الفصل الحادي عشر
تأملات وتوجهات جديدة
«إن الاستشراق يقينًا مهد الطريق للكثيرين الراغبين في السير على درب النمو
الذاتي والإشباع الرُّوحي. وهذا درب كثيرًا ما يتعارض مع المتطلبات والقيم
الاجتماعية للعالم الحديث. بَيْد أن هذا ليس سوى جزء من الصورة التي هي صورة
غنية ومتباينة على نحو فريد، والتي نبهت عقل وضمير الغرب بوسائل كثيرة
ومثمرة.»
حان الوقت الآن للشروع في تقييم نقدي لهذا العرض التاريخي الذي قدمناه في القسمين
السابقين، لذا فإننا سنعمل في هذا الفصل على أن نُسهب وندرس دراسة أكثر تدقيقًا بالنسبة
إلى بعض القضايا المثيرة للجدل التي برزت وتوارت بين الحين والآخر في روايتنا. وسنتصدى
لبعض الانتقادات التي راجت ضد الاستشراق بصورة أو بأخرى. إن العرض التاريخي حسب التسلسل
الزمني للقاءات بين فكر الغرب وفكر الشرق شيء ليس هو الغاية النهائية. ذلك أن مؤرخ
الأفكار يظل أيضًا في حاجة إلى طرح أسئلة فلسفية عن إمكان تجاوز الحدود اللسانية
والثقافية، وعن ملاءمة وكفاية التواصل بين الثقافات. ويتعين عليه أيضًا أن يتأمل مليًّا
طبيعة العملية «الهرمنيوطيقية» التأويلية التي زعمنا أنها تمثل لب هذه اللقاءات. ونحن
في حاجة أيضًا إلى مواجهة أسئلة صعبة تتعلق بالآثار الأخلاقية والسياسية للقاء
الشرق-الغرب: هل ساند الاستشراق أيديولوجيا عنصرية؟ هل ساعد على نشر لاعقلانية منافية
للأخلاق؟ هل هو قناع للهيمنة الاستعمارية؟ سنعالج هذه القضايا وقضايا أخرى وثيقة الصلة
بها في هذا الفصل. وستشغلنا في الفصل الختامي مسائل عن الحالة الراهنة والمحتملة
للاستشراق.
التأويل عبر الحدود
قد يبدو عملًا أخرق إذا ما ارتابت نزعة الشك الفلسفية فيما إذا كان الاتصال حدث
بالفعل بين الشرق والغرب. إذ على الرغم من كل التشوهات والمبالغات والتوقعات من
جانب المفكرين الغربيين الذين التقينا بهم، إلا إن الذي لا جدال فيه هو أنه قد حدث
بالفعل نوع ما من التبادل المعرفي، شيء حتى وإن بدا فَضْفاضًا ومبدئيًّا، لكن
بالإمكان وصفه بالحوار. وأقل ما يمكن أن يقال إنه تم تعلم الكثير، وتجاوز النزعة
المحلية ذات الأفق المحدود، وتحدي الفروض والانحيازات الغربية القديمة التي سئمنا
منها، واستثارتنا منبهات من أجل فكر إبداعي جديد. ومع هذا كله فليس هذا هو بيت
القصيد. إن مشكلات عويصة تنبثق من سردنا التاريخي، مشكلات توجزها قضايا أساسية
مغايرة تحتل صدارة جدول أعمال الدراسات النقدية والفلسفية المعاصرة، إنها مشكلات
تتعلق كمثال بالنسبوية الثقافية والترجمة واللاقياسية والفهم التاريخي وطبيعة
العقلانية ذاتها. وواضح أنها قضايا كبيرة جدًّا، أكبر من أن نوفيها حقها من
المعالجة هنا، لكن يجب بذل محاولة ما لاستنتاج الآثار التي يمكن أن تترتب عليها
بالنسبة إلى دراستنا عن الاستشراق.
