكير في التاريخ الفكري الغربي الحديث. وسبيلنا إبراز جانبٍ ظل زمنًا مُغْفلًا ومهمَّشًا، ويمكن القول بمعنًى من المعاني أن هذا إجراء تعسفي في الحقيقة، ذلك لأنه يمثل طريقة واحدة فقط من بين طرق أخرى كثيرة ممكنة منطقيًّا في تنظيم الخبرة التاريخية. بيد أنني أُومن في الوقت نفسه بأن مؤرخي الأفكار، وكذلك غيرهم من المؤرخين، لديهم دائمًا التزام «بإضفاء معنًى» على العالم حتى مع التسليم بأنه معنًى مصطنع بقدر ما هو مكتشف.
وثَمة مسألة وثيقة الصلة تتعلق بالأخطار الناجمة عن معالجة الشرق ذاته ككيان وحيد غير متمايز. وغيرُ خافٍ أن مصطلحات حاسمة، من مثل «الشرق» و«المشرق» و«الغرب» تغدو أدوات لاختزال تعقدات وتنوعات لا نهائية، وتحويلها إلى وحدات يمكن التصرف معها لكنها زائفة، وتمثل أداة سيمانطيقية أو دلالية شجعتنا على التفكير في حدود المقابلة بين الشرق والغرب على أساس من التعارض الأبدي المفارق، ومن ثَم فإنني توخيًا للوضوح والاقتصاد سأستخدم مصطلحات مثل «الشرق» و«المشرق» في كل صفحات الكتاب للإشارة إلى التراثات الثقافية والفكرية لجنوب وشرق آسيا جملة. وكذلك، ولأسباب تتعلق بالأسلوب، سوف يجري استخدامها بمعنى تبادلي مشترك دون أي تغير دلالي بحيث تشمل التراثات الدينية والفلسفية لليابان والصين والتبت والهند وسريلانكا، بَيْد أنها مستخدمة «مع قابلية الإلغاء أو المحو» (بالمعنى الذي قصده دريدا). وسأوضح صراحة في عدد من المواضع من متن هذا الكتاب ضرورة النظر إلى هذه المصطلحات بعين الشك للدلالة على نزوع أصيل إلى تنميط ومعالجة ثقافات آسيا. ويحدوني الأمل في أن مجموع الأمثلة والحالات والنصوص الواردة في الكتاب على تنوعها سوف تناهض أي ميل إلى دمج الشرق أو الاستشراق وصهره في صورة غامضة مبهمة وخالية من أي تمايز.
وأود أن أوضح للقارئ أيضًا أنني لن أعالج الاستشراق باعتباره ظاهرة منفصلة، كيانًا متجانس البنية، بل سأبين أنه وثيق الصلة، ومتداخل مع عدد آخر من العمليات الفكرية والتاريخية الأوسع نطاقًا. وتتضمن هذه أولًا طائفة واسعة من الاهتمامات المقترنة بالنشاط التقليدي لمباحث فكرية مثل: الفلسفة وفقه الإلهيات وعلم النفس والعلوم الطبيعة في اتساق مع عوامل تاريخية عززت هذه المباحث على مدى بضعة قرون خلت. وسوف أوضح رؤيتي وروايتي عن الاستشراق على نحو يبرز العلاقة بين الاستشراق وبعض القضايا المحورية والحوارات التي شهدها التراث الفكري الغربي الحديث. وثمة عوامل أخرى تشتمل على عدد من المفاهيم والقضايا التي احتلت بقوةٍ بؤرة الاهتمام في السنوات الأخيرة، أذكر منها: التعددية الثقافية، والهوية العرقية (الإثنية)، والجنوسة (الجندر)، وعلاقة الغرب بالإسلام وأفريقيا، وغيرها من مجالات كانت هدفًا للاستعمار يومًا ما. وسيتضمن هذا اقتحام عدد متنوع من مجالات البحث، وهو مشروع ينطوي على مخاطرة في عصر التخصصات الصارمة، بَيْد أن موضوع كتابنا هذا يستلزم من مؤرخ الأفكار أن يكون مستعدًّا لنسج روابط وصلات واسعة غير مألوفة، وكم هو مستحيل الآن تأمل افتتان الغرب بالشرق من دون ربط هذا بقضية عولمة الثقافة الأوروبية بكل ما يترتب عليها من مشكلات اجتماعية وفكرية. ولن يتبين لنا فقط كيف أدى الاستشراق دورًا في الإثارة والتطور التاريخيين لهذه القضايا والنزاعات خاصة في سياق الإمبريالية والاستعمار القديم، بل سيتبين لنا أيضًا كيف حافظ على صلته الوثيقة بالحوارات المعاصرة المتعلقة بالحداثة وما بعد الحداثة.
