الشرق والعلم الحديث
الرابطة بين العلم والفلسفات الشرقية تبدو في ظاهرها أمرًا غير محتمل. إذ كانت
نظرة الغرب في الغالب إلى الفلسفات الشرقية على أنها تكشف عن ميل أصيل نحو الصوفية،
وكذا عن ميل شائع منافٍ للعقلانية. وبدت أحيانًا في الخطاب الاستشراقي الغربي كأن
عملها تحديدًا أشبه بثقل التوازن المقابل للنزعتين العَلماوية والوضعية في الغرب.
بَيْد أن العلم الغربي والصوفية الشرقية شكَّلا معًا خلال القرن التاسع عشر، كما
رأينا في فصل سابق، تحالفًا غير محتمل، حيث رأى مفكرون كثيرون أن البوذية حليف
للعلم في الصراع ضد التقاليد الميتافيزيقية المتوطنة. وأكثر من هذا، أنه قبل فترة
التنوير ساد تصور عن الكونفوشية، على الرغم من أن رابطتها بالعلم بحكم طبيعتها
واهية جدًّا، يفيد بأن الأساس العلمي للأخلاق الكونفوشية يتوافق مع الرُّوح العلمية
البازغة في ذلك العصر. واستمر على مدى القرن العشرين هذا التصور عن وجود صلة نسب
عامة بين جوانب معينة من الفكر الشرقي والنظرية العلمية الحديثة. ودفع الكاتب
الفرنسي أموري دو رينكور بأن العلم المعاصر «يبدو في بحثه عن إطار عمل فلسفي سوف
يتحول عمدًا عن جذوره الثقافية ليجد لنفسه مُناخًا مواتيًا أكثر في ميتافيزيقا
الشرق الغريبة عنه تمامًا» (١٩٨١م، ١٨). وها هو العالم مانسيل دافيز يعود بنا إلى
القرن السابق بعبارات له عن «التلاقي بين الوضع الأساسي للبوذية والعلم الحديث»،
وعن التعاليم البوذية و«تقديمها برُوح العلم تمامًا» (١٩٩٠م، ٦١ و١٣).
١
نجد من ناحية أن هذا الحلف تشكَّل حول تصور أن البوذية تقدِّم نقدًا راديكاليًّا
للتراث — أي تراث — وهذا الدور كان في الغالب الأعم موكولًا إلى العلم ذاته خلال
الفترة الحديثة. مثال ذلك أن الفيلسوف الأمريكي إن بي جاكوبسون يشير إلى قدرة
البوذية والعلم الحديث على تحويل سلوك الحياة بعيدًا عن المعتقدات الرسمية الراسخة
أيًّا كان نصيبها من الثقة والمشروعية، وصولًا إلى نموذج للسلوك قادر على التصحيح
الذاتي. ذلك أن الاثنين «حذران إزاء ما سماه فتغنشتين فتنة اللغة للعقل» (١٩٨٣م،
١٣٣). ويدفع بأن البوذية برفضها المتسق لتمجيد أي أبنية مفاهيمية أو نظرية أو لغوية
لديها القدرة على العمل كقوة موازنة قوية التأثير مقابل هذا الميل، ومن ثم، وفي هذه
الحدود، يتعين أن تصبح مكملًا للعلم. ويزعم أن المستقبل ربما يكون رهن التفاهم
والدعم المتبادل، وهو أمر ممكن الآن بين التراثين معًا بفضل قدرتهما على التصحيح
الذاتي شأن اليانغ واليِنِّ
٢⋆ في
مجتمع الغد وقدرته على تصحيح نفسه ذاتيًّا. ويتردد هنا صدى رأي سبق أن عبَّر عنه
قبل ذلك بثلاثين عامًا كريسماس همفري، حين قال:
الموقف البوذي إزاء جميع الظواهر والتعاليم الخاصة بها كان دائمًا موقف
العالم في العصر الحديث. فلندع جميع الأمور تُبحث موضوعيًّا ومن دون انحياز
ومن دون مسلَّمات مفترضة، وأن نختبر كل شيء لأن ذلك كان الرأي الذي ألزم به
بوذا أتباعه.
وإن هذه الراديكالية المتصوَّرة عن المنهج البوذي هي تحديدًا التي ساعدت على
تدبير حيلة التحالف، وإن عاشت فترة قصيرة بين البوذية والماركسية السوفييتية. وسبق
أن أشرنا في الفصل السابع إلى أن الدراسات البوذية ازدهرت في روسيا منذ نهاية القرن
التاسع عشر. وظهرت في مطلع سنوات الثورة محاولات لصياغة شكلٍ ما من أشكال التلاؤم
بين البوذية والبُلشُفية على أساس الاعتقاد أن البوذية في جوهرها ذات نظرة إلحادية
وعلمية. ولكن الزواج انتهى نهاية مأساوية في ثلاثينيات القرن عندما استهل ستالين
نظام حكمه الإرهابي دون أي تمييز ضد جميع المعتقدات الدينية.
٣
وثمة نقطة اتصال مهمة أخرى تتعلق بالصراع القديم قدم الزمان بين العلم والدين.
ونعرف أن فقه الإلهيات المسيحي دخل في علاقة صراع مع العلم الحديث، والذي صدر
جزئيًّا عن نزوع الدين المسيحي إلى الالتزام بالتأويل الحرفي للنص المقدس وللحقيقة
بعامة. لذا لا غرابة إذ نجد الغربيين يتجهون صوب الشرق كوسيلة للمصالحة بين النظرة
الدينية ونظرة العلم الحديث. وسبق أن رأينا كيف أن مفكرين كثيرين في القرن التاسع
عشر تشبثوا بالبوذية كعقيدة دينية لما بينها وبين العلم من توافق؛ وذلك لأنها لم
تقدم مزاعم ميتافيزيقية وأسست «حقائقها» على معطيات الخبرة البحتة، ثم إنها أكثر من
ذلك لم تدخل في صراع مع نظرية التطور. واستمر هذا التقارب على هذا النحو في القرن
العشرين، وكثيرًا ما كان التركيز على فكرة التجرِبة، وهو مصطلح، كما يقول ويلهلم
هالبفاس، وإن كان يشي ببعض اللبس وما يفيده من نطاق عام من الدلالات، إلا إنه يشير
إلى إمكان عقد مصالحة أو مزج بين الدين والعلم. ويزوِّد الدين بمعيار جديد عن
اليقين كما يزوِّد العلم ببعد جديد عن المعني (١٩٨٨م، ٣٩٩). ويذهب تريفور لينغ
الماركسي وعالم الدراسات البوذية إلى أن القضية أكثر وضوحًا من ذلك ما دام من
العسير وصف البوذية بالدين، بل هي على الأصح «شكل من أشكال القومية … ولها نظرة
تجريبية تحليلية حيث يتعين اختبار جميع القضايا» (١٩٧٣م، ١١٥، ١١٧).
ونجد في مطلع القرن محاولة تسعى إلى البرهنة على الصلة الوثيقة بين العلم
والديانات الشرقية. قام بهذه المحاولة سير دون وودروف (المعروف باسمه المستعار آرثر
أفالون)، وهو مؤلف كتاب واسع الانتشار عن يوجا التانترا بعنوان «سلطان الأفعى».
ويؤكد في كتابه هذا وجود علاقة نسب أساسية بين التانترا بكل مناهجها التجريبية وبين
العلم الحديث. ويؤكد كذلك أن تعاليم الديانات الهندية تنبني على «التجارِب». وقال:
«إن فكر بوذية التانترا وفكر الفيدانتا يتسقان مع الفكر العلمي والفلسفي الغربي في
أكثر صوره تقدمًا» (١٩٦٦م، ٤). وثمة آخرون من أوائل الدعاة إلى هذه الفكرة من بينهم
بعض مشاهير المؤمنين بمذهب فيدانتا الجديد، ويعيشون في كاليفورنيا خلال الثلاثينيات
والأربعينيات، وعرضنا لهم فيما سبق، وذكرنا أن من بينهم ألدوس هكسلي وكريستوفر
إيشروود وجيرالد هيرد. وأصدروا مَجلة باسم «فيدانتا والغرب». ودعَوا في مَجلتهم هذه
إلى ما سماه هكسلي في إشارة واعية إلى المنهج العلمي «فرض الحد الأدنى من العمل»
الذي تنبني عليه، وفق ما يقال، فكرة براهمان، وتمثل أساس الوجود، لا يرتكز على سلطة
عمياء بل على عمل تجريبي يمكن لأي باحث أن يعيده ويكرره … ومن ثم يتأكد بنفسه.
«معنى هذا ألا مجال للصراع بين الدين الحقيقي والعلم الحقيقي». إن نظرة فيدانتا إلى
العالم ليست فقط أسمى من التراث اليهودي-المسيحي لأنها لا تتعارض مع مكتشفات العلم،
بل ولأنها عمليًّا تجد دعمًا من التطورات الحديثة للعلم، والتي تفيد أن «العالم
الطبيعي بناء صاغه العقل البشري … إنه وحدة أساسية قسمتها أحاسيسنا الحيوانية إلى
كثرة متنوعة ومتعددة» (إيشروود، ١٩٤٥م، ٣٣، ٣٨).
يشير هذا الرأي الأخير إلى ما نعتبره — يقينًا — أوضح مثال للتحالف بين
العلم/الشرق في الأيام الأخيرة، أعني الزواج بين الفيزياء الحديثة والفلسفات
الشرقية. إن مفكرين كثيرين من أصحاب النفوذ والسلطان وجدوا في الفلسفات الطبيعية
للصين والهند مقدمات مهمة لحالة التأرجح التي شهدتها العلوم الفيزيائية خلال القرن
العشرين من نمط التفكير الذري/الميكانيكي إلى نمط تفكير عضوي/شمولي. وسبق أن أشرنا
إلى كتاب طاو الفيزياء تأليف فريتجوف كابرا والذي يمثل أشهر وأشمل عرض لفكرة «وحدة
الأضداد» هذه. لكن، وعلى الرغم من هذا، تواترت تخمينات على طول هذا المسار لفترة من
الزمن قبل صدوره عام ١٩٧٥م. مثال ذلك أنه في عام ١٩٥٣م أكد جيه بي ماكيني أنه في
أثناء تطوير فيزياء الكوانطا «وصل الفكر الغربي إلى مشارف نظرة تمثل المسلَّمة
التقليدية للفكر الشرقي» (١٩٥٣م، ٢٦٣). وهذه الرؤية النافذة يمكن تتبُّع تاريخها
إلى فترة أسبق من ذلك، إلى كتاب سي جي يونغ ومعاونه في الثلاثينيات وولفغانغ بولي،
وهو من الشخصيات الرائدة في مجال تطوير نظرية الكوانطا. وكان يونغ وقتذاك عاكفًا
على أفكار كتاب الآي شينغ، وخلَص إلى نتيجة تفيد أن الفروض الأساسية لهذا النص
المقدس الصيني القديم تحمل أوجه شبه مهمة مع الفيزياء الحديثة. وبعد بضع سنوات،
وإلى جانب عملٍ موازٍ من تأليف بوس نشر مقالًا بعنوان «التزامن» أحكم فيه صياغة هذه
الأفكار، وأوضح أن «أحدث النتائج التي توصل إليها العلم تقترب أكثر فأكثر نحو فكرة
وحدوية الوجود» (يونغ، ١٩٨٥م، ١٣٣).
ويتجلَّى انشغال بولي بهذه التأملات أوضح كثيرًا لدى عديدين من كبار الفيزيائيين
المشتغلين بتطوير نظرية الكوانطا والمعنِيِّين بالتأثيرات المعرفية والميتافيزيقية
للأفكار الجديدة المستمدة من الشرق، إذ كانوا يفكرون في السياق نفسه خلال تلك
الفترة. نذكر على سبيل المثال نيلز بور الشخصية الرائدة بين هذا الفريق، وكان من
أوائل من أدركوا أوجه تشابه وثيقة بين النموذج الثوري الجديد للطبيعة الذي تجري
صياغته وبين فلسفات الشرق القديمة. والجدير ذكره أن تفسيره لنظرية الكوانطا أدى إلى
إعادة إضافة الوعي ثانية إلى الفهم العلمي للطبيعة. ونراه عقب زيارة له للصين أصبح
معنيًّا بوجه خاص بالفلسفة الطاويَّة. وحري أن نشير هنا إلى أنه حين منحته الحكومة
الدنماركية لقب فارس اختار لمعطف الفرسان الذي يرتديه الصورة الطاويَّة الصينية
التي ترمز إلى اليانغ والين، والتي تمثل دوائر متداخلة، ويرى فيها رمزًا لأهم فكرة
عنده وهي مبدأ التكامل. والمعروف أن فيرنر هيزنبرغ صاحب مبدأ عدم التحدد كان له
اهتمام بالشرق، الذي تركز أكثر في الهند التي زارها في الثلاثينيات، وحل هناك ضيفًا
على الفيلسوف والشاعر الهندي رابندرانات طاغور. واعترف بعد ذلك بأن مناقشاته مع
طاغور في شأن الفلسفة الهندية كانت حافزًا مهمًّا لتفكيره في الفيزياء.
٤ وثمة خلاف حول تحديد مدى تأثير الفكر الهندي على تطوير نظرية الكوانطا
ذاتها. ولكن يجب ألا يغيب عن الذهن أن كثيرين من علماء فيزياء الكوانطا إما مختلفون
أو غير مبالين إزاء هذه التأملات الفلسفية. بَيْد أنه من الواضح على أي حال من
الفقرة التالية من كتاب هيزنبرغ «الفيزياء والفلسفة» أنه رأى أن ثمة توازيًا بين
الاثنين، بحيث يفيد على الأقل في خلق تناغم بين العقول الغربية والأفكار الثورية
التي تشكل أساسًا للفيزياء الجديدة:
إن انفتاح الفيزياء الحديثة يمكن أن يساعد إلى حدٍّ ما في التوفيق بين
التقاليد القديمة والاتجاهات الحديثة للفكر. مثال ذلك أن إسهامات اليابان
العظيمة في مجال الفيزياء النظرية منذ الحرب الأخيرة ربما تكون مؤشرًّا على
علاقة بعينها بين الأفكار الفلسفية في تراث الشرق الأقصى والجوهر الفلسفي
النظرية الكوانطا. ولعل من الأيسر أن يلائم المرء نفسه مع المفهوم النظري
للكوانطا عن الواقع إذا ما لم يكن قد مضى بعيدًا في تبني أسلوب التفكير
المادي الساذج الذي ظل سائدًا في أوروبا خلال العقود الأولى من هذا
القرن.
ولعل انشغال إروين شرودنغر بالميتافيزيقا الشرقية ذو دلالة أهم؛ إذ عقب الحرب
العالمية مباشرة، وقد تأهل كفيزيائي، أغرق نفسه في الفلسفة، مبتدئًا بفلسفة
شوبنهاور ثم تحول منها إلى دراسة فلسفة فيدانتا الهندية. وعكف على القراءة قبيل
فترة التأمل المكثف في مجال الميكانيكا الموجية. ولم تكن قراءة سطحية بل شرع في
الاطلاع على مؤلفات المختصين بالدراسات الهندية من مثل ماكس موللر وديوسين وريس
دافيدس وكذا قراءة الفيدا والأوبانيشاد. ونعود لنقول: كم هو عسير أن نحدد بدقة أثر
هذه القراءات في بحوثه العلمية. ولكن المؤكد أنه منذ ذلك الوقت فصاعدًا أصبحت
الفلسفة الهندية جزءًا محوريًّا في تفكيره بشأن الحياة بعامة. وطبيعي أن من الصعب
الظن أن هذا لم يؤثر ولو بدرجة ما في عمله في الفيزياء. وبدأ في عام ١٩٢٥م يؤلف
كتابًا متضمنًا نظرته إلى العالم، وأكمله بعد بضع سنين ونشره تحت عنوان «نظرتي إلى
العالم»
Meine Weltansicht. وعبَّر فيه عن قلقه
الشديد لانحسار الحضارة الغربية، خصوصًا فقدانها أساسًا ميتافيزيقيًّا آمنًا.
والملاحظ أنه على الرغم من رفضه للتعاليم اليهودية-المسيحية فإنه كان يشعر بالحاجة
إلى نوع من الإطار الديني. واعتقد أن هذا الإطار يمكن أن توفره له فلسفة فيدانتا
ورؤيتها عن الوحدة المطلقة للعالم — الذات والطبيعة والرب. ويقول مؤرخ سيرة حياته:
لقد أصبحت فيدانتا «أساس حياته وعمله»،
٥ ذلك لأنها هيأت له صورة موحدة عن العالم تتسق تمامًا مع النظرة الوليدة
الجديدة للفيزياء، حيث حل نموذج إحدى موجات الاحتمالية الملازمة محل النموذج
الذري/الميكانيكي القديم.
عالم آخر — وهو هذه المرة عالم كيمياء حيوية — استبق خط تفكير كابرا، ونعني به
جوزيف نيدهام، الذي أشرنا في السابق إلى إسهاماته في الحوارات الاستشراقية، ويعتبر
نيدهام نفسه أحد أعمدة من نقلوا إلى العقل الغربي الأفكار التي تنبني عليها النظرة
الطبيعية الصينية بعامة والفلسفة الطاويَّة بخاصة. وأوضح من خلال ذلك صلتها الوثيقة
بالفكر الحديث. وتُعتبر الأفكار الطاويَّة وافدًا متأخرًا نسبيًّا من حيث مسار
اهتمام الوعي الغربي بالفلسفات الشرقية. ويرى نيدهام أنه، وحتى عهد قريب
جدًّا:
أساء فهمها، إن لم نقل أغفلها، المترجمون والكتاب الغربيون. أغفلوا
العقيدة الطاويَّة وحطوا من قدر السحر الطاوي، بل اعتبروه مجرد خرافة،
وأوَّلوا الفلسفة الطاويَّة على أنها شعر وصوفية دينية خالصة. وتجاوزوا إلى
حدٍّ كبير الجانب العلمي للطاوية.
ووفق رأي نيدهام فإن الأفكار المحورية التي أكد عليها الفلاسفة الطاويون
الطبيعيون هي: الطبيعة واحدة، ونشاطها شامل كل شيء، وهي خالدة أبدية، وعملياتها
تلقائية وذاتية المنشأ تمامًا (انظر نيدهام، ١٩٥٦م، ٤٦ و١٩٧٨م، ص٨٩). ويوحي هذا
بنموذج كوني عضوي لا ميكانيكي ويرى الظواهر أجزاء من كائن عضوي حي وليست أجزاء من
متواليات من العلة والمعلول أو من عملية ميكانيكية. وإنه في مثل هذا التموج العضوي
البناء:
تسلك الأشياء على أنحاء خاصة لا يأتي سلوكها بالضرورة بسبب أفعال سابقة
من أشياء أخرى، بل أولًا وأساسًا بسبب وضعها في الكون الدوَّار المتغير
أبدًا، والذي يقضي بأنها ذات طبيعيات أصيلة فيها تجعل مثل هذا السلوك
طبيعيًّا بالنسبة إليها.
ومن ثم لا غرابة إذ نجد نيدهام معنيًّا بالتأكيد على الروابط بين الفلسفة
الطبيعية الصينية وبين الفيزياء بعد الكلاسيكية مؤكدًا أن «فلسفة الكائن العضوي
الحي جوهرية لبناء علم حديث حاضرًا ومستقبلًا، مستمدًّا جذوره من «فلسفة العلاقات
المترابطة السائدة في الصين»، وأن الصينيين أطلقوا سهمًا إلى هدف لصيق بالنقطة التي
وقف عندها بعد ذلك نيلز بور وراذرفورد دون أن يبلغوا أبدًا وضع نيوتن» (١٩٥٦م، ٣٣٩،
٤٦٧). والحقيقة أن أحد أهدافه ذات الأولوية تَمثل في استثمار تاريخ العلم في الصين
كأداة نقد للنموذج الغاليلي-النيوتوني، واستخدم أفكار الكونفوشية الجديدة عن
الطبيعة لكي تكون عونًا في صياغة مركَّب عضويٍّ يتجاوز التفكير الميكانيكي الغربي
(المرجع نفسه، ٢٩١).
٦
بَيْد أن التلميحات التي جاءت على ألسنة هؤلاء العلماء نراها واضحة تمامًا في
كتابات كابرا. ويوجز رأيه على النحو التالي في كتابه الذي حقق رواجًا كبيرًا «طاو
الفيزياء»:
تتصور الفيزياء الحديثة الكون في صورة كل دينامي غير قابل للانفصال،
متضمنًا دائمًا المشاهد بطريقة حيوية. والملاحظ أن المفاهيم التقليدية عن
الزمان والمكان كموضوعين منفصلين، وعن العلة والمعلول، تفقد معناها في إطار
هذا التصور. بَيْد أن هذا التصور يشبه إلى حدٍّ كبير جدًّا تصور الصوفيين
الشرقيين.
ويشرع بعد ذلك في بيان متوازيات شاملة بين الفيزياء الجديدة والفلسفات الشرقية
القديمة. ويخلُص إلى نتيجة مفادها أن «النظريات والنماذج الأساسية للفيزياء الحديثة
تقودنا إلى نظرة عن العالم هي … في تناغم كامل مع نظرات الصوفية الشرقية» (١٩٧٦م،
٣٢٠). ويرى كابرا أن ثمة فكرتين رئيسيتين هما الواحدية الأساسية للكون والدور
الموحد المتكامل للوعي. ويؤكد في معرض الحديث على مستوى ما دون الذرة أن الفيزياء
الحديثة تقدم لنا «نموذجًا عضويًّا عن الطبيعة حيث تتصور العالم كلًّا واحدًا غير
قابل للانفصال، وحيث جميع الأشياء سيال في تغير دائم، وحيث لا مجال ولا مكان لأي
كيانات أساسية ثابتة أو منفصلة بشكل مطلق كتلك التي يصورها لنا النظام النيوتوني.»
فضلًا على هذا تشير التطورات الجارية في هذا المجال من العلم إلى إمكان إعادة دمج
الوعي ثانية في الرؤية الموحدة عن الطبيعة، وهي الفكرة التي استبعدها الإطار الفكري
النيوتوني. وذلك لأن الظواهر الكوانطية «لا يمكن فهمها إلا باعتبارها حلقات في
سلسلة من العمليات تبلغ نهايتها في وعي المراقب البشري» (المرجع نفسه، ٣١٨). ونلحظ
في هذين المجالين إمكان أن نستمد أفكارًا من التقاليد الهندية والبوذية والطاويَّة
لنبني عليها نظرة جديدة إلى العالم. إذ بينما نرى المدارس الشرقية المختلفة تختلف
فيما بينها في تفاصيل كثيرة، إلا أنها جميعًا تؤكد الوحدة الأساسية للكون»، وترى
جميعها «العالم حقيقة واحدة غير قابلة للانفصال — وهو في حركة دائبة، حيًّا
وعضويًّا ورُوحيًّا وماديًّا في آنٍ واحدٍ (المرجع نفسه، ٢٣). وإن هذا التشابك
النسيجي الكوني يشتمل دائمًا على المراقب الإنسان وعلى وعيه» وهو ما تقول به
الفيزياء الجديدة (المرجع نفسه، ٤٤). ويحرص كابرا على تأكيد نقطة اتصال وهي تكامل
الأضداد. وعلى الرغم من أن الفلسفات الشرقية تؤكد الوحدة غير القابلة للانقسام
فإنها أيضًا تعترف بوجود فوارق وتباينات داخل الوحدة الشاملة، وأن هذه الأضداد —
مثل: الخير/الشر والذكر/الأنثى والحياة/الموت — تظهر عند مستوًى ما منفصلة
ومستقطبة. ويمكن أن نراها عند مستوًى آخر جوانب متكاملة للحقيقة نفسها، ويسود رأي
مماثل في فيزياء ما دون الذرة «حيث المادة قابلة وغير قابلة للتدمير معًا، وحيث
المادة متصلة ومنفصلة معًا، وحيث القوة والمادة ما هما سوى وجهين لظاهرة واحدة»
(المرجع نفسه، ١٥٢).
واضح أن كابرا لا يتصور أن الميتافيزيقا الشرقية وتأسيسًا على هذه المقارنات،
يمكنها أن تسهم بوسيلة ما في فيزياء الكوانطا من حيث هي. ولكنَّ له هدفًا مختلفًا،
وهو صياغة إطار عمل فلسفي جديد يمكن أن نفهم من خلاله الفيزياء الجديدة، ويمكن أن
نستنبط منه المزيد من النتائج الفلسفية. وأعود لأقول إن من أهم هذه النتائج التوفيق
بين العلم من ناحية وبين الأهداف الدينية والرُّوحية من ناحية أخرى. ويوضح أن هذين
الدربين تباعدا في الغرب، والنتيجة هي تشعب ثقافي، بحيث إن الجهود العلمية
والرُّوحية فقدت وسائل الاتصال المتبادل، ومن ثم أخفقت في تأسيس نظرة موحدة إلى
العالم. وأن ما يلتمس كابرا بيانه هو أن:
الفكر الشرقي، وبشكل أعم الفكر الصوفي، يهيئ لنا أساسًا فلسفيًّا متسقًا
وملائمًا لنظريات العلم المعاصر. أعني يزودنا بمفهوم عن العالم يمكن أن
تبدو من خلاله الاكتشافات العلمية للإنسان في تناغم كامل مع أهدافه
الرُّوحية ومع المعتقدات الدينية.
وتعرض مرارًا للنقد لأنه يقيس اثنين أحدهما إلى الآخر وهما غير قابلين للقياس
معًا، ولأنه أغفل الفوارق الواضحة بين صوفية الشرق والعلم الحديث — فوارق في المنهج
وفي التطبيقات العملية وفي جماع السياقات الثقافية التي نبعت منها. وربما لا تكون
هذه الانتقادات غير ذات موضوع، وإن كنا سنعود إليها في الفصل التالي. بَيْد أنها
أخفقت في رؤية الهدف الذي قصدت إليه دراسة كابرا والذي يمثل الفروض الأساسية للنظرة
الغربية إلى العالم. إنه غير معنِيٍّ بدعم الفيزياء الجديدة بوصفها نظرية علمية، بل
معنِيٌّ ببيان أن المعتقدات الفلسفية الضاربة بجذور عميقة في شأن أفكار مثل الجوهر،
وكذلك في شأن التمييز المطلق بين العقل والجسد، وفي شأن الحتمية الصارمة، إنما تبدو
غريبة على نحو أساسي عند التفكير في العلم على نحو جديد. وإنه نتيجة لهذا يستخدم
الأفكار الشرقية كجزء من خطة هدفها الإطاحة بمعتقدات غربية راسخة زمنًا طويلًا؛ ومن
ثم صياغة معتقدات جديدة — أو كما يقول هو — صياغة إطار فكري جديد. وهذه الخطة ليست
جديدة تمامًا. إننا نجد سابقة لها مهمة في الثورة العلمية للقرن السابع عشر. إذ
رغبةً في الإطاحة بسلطة أرسطو استُحضرت سوابق من فلسفات منافسة مغايرة من عالم
الإغريق القديم مثل النظرية الذرية ومذهب الشك.
٧
لكن فكرة صياغة جميعة فلسفية ثورية، تؤلف بين الاستبصارات العلمية الغربية وبين
النظرات الشرقية إلى الكون، لم تصادف ترحيبًا كبيرًا داخل الأوساط العلمية ذاتها،
أو في الحقيقة بين الفلاسفة. بَيْد أنها أصبحت على الرغم من هذا موضوع تأمل واهتمام
واسع النطاق وناقشها عدد من رموز المفكرين. نذكر على سبيل المثال عالم الفيزياء
الروسي المولد إليا بريغوغين الذي حاول معالجة التغيرات الجذرية التي تحدث في مجال
الفيزياء، كما حاول صوغ نهج جديد لدراسة خصائص التنظيم الذاتي للمادة. ويذهب في
تفكيره إلى أننا «سوف نتمكن في نهاية الأمر من الجمع بين التراث الغربي بكل
تأكيداته على التجريب والمعادلات الكمية، وبين تراث مثل التراث الصيني ونظرته إلى
العالم كوجود تلقائي ذاتي التنظيم» (بريغوغين وستينجرس، ١٩٨٤م، ٢٢). وثمة عالم
فيزيائي بارز آخر هو دافيد بوهم التمس سبيلًا لبناء جسور بين الشرق والغرب. واستعان
بأفكار شرقية من أجل صياغة تفسيره الخاص المميز لنظرية الكوانطا. واتخذ سبيلًا على
عكس ما تقضي به النظرة الذرية إلى الواقع، والتي استمرت مطبقة في الفيزياء قرونًا
عديدة. وأكد بوهم أن من الضروري في ضوء الفيزياء الجديدة أن نصوغ نظرة غير تجزيئية
للواقع وتفسر جوهريًّا «الكل الشامل غير المنقسم للكون» (١٩٨١م، المقدمة). وواضح أن
هذه نظرة تناقض على نحو صارخ الفكرة الكلاسيكية عن قابلية تحليل العالم إلى أجزاء
منفصلة وموجودة مستقلة بعضها عن بعض. ورغبة منه في الوصول إلى غايته افترض نظرية عن
«النظام الضمني» والتي يرى بمقتضاها الظواهر باعتبارها تحتوي بداخلها أو كامنة فيها
جماع الظواهر كلها، أي نظام واحدي يتفتح ويكتمل من خلاله «النظام الواضح» للواقع
التجريبي. ويقول بوهم إن مثل هذه النظرة لا تيسر لنا فقط فهم الخواص الجديدة للمادة
والمتضمنة في نظرية الكوانطا، بل تيسر لنا أيضًا فهم طبيعة الوعي، ومن ثم تتسنى لنا
إعادة توحيد عالم العقل الإنساني وعالم الظواهر الفيزيائية. ويرى، مثله مثل كابرا
وبريغوغين، أن هذا المفهوم التوحيدي الجديد ألمحت إليه وصاغته فلسفات الشرق صياغة
فلسفية منذ زمن قديم. ولا تزال هذه النظرات باقية هناك، بمعنى أن الفلسفة والدين
يؤكدان الوحدة الكلية الشاملة، وتفيد ضمنًا عبث تحليل العالم إلى أجزاء (المرجع
نفسه، ١٩).
ويستطرد بوهم ليسأل:
لماذا إذن لا نُسقط من حسابنا النهج الغربي التجزيئي ونتبنى هذه الأفكار
الشرقية التي لا تشتمل فقط على نظرة إلى عالم مكتمل ذاتيًّا وتنكر التقسيم
والتجزئة، بل وتشتمل أيضًا على تقنيات التأمل التي تقود جماع عملية التشغيل
الذهني على نحو غير لفظي إلى نوع من حالة السكينة لفيض منتظم وسلس لازم
لوضع نهاية للتجزئة سواء في عملية الفكر الفعلية وفي محتواها؟
وعلى الرغم من التزامه «بالأسلوب الشرقي»، إلا أن هذا لا يعني عند بوهم تبني
أنماط الفكر والفعل الشرقية جملة وتفصيلًا. لكن الصواب هو التماس «جميعة جديدة»،
كما يسميها هو، والتي تضع في الاعتبار «الحكمة العظمى الموروثة عن كل الماضي، سواء
في الشرق أو في الغرب معًا» (المرجع نفسه، ٢٤).
٨
الإيكولوجيا والشمولية
تمثل الشمولية موضوعًا واحدًا محوريًّا مشتركًا بين كلٍّ من كابرا وبريغوغين
وبوهم. إذ يؤكدون جميعًا أن تحولًا مهمًّا بعيدًا عن المذهب الذري والمذهب
الميكانيكي اللذَين يمثلان الأساس الميتافيزيقي للعلم، بل والنظرة الغربية إلى
العالم ككل في الحقيقة على مدى القرون الثلاثة الماضية أو ربما أكثر. هذا هو التحول
إلى نهج أكثر شمولية يؤكد على الترابطية المتشابكة بين الموجودات، وهذا هو كما
رأينا، السبب الرئيسي لاهتمامهم بالفلسفات الشرقية حيث تمثل الشمولية الكلية
الواحدة والأساسية للموجودات المسلَّمة الكونية المعتمدة عمليًّا. ويمثل هذا أيضًا
أحد العوامل التي ربطتهم بمجالين آخرين وثيقي الصلة بالعلم.
أول هذين المجالين الطب، والذي سوف نعرض له بإيجاز. ظهر في الغرب خلال السنوات
الأخيرة اهتمام كبير بالممارسات الطبية السائدة في الصين وفي الهند. وتستند هذه
الممارسات إلى مسلَّمات معينة لنظرة شمولية، والتي تم تحديدها فيما يتعلق بالصحة
والمرض. وقيل إنها تتباين مع المسلَّمات التي تستند إليها الممارسات الطبية في
الغرب والتي تغلب عليها النظرة الميكانيكية والإثنينية. وبينما كان الطب الغربي
الحديث مستخدمًا يومًا للبرهنة على قصور ضروب الطب غير الغربية فإن الموقف الآن
انقلب وانعكس إلى حد ما، وأصبحنا الآن نعتبر أكثر فأكثر أن المذاهب الصينية
والهندية في الطب هي الأفضل من نواحٍ معينة، ومتفوقة على الطب الغربي من حيث إنها
تعالج الشخص في شموله كوحدة نفسبدنية. وننظر إلى المرض من حيث علاقته بالكيان
البشري كله والبيئة الطبيعية، وليس في ضوء اختلالات وظيفية لوظائف منفصلة عن بعضها.
والجدير ذكره أن الطب الصيني التقليدي ونظام الطب الهندي القديم المعروف باسم طب أيورفيدا،
٩⋆
أثار كلاهما انتباه الغرب في السنوات الأخيرة، ولم يكن ذلك فقط بسبب ما تبين من
قدراتهما العلاجية، بل وأيضًا لما يقدمانه من أسلوب مختلف تمامًا في النظر إلى
الصحة في ضوء التناغم والتوازن للشخص ككل بدنيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا. ويرى البعض
أن هذه التطورات تمثل تحديًا قويًّا للهيمنة العالمية للطب الغربي، أو للرأي القائل
إن النظرية الطبية العلمية الغربية، وكذا الممارسات، متحررة من التأثيرات الثقافية.
ويرى آخرون أنها تقدم حافزًا يحفزنا في اتجاه موقف جديد يمكن منه للنظامين الطبيين
الغربي والآسيوي أن يتطورا معًا وفي تكامل متبادل وليس في اتجاه التنافس. وأكد هذا
النهج التعاوني مؤرخ الطب الصيني مانفريد بوركيرت الذي يدفع بأن «الهدف ليس إبدال
مجموعة مفاهيمنا المسبقة الأصلية بغيرها، بل تأسيس نوع جديد من الطب يمكن أن يقبل
في حرية المشاهدات والمعارف المتراكمة لدى كل من الثقافتين» (١٩٨٢م، ٢٧٨).
١٠
ثاني المجالين هو التفكير الإيكولوجي الذي ظهر واحتل الصدارة خلال العقود القليلة
الماضية، وهو ما سوف ندرسه بتفصيل أكثر.
١١ وهنا أيضًا تمثل الشمولية موضوعًا محوريًّا إذ تعني ضمنًا الترابطية
الأساسية لإحدى المنظومات الإيكولوجية
١٢⋆
والعلاقة التكاملية بين البشر والمنظومات الإيكولوجية الطبيعية، والاعتمادية
المتبادلة بين العقل والطبيعة. ونعرف أن أسلوب التفكير التقليدي في الغرب تضمن —
افتراضًا — ميلًا إلى معالجة العالم باعتباره مجموعة من الكيانات المتمايزة ومجالات
اهتمام، وأن يرى البشر متمايزين جذريًّا عن بقية الطبيعة. هذا بينما التفكير
الإيكولوجي يصوغ نموذجًا مغايرًا يبدأ من مسلَّمات أكثر توحيدًا وتكاملًا. ومن ثم
لا وجه للغرابة، إذ نرى المفكرين في هذا المضمار شرعوا ليس فقط في عمل مقارنات بين
النظرات الشمولية التي تقضي بها الإيكولوجيا وبين الفلسفات الشرقية بهدف الكشف عن
المسلَّمات الغربية الخفية في شأن الطبيعة، بل وشرعوا أيضًا في استخدام طرق التفكير
الشرقية إزاء الطبيعة كطائفة من التصنيفات البديلة من أجل إعادة التفكير في
الاتجاهات البيئية. وحقيقة الأمر أن نشوء وتطور التفكير الإيكولوجي منذ الستينيات
ترافق بوسائل كثيرة مع الرواج المتزايد باطراد للديانات الشرقية. وعبر الاثنان عن
التحرر من الوهم الأساسي فيما يتعلق ببعض المسلمات والقيم التي تشكل قاعدة لكل من
العلم من حيث نموذجه الذري الميكانيكي للطبيعة، والمسيحية من حيث تقسيمها
الراديكالي في الفصل بين عالمين، عالم الرُّوح وعالم الطبيعة. وتزايد باطراد البحث
عن نماذج إرشادية أو أطر فكرية (بارادايم) جديدة توحيدية وأخلاقية يمكن على هديها
تأسيس علاقة بين الإنسان والطبيعة تكون أكثر تناغمًا ومكملة ونافعة بعضها لبعض …
وهنا تبين أن «تراث الفكر الشرقي يوفر مصادر مفاهيمية مهمة» (كاليكوت وأميس، ١٩٨٩م،
١١، ١٢). وحاول البعض التماس سبيل إلى ذلك، ولكن من داخل التراث المسيحي بعد تحوله
تأسيسًا على إلهام القديس فرنسيس الأسيزي،
١٣⋆ أو
تأسيسًا على فكرة القوامة،
١٤⋆
بَيْد أن آخرين رأوا أن منظومات العقيدة التقليدية في الغرب هي المشكلة وليست الحل،
ومن ثم عليهم الاتجاه صوب الشرق التماسًا للمساعدة في تجديد المسلَّمات الأساسية
الخاصة بالعالم الطبيعي.
١٥
واستمدوا هذا العون من مصادر متباينة في آسيا تتراوح ما بين الهندوسية وتراثها عن
اللاعنف وتمجيد الحياة، وحتى الطاويَّة بحاسيتها عن الوحدة التكافلية بين عالمي
الإنسان والطبيعة. ونعرض هنا بعض الأمثلة التوضيحية: دفع العالِم السياسي هوا يونغ
بأن مبادئ بوذية زن يمكن استخدامها لكي تكون اتجاهاتها التي تقضي باحترام الطبيعة
بديلًا عن الاتجاهات النفعية والاستغلالية السائدة في الغرب. وأضاف: إننا ونحن
نلتمس إحداث «ثورة كوبرنيكية للعقل تجنبًا لوقوع كارثة إيكولوجية … نرى أن زن يمكن
أن تكون النبع الرئيسي لمثل تلك الثورة» (الاقتباس من كاليكوت وأميس، ١٩٨٩م، ٧).
ونرى لورانس إي جونسون في كتابه عن علم الأخلاق البيئي يشدد قائلًا: «ثمة دروس قيمة
لنا أن نتعلمها من الطاويَّة، إذ تؤكد على الترابطية بين الظواهر الطبيعية، وعلى
التناغم والتوازن، وعلى مبدأ وو-وي — العمل من دون إجهاد (۱۹۹۱م، ٢٦٩، ٢٧٠). ويرى
الفيلسوف الإسلامي سيد حسين نصر أن بإمكاننا أن نجد في «الطاويَّة إخلاصًا وتفانيًا
للطبيعة وفهمًا لدلالتها الميتافيزيقية، وهو أمر بالغ الأهمية.» ولنا أيضًا،
اتِّساقًا مع هذه الفلسفة أن نتعلم «أن نعيش في سلام وتناغم مع الطبيعة أو الكوكب
الأرضي» (١٩٩٠م، ٣٣). وثمة توجه عملي أكثر يمثل بينة واضحة على هذه الرغبة «في
العيش في سلام وتناغم مع الطبيعة»، ونلمسه في ظاهرة الرواج المتزايد في الغرب لفن
الحياة الصيني المعروف باسم فِنغ-شوي،
١٦⋆
الذي يدعو للحياة في توافق مع تيارات الطاقة الأرضية.
وجرى استخدام الأفكار الشرقية لتحدي القيم والأفكار الغربية على جبهة واسعة، مع
النظر إلى ما سبق باعتباره يهيئ الأساس لإطار فكري بديل قائم على مبادئ إيكولوجية
صحيحة. ويمثل إي إف شوماخر (١٩١١–١٩٧٧م) مثالًا كلاسيكيًّا لهذا النهج في كتابه
«الصغير جميل»، ونراه في فصل بعنوان «الاقتصاد البوذي» يشرع في الكشف عن الأسس
الفلسفية للنظام الاقتصادي الغربي ودراسة كيف ستكون حال الاقتصاد إذا ما ارتكز
بدلًا عن هذا على مبادئ بوذية. ويدفع بأن علماء الاقتصاد أشبه بمن يعانون مما يشبه
«العمى الميتافيزيقي» الذي يقودهم إلى تخيل أن «اقتصادهم علم مبني على حقائق مطلقة
غير قابلة للتغيير، بمعنى أنه متحرر من القيم ويتعامل مع قوانين ثابتة أبدية شأن
قانون الجاذبية» (١٩٧٤م، ٤٤). وإحدى هذه «الحقائق» أن الاستهلاك هو الغاية الوحيدة
والغرض الوحيد من كل نشاط اقتصادي، وأن العمل حتى إن كان في جوهره بغيضًا على
النفس، هو الوسيلة الجوهرية للوصول إلى هذه الغاية. ويقاس مستوى المعيشة في ضوء
الاستهلاك، ومن ثم يغدو هدف النظام الاقتصادي أقصى قدر من الاستهلاك وتشجيع أعلى
مستوى للإنتاج من دون اعتبار لما يترتب على هذا من نتائج تؤثر في أوسع نطاق من
البشر والبيئة. ونجده في المقابل يستمد من البوذية رؤية تفيد أن غرض النشاط
الاقتصادي تعزيز الرفاهة البشرية، وهذا عامل لا يمكن أن نقيسه بمقادير كمية خالصة،
فضلًا على أن العمل هو نشاط بشري جوهري وليس مجرد وسيلة لغاية أبعد. ويمضي ليؤكد أن
بوذا دعا إلى موقف يتصف بالتوقير واللاعنف إزاء كل ما في الطبيعة، وهو ما يعني أن
موارد العالم الطبيعية يتعين ألا نستغلَّها من دون اعتبار لإمكان تجديدها مع ضمان
التوازن الكامل والشامل للطبيعة. صفوة القول إن النهج البوذي يقدم لنا بديلًا
جذريًّا عن النظريات والممارسات الاقتصادية الشائعة، ويشير هذا النهج إلى «الطريق
الوسط بين الغلو المادي والجمود التقليدي» (المرجع نفسه، ٥١).
١٧
ومنذ صدور هذا الكتاب الرائد تصاعد الحوار باطراد بحيث ضاعف وأوضح تفصيلًا تحدي
شوماخر للمبادئ الأساسية للنظام الاجتماعي الاقتصادي الغربي من وجهة نظر إيكولوجية.
واتصل دور الأفكار البوذية في هذا الحوار. وثمة مفكران بريطانيان شاركا بقوة في هذا
الحوار خلال السنوات الأخيرة، وهما كين جونز وستيفن باتشيلور. وجاهر الاثنان بآراء
قوية تؤكد الحاجة إلى رُوحانية جديدة تحتلُّ قلب التفكير الإيكولوجي. وعرض جونز
رأيه في عديد من الكتب التي قوبلت بمحاجاة قوية، وحاول فيها تأسيس روابط وثيقة بين
البوذية والسياسة الخضراء في مجالات مثل التغيير دون عنف والتحول إلى سلطات لا
مركزية، والعمل غير الاستغلالي، ومعاملة الحيوانات. وأكد في هذا الصدد أن في وسع
البوذية أن تقدم «رُوحانية ملتزمة ومقبولة لدى ذوي العقل العلماني، والعقلانيين
والإنسانيين» (جونز، ١٩٩٣م، ١٧٠). ويشدد بخاصة في التحليل النهائي على اعتقاده ألا
حل دائمًا للمشكلات البيئية ما لم يعترف هذا الحل بالحاجة إلى تحول باطني يدفعنا
إلى تجاوز أيديولوجياتنا الراهنة المتمحورة حول الذات. وهذه مهمة تتَّسق تمامًا، في
رأيه، مع البوذية. معنى هذا أننا «سنكون في حاجة إلى الحث على تطوير الوعي إلى ما
بعد مستواه الأناني المرتفع حاليًّا، بغية بناء، وكأننا نشرع من جديد، تبادلية
خضراء مختلفة جذريًّا يرتكز عليها الاقتصاد القائم بحالته الراسخة» (المرجع نفسه،
٧٧). ويذهب باتشيلور إلى أن تعاليم البوذية تمثل تحديًا أساسيًّا «للهياكل
الاجتماعية التي تدعم وتعزز قيمًا تُعمينا عن رؤية نتائج أفعالنا المدمرة
إيكولوجيًّا»، وتمثل تحديًا أيضًا لاعتقادنا أنه عن طريق «تراكم أجزاء مقبولة
وكافية من الحقيقة — سيارات وأجهزة منزلية وملابس، وأجهزة هاي فاي
١٨⋆
وفنون جميلة أو أي شيء آخر، فإننا نُراكِم إحساسًا بالرفاهة (باتشيلور وبراون،
١٩٩٢م، ٣٢، ٣٣). وإن ما تحثنا عليه البوذية لكي نفعله هو النظر إلى الأسباب وليس
معالجة الأعراض. ونجد هذه الأسباب داخل أنفسنا، في مواقفنا ومعتقداتنا وقيمنا،
وليست في تشغيل وإدارة عمليات خارجية. وها نحن نكتشف في الغرب موقفًا فرديًّا
صارخًا، وحسًّا رومانسيًّا بالذات يلتمس الإشباع من خلال المناقشة مع ذوات أخرى.
ويستطرد في محاجاته ويقول: إن البوذية في المقابل ترى الإشباع الشخصي في الاعتمادية
المتبادلة سواء مع عالم الطبيعة أو مع البشر الآخرين.
١٩
وصاغ كابرا أفكارًا مماثلة في محاولته إثبات أننا بصدد عملية تطوير «نموذج إرشادي
(بارادايم) جديد، ورؤية جديدة للواقع، وتغير أساسي في أفكارنا ومدركاتنا وقيمنا»
(١٩٨٢م، المقدمة). وقال إن هذا النموذج الإرشادي سيشكل الأساس لطريق جديد «نكتشف من
خلاله شمولية الطبيعة وفن الحياة في تناغمها» (المرجع نفسه، ٣٢٥). وذهب كابرا إلى
أنه علاوة على الفيزياء الجديدة سوف نجد مصدرًا مهمًّا للإلهام لهذا النموذج
الإرشادي الشمولي الجديد خلال بزوغ طريقة جديدة للتفكير تأسيسًا على «المنظومات».
ويستطرد ليفسر ما قاله: «إن نظرية المنظومات تنظر إلى العالم تأسيسًا على مفهوم
الاعتمادية المتبادلة والعلاقات المتداخلة» وتزودنا بإطار مفاهيمي للتفكير على هديه
في الظواهر وجميع صنوف المجالات المختلفة. وهكذا لن يتسنى لنا اختزال الخصائص
وردُّها إلى الأجزاء التي تتألف منها (المرجع نفسه، ٢٦). ونعود لنقول إن هذا الموقف
الجديد صادف مساندة بالرجوع إلى أنماط الفكر الشرقي. ويعتقد كابرا أن نهج المنظومات
الجديد يمثل من نواحٍ كثيرة تحويلًا حديثًا للأفكار الشرقية القديمة، وهو ما يتعين
أن تنشأ عنه جميعة من نوع جديد تفرز بالضرورة نموذجًا إرشاديًّا جديدًا، والذي
يلتمس توازنًا بين الاتجاهات التي تبدو في ظاهرها متعارضة بين العقل والوجدان، وبين
الذكر والأنثى، وبين الفعل النشط والتأمل. كذلك الحال بالنسبة إلى الفيلسوفة جوانا
ماسي التي لاءمت بين أفكار من نظرية المنظومات والإيكولوجيا والبوذية، وذلك في
نقدها الراديكالي للوسائل والقيم الغربية. وحاولت التصدي لبعض المشكلات الأشد
إلحاحًا في عالمنا المعاصر، وذلك بأن طلبت منا أن نعيد تصور عالمنا وكائناته
باعتبارها ليست أكثر من امتدادٍ لنا. ورفضت فكرةً باعتبارها خطأً فلسفيًّا وفاسدة
إيكولوجيًّا، وهي فكرة «الأنا المعبأة داخل إهاب البدن»، ومستقلة وهشة، مما يُلزمنا
بأن نرسم وندافع عن حدودها. وتدفع بضرورة «ابتكار ذات إيكولوجية باعتبارها جزءًا من
عملية إحياء رُوحانيات غير إثنينية النظرة». ويتمثل «دور البوذية في عملية الابتكار
هذه في الطريقة التي نعمل بها، شأن نظرية المنظومات، على تعويض التمايزات التصنيفية
بين ذاتٍ وأخرى». وتثبت الطابع المرضي لأي تشيُّؤ للذات، أي اعتبارها شيئًا ذا
كيانٍ مستقل (١٩٩١م، ١٨٧).
والملاحظ أن الكثير من الأفكار الواردة في هذا الجزء صادفت تمجيدًا فلسفيًّا في
فكرة «الإيكولوجيا المحيطة»
deep ecology. وأول من
صاغ هذه الفكرة الفيلسوف النرويجي آرني نايس (المولود عام ١٩١٢–…) عام ۱۹۷۲م،
واستهدف تجاوز النزعة البيئية التي رُئي أنها تستخدم علاجات سطحية وجزئية ومحصورة
داخل حدود نظرة إلى العالم تتسم بالعقلانية العلمية الأصولية الجامدة. ويرى نايس أن
الإيكولوجيا المحيطة تحاول طرح تساؤلات أكثر أساسية عن علاقتنا بالعالم الطبيعي،
وتدعو إلى نموذج إرشادي إيكولوجي جديد بديلًا عن النموذج الميكانيكي المهيمن على
الفكر والممارسة في الغرب على مدى القرون الثلاثة الماضية. وتحتل مكان القلب من هذا
النموذج الإرشادي الجديد محاولة تستهدف تأسيس مبدأ أن جميع المكونات متساوية
القيمة، والتي تتألف منها الشبكة المتداخلة للطبيعة، كما تستهدف اكتشاف علم نفس
جديد عن النفس تأسيسًا على علاقة تكافلية بين المرء والكوكب. وثمة عدد من المصادر
انبثقت منها هذه الأفكار نذكر من بينها التقاليد المحلية للشعوب والفلسفة الدائمة
والحركة النسوية الإيكولوجية
٢٠⋆
والفيزياء الجديدة. ولكن من أهمها فلسفات الشرق. واعترف نايس نفسه مرات عديدة
بدَينه لغاندي. ويرى أن الإيكولوجيا المحيطة تستمد مبادئها الأساسية من الأفكار
البوذية والطاويَّة، وكذلك من المسيحية وسبينوزا ووايتهيد وهيدغر. وثمة آخرون من
دعاة الإيكولوجيا المحيطة أكدوا أهمية الرابطة الشرقية، إذ أوضحوا أن هذه التقاليد
«تعبر عن وحدة عضوية … وتعبر عن قبول المساواة المحورية البيولوجية في بعض
التقاليد، وأنها ترتبط بعملية التحول لتكون أكثر نضجًا، والإفاقة من الوهم والخداع»
(ديفال وسيشنز، ١٩٨٥م، ١٠٠).
٢١
ويتمثل لب تفكير دعاة الإيكولوجيا المحيطة في إجراء تحول أساسي عن الموقف الغربي
التقليدي المرتكز على نظرة محورية بشرية إزاء الطبيعة واتخاذ موقف محوري بيولوجي.
ويستلزم هذا التغيير الثوري شيئًا ليس أقل من توسيع نطاق الحدود الأخلاقية بحيث
تتجاوز ما هو بشري محض إلى الحيوانات الأخرى وإلى العالم الطبيعي في شموله. ويرى
أصحاب هذا الرأي أن هذا التغيير تيسِّره لنا الأفكار المستمدة من الثقافات الآسيوية
التقليدية. إن «الكثير من التقاليد الآسيوية ترى كل الكائنات، الحية وغير الحية،
يغشاها نوع ما من الخاصية الرُّوحية. مثال ذلك أن الهندوسي يرى الحياة في كل مكان —
خصوصًا في البشر وأيضًا في الأشجار والأطيار والحيوانات والحشرات — واحدية الحياة
في كل الوجود» (برايم، ١٩٩٢م، ٩٦). معنى هذا أنه إذا كان الغرب يرى عادة أن نطاق
الالتزام الأخلاقي، على الصعيد الطبيعي الخالص، مقتصرٌ فقط على حدود المجتمع
البشري، فإن الشرق يراه شاملًا جميع الموجودات الحية بل وكل الطبيعة. ويعبر عن هذا
الفيلسوف رودريك ناش فيقول: «إن فلسفة الحقوق الطبيعية عند جون لوك وتوماس جيفرسون
عَلْمَنَتْ هذا المفهوم (بمعنى أضفت قداسة على الكائن البشري الفرد). ولكن نجد من
ناحية أخرى أن الشرق يوسع من نطاق القيمة الأصيلة لتمتد إلى حدود الكون كله»
(١٩٨٩م، ١١٣). ويبدو طبيعيًّا تمامًا في نظر كل من نشأ على التراث المسيحي-اليهودي
أن يفترض أن نطاق الأخلاق محصور في نطاق العلاقة بين الإنسان والرب والإنسان. وإذا
كانت الكنيسة لم تشجع أو لم تصفح عن القسوة مع الحيوانات فإنها اتجهت إلى إدانتها
على أن هذا السلوك ربما يكون وازعًا للقسوة على بشر آخرين وليس لأنه خطيئة في ذاته.
٢٢ إن المواقف الأخلاقية النابعة من الطريق الثماني البوذي أو من العقيدة اليانية
٢٣⋆ عن
أهيمسا
ahimsa (أي اللاعنف) شجعت على إعادة التفكير
جذريًّا في الغرب في هذا الإطار. وليس الشرق أبدًا هو المصدر الوحيد لهذا التغير
الجوهري. والجدير ذكره أن الموقف البوذي والياني تجاه العلاقة بين البشر والحيوانات
كان الغرب ينظر إليه في القرن التاسع عشر بخوف ورهبة. بَيْد أنهما خلال السنوات
القريبة جدًّا أصبحتا عن يقين عاملًا مهمًّا في المساهمة لتغيير المواقف تجاه
العالم الطبيعي بعامة وتجاه الحيوانات بخاصة. ونجد من بين من أسهموا بقوة وفعالية
في هذا التغيير في الفكر ألبرت شفايتزر. إذ استطاع بفضل دراسته للأديان الشرقية أن
يصوغ المثل الأعلى «لتوقير الحياة في كل صورها». وحث الناس على أن الحيوانات لها حق
أخلاقي في أن تحظى بعطفنا شأن البشر، وأن دائرة الاهتمام الأخلاقي حري أن تؤلف
«وحدة البشرية مع جميع الكائنات» (١٩٣٦م، ٢٦١).
٢٤ وبدأت هذه الأفكار قريبًا جدًّا في الدخول ضمن الحوار الفلسفي الجاد.
وها هو ستيفن كلارك يعترف بأنه كان متأثرًا بقوة ببوذية الماهايانا وقت أن شرع في
دراسته المهمة عن المكانة الأخلاقية للحيوانات (١٩٧٧م، ٥).
وشهد الجدل الإيكولوجي بين الشرق والغرب تحولات واضحة على الرغم من تاريخه
القصير، تمامًا مثل ما شهد الجدل والحوار اللذان عرضنا لهما في الفصول السابقة.
٢٥ وعندما ننظر إلى الماضي الآن نجد أن أول تجليات هذا الموقف تمثلت خلال
حقبة البيتس والهيبيز الذين استوحَوا كتابات غاري سنيدر وألان واتس، من بين آخرين.
ويبدو لنا هذا الآن ساذجًا إلى حد ما ومبالغًا فيه أكثر من اللازم، واستهدف غالبًا
الإفادة بأن التراث الشرقي في وسعه أن يزودنا بحل جاهز لعلاج أمراض الغرب، ويهدينا
إلى طريق ملكي لتحقيق التناغم بين الإنسانية والطبيعة. واقترن هذا بميل إلى دمج
جميع أشكال الفكر الآسيوي في حكمة آسيوية عامة وشاملة، وإلى التعامل مع كل من الشرق
والغرب باعتباره تراثًا واحدًا أصم كل يستبعد الآخر. ونلمس هذه المواقف واضحة في
عدد من الكتابات الأكاديمية خلال هذه الفترة، وكذا في عدد كبير من الكتابات
الشعبية. مثال ذلك أن ناش كتب عام ١٩٦٧م: «تميَّزت العلاقة بين الإنسان والطبيعة في
الشرق الأقصى بالاحترام الذي يقارب الحب، وهو ما نراه غائبًا في الغرب» (١٩٦٧م،
١٩٢). وبعد ذلك بفترة قصيرة كتب أيضًا عالم الإلهيات جي هستون سميث وتحدث عن آسيا
والثقة اليقينية بالطبيعة وتمجيدها لها، الأمر الذي يتباين بوضوح مع موقف الغرب
الذي يضع نفسه في موقف متعارض … ومتحفظ ونقدي» (١٩٧٢م، ٦٦).
ونلحظ في سنوات أقرب عهدًا بنا استخدام تقاليد الفكر الآسيوي بوسائل تتسم بالحذر
والنقد أكثر مما سبق، وذلك فيما يتعلق بمسائل البيئة والإيكولوجيا. ونجد بعض
المظاهر الحماسية حسنة النية في السابق والداعية إلى «إطار فكري» جديد يُطيح
بأساليب التفكير الغربية ويكون بديلًا عنها بعد أن أخفقت إذا بها تفسح الطريق
لنموذج خطابٍ أمعن في الالتزام بالمنهج التأويلي (الهرمنيوطيقي)، حيث النظر إلى
التفاعلات الفكرية بين الشرق والغرب في ضوء أكثر اتِّساقًا مع الجدل والتاريخ.
وهكذا نلحظ، على سبيل المثال، تزايدًا في الإدراك بأن المواقف الشرقية إزاء الطبيعة
كانت متفشية في الماضي داخل الغرب، وقد اكتست في الغالب بوهج مثالي أخفى الممارسات
الإيكولوجية التي هي دون المثالية في مجتمعات الماضي الآسيوية، كما أخفى الجوانب
النظرية للديانات الشرقية التي يمكن أن تكون متعارضة مع المبادئ الإيكولوجية. وثمة
اعتراف أيضًا بالحاجة إلى أن نضع في الاعتبار المسافة التاريخية والثقافية الفاصلة
بين الفلسفات الشرقية القديمة والإشكالية البيئية المعاصرة، وألا نتخيل أن في وسع
الغرب أن يفصل نفسه في سهولة ويسر عن جذوره المعرفية ليتبنى تراثًا فكريًّا غريبًا
بقضه وقضيضه. وبات من المعترف به أيضًا في الوقت نفسه أن التفكير البيئي المقارن
يمكن أن يؤدي دورًا مهمًّا ييسر علينا مهمة أن «نرى العالم من خلال إطار فكري
بديل.» و«يكشف لنا بذلك مقدمات ومسلَّمات بعينها تتعلق بطبيعة الطبيعة، ومن نحن
البشر من حيث علاقتنا بها». وييسر لنا أيضًا إمكان أن نتخذ وجهة نظر خارجية، أي من
الخارج، التي يمكن للغرب من خلالها أن يمايز بوضوح أكثر القطاعات الأعمق من
انحيازاته ومسلَّماته الفكرية الموروثة (كاليكوت وأميس، ١٩٨٩م، ١٦، ٢٨٨).
وحريٌّ أن ندرك أن هذا الموقف الأخير، الذي يتَّسم بقدر أكبر من حيث النظرة
النقدية والتمييزية الفاحصة، هو الموقف الذي أصبحنا الآن على ألفة أكثر معه على مدى
الفصول القليلة الأخيرة. وهذا هو الموقف الذي سنلتزم به في القسم الأخير من هذا
الكتاب، حيث تظهر بوضوح تام القضايا الخلافية التي كانت ضمنية في القسمين
الأوَّلين.