الفصل الأول

توجهات شرقية: القضايا

«من يعرف نفسه ويعرف الآخر، فسوف يعترف أيضًا بأن الشرق والغرب لا ينفصلان.»

غوته

«آه، الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا إلى حين تمثُل الأرض والسماء وشيكًا أمام عرش الرب يوم الحساب العظيم.»

كيبلنغ

الشرق: الآخَر في عين أوروبا

يشير التعارض الواضح بين هذين الرأيين إلى تناقض قديم، قدم الزمان، في موقف الغرب تجاه الشرق. كان الشرق من ناحيةٍ مصدرَ الإلهام، ونبع الحكمة القديمة، يمثل حضارة غنية بثقافتها تسمو كثيرًا عن حضارتنا، بل يمكن أن تكشف عن مظاهر القصور فيها. ونجد الشرق من ناحية أخرى إقليمًا مغايرًا يمثل خطرًا وشيكًا يلوح في الأفق، وسرًّا غامضًا يستعصي على الفهم، ظل حبيسًا منذ زمن طويل داخل ماضيه الراكد إلى أن استيقظ من رقدته تحت تأثير حداثة الغرب. ويبدو الشرق من ناحية، كما هي الحال في نظر فولتير، الحضارة التي «يدين لها الغرب بكل شيء»، وكذا في نظر أرنولد توينبي، حيث يرى أن لقاء الغرب بالشرق يمثل أهم أحداث عالم عصرنا الراهن. هذا بينما نرى آخرين أقل حماسًا، ونذكر من هؤلاء تشارلز ساندرز بيرس الذي تكلم بازدراء عن «صوفية الشرق الوحشية»، وأعرب آرثر كويستلر عن رفضه عقائد الشرق الدينية باعتبارها «شبكة من الأراجيف في ثوب مَهيب». وذهب عالم الدراسات الصينية جوزيف نيدهام إلى أن ثمة حوارًا متصلًا على مدى ثلاثة آلاف عام بين «طرفي العالم القديم» الذي أثر خلاله كل من الشرق والغرب في الآخر. ورأى آخرون أن العلاقة هامشية ووقتية إلى زوال، ولم يكن لها وجود حقيقي مشهود إلا خلال فترة قصيرة هي فترة الحركة الرومانسية الجديدة في ستينيات القرن العشرين، وقتما قصد العديد من الفتيان والفتيات الشرقَ التماسًا لما يوصف بقولهم «نيرفانا البوب أو النيرفانا الشعبية» Pop nirvana.
ويبدو تناقض المشاعر واضحًا في سلسلة كاملة من المواقف النمطية والأساطير المألوفة التي تفيد في وضع الشرق والغرب وسط مجموعة من العلاقات المتعارضة والمتكاملة بعضها مع بعض، وترتبط بعض هذه المواقف بالاتجاهات والانحيازات الشعبية، ويرتبط البعض الآخر بالدعايات الدينية والسياسية، وتَولَّد البعض عن مصادر يغلب عليها الطابع البحثي والأكاديمي، ويخدم أغراضًا فكرية خطرة، وأكثر الأمثلة شهرة لهذا النوع عبارات مثل: «الأبهة الشرقية» و«الشهوانية الشرقية» و«المكر» الشرقي و«الفظاظة» الشرقية. وكثيرًا ما بدا الشرق يفيض حيوية وفتنة على النحو الذي توجزه كلمة «غريب مثير»، أو أنه بالمقابل مصدر شؤم ونذير خطر، كما نرى في مثل بعض العبارات المشحونة بالذكريات، التي تقول: «الطاعون الأصفر» و«القبائل الآسيوية» و«الاستبداد الشرقي». وبات مألوفًا كذلك مجموعة من المواقف التي توجزها عبارات من مثل «الشرق الصوفي» التي تستهوي النفس بما تنطوي عليه من معاني السمو الرُّوحي، وكذا «الظلامية الخرقاء».١ وإذا تجاوزنا هذه النمطية في التفكير ونظرنا عبر إطار أرحب، نجد بالإمكان أن نميز مجموعة من المواقف المثيرة للحيرة والبلبلة تتراوح بين المدح والقدح. ويعبر نيدهام عن الموقف الأول، وذلك في ملاحظة له يقول فيها: «انطوت الحضارة الصينية على الجمال الطاغي للآخر برمته، وأن هذا الآخر برمته لا يسعه إلا أن يستلهم أعمق الحب وأصدق الرغبات ليتعلمها من الشرق» (١٩٦٩أ، ١٧٦).

لكن حتى حين ينطوي الحديث على تقدير للشرق يسمو به إلى مكانة أرفع من الغرب «المتحلل»، نجد ما يؤكد أن الشرق هو «الآخر»، بل هو الغريب. مثال ذلك: سي جي يونغ، الذي كان نصيرًا متعاطفًا مع الشرق، شأنه شأن الجميع في القرن العشرين، نراه يحدثنا عما في الشرق من «غرابة قد تصل إلى حد استحالة فهم النفس الشرقية» (١٩٧٨م، ١٨٧). وها هو الكاتب المتخصص في البوذية ستيفن باتشيلور، أكد أن الأوروبيين «رأوا آسيا تمثل لهم شيئًا مجهولًا ومختلفًا غير مفهوم، بل ومثيرًا للخوف. إنه بلغة علم النفس لغز أمام اللاشعور الغربي، ومستودع لكل ما هو سر ملغِز مبهَم، أنثوي شهوي مقموع قابل للانفجار» (١٩٩٤م، ٢٣٤).

وسادت فكرة عن أن الشرق هو «الآخر» الغامض المنذر بالأخطار، وتذهب هذه الفكرة إلى أن الغرب والشرق فئتان متباينتان من حيث الجوهر والماهية، وهذه فكرة لها تاريخ طويل قد يمتد ويعود إلى عصر هيرودوت وإلى الصراع الملحمي بين الهيلينيين والفرس، والذي أدى إلى القول بالتباين الأسطوري الذي يميز بين الغرب البطولي الدينامي المحب للحرية وبين الشرق الاستبدادي السلبي الراكد. وأخذت هذه الفكرة صورًا متباينة في فترات حديثة العهد. مثال ذلك: أن المؤرخ راغافان آير حدثنا عمَّا أسماه «الستار الزجاجي» الذي اختلقه الغرب كحاجز بينه وبين ثقافات وأقاليم الشرق. ولفت الأنظار إلى ما يصفه بأنه «الاختلاف الأبدي» بين الآسيويين والأوروبيين الذي تدعمه «فكرة ملتبسة عن صراع أبدي بين الشرق والغرب»، وافتراض مفرط في غلوه عن وجود فارق أساسي في أنماط الفكر وأساليب الحياة (١٩٦٥م، ٥ و٧). ودفع المفكر السياسي صمويل هنتنغتون أخيرًا بأن الصراع بين الشرق والغرب جزء من «صدام أوسع نطاقًا بين الحضارات»، ويتضمن هذا الصدام اختلافًا ثقافيًّا أساسيًّا يفصل الحضارة الغربية عن الحضارات الأخرى، ويضرب هذا الاختلاف بجذور أعمق من الفوارق القومية والأيديولوجية (انظر هنتنغتون، ١٩٩٣م). ويلاحَظ أن مثل هذه الاستقطابات أخذت أحيانًا صورة صراع أقل وضوحًا، وتجلى في الأسطورة السائدة عن أن الشرق والغرب نقيضان متكاملان. وكثيرًا ما شجعت هذه النظرة على الارتفاع بقدر الشرق إلى ذرًى سامية، هذا على الرغم من أنها أيضًا أجازت في بعض الأحيان تعبيرات أقل إطراء، وتنطوي هذه الثنائية بين أيدي بعض المفكرين على الرسالة الرومانسية التي تحدثنا عن «زواج الشرق بالغرب» والسعي الحثيث من أجل الوصول في نهاية المطاف إلى وحدة الرُّوح الإنسانية التي أضحت في العصر الحديث تعاني من مساوئ الانقسام، ذلك أن عقل الغرب «العقلاني الأخلاقي الوضعي العملي»، بحاجة إلى التكامل مع العقل الشرقي الذي هو عقل أميل إلى الحياة الباطنية والتفكير الحدسي (رادها كريشنان، ١٩٣٩م، ٤٨). ويعني هذا في نظر البعض إمكان تحقق حياة عقلية أكثر تناغمًا واكتمالًا، مما يشجع على وحدة العوامل النفسية المتعارضة والمتكاملة معًا في آنٍ واحد، مثلما تتحد وتتكامل النوازع الانطوائية والانبساطية، أو تلك التي تحقق التوازن بين الصفات الأنثوية للشرق والصفات الذكورية للغرب. بَيْد أن هذا يعني لدى البعض الآخر مصدر قوة سياسية مكينة يفيد في معالجة أزمة العالم الحديث الآخذ في التلاقي اجتماعيًّا واقتصاديًّا، لكنه — على الرغم من هذا — تمزقه في الوقت نفسه عداوات ونزاعات متبادلة، ومن ثم بات في مسيس الحاجة إلى تكامل صفات الشرق والغرب. ونجد على الوجه الآخر للعملة أن هذه الاستقطابات كانت في بعض الأحيان نذيرًا بظهور اتجاهات قهرية أساسية. وأدت — سواء عن وعي أو عن غير وعي — إلى أن نرى الشرق بمنزلة التتمة السلبية للغرب، والقرين الأدنى المنفعل بالغرب — الذكَر — القادر على الإدارة والتوجيه، وهكذا تبدو ثقافة الشرق كأنها تميزت بخصائص الضعف العاطفي الأنثوي على نقيض القوة العقلانية الذكورية المميزة لثقافة الغرب الذي هو الآخر بالنسبة إليها.٢
وطبيعي أن مثل هذه المواقف الملتبسة ذات المعاني المزدوجة تفسر لنا، إلى حد ما، لماذا لا يزال العالم الأكاديمي مترددًا في اتخاذ الفكر التقليدي الآسيوي مأخذًا جادًّا، ونلحظ حتى في عصرنا الراهن الموسوم بعولمة الثقافة أنه لا تزال توجد بقايا راسخة لنزعة المحورية الغربية، حيث نشهد إحجامًا مطردًا عن قبول فكرة أن الغرب استعار أي شيء ذي قيمة من الشرق، ونرى كذلك أن مكان الفكر الشرقي في التراث الغربي لا يزيد على كونه مظهرًا معاصرًا وحدثًا عابرًا غير ذي قيمة فكرية مهمة، أو لنقل إنه على أحسن الفروض ليس إلا جانبًا عاديًّا جدًّا ضمن استجابة أوسع نطاقًا إزاء العالم الحديث، ولا يزال البعض يرى أن الشرق مقترن بالتهويمات السحرية المبهمة، وسَورات لاشعورية معبرة عن دوافع لاعقلانية مكبوتة لثقافة وضعت ثقتها في العقلانية العلمية، ويذهب آخرون إلى أن الاهتمامات الشرقية لم تتجاوز بعد — إلا قليلًا — المظهر المعبر عما هو غريب، وإن بدت في صورة مبالغات غير منطقية لعصر جديد من النزعة الباطنية اللاعقلية، وما فتئ كثير من الأكاديميين يشعرون ببعض الحرج إزاء موضوع الشرق برمته، وليس الأمر عند هؤلاء مقتصرًا على ما يرددونه من روايات عن الفلسفة تنزع إلى استبعاد الفكر الشرقي، مؤمنين بما قاله سيمون كريتشلي على نحو مثير للسخرية، إذ قال: «تتحدث الفلسفة بلسان إغريقي، ولا شيء غير اللسان الإغريقي» (١٩٩٨م، ١٨)، لكن يصل الأمر إلى حد إغفال مؤرخي الأفكار دور الفكر الشرقي داخل التراث الفكري الغربي بأوسع معانيه،٣ ومن ثم فإن هدفي من هذا الكتاب هو محاولة تغيير هذه المدركات وبيان أن الشرق على مدى الفترة الحديثة، ابتداء من عصر النهضة فصاعدًا، مارس تأثيره القوي الساحر على عقول غربية، ودخل الحياة الفكرية والثقافية الغربية بوسائل تتجاوز كثيرًا جدًّا مجرد الأهمية العابرة ضمن تاريخ الأفكار الغربية، وسأَلْفِت الانتباه إلى التراث التاريخي العريق للبحث الاستشراقي والفضول الفكري في كل من أوروبا وأمريكا، مما ساعد على دمج أفكار فلسفية ودينية من الهند والصين واليابان في التيار الرئيسي للفكر الغربي، وسأوضح كذلك كيف كان الشرق خلال حقبتي التنوير والرومانسية موضوعًا محوريًّا في الحوارات الفكرية، وكيف أنه، وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، أدت أفكار وافدة من الشرق دورًا متزايد الأهمية والفاعلية داخل سياقات ومجالات واسعة ومتباينة. علاوة على هذا، سأذهب إلى أن المعلومات المطردة الدفق من ثقافات الشرق في اتجاه الغرب لم تكن لمجرد التسرية والتسلية والمتعة وإزجاء الوقت، كما يذهب ظن البعض في كثير من الأحيان، بل كان أيضًا أداة مهمة لوضع التراث موضع استجواب وشك، ومن ثم أداة لتجديد الذات. وكانت هذه الثقافات، خيرًا كانت أم شرًّا، مرجعًا خارجيًّا أفاد في توجيه مسار وأضواء البحث النقدي للتراث الغربي ومنظومات الاعتقاد، مما أفاد في استلهام إمكانات جديدة.

إذن، هدفي من هذا الكتاب هو أن يكون تحديًا لهذه الأسطورة. ولن نكتفي في هذا الصدد بكشف ضِيق أفق المحورية الغربية في مجال التأريخ للفكر، بل أيضًا أن نبرز في وضوح صارخ طبيعة التلاقي الفكري الحاسم الذي حدث بالفعل بين «طرفي العالم القديم». وطبيعي أن هذا التلاقي بين أفكار الشرق والغرب على مدى حقبة تاريخية مديدة يمثل في ذاته حدثًا مثيرًا للدهشة تمامًا. وتتجلى المفارقة بوجه خاص في أن هذا حدث خلال فترة التوسع السريع للقوة الغربية العسكرية والاقتصادية وهيمنتها على شعوب جنوب وشرق آسيا. ونلحظ أن هذه هي الفترة التي مارس خلالها الغرب تفوقه العالمي، مؤكدًا سيادته بوضوح في الكثير والكثير من مجالات النشاط الفكري. ويكشف الأمر في ظاهره عن شيء مثير للحيرة تمامًا. ويتمثل هذا في حقيقة أن الغرب الذي كان بمعنًى ما متفردًا بين القوى الإمبريالية الكبرى، ويمارس هيمنته على الشرق، إذ به في الآن نفسه معجبًا بالشرق، يُعلي من قدره ومكانته، ويرقى به إلى مستوى النَّموذج والمثل الأعلى الجدير بأن يستلهمه ويحاكيه. ومن ثم اعتاد أن يقصده كالحاج في ثياب خشنة وبين يديه حفنة من رماد تواقًا إلى السجود عند قدمي معلمه الرُّوحي (كويستلر، ١٩٦٠م، ١١). وما أكثر ما يكتنف تصور الغرب للشرق من ظلال وليدة التخييل والتفكير من منطلق الأماني. وسوف يبين لنا أن صور الشرق في أذهان المفكرين الغربيين كثيرًا ما تحدثنا عن عقول هؤلاء الغربيين أكثر مما تكشف عن عقول الشرقيين. ومع هذا، يظل ما يثير دهشتنا أن أجيالًا من المفكرين والباحثين، علاوة على عامة المتعلمين الذين اقتدوا بهم في ازدياد مطرد، لم يكفوا عن التماس الإلهام والبصيرة النافذة من أراضي الشرق البعيدة، وبذلوا الجهد ساعين لتجسيد الشرق في تفكيرهم. لكن، وعلى نقيض حضارات آسيا، كما يلحظ ويلهلم هالبفاس، التي لم تمتد تلقائيًّا لتصل إلى الغرب، فإن الشرق كان «الهدف والمرجع للتنبؤات الطوباوية، والبحث عن الهوية، وعن أصول نشأة أوروبا والشك الذاتي، وكذلك النقد الذاتي الأوروبي» (١٩٨٨م، ٣٦٩).

وثمة وجه آخر بطبيعة الحال لهذه القصة. إذ كانت شعوب وثقافات آسيا موضوعات للهيمنة السياسية والاقتصادية، مثلما كانت موضوعًا للغطرسة والازدراء العنصري في الغرب، إن قصة العلاقة بين القوى الاستعمارية الغربية وأمم الشرق ليست فقط قصة استكشاف ثقافي وفكري تنويري، بل كثيرًا ما كانت قصة تثير الخزي، استهدفت استغلال شعوب آسيا وتجريدهم من ممتلكاتهم، والنظر إليهم باعتبارهم العنصر الأحط شأنًا قياسًا إلى الغرب، وأنهم «الآخر» النقيض، وحامل الخصال السلبية، ويؤكد الغرب بذلك لنفسه تفوقه، ومن ثم حقه المشروع في السيطرة، وكم هو محزن أن نرى بوضوح كيف تقدم الغرب نحو آسيا، وقد تسلح بالحق على لسان المدفع والإنجيل (كويستلر، ١٩٦٠م، ١١). وعمَد بشكل منهجي منظم على أن يفرض على أمم الشرق عقائده الدينية، وقيمه الخاصة، ونظمه السياسية، غير عابئ بما يثيره كل هذا من حساسيات كلية، وغير مبال بالتقاليد الأصلية. علاوة على هذا، فإن دراسات معاصرة عن فترة ما بعد الاستعمار لفتت الأنظار إلى أمرين؛ أولًا: كيف سادت الاتجاهات العنصرية والقمعية في الواقع التاريخي للإمبراطورية، وثانيًا: كيف أن الأمر لم يقتصر على هذا فقط، بل إن هذه الاتجاهات العنصرية والقمعية باتت محفورة وراسخة ضمن الخطاب الغربي على مستويات عدة، حتى في عصر ما بعد تفكك الجهاز الاستعماري الرسمي تمامًا. معنى هذا أن النزعة الاستعمارية ثاوية في عقول ومجتمعات ما بعد حقبة الاستعمار. وهذا ما يوضحه كاتب معاصر تناول هذا الأمر، إذ يقول: «لم تنته الهيمنة الأوروبية مع رفع مئات الأعلام الوطنية، ذلك لأن تراثها من التفرقة والعنصرية لا يزال حيًّا باقيًا في الأوساط السياسية والإعلامية والتشريعية». (تيفين ولاوسون، ١٩٩١م، ٩). وقد أشرت سابقًا، كما سنكتشف بتفصيل أكثر على مدى صفحات هذا الكتاب، إلى أن هناك في الحقيقة تناقضًا مزدوجًا وعميقًا بشأن موقف الغرب تجاه الشرق، إذ على الرغم من أن نوايا ومواقف الغرب الواعية تجاه الشرق بدت في ظاهرها حسنة وموضع تقدير وتوقير، إلا إنه من العسير التخلي عن الشك في أن «نور آسيا» جرى استغلاله وفاء لأغراض غربية بأدوات ووسائل ملموسة وحقيقية تتصف بالقسوة، وسنجد من يدفع بأنه حتى يوم أن تحلت المصالح الغربية بأصدق وأخلص النوايا العلمية، فإن الأفكار الفلسفية والدينية الشرقية تحولت إلى سلعة، وتم انتحالها بوسائل تعكس وتعزز طبيعة التوسع الإمبريالي في أجلى مظاهره، وقد يمضي البعض شوطًا أبعد زاعمًا أن العلاقة بين الغرب والشرق في الحقبة الحديثة، حتى إن بدت رُوحانية نبيلة، إلا أنه يتعين علينا بالضرورة أن نفهمها في التحليل النهائي، باعتبارها «علاقة قوى وسيطرة مع درجات متفاوتة للهيمنة المعقدة» (سعيد، ١٩٨٠م، ٥).

الاستشراق: المصطلحات والأفكار

إذن سوف أسعى في هذا الكتاب لكي أستعيد دراسة الاشتباك الفكري الجاد من جانب الغرب مع الأفكار الشرقية بكل ما في هذا من تعارض وتناقض. وتوخِّيًا للوضوح والتبسيط سوف أستخدم كلمة «الاستشراق» للإشارة إلى سلسلة من المواقف التي تجلت واضحة في الغرب تجاه الأفكار والمذاهب الدينية والفلسفية التقليدية في جنوب وشرق آسيا. وهذا اختيار مثير للجدل، لقد أصبح «الاستشراق» مصطلحًا إشكاليًّا إلى أقصى حد بحيث بات من المستحيل استخدامه بمعنًى محايد. كما أصبح، وَفق ما ذهب الباحث في الإسلاميات برنارد لويس «مصطلحًا … ملوثًا بحيث يتعذر تنقيته» (١٩٩٣م، ١٠٣). علاوة على هذا، أنه كلمة اقترنت في السنوات الأخيرة بمواقف تجاه ثقافات الشرق الأوسط أكثر كثيرًا من ارتباطها بثقافات جنوب وشرق آسيا التي هي موضوع دراستنا الراهنة.٤
ظهر المصطلح لأول مرة في فرنسا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وأصبح يُستخدم منذ ذلك التاريخ بوسائل جد مختلفة للإشارة إلى الدراسات الشرقية، ولتشخيص وتحديد خصائص نوع بذاته من الأدب الرومانسي الخيالي، ولوصف نوع من الرسم، وكذلك — وهذا هو الأهم في أيامنا هذه — لتحديد معالم نوع بذاته من أفق الرؤية الأيديولوجية للشرق والذي تولَّد كنتاج للإمبريالية الغربية. وراج ارتباط هذا المفاد الأخير بإدوارد سعيد الذي تمثل أفكاره الأساس والقاعدة لأي جدل بشأن موضوع هذا الكتاب، مثلما ارتبط بنظرية ما بعد الاستعمار في أوسع نطاق لها. وإدوارد سعيد فِلَسطيني عمل منذ العام ١٩٦٣م بتعليم الأدب الإنجليزي والمقارن بجامعة كولومبيا، وجعل إدوارد سعيد من المصطلح محورًا للجدل السجالي الذي دار على مدى سبعينيات القرن العشرين بشأن كتابه «الاستشراق»، واستخدم هذا المصطلح ليبدأ به حملة نقد قوية ضد التصورات الذهنية الغربية عن الشرق، وأكد أن «الشرق» بهذا المعنى ما هو إلا مفترض ذهني غربي، ومنظومة من التخييلات الأيديولوجية هدفها ترسيخ وتبرير تسلط الغرب على الشرق. وأوضح أن معرفة الغرب بالشرق «لم تنطلق فقط من الهيمنة والمواجهة، بل ومن منطق الكراهية الثقافية» (١٩٨٥م، ٣٢١، ١٥٥).٥ والذي لا ريب فيه أن اهتمام إدوارد سعيد في كتابه هذا انصب، في الغالب الأعم، على العالم الإسلامي في الشرق الأوسط. بَيْد أن اهتمامنا في كتابنا هذا سيكون في المقابل منصبًّا على المذاهب الفلسفية/الدينية المقترنة ببلدان شرق وجنوب آسيا، والمعروفة بأسماء مثل الهندوسية والبوذية والكونفوشية والطاويَّة.٦ ومع هذا سنلحظ أنه، نتيجة لكتابات إدوارد سعيد، سيعاد تقدير وتصوير كل الجدل بشأن علاقة أوروبا بما كان يمثل بالنسبة إليها «الآخر». ومن ثم سنوسع من نطاق مرجعيات هذا الجدل ليمتد ويشمل سلسلة كاملة من السجالات الفكرية المعاصرة ويتناول قضايا معنيَّةً، على سبيل المثال، بالتعددية الثقافية وما بعد الحقبة الاستعمارية والدراسات الثانوية ذات الصلة، ونظرية الخطاب و«ما بعد المودرنزم»،٧ وطبيعي أن إحدى النتائج المترتبة على هذا أن أي دراسة بشأن علاقة الغرب بالفكر الشرقي يتعين كشف أوجه التناص المشتركة بينها وبين الجدل الذي أسهم كتاب إدوارد سعيد في إثارته.

لكن على الرغم من أن كتابنا الذي بين يدي القارئ مَدين لإدوارد سعيد، إلا إنه سيلتزم نهجًا مختلفًا عنه من نواحٍ مهمة محددة؛ إذ بينما صور سعيد الاستشراق في ألوان كابية لتكون هذه الصورة أساسًا لنقده الأيديولوجي القوي لليبرالية الغربية، إلا أنني سأستخدمها للكشف عن نطاق أوسع من المواقف كابيةً ومضيئة، واستعادة نزعة استشراقية أكثر ثراء وأكثر إيجابية في أحيان كثيرة في محاولة لبيان أن الغرب سعى جاهدًا لتمثل ودمج الفكر الشرقي ضمن اهتماماته الفكرية بطريقة لا يمكن، في ظاهرها، فهمها فهمًا كاملًا تأسيسًا على «التسلط» و«الهيمنة». وإذا كان إدوارد سعيد اعتمد على كتابات ميشيل فوكو بشأن العلاقة بين المعرفة والسلطة ورأي الاستشراق بمنزلة «السردية الرئيسية» التي اعتمدت عليها الإمبريالية الغربية لكي تبني تصورها عما تراه «الآخر» في نظرها وتسيطر عليه، وقد أخضعته لسلطانها، إلا إنني سأصوره كمحاولة لمواجهة هياكل المعرفة والسلطة الغربية والاشتباك مع الأفكار الشرقية بوسائل أكثر إبداعية وذات بنًى أكثر انفتاحًا وأكثر استعدادًا للتبادل، مما كشف عنه نقد إدوارد سعيد.

بَيْد أن هذا لا يعني على الإطلاق رفضًا كاملًا لموقف سعيد المنطوي على الشك تجاه الاستشراق، أو لمحاولاته النظر إلى الاستشراق من منظور سياسي، إذ من المسلم به يقينًا أن تصورات الغرب عن الشرق إنما أسهمت في صياغتها المصالح الاستعمارية والانحيازات العرقية. وثمة دراسات معاصرة اقتدت بفكر إدوارد سعيد وأكدت بالوثائق وناقشت الطبيعة القمعية والتمييزية للجانب الأغلب من الخطاب الغربي إزاء الشعوب والثقافات غير الأوروبية، لكن مع التسليم بألا سبيل إلى فهم الاستشراق فهمًا كاملًا إلا في إطار الاستعمار القديم والتوسع الإمبريالي الحديث من جانب الغرب، إلا إنني أود تجنب النظر إليه باعتباره مجرد قناع فقط للنزعة العنصرية، أو باعتباره مجرد مفترض ذهني غربي خالص يفيد في تبرير السيطرة الاستعمارية. إن الهيمنة الأوروبية على آسيا تمثل شرطًا ضروريًّا، ولكنها ليست الشرط الكافي للاستشراق. نعم تمت السيطرة بنجاح على الشرق بفضل تفوق المدافع وقوة العضلات التجارية، وكذا بفضل تطبيق مخططات للتنظيم والتصنيف والتي «تضع» الشرق داخل هيكل فكري غربي. وهذا في ظاهره لا يختلف جوهريًّا عن أسلوب أي أمة أو قبيلة نزاعة إلى التوسع وتسعى للهيمنة والسيطرة على موارد وعقول جيرانها، لكن الشيء المميز والمختلف في حالة الاستشراق هو الدرجة التي ارتقت إليها مكانة الأفكار موضوع الاستعمار بحيث تعلو على أفكار المستعمِر ذاته واستخدامها لتحدي وتعطيل فعالية السرديات المرجعية التي تستخدمها قوى الاستعمار، لذلك سأدفع بأن الاستشراق لا يمكن ببساطة القول بتطابقه مع أيديولوجيا القوى الإمبريالية الحاكمة وكأنهما شيء واحد، ذلك لأنه في السياق الغربي يمثل حركة مناهضة، قوة تحقق ذاتي «إنتِلِخيا» تدميرية، هذا على الرغم من أنه ليس حركة موحدة ولا منظمة عن وعي، وعمدت بوسائل متباينة في أحيان كثيرة إلى أن تدمر، لا أن تؤكد، البنى المنطقية التدميرية للقوة الإمبريالية.

ورغبة مني في أن أوفي هذه القضية حقها، سأدرس نطاقًا واسعًا من النصوص والسجالات الاستشراقية، ابتداء من القرن السابع عشر وحتى وقتنا الراهن. ظهرت دراسات كثيرة تحظى بالإعجاب والتقدير عن العلاقة بين الفكر الشرقي والغربي على مدى فترات زمنية محددة ومن منظور مختلف، وتركزت هذه الدراسات على سبيل المثال على فترة التنوير أو الفترة الرومانسية أو التي عُنيَت بدراسة أفكار أو مفاهيم أو مناظرات فكرية معينة، وسأفيد بهذه الدراسات وأعرض لها في الفصول التالية في الكتاب. ولكن الشيء الذي لم يحاوله أحد، في حدود معرفتي، هو صوغ نظرة عامة تحاول الربط بين هذه المحاور معًا على نحو يسهم في تحديد وضع الاستشراق تاريخيًّا ونقديًّا داخل إطار الحركة الواسعة على امتداد التراث الفكري الغربي الحديث.

وهذا مشروع طموح يستلزم قدرًا من التبرير بوجه خاص، نظرًا لموجة الازدراء السائدة إزاء كتابة التاريخ وفق منهج «خطي أحادي»، علاوة على الشكوك بشأن إمكان معالجة «التراث الغربي»، فضلًا على الشرقي بأسلوب متسق متلاحم. وثمة سؤال واضح تمامًا: لماذا نفسر ونحلل الاستشراق باعتباره قصة واحدة وسردية وحيدة؟ يقينًا كان إدوارد سعيد يؤمن بوجود تاريخ متمايز ومتسق منطقيًّا للتصور الأوروبي والنظرة الأوروبية الخاصة للشرق «إطار واضح وثابت ومميز للتحليل تجلى في فقه الإلهيات والأدب والفلسفة وعلم التاريخ» (تيرنر، ١٩٩٤م، ٢١). بَيْد أن هذه النظرة واجهت نقدًا وتحديًا في السنوات الأخيرة دفاعًا عن نهج أكثر تعددية وأكثر اتصافًا بالتغاير في عناصره. مثال ذلك ما قدمته مؤرخة الأدب ليزا لُو التي تشككت في «الافتراض القائل بأن الاستشراق يبني ذهنيًّا صورة أحادية متجانسة عن الشرق باعتباره الآخر بالنسبة إلى الغرب» (لاو ١٩٩١م، المقدمة، ص٩ و١٠). كذلك ما نراه عند المؤرخة روزان روشيه التي تنتقد إدوارد سعيد لأنه «ابتكر خطابًا وحيدًا غير متمايز في الزمان والمكان وعلى نطاق الهويات السياسية والاجتماعية والفكرية» (من كتاب بريكنريدج وفان دير فير، ١٩٩٣م، ٢١٥).

وقد يختلف مع هذا الرأي أيضًا، من منظور واسع، من يرونه مثالًا لأساليب التأريخ التقليدي التي تفترض استراتيجيات تؤكد جوهرًا ونظرة شاملة إلى التاريخ، ومن ثم تطمس معالم التمايز والاختلاف رغبة في الوصول إلى ما يشبه منظورًا متجاوزًا للتاريخ. والذي لا ريب فيه أن الاستشراق لا يشكل موضوعًا ثابتًا أو بسيطًا أو موحدًا، كما أنه لا يعبر عن التميز الواضح الواعي بذاته لأيٍّ من الكاثوليكية مثالًا أو العلم أو الماركسية، ولن أدخر جهدًا من أجل تأكيد مظاهر الانقطاع والتغير فيما يتعلق ببؤرة اهتمام الغرب تجاه الفكر الشرقي، وهذا هو ما حدث على مدى القرون القليلة الماضية. وسوف أؤكد تنوع الغايات والأغراض التي ستبين لنا واضحة بين المستشرقين والتي تتراوح ما بين دينية ورُوحانية وصولًا إلى غايات وأغراض سياسية وعلمية. بَيْد أنني مع هذا أعتقد بوجود مجموعة يمكن تحديدها من المواقف والاتجاهات الفكرية والممارسات التي يمكن أن يفيد فيها استخدام هذا الوصف للدلالة على الموضوع، ويكون أسلوبًا مميزًا للتفكير والاستجابة والتقييم، الأمر الذي يدعونا إلى بحث نقدي وتاريخي مفصل.

ولا ينبني هذا النهج في التناول على أي افتراض بشأن الشرق كموضوع ثقافي موحد، وسأدفع بأن هوية الاستشراق — ومن ثَم ما يميز موضوع كتابنا هذا — لا تكمن في الوحدة المفترضة للموضوع، والتي حاول تصويرها، إنما تكمن، على الأصح، في طائفة مميزة من المواقف وأساليب التناول التي التزم بها الأوروبيون دائمًا؛ أعني بذلك أسلوب المفكرين الغربيين خلال القرون من السابع عشر وحتى العشرين في وضع الأفكار الشرقية في فلَك اهتماماتهم الفكرية والثقافية، وصوغ تصورات عنها تحقق أهدافًا وتطلعات غربية. وسيبين لنا، مع هذا كله، في التحليل الأخير أن «الاستشراق» الذي نسرد قصته ونحلله في هذا الكتاب ما هو إلا مفترض ذهني، حكاية عن حكايات، ومن ثَم ليس سوى أسلوب من بين أساليب كثيرة ممكنة لإضفاء معنى على العالم، وصيغة من بين صيغ كثيرة أخرى ممكنة للتاريخ الفكري. وأود أن أتجنب هنا افتراض وجود شيء «واقعي» أو «جوهري» اسمه الاستشراق في الخارج هناك؛ أي «نوع طبيعي» يتطابق مع سرديتي الخاصة، لكن الاستشراق — مع هذا — شأنه شأن الداعية للمساواة بين الجنسين، أو الطبقة العاملة، أو مؤرخي تاريخ السود، أعاد رسم خارطة جديدة للتاريخ التقليدي، وذلك بأن وضع في الصدارة أطرًا فكرية تاريخية سبق أن حجبتها مصالح واهتمامات كانت لها السيادة. كذلك حال الكتاب الذي بين يدي القارئ هو محاولة لتجديد وإعادة التفكير في التاريخ الفكري الغربي الحديث. وسبيلنا إبراز جانبٍ ظل زمنًا مُغْفلًا ومهمَّشًا، ويمكن القول بمعنًى من المعاني أن هذا إجراء تعسفي في الحقيقة، ذلك لأنه يمثل طريقة واحدة فقط من بين طرق أخرى كثيرة ممكنة منطقيًّا في تنظيم الخبرة التاريخية. بيد أنني أُومن في الوقت نفسه بأن مؤرخي الأفكار، وكذلك غيرهم من المؤرخين، لديهم دائمًا التزام «بإضفاء معنًى» على العالم حتى مع التسليم بأنه معنًى مصطنع بقدر ما هو مكتشف.

وثَمة مسألة وثيقة الصلة تتعلق بالأخطار الناجمة عن معالجة الشرق ذاته ككيان وحيد غير متمايز. وغيرُ خافٍ أن مصطلحات حاسمة، من مثل «الشرق» و«المشرق» و«الغرب» تغدو أدوات لاختزال تعقدات وتنوعات لا نهائية، وتحويلها إلى وحدات يمكن التصرف معها لكنها زائفة، وتمثل أداة سيمانطيقية أو دلالية شجعتنا على التفكير في حدود المقابلة بين الشرق والغرب على أساس من التعارض الأبدي المفارق، ومن ثَم فإنني توخيًا للوضوح والاقتصاد سأستخدم مصطلحات مثل «الشرق» و«المشرق» في كل صفحات الكتاب للإشارة إلى التراثات الثقافية والفكرية لجنوب وشرق آسيا جملة. وكذلك، ولأسباب تتعلق بالأسلوب، سوف يجري استخدامها بمعنى تبادلي مشترك دون أي تغير دلالي بحيث تشمل التراثات الدينية والفلسفية لليابان والصين والتبت والهند وسريلانكا، بَيْد أنها مستخدمة «مع قابلية الإلغاء أو المحو» (بالمعنى الذي قصده دريدا). وسأوضح صراحة في عدد من المواضع من متن هذا الكتاب ضرورة النظر إلى هذه المصطلحات بعين الشك للدلالة على نزوع أصيل إلى تنميط ومعالجة ثقافات آسيا. ويحدوني الأمل في أن مجموع الأمثلة والحالات والنصوص الواردة في الكتاب على تنوعها سوف تناهض أي ميل إلى دمج الشرق أو الاستشراق وصهره في صورة غامضة مبهمة وخالية من أي تمايز.

وأود أن أوضح للقارئ أيضًا أنني لن أعالج الاستشراق باعتباره ظاهرة منفصلة، كيانًا متجانس البنية، بل سأبين أنه وثيق الصلة، ومتداخل مع عدد آخر من العمليات الفكرية والتاريخية الأوسع نطاقًا. وتتضمن هذه أولًا طائفة واسعة من الاهتمامات المقترنة بالنشاط التقليدي لمباحث فكرية مثل: الفلسفة وفقه الإلهيات وعلم النفس والعلوم الطبيعة في اتساق مع عوامل تاريخية عززت هذه المباحث على مدى بضعة قرون خلت. وسوف أوضح رؤيتي وروايتي عن الاستشراق على نحو يبرز العلاقة بين الاستشراق وبعض القضايا المحورية والحوارات التي شهدها التراث الفكري الغربي الحديث. وثمة عوامل أخرى تشتمل على عدد من المفاهيم والقضايا التي احتلت بقوةٍ بؤرة الاهتمام في السنوات الأخيرة، أذكر منها: التعددية الثقافية، والهوية العرقية (الإثنية)، والجنوسة (الجندر)، وعلاقة الغرب بالإسلام وأفريقيا، وغيرها من مجالات كانت هدفًا للاستعمار يومًا ما. وسيتضمن هذا اقتحام عدد متنوع من مجالات البحث، وهو مشروع ينطوي على مخاطرة في عصر التخصصات الصارمة، بَيْد أن موضوع كتابنا هذا يستلزم من مؤرخ الأفكار أن يكون مستعدًّا لنسج روابط وصلات واسعة غير مألوفة، وكم هو مستحيل الآن تأمل افتتان الغرب بالشرق من دون ربط هذا بقضية عولمة الثقافة الأوروبية بكل ما يترتب عليها من مشكلات اجتماعية وفكرية. ولن يتبين لنا فقط كيف أدى الاستشراق دورًا في الإثارة والتطور التاريخيين لهذه القضايا والنزاعات خاصة في سياق الإمبريالية والاستعمار القديم، بل سيتبين لنا أيضًا كيف حافظ على صلته الوثيقة بالحوارات المعاصرة المتعلقة بالحداثة وما بعد الحداثة.

تاريخ الأفكار: الطرق والوسائل

هذا النهج في التناول، بكل ما طرأ عليه تاريخيًّا من فوارق دقيقة، يطابق تمامًا نهج مبحث تاريخ الأفكار على النحو المطبق حاليًّا. ويلاحظ أن الدراسة التاريخية للأفكار اتخذت في الماضي ما يمكن وصفه على أحسن الفروض بالشكل «المثالي»، بمعنى النزوع إلى معالجة التطور التاريخي للأفكار وكأنها موجودة في بعد واقعي منفصل عن بقية التاريخ. وهذا هو النهج الذي أغوى رءوس مؤرخي الأفكار باحتقار المؤرخين الزاعمين بأنهم معنيون بالعالم «الواقعي».٨ وظهر يقينًا ميلٌ نحو صورةٍ من المثالية في التعامل مع الشرق ذاته، بغية معالجته وكأنه مؤلف من نصوص وأفكار لا زمانية ومحايدة تاريخيًّا، لا تشوبها شائبة، وإنما تفوح منها رائحة خشب الصندل على نحو ما يقول ساخرًا أحد الكتاب (هيلمان، ١٩٧٥م، ٦٧). وحري ن أشير إلى أن نهج دراسة تاريخ الأفكار الذي ألتزم به هنا يتضمن أولًا معالجة الأفكار والمفكرين ضمن سياقهم التاريخي، محاولًا بذلك فهمهم داخل إطار التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بدلًا من دراستهم داخل عالم فكري منغلق على نفسه. ويعني هذا كذلك أننا معنيون أساسًا بالتراث الفكري الغربي، وليس بالمجال الأوسع للتاريخ الثقافي والشعبي. أو لنقل بعبارة أخرى إننا معنيون، على الأصح، بموضوعات يمكن وصفها بشكل عام وبعيدًا عن الاصطلاح الفني، موضوعات فلسفية. ومع هذا فإن نهجي في التناول سوف يضع هذا التراث داخل إطار أوسع يشتمل على الأدب والدين والمواقف السياسية. علاوة على هذا، فإنني وإن عمَدت إلى أن أعطي وقتًا أطول في مصاحبة مفكرين «جادين» يتراوحون ما بين ليبنتس وفولتير وحتى يونج ومارتن بوبر، فإنني سأضع إلى جانب هؤلاء كتَّابًا يُوصَفون في أكثر الأحيان ﺑ «الشعبيين»، من أمثال ألان واتس وآرثر كويستلر. هذا علاوة على حركات شبه شعبية، من مثل الحكمة الاستشراقية (الثيوصوفيا) وبوذية زن.٩ واتساقًا مع هذا المبدأ لن يكون الكتاب تاريخًا للبحوث والدراسات الشرقية، بل صورة من صور الخطاب — الاستشراق — الذي يعتمد على هذا المبحث الأكاديمي ويتجاوزه في آن واحد، وذلك بالاعتماد — على سبيل المثال — على أعمال الفلاسفة وعلماء الإلهيات وعلماء النفس. ويتجه بعد هذا إلى التوسع خارج هذا النطاق وصولًا إلى بعض الاهتمامات الفكرية الرئيسية في أواخر القرن العشرين. وأقول في صراحة وبساطة إنه لن يكون تاريخًا للأفكار الشرقية، بل للأفكار الغربية. ومن ثَم لن يكون المستهدف تقديم أي توضيح منظومي أو تفصيلي للمذاهب الشرقية إلا ما تقتضيه الضرورة لأغراض التوضيح. بَيْد أنني آمُل، مع هذا، أن تتضح حدود مصطلح «الغربي» في هذا السياق مع تطور الدراسة. أقصد بذلك أنني لن أكون معنيًّا مباشرة بمسألة ملاءمة التصورات الغربية عن الشرق، أو مسألة صواب التأويلات الاستشراقية. ومع هذا سوف أشير إلى مواضع الخطأ وسوء الفهم وكيف ظهرت، وما هي السبل التي اتبعتُها لإلقاء الضوء على الظاهرة الاستشراقية.
وإن تركيز الاهتمام على الاستشراق باعتباره خطابًا غربيًّا مميزًا يعني كذلك أنني لن أتناول مباشرة مسألة تأثير الفكر الغربي بعامة على الشرق. ولن أكون معنيًّا، بتحديد أكثر، بتأثير الخطاب الاستشراقي على وعي المجتمعات الآسيوية وقتما كانت مستعمرات أو بعد الاستعمار. ولكن من الأهمية بمكان أن ندرك ثراء وتعقُّد ما ينطوي عليه هذا من تفاعل ثقافي وتأثير متبادل، ومن ثم استحالة وضع حدود دقيقة أو الفصل التام لمحددات الاهتمام والتأثير. الجدير بالذكر أن مفكرين آسيويين كثيرين على مدى المائتي عام الأخيرة شاركوا في حوارات وحركات فلسفية غربية من مثل الكانطية والوجودية والوضعية المنطقية. وكان لعدد من المفكرين الشرقيين دور مؤثر في صياغة الرؤى الاستشراقية. وضمت هذه التيارات المتفاعلة فيما بين الثقافات شخصيات من مثل فيفكاناندا ورادها كريشنان وسوزوكي، الذين قضوا فترة من حياتهم للتعليم في الغرب. وسيكون هؤلاء موضع اهتمام خاص بقدر ما يفيدون في بيان أن التراثين الشرقي والغربي كان بينهما تكافل وثيق أكثر مما هو مفترض غالبًا.١٠
والتماسًا لفهم العلاقات بين التراثين الفكريين الغربي والشرقي، وجدت من المفيد الاستعانة بفلسفة التأويل «الهرمنيوطيقا»١١ للفيلسوف جورج غادامر. وعلى الرغم من أن طريقته في التفكير، كما سأوضح فيما بعد، قاصرة عن إدراك قوة الهياكل التي تشكل أساسًا للممارسات على تباينها في مختلف المجالات، فإنها تمثل أسلوبًا مفيدًا لفهم ما حدث من تلاقيات وتفاعلات بين النصوص داخل وعلى مدى التراثات الفكرية. ويساعدنا هذا على إبراز المشكلات والحدود التي تزخر بها المشروعات الاستشراقية. وإن تبني هذا النهج أمر ملائم تمامًا — خصوصًا هنا — نظرًا إلى أن أعدادًا متزايدة باطراد من المفكرين المعاصرين ومن مجالات بحث مختلفة استخدموا صراحة فلسفة التأويل «الهرمنيوطيقا» كوسيلة لفهم التداخل الغربي مع الأفكار والتراثات الشرقية.١٢ والشيء المفيد هنا بوجه خاص هو فكرة غادامر عن أن الفهم البشري بكل صوره يجب تصوره باعتباره نوعًا من الحوار، أو لقاءً تَجري خلاله معالجة لنص أو تقليد، ويجيب عن أسئلة، أو أنه هو نفسه تساؤل بشأن المؤوِّل. ويتضمن هذا «الحوار» تفاعلًا بين حركة التراث وحركة المؤوِّل (١٩٧٥م، ٢٦١)، بمعنى تبادل متصل في محاولة للوصول إلى فهم النص عن طريق التأثير المتبادل المتواتر للمعنى بين المؤول وموضوع التأويل. ويذهب غادامر إلى أن إحدى النتائج المترتبة على هذا النهج في التناول أن أصبح لزامًا أن نتجنب أي افتراض بأن بالإمكان النفاذ والكشف كاملًا عن المعاني والذهنيات الخاصة بالعصور الماضية ونواتجها الرمزية. إن جميع المعارف مؤسسة تاريخيًّا؛ بمعنى أنني وإن أصبحت مدركًا لهذا الواقع، بل وناقدًا له، فإنني لا أستطيع أبدًا الإفلات من الشروط التاريخية التي تحيط بي وأنا أفكر وأكتب. لذلك نرى أن الانحيازات التي تعج بها الشروط التاريخية للعملية التأويلية أمر لا مناص منه، بل وليس لنا أن نعتبرها بمنزلة عقبة على طريق الاتصال، ومن ثَم نراها شرطًا ضروريًّا. وهنا يقول غادامر: «إن انحياز التنوير ضد الانحياز ذاته» (١٩٧٥م، ٣٢٩–٣٤٠)، نبع من وهم أن البحث عن المعرفة يمكن أن يرنو إلى مكان خارج التاريخ، حيث يمكن النظر إلى العالم بموضوعية كاملة. ولكن ما إن تبين لنا أن هذه استحالة منطقية أصبح بالإمكان التوافق مع حقيقة أن جميع المعارف تزخر بأحكام مسبقة، وبما يسميه هيدغر «الفهم المسبق»، وإن المعرفة مستحيلة بدون مفاهيم مسبقة ومعارف استباقية. وهكذا فإن محاولات فهم الماضي أو فهم ثقافة أخرى لا بد من أن تتضمن عدم محو الفوارق، بل تتضمن تقاربًا، وهو ما يسميه غادامر تلاحم الآفاق المفاهيمية، بما في ذلك الوعي الذاتي بالاختلاف، والاعتراف بآخَرية١٣ الآخر، بل غربة ومغايرة الآخر، ذلك لأن «الحقيقة تغدو مرئية واضحة لي فقط من خلال اﻟ «أنت» أو المخاطب، وفقط حين أدع نفسي أسمع على لسانها إفادة ما تنبئني به» (المرجع نفسه، المقدمة، ص٢٣).

تُرى ماذا عن انحيازاتي وكل ما يخص فهمي السابق؟ واضح أنني لا أستطيع تجنب البداية بمقولات من تراثي الخاص ومن تساؤلات وافتراضيات نابعة من داخله. وأُدرك، حسب هذا الفهم، أنني أتناول الاستشراق وهو موضوع مذبذب بين الشرق والغرب من موقف غربي، ومن داخل سياق تأسس وفقًا للمعايير والمفاهيم الغربية. ومن ثَم فإنني وعند هذا الحد أكون مشاركًا فيما وصفه هيدغر «أَوْرَبة الأرض»، أو النظر إلى الكرة الأرضية بمنظور أوروبي. وحري أن أذكر أنني — ومن وجهة نظر شخصية — لم أسع في هذه الدراسة إلى إخفاء مُثُلي العليا الإنسانية، أو حماسي للمشروع الاستشراقي، متتبعًا، على الرغم من أي قصور، مسارًا تحرريًّا «لطرفي العالم القديم». والتمست سبيلي لتمهيد دربٍ عبر هذه الساحة المعقدة والزاخرة بكثير من الاختلافات. بَيْد أنني عمَدت في الوقت نفسه إلى أن يشتمل نقاشي على القسط الأكبر من السجالات المهمة والمفعمة حيوية خلال السنوات الأخيرة، مع الكشف عن الانتقادات التي يمكن أن تضفي على الاستشراق مظاهر سلبية، بل ونظرة تشاؤم، ووجهت الأنظار إلى مناطق أسفر فيها التنوير الشرقي عن شر واضح وملموس. ومن ثَم ليس هدفي تقديم تاريخ يعطي إحساسًا ورديًّا، من شأنه أن يؤكد أن قصة الاستشراق هي قصة من الجمال والنور الخالصين. كذلك لن أعمِد من ناحية أخرى إلى وصف الاستشراق باعتباره مجرد ملحق وذيل لسياسة القهر والاستعمار، بل سأعرض رؤية متوازنة، تمثل طريقًا وسطًا يوضح أكثر من غيره أهمية الحوارات الاستشراقية التي دارت على مدى تاريخ الفكر الغربي. إن هناك من سيدفعون، انطلاقًا من كتاب إدوارد سعيد، بأن العلاقة التاريخية برمتها بين الشرق والغرب تنوء تحت وطأة تراث الاستعمار حتى بات متعذرًا على المفكر الغربي تناول موضوع الشرق إلا بأسلوب شأنه يحط من قدر الشرق، لكن، وكما أوضح سعيد نفسه، «ليس هناك موضع أفضلية مميز خارج الواقع الفعلي للعلاقات بين الثقافات» (١٩٨٩م، ٢١٦). وكذلك الحال عند غادامر، الذي يؤكد أن جميع وجهات النظر ثاوية في الظرف التاريخي. لذلك فإن أفضل ما يمكن للكتاب عمله في مثل هذه الظروف هو تنبيه القرَّاء إلى الوضع الذي ينطلقون منه في تأويلهم بدلًا من الادعاء أنهم يملكون ما وصفه ريتشارد رورتي ﺑ «مفاتيح الجنة» التي يفتحون بها مغاليق التاريخ.

وتتسق بنية الكتاب مع ما انتويته، بحيث لا يكون فقط مجرد «رواية القصة»، بل وأيضًا تأويلها نقديًّا، والتفكير فيها من جديد، وإعادة صوغ مفاهيمها، وفهمها من حيث علاقتها بالأطر المرجعية المعاصرة والجدل الدائر بشأنها، لذلك سيجد القارئ أنني آثرت وناقشت في الفصول الأولى عددًا من القضايا، ويبدأ الفصل الثاني بطرح القضية المحورية في الكتاب، وهي: لماذا كان الشرق موضوعًا لمثل هذا القدر من الاهتمام والافتتان في الغرب؟ وبعد استعراض العديد من النظريات الممكنة والشائعة، أقدم رأيًا مبدئيًّا سيصبح إطارًا نظريًّا لبقية الكتاب، ويمكن اعتبار الفصلين الأوسطين طريقة في الوصول إلى صياغة محكمة واختبار الرأي المبدئي، وذلك بتقديم رواية في خطوط عريضة عن تاريخ الاستشراق بدءًا من نحو عام ١٦٠٠م وحتى الفترة الراهنة. وسأنتقي عينات تمثيلية لأهم تيارات الفكر والحوارات والنصوص والشخصيات البارزة في هذا المجال. وإن الجزء الثاني، وإلى حد ما الجزء الثالث، يفيد من، كما يلخص، البنية المتعاظمة من البحوث والدراسات المخصصة للفترات المختلفة، ومن ثَم فإن القسط الأكبر من هذا العمل سيكون مألوفًا للاختصاصيين العاملين في هذا المجال، لكنه سيقدم في الوقت نفسه مصادر مرجعية تفيد للمزيد من البحث. وقدمت في الجزأين الثاني والثالث عرضًا استقصائيًّا، بحيث يقدمان استعراضًا شاملًا للقارئ العام الذي قد يفاجأ بمدى انتشار النشاط الاستشراقي وتأثيره على مدى القرون القليلة الماضية، ويعكس الفصل الأخير من الكتاب مجمل المشروع الاستشراقي من زواياه المختلفة، ويبدأ بفصل يبرز بعض القضايا الفلسفية والأيديولوجية التي تواترت كثيرًا في الفصول السردية من الكتاب. وأذكر من هذه القضايا كمثال: النسبويَّة، التأويل فيما بين الثقافات والترجمة. ويتصدى هذا الفصل لسلسلة من القضايا الأخلاقية والسياسية التي أدت في فترة ما إلى ظهور زعم بأن الاستشراق قد أسأنا فهمه، وأنه معيب، بل وخطر، ويتخذ الفصل الختامي اللحظة الراهنة محورًا للاهتمام، ويطرح تساؤلات في شأن موضوع هذا الكتاب في ضوء مواقف واهتمامات «ما بعد المودرنزم» ويعرض هذا في سياق مرحلة ما يفترض أنها مرحلة ما بعد الاستعمار في تاريخ الغرب، ويقترح أساليب لفهم نطاق الاستشراق ومدى ملاءمته موضوعيًّا في وقتنا الراهن.

ويحدوني أمل أن يصادف الكتاب هوى لدى العديد من فئات القراء، وأحسب أن سيستهوي أولًا الأعداد المتزايدة من القرَّاء الذين ما فتئوا يشعرون بأن فلسفات الشرق التقليدية لديها الكثير والكثير مما نتعلمه منها (سواء اعتبرنا أنفسنا شرقيين أو غربيين أو لا هؤلاء ولا هؤلاء)، ومن ثم الراغبين في تعزيز اهتمامهم من خلال توثيق الصلة بالثراء التاريخي للقاء الأفكار بين الشرق والغرب. ويحدوني الأمل كذلك أن يقرأ الكتاب الباحثون والمتخصصون في تلك الدراسات الإنسانية ومباحث العلوم الاجتماعية التي، على الرغم من الروابط التاريخية والفكرية المهمة مع الشرق، أحجمت كثيرًا عن توسيع نطاق آفاقها المفاهيمية نحو توجه شرقي. ومن ثم أرجو أن يكون الكتاب بذلك حافزًا نحو مزيد من البحث في هذا المجال. الجدير بالذكر أن إحدى الدعاوى المحورية في هذا الكتاب هي الزعم أن الأسلوب الغربي الخالص في تناول التاريخ الفكري ودراسة عدد معين من القضايا المعاصرة في مجالات مثل علم النفس والإلهيات وعلم الاجتماع بات محكومًا عليه الآن بالقصور، وغير خافٍ أن الحياة الفكرية الغربية لا تزال حتى الآن تعيش في عزلة ومنغلقة على نفسها على الرغم من المصالح والاهتمامات التي تسع العالم كله، وتقاليد البحث والدراسة في الغرب، ونلحظ أنه على الرغم من أن كثيرين من علماء التربية يُقرُّون بأهمية توافر نظرة شاملة إلى كوكب الأرض، المناهج الدراسية في مدارسنا وجامعاتنا متراخية في مدى استجابتها لذلك في التطبيق العملي.

إن قصيدة كيبلنغ التي اقتبسنا منها في صدر هذا الكتاب قد تبدو في نظر كثير من القراء شيئًا عتيقًا ينتمي للزمن الماضي. ولكن الشك لا يساور أحدًا في أننا لا نزال أسرى تصنيفات ثقافية، والتي كثيرًا ما تصور الشرق وجودًا بعيدًا وغامضًا، بينما الجميع مهيَّئون للتراجع إلى كهوفنا العرقية والقومية. وثمة عنصر مرضي يغزو دائمًا مواقفنا تجاه الأجانب، ذلك «الآخر». بَيْد أننا، ونحن نعيش في عالم ينفجر من داخله، يعج بالتوترات والأزمات الكوكبية التي تتهددنا وتوشك أن تلتهمنا، لا تزال ثمة حاجة ملحة للتطلع إلى ما وراء المواقف التبسيطية المخلة التي أثارت مشاعر كيبلنغ. ومن ثَم علينا التماس السبيل نحو نظرة عالمية أكثر رحابة وأوسع صدرًا وأكثر شمولًا، أعني نظرة تأويلية (هرمنيوطيقية) كوكبية بكل معنى الكلمة. لذلك، سندرس في هذا الكتاب أفكار كثيرين من المفكرين المشهود لهم بالجسارة، والذين سعوا جادين لبناء الجسور بين الشرق والغرب، من ثم تطوير قضية التفاهم بين الشعوب على اختلاف وتنوع أصولهم الثقافية والدينية والفكرية. وحري أن أذكر أن أحد بناة هذه الجسور هو الراهب البنيديكتي توماس ميرتون، الذي هجر ديره في أمريكا ليشارك في حوار مع نظرائه الهندوس والبوذيين في جنوب شرق آسيا، والذي كتب ما يلي:

لم يعد كافيًا قصر الجهد على مراجعة التراث المسيحي والأوروبي؛ ذلك أن آفاق العالم لم تعد محصورة في أوروبا وأمريكا. ومن ثَم، أصبح لزامًا صوغ أطر جديدة، يعتمد عليها بقاؤنا الرُّوحي، بل والمادي.

ميرتون (١٩٦١م، ٨٠)

وتمثل الصفحات التالية مساهمة بسيطة في سبيل إنجاز هذه المهمة.

١  لمزيد من الأمثلة ومناقشة هذه الأنماط، انظر:
Dawson 1967, Isaacs 1972, Mackerras 1989.
٢  انظر Gulick, 1963 لعينة غنية لمثل هذه الاستقطابات، وRao, 1939، الذي استبق من نواحٍ كثيرة كتاب سعيد من حيث النقد الشرس لدور الغرب في افتراض ثنائية الغرب-الشرق.
٣  كتاب جي بورنيت المهم «فلسفة الإغريق في العصر القديم» هو الذي حدد طابع هذا القرن بإصراره على أن «صوفية الأوبانيشاد والبوذية نمت محليًّا وأثرت بعمق شديد في الفلسفة، ولكنها لم تكن أبدًا فلسفة بأي معنى للكلمة» ١٩٠٨م، ٢١.
٤  توافرت دراسات كثيرة ومتزايدة عن الاستشراق في ارتباطه بالإسلام وثقافات الشرق الأوسط، ولكنها خارج نطاق دراستنا الراهنة. وجدير بنا الإشارة إلى أعمال سمير أمين ١٩٨٩م، وحوراني ١٩٩١م، وهف ١٩٩٣م، وقباني ١٩٨٦م، ولويس ١٩٩٣م، ورودنسون ١٩٨٨م، وسعيد ١٩٨٥م، وتيرنر ١٩٩٤م.
٥  للاطلاع على ملخص مفيد عن الحالة الراهنة للجدل حول كتاب سعيد، انظر ماكينزي ١٩٩٥م وبراكاش ١٩٩٥م.
٦  سوف أستخدم النهج التقليدي الذي وضعه ويد-جيلز في كتابة الكلمات الصينية بأحرف رومانية، إلا حينما يكون مستخدمًا النظام البينيني (النظام البينيني Pinyin نظام ترجمة رموز الكتابة الصينية إلى أحرف رومانية. الذي تبنته الصين رسميًّا عام ١٩٧٩م. (المترجم)) في اقتباسات مباشرة، وذلك نظرًا إلى الاستخدام الواسع النطاق للشكل الأول في النصوص موضوع الدراسة.
٧  «ما بعد المودرنزم» Postmodernism: هذه هي الترجمة الصحيحة، وليس ما بعد الحداثة، لأن الحداثة عملية ممتدة تاريخيًّا، شاملة الاجتماع والعلم والتكنولوجيا والآداب والفنون والفكر … إلخ. ولا تزال الحداثة ممتدة حاضرًا ومستقبلًا، بينما «ما بعد المودرنزم» مدرسة لخطاب فكري متنوع في الأدب والفن والعمارة. وليس هناك ما بعد الحداثة في الفيزياء أو الطب أو الفلك … إلخ. ونحن نقول فن مدرسة «المودرنزم»، وهناك تاريخيًّا على مدى فترة الحداثة الغربية عدة مراحل تحمل اسم ما بعد الآن، وقبل ذلك فكر روسو وغيره … وهناك ما يُسمَّى «ما قبل المودرنزم». (المترجم)
٨  اقترن هذا النهج غالبًا بأعمال إيه أُو لافجوي الذي يعتبره الباحثون مؤسس مبحث تاريخ الأفكار.
٩  زن Zen: إحدى مدارس بوذية ماهايانا وتسود في الصين واليابان، وتؤكد أن الاستنارة تتحقق بالتأمل الفكري وتأمل الذات لنفسها والحدس، وليس من خلال النص. (المترجم)
١٠  يتضمن كتاب هالبفاس ١٩٨٨م بحثًا تفصيليًّا عن تأثير الفكر الغربي على الحياة الفكرية الهندية منذ مطلع القرن التاسع عشر فصاعدًا.
١١  الهرمنيوطيقا (التأويل) Hermeneutics: فن ومهارة ونظرية وفلسفة التأويل والفهم، خصوصًا عند قراءة النص. نشأ بداية في القرن التاسع عشر مع المؤرخ الألماني ويلهلم ديلثي وآخرين. وتطور مع مارتن هيدغر الذي طرح مفهوم «الفهم المسبق» الذي يحدد به الناس وضعهم في العالم ويفهمون في إطاره. وتطور ثانية مع إتش غادامر وصاغ ما سماه «أساس الدورة الهرمنيوطيقية». ويرى التأويل علاقة بين المرء والعالم المدرَك الذي هو ساحة مشتركة للاثنين، ومحدَّد تاريخيًّا وثقافيًّا. واقترح أخيرًا أنطوني غيدينز ما سماه دورة هرمنيوطيقية مزدوِجة، بمعنى الاستجابة التي يتلقاها المرء من خلال انخراطه في العالم داخل إطار مؤسس على معرفة سابقة، وتعود لتعديل هذه المعرفة السابقة من أجل ارتباطات مستقبلية. وتجلى التأويل «الهرمنيوطيقا» في الحوارات بشأن تفسير الكتاب المقدس ومحاولة استكشاف الحقائق والقيم في إطار ظروف النشأة والسياق الثقافي والاجتماعي والمعارف السابقة على النص كعوامل محددة للنص صياغة وفهمًا. ومن ثم الهرمنيوطيقا استكشاف المحتوى الثقافي في إطار المعرفة السابقة والظروف المحيطة والحافزة والخافية المؤثرة في النص، وولادة فهم جديد. (المترجم)
١٢  يجد القارئ مزيدًا من الأمثلة عن الاستخدام الصريح للنهج الهرمنيوطيقي في هذا الكتاب في كلارك ١٩٩٤م، ديلوورث ١٩٨٩م، غير ١٩٩٥م، غيرسيترنغ ١٩٨٦م، هالبفاس ١٩٨٨م، مارالدو ١٩٨٦م، بانيكار ١٩٧٩م، شارب ١٩٨٥م، سولومون وهيغينز ١٩٩٣م، جانغ ١٩٨٨م و١٩٩٢م.
١٣  الآخَر – الآخَرية (Other – Otherness): مصطلح ملتبس بدأ في فلسفة هيغل وتطور في التحليل النفسي. الآخَر قد يقترن بالصورة التي يدركها المرء خارج ذاته وتتكون لديه فكرة عن ذاته/هويته كيانًا أو وجودًا منفصلًا عن بقية العالم حالة كون الكيان/الوجود آخر أو مغايرًا، والآخَرية تعني الاختلاف مقابل الهوية الذاتية. وتحديد الآخر يكتمل بتحديد الذات، مفهوم الذات في تمايز عن الظواهر الأخرى. ويعني المصطلح في الثقافة السياسية الغربية: مَن أَتميَّز عليه ويحق لي الهيمنة عليه. ويعني في الثقافة الاجتماعية الذكورية: الآخر/الجندر الأنثوي موضوعًا للهيمنة. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