ولعل من المفيد أن نضع مناقشتنا في إطار داخل آراء تبسيطية متقابلة. نجد من ناحية
رأيًا يقول إن الاختلافات بين الثقافات عميقة جدًّا، وإن الأفكار والقيم ثاويةٌ
وراسخة بعمق وفي كل ثقافة على حدة، وأننا لن نجني شيئًا أبدًا من محاولة التواصل
عبر التقسيمات الثقافية. ويُعتبر الاستشراق هنا من خلال النظرة الشكية أو النسبوية
ممكنًا فقط كممارسة للنرجسية. وتأسيسًا على هذه المقدمة فإن محاولاتنا لتأويل
مفاهيم مثل الطاو أو كارما ستُمْنَى يقينًا بالإحباط ما دام معنى مثل هذه المصطلحات
يتولد من داخل الإطار اللساني والفلسفي للثقافات المختلفة عن ثقافتنا اختلافًا
كاملًا. معنى هذا أن الممارسة «الهرمنيوطيقية» أو التأويلية محكوم عليها بالفشل منذ
البداية. ونجد على الطرف المقابل أولئك الذين تراودهم رغبة في أن يطرحوا جانبًا
المشكلات الفلسفية تعبيرًا عن لهفتهم لجني ثمار الحوار ولا يرون أي مشكلة خاصة تعوق
محاولة الغرب استيعاب أفكار من ثقافات الشرق. وتصادفنا في مواقع مختلفة في الدراسة
الاستشراقية ملاحظات تفيد بأن فهم نصوص وفلسفات الشرق هي ببساطة مسألة عقل منفتح
ونية حسنة، ومن ثم فإن الاستشراق إشكالية ليست أكثر ولا أقل من فهم المرء لأفكار
ثقافته. وهكذا يرى فروم أن «زن ليست أصعب على الأوروبي من هرقل أو ميستر إيكهارت أو
هيدغر» (١٩٨٦م، ٧٠). وأخذ رومان رولان بوجهة النظر القائلة بأن ليس هناك شرق ولا
غرب «ما دامت جميع جوانب العقل التي التقيتها أو شعرت بها في الشرق كانت في أصول
نشأتها هي نفسها عندي.»
١ وأوجز ويلهلم ديلثي بدقة شديدة التقابل بين هذه الآراء إذ قال:
«التأويل مستحيل إذا كانت جميع التعبيرات عن الحياة غريبة تمامًا ولن يكون ضروريًّا
إذا لم تتضمن شيئًا غريبًا» (من جانغ، ١٩٩٢م، ٢٢).
وليسمح لنا القارئ إذن بأن نبدأ بمسألة النسبوية، التي تعني عندي في هذا النص أن
التفاهم فيما بين الثقافات مستحيل، وفق النظرة القائلة إن جميع المعارف بحكم
طبيعتها رهن ثقافتها. وإذا أخذنا هذا الشكل من النسبوية إلى أقصى حد له فسنجد أنه
ينفي ذاته، وأكثر من هذا أنه يعني أن المرء يمكن أن يقف على جانبي تقسيمين من
المفترض ألا سبيل للعبور بينهما.
٢ وثمة حقيقة وثيقة الصلة بموضوعنا في النص الراهن، وهي أنه إذا كان
التواصل عبر الحدود الثقافية مستحيلًا إذن فإن أي محاولة للتواصل ستكون مستحيلة
بالتالي. وطبيعي أن الحجج التي تصدق على التواصل بين أوروبا والصين ستنطبق على قدم
المساواة وبقوة متكافئة أيضًا ليس فقط بين أوروبا الحديثة وأوروبا العصر الوسيط، بل
وأيضًا بين اثنين من البشر يحاولان التواصل فيما بينهما. وكما يقول الفيلسوف روبرت
ألينسون إن «مهمة عبور الحدود ليست شيئًا غير عادي بل هي شيء نفعله طول الوقت»
(١٩٣٩م، ٢). ويشدد غادامر بالمثل على أن التأويل ليس أداء بشريًّا خاصًّا بمناسبات،
أو هو إنجاز بطولي لاستخراج معنى لفهم ما غمض علينا، بل هو أمر جوهري على نحو مطلق
لوجودنا ذاته في العالم. وأكثر من هذا كما يؤكد بن-آمي شارفستين «إن جماع مناقشاتنا
سواء دفاعًا عن أمْ ضد إمكان عقد فلسفة مقارنة تتضاءل أمام تاريخ الفكر. ذلك لأن
الحقيقة هي أن الاتصالات التي تمت بالفعل وتأثيراتها إنما أفرزتها ثقافات ربما ساد
افتراض أنها متنافرة» (١٩٧٨م، ٣٥).
ومع هذا ربما نجد من لا يزال يدفع بأن التواصل مع ثقافات الشرق يمثل حالة خاصة،
وأن حوار «الشرق-الغرب» يطرح مشكلات لا تثار حين يكون الاتصال مع رئيس المرء في
العمل أو مع جار أو شريك له. ويمكن أن نتبين نظرة كهذه في كتابات غادامر نفسه التي
تفيد أن كل تفاهم مؤسس على جذور في التراث، وأن تلاحم الآفاق الذي هو لب التفاهم
التاريخي إنما ينبثق فقط من خلال تراث مشترك يكون واسطة بين الاثنين. وتأسيسًا على
هذا الرأي فإن الدمج المستهدف بين الماضي والحاضر ليس لنا أن نتصوره وكأنه فعالية
ذاتية للمرء بل باعتباره محاولة ليضع المرء نفسه داخل سيرورة ثقافة ما (١٩٧٥م،
٢٥٨). لكن، كما أشار البعض مرارًا، فإن فكرة غادامر عن «التراث» ومعنى «الانتماء»
إلى تراث ما عنده، هي أمور موضع تساؤل. مثال ذلك أن يورغن هابرماس اتهم غادامر
بتبني فكرة غير نقدية ومفرطة في بساطتها عن التراث، والتي من شأنها أن تعزز الجمود
العقائدي والتسلط. ويحضنا هالبفاس على تجاوز ما ذهب إليه غادامر، وذلك بالاعتراف
بالانفتاح التاريخي والتعالي الذاتي لجميع التقاليد التراثية وبوجه أخص
الأوروبية/الغربية (١٩٨٧م، ١٦٥)، لكن على الرغم من تسليم غادامر بأننا «لا يمكن
أبدًا أن نكون أسرى أفق مغلق حقًّا» (١٩٧٥م، ٢٧١)، فإن الشيء غير الواضح دائمًا في
كتاباته هو الدرجة التي أمكن عندها بشكل دائم وثابت التغلغل والتداخل على مدى
التاريخ بين الشعوب وأفكارها. وليس واضحًا كذلك حقيقة أن طرق التفكير الغربية عن
التراث الأصلي لا تخص فقط ثقافات الآخر دون سواه، بل موجودة أيضًا وبشكل متواتر في
داخلنا وبيننا، نحن أيضًا، حيث تبدو ثقافتنا نحن «غريبة وآخَرية الطابع»، أي
الانتماء بشدة وعمق إلى آخر (تيرنر ١٩٩٤م، ١٠٣). وأخيرًا فإن التراث الأوروبي ذاته
هو حصاد هرمنيوطيقي داخل آفاق شديدة التنوع والتباين وقد حدث بينها تشابك وتفاعل
متبادل بلغ درجة التلاحم إلى حد ما، وأنه يحتفظ إلى حد ما بالهويات المستقلة لكل
منها. واستطاع أن يلائم ويؤالف داخل ذاته جميع أنواع الثقافات مهما تباعدت أطرافها
مع مصادر تتراوح ما بين القدس وحتى أثينا، ومن الصوفية حتى المنطق، ومن المثالية
الميتافيزيقية حتى العلم الوضعي، ومن أبجدية الكلت إلى الهندسة الأوروبية. وهذا هو
ما عبر عنه ألينسون بقوله: «لم تكن الحدود الثقافية أبدًا نقية لم تفسدها الحضارات»
(١٩٨٩م، ٥).
٣
ونقرأ نقدًا مباشرًا أكثر لطريقة غادامر في استخدام فكرة التراث. وينبثق هذا
النقد من السرد التاريخي لتفاعلات الشرق-الغرب الذي عرضناه في القسمين الرئيسيين من
هذا الكتاب. وإن ما أرجو أن أكون حققته هو تقديم دحض مباشر لأي فكرة تفيد بأن الشرق
والغرب يؤلفان تقاليد تراثية لا علاقة بين بعضها والبعض الآخر، مع تأكيد وجود نوع
من «تلاحم الآفاق» قد تحقق على الرغم من كل ما طرأ عليه من نوبات اهتياج وتمزق
بدءًا من التطلعات التوسعية لكل من الإسكندر وأسوكا، حتى الحوار البوذي-المسيحي المعاصر.
٤ لذلك يتعين النظر إلى الاشتباك الهرمنيوطيقي بين الشعوب باعتباره ظاهرة
كونية لا يمكن حصرها اصطناعًا في تقاليد تراثية مغلقة دون بعضها، بل يجب أن نفهمها
وكأن لها حدودها الممتدة بقدر امتداد الخبرة الإنسانية واللغة ذاتها. ومن ثم، ووفق
هذه الطريقة في النظر إلى الأشياء: ليس من سبب يوجب قسرًا ألا نطبق مفاهيم وأطر
الفكر الهرمنيوطيقية عند غادامر على سياقات أوسع عبر ثقافية. ذلك لأنه، كما يوضح
هالبفاس، حتى إن كنا ننتمي إلى تراث أوروبي قابل للتحديد فإن هذا التراث ذاته تألف
من «دمج» آفاق ثقافية مختلفة — إغريقية ورومانية وعبرية … إلخ. وإنه لهذا السبب لا
حاجة إلى أن نعتبر ظواهر التفاهم وسوء التفاهم التي تحدث داخل تراثٍ ما ظواهرَ
مختلفة أساسًا عن تلك التي نلتقيها حين نحاول تناول التقاليد التراثية الأخرى
بالدراسة.