تاريخ الأفكار: الطرق والوسائل
تُرى ماذا عن انحيازاتي وكل ما يخص فهمي السابق؟ واضح أنني لا أستطيع تجنب البداية بمقولات من تراثي الخاص ومن تساؤلات وافتراضيات نابعة من داخله. وأُدرك، حسب هذا الفهم، أنني أتناول الاستشراق وهو موضوع مذبذب بين الشرق والغرب من موقف غربي، ومن داخل سياق تأسس وفقًا للمعايير والمفاهيم الغربية. ومن ثَم فإنني وعند هذا الحد أكون مشاركًا فيما وصفه هيدغر «أَوْرَبة الأرض»، أو النظر إلى الكرة الأرضية بمنظور أوروبي. وحري أن أذكر أنني — ومن وجهة نظر شخصية — لم أسع في هذه الدراسة إلى إخفاء مُثُلي العليا الإنسانية، أو حماسي للمشروع الاستشراقي، متتبعًا، على الرغم من أي قصور، مسارًا تحرريًّا «لطرفي العالم القديم». والتمست سبيلي لتمهيد دربٍ عبر هذه الساحة المعقدة والزاخرة بكثير من الاختلافات. بَيْد أنني عمَدت في الوقت نفسه إلى أن يشتمل نقاشي على القسط الأكبر من السجالات المهمة والمفعمة حيوية خلال السنوات الأخيرة، مع الكشف عن الانتقادات التي يمكن أن تضفي على الاستشراق مظاهر سلبية، بل ونظرة تشاؤم، ووجهت الأنظار إلى مناطق أسفر فيها التنوير الشرقي عن شر واضح وملموس. ومن ثَم ليس هدفي تقديم تاريخ يعطي إحساسًا ورديًّا، من شأنه أن يؤكد أن قصة الاستشراق هي قصة من الجمال والنور الخالصين. كذلك لن أعمِد من ناحية أخرى إلى وصف الاستشراق باعتباره مجرد ملحق وذيل لسياسة القهر والاستعمار، بل سأعرض رؤية متوازنة، تمثل طريقًا وسطًا يوضح أكثر من غيره أهمية الحوارات الاستشراقية التي دارت على مدى تاريخ الفكر الغربي. إن هناك من سيدفعون، انطلاقًا من كتاب إدوارد سعيد، بأن العلاقة التاريخية برمتها بين الشرق والغرب تنوء تحت وطأة تراث الاستعمار حتى بات متعذرًا على المفكر الغربي تناول موضوع الشرق إلا بأسلوب شأنه يحط من قدر الشرق، لكن، وكما أوضح سعيد نفسه، «ليس هناك موضع أفضلية مميز خارج الواقع الفعلي للعلاقات بين الثقافات» (١٩٨٩م، ٢١٦). وكذلك الحال عند غادامر، الذي يؤكد أن جميع وجهات النظر ثاوية في الظرف التاريخي. لذلك فإن أفضل ما يمكن للكتاب عمله في مثل هذه الظروف هو تنبيه القرَّاء إلى الوضع الذي ينطلقون منه في تأويلهم بدلًا من الادعاء أنهم يملكون ما وصفه ريتشارد رورتي ﺑ «مفاتيح الجنة» التي يفتحون بها مغاليق التاريخ.
وتتسق بنية الكتاب مع ما انتويته، بحيث لا يكون فقط مجرد «رواية القصة»، بل وأيضًا تأويلها نقديًّا، والتفكير فيها من جديد، وإعادة صوغ مفاهيمها، وفهمها من حيث علاقتها بالأطر المرجعية المعاصرة والجدل الدائر بشأنها، لذلك سيجد القارئ أنني آثرت وناقشت في الفصول الأولى عددًا من القضايا، ويبدأ الفصل الثاني بطرح القضية المحورية في الكتاب، وهي: لماذا كان الشرق موضوعًا لمثل هذا القدر من الاهتمام والافتتان في الغرب؟ وبعد استعراض العديد من النظريات الممكنة والشائعة، أقدم رأيًا مبدئيًّا سيصبح إطارًا نظريًّا لبقية الكتاب، ويمكن اعتبار الفصلين الأوسطين طريقة في الوصول إلى صياغة محكمة واختبار الرأي المبدئي، وذلك بتقديم رواية في خطوط عريضة عن تاريخ الاستشراق بدءًا من نحو عام ١٦٠٠م وحتى الفترة الراهنة. وسأنتقي عينات تمثيلية لأهم تيارات الفكر والحوارات والنصوص والشخصيات البارزة في هذا المجال. وإن الجزء الثاني، وإلى حد ما الجزء الثالث، يفيد من، كما يلخص، البنية المتعاظمة من البحوث والدراسات المخصصة للفترات المختلفة، ومن ثَم فإن القسط الأكبر من هذا العمل سيكون مألوفًا للاختصاصيين العاملين في هذا المجال، لكنه سيقدم في الوقت نفسه مصادر مرجعية تفيد للمزيد من البحث. وقدمت في الجزأين الثاني والثالث عرضًا استقصائيًّا، بحيث يقدمان استعراضًا شاملًا للقارئ العام الذي قد يفاجأ بمدى انتشار النشاط الاستشراقي وتأثيره على مدى القرون القليلة الماضية، ويعكس الفصل الأخير من الكتاب مجمل المشروع الاستشراقي من زواياه المختلفة، ويبدأ بفصل يبرز بعض القضايا الفلسفية والأيديولوجية التي تواترت كثيرًا في الفصول السردية من الكتاب. وأذكر من هذه القضايا كمثال: النسبويَّة، التأويل فيما بين الثقافات والترجمة. ويتصدى هذا الفصل لسلسلة من القضايا الأخلاقية والسياسية التي أدت في فترة ما إلى ظهور زعم بأن الاستشراق قد أسأنا فهمه، وأنه معيب، بل وخطر، ويتخذ الفصل الختامي اللحظة الراهنة محورًا للاهتمام، ويطرح تساؤلات في شأن موضوع هذا الكتاب في ضوء مواقف واهتمامات «ما بعد المودرنزم» ويعرض هذا في سياق مرحلة ما يفترض أنها مرحلة ما بعد الاستعمار في تاريخ الغرب، ويقترح أساليب لفهم نطاق الاستشراق ومدى ملاءمته موضوعيًّا في وقتنا الراهن.
ويحدوني أمل أن يصادف الكتاب هوى لدى العديد من فئات القراء، وأحسب أن سيستهوي أولًا الأعداد المتزايدة من القرَّاء الذين ما فتئوا يشعرون بأن فلسفات الشرق التقليدية لديها الكثير والكثير مما نتعلمه منها (سواء اعتبرنا أنفسنا شرقيين أو غربيين أو لا هؤلاء ولا هؤلاء)، ومن ثم الراغبين في تعزيز اهتمامهم من خلال توثيق الصلة بالثراء التاريخي للقاء الأفكار بين الشرق والغرب. ويحدوني الأمل كذلك أن يقرأ الكتاب الباحثون والمتخصصون في تلك الدراسات الإنسانية ومباحث العلوم الاجتماعية التي، على الرغم من الروابط التاريخية والفكرية المهمة مع الشرق، أحجمت كثيرًا عن توسيع نطاق آفاقها المفاهيمية نحو توجه شرقي. ومن ثم أرجو أن يكون الكتاب بذلك حافزًا نحو مزيد من البحث في هذا المجال. الجدير بالذكر أن إحدى الدعاوى المحورية في هذا الكتاب هي الزعم أن الأسلوب الغربي الخالص في تناول التاريخ الفكري ودراسة عدد معين من القضايا المعاصرة في مجالات مثل علم النفس والإلهيات وعلم الاجتماع بات محكومًا عليه الآن بالقصور، وغير خافٍ أن الحياة الفكرية الغربية لا تزال حتى الآن تعيش في عزلة ومنغلقة على نفسها على الرغم من المصالح والاهتمامات التي تسع العالم كله، وتقاليد البحث والدراسة في الغرب، ونلحظ أنه على الرغم من أن كثيرين من علماء التربية يُقرُّون بأهمية توافر نظرة شاملة إلى كوكب الأرض، المناهج الدراسية في مدارسنا وجامعاتنا متراخية في مدى استجابتها لذلك في التطبيق العملي.
إن قصيدة كيبلنغ التي اقتبسنا منها في صدر هذا الكتاب قد تبدو في نظر كثير من القراء شيئًا عتيقًا ينتمي للزمن الماضي. ولكن الشك لا يساور أحدًا في أننا لا نزال أسرى تصنيفات ثقافية، والتي كثيرًا ما تصور الشرق وجودًا بعيدًا وغامضًا، بينما الجميع مهيَّئون للتراجع إلى كهوفنا العرقية والقومية. وثمة عنصر مرضي يغزو دائمًا مواقفنا تجاه الأجانب، ذلك «الآخر». بَيْد أننا، ونحن نعيش في عالم ينفجر من داخله، يعج بالتوترات والأزمات الكوكبية التي تتهددنا وتوشك أن تلتهمنا، لا تزال ثمة حاجة ملحة للتطلع إلى ما وراء المواقف التبسيطية المخلة التي أثارت مشاعر كيبلنغ. ومن ثَم علينا التماس السبيل نحو نظرة عالمية أكثر رحابة وأوسع صدرًا وأكثر شمولًا، أعني نظرة تأويلية (هرمنيوطيقية) كوكبية بكل معنى الكلمة. لذلك، سندرس في هذا الكتاب أفكار كثيرين من المفكرين المشهود لهم بالجسارة، والذين سعوا جادين لبناء الجسور بين الشرق والغرب، من ثم تطوير قضية التفاهم بين الشعوب على اختلاف وتنوع أصولهم الثقافية والدينية والفكرية. وحري أن أذكر أن أحد بناة هذه الجسور هو الراهب البنيديكتي توماس ميرتون، الذي هجر ديره في أمريكا ليشارك في حوار مع نظرائه الهندوس والبوذيين في جنوب شرق آسيا، والذي كتب ما يلي:
لم يعد كافيًا قصر الجهد على مراجعة التراث المسيحي والأوروبي؛ ذلك أن آفاق العالم لم تعد محصورة في أوروبا وأمريكا. ومن ثَم، أصبح لزامًا صوغ أطر جديدة، يعتمد عليها بقاؤنا الرُّوحي، بل والمادي.
وتمثل الصفحات التالية مساهمة بسيطة في سبيل إنجاز هذه المهمة.