وكثيرًا ما يجري طرح المشكلات المتعلقة بفكرة التراث في ضوء اللغة. وهناك من دفع
أحيانًا بأن اللغات المختلفة تجسد صورًا مختلفة للفهم. وهذه الفرضية، التي من شأنها
أن تعزز أسباب قلقنا السابقة، تنزع إلى تقويض المحاولات التي هي من نوع التفاهم بين
الثقافات التي نحن معنيون بها هنا. وجاءت الصياغة الكلاسيكية لهذه النظرة على يدَي
عالم الأنثروبولوجيا بنيامين لي وورف (١٩٥٦م)، إذ أكد وورف أن اللغة تحدد الإدراك
والفكرة، واستبق برأيه هذا ما ذهب إليه عالم الدراسات الصينية الفرنسي مارسيل
غرانيت (١٩٣٤م) الذي يرى أن الفوارق الأساسية بين اللغة الصينية واللغات الأوروبية
تشي بفوارق أساسية في طرق التفكير. ورأينا آراء مماثلة تولدت عن التأملات الفلسفية
لمفكرين كبار من مثل فتغنشتين وتوماس كون. وصاغ كارل بوبر هذه النظرية في أقصى
صورها تطرفًا، إذ وصفها بأنها أسطورة الإطار التي تعني استحالة ليس فقط الترجمة من
لغة إلى أخرى بل حتى فهم رؤية أي إنسان آخر إلى العالم وهو يستخدم لغة أخرى. ونعود
لنقول إن هذا رأي ينفي ذاته بوضوح؛ ذلك لأن الفرض لا يمكن بناؤه أصلًا إلا على
مسلَّمة تقضي بأننا في وضع يسمح بأن نقارن بين الطرق التي تبني بها اللغات المختلفة
صورة العالم. بَيْد أن هذا الفرض في صيغته المعدلة يفيد في تذكيرنا بأن الفوارق
الفلسفية العميقة، بما في ذلك التباينات الأساسية في كيفية تصور وفهم الناس للطبيعة
وأفعال البشر والقيم، يمكن أن نلتقيها ونحن ننتقل من تراث لساني/ثقافي إلى آخر. ومن
ثم فإن الغرابة التي كثيرًا ما تبدو واضحة في نظر الأوروبيين عندما يلتقون أفكارًا
شرقية يمكن ألا تكون أمارة على اختلاف كلي وشامل، ولا حتى مرحلة على الطريق الذي
يقودنا إلى الفهم الكامل، بل هي على الأصح تعبير عن العملية التأويلية
(الهرمنيوطيقية) الصعبة التي تنتقل عبرها الآفاق الثقافية لثقافتين صوب نوع من
التآلف والملاءمة الأيديولوجية. ويمكن لهذه الاعتبارات أن تذكرنا بأن «تلاحم
الآفاق» الذي تحدثنا عنه حديثًا عابرًا، ينطوي بالفعل على طائفة من التعاملات
المتبادلة العسيرة والمحبطة في كثير من الأحيان. ومن ثم لا يكون حصادها بلوغ
النهاية، بل فقط مجرد إنجاز مرحلة على مدى درب ليس له نهاية نقف عندها.
٥ وقد يفيد أيضًا في تذكيرنا بأن مثل هذه الاكتشافات دخلت الآن ضمن
الخطاب الفلسفي الرئيسي كما يفيد بأن مسألة تفاهم الشرق-الغرب تنجذب أكثر فأكثر ضمن
الحوارات الإبيستمولوجية الراهنة.
٦
وواضح أن هذا النوع من النسبوية الذي تفيد به هذه التأملات له تأثيراته على فهمنا
للترجمة. ويمكن أن تحتل المشكلة بؤرة الاهتمام بالإشارة إلى فرضية عدم تحدد الترجمة
المقترنة باسم عالم المنطق الأمريكي دبليو في أو قواين، إذ إنه في قلب أي محاولة
للترجمة من لغة إلى أخرى تثوي حالة من عدم التحدد التي تتصف بأنها راديكالية ولا
مفر منها. وذلك لأننا لا نملك أي وجهة نظر خارج اللغة تكون أساسًا للحكم على
ملاءمتها وكفايتها. ويستثير هذا بوضوح عددًا من المسائل الملحة عندما نفكر في
التواصل بين الشرق والغرب، ذلك لأن هذا التواصل اعتمد طوال القرون الأربعة الماضية
على ترجمة النصوص الشرقية إلى لغات أوروبية. وأعود لأقول إن هذه الفرضية في أكثر
صورها صراحة ووضوحًا تكاد تنفي نفسها ذاتيًّا. لكن إذا طرحنا جانبًا الألغاز
الفلسفية فإنها تفيد في تذكيرنا من جديد بالحاجة إلى تطبيق الحكمة الهرمنيوطيقية عن
الانعكاسية الذاتية النقدية، عندما نعكف على الترجمة عبر تقسيمات ثقافية ولسانية
واسعة. والجدير ذكره أنه حتى في الأيام الأولى للبعثة التبشيرية الجيزويتية إلى
الصين دارت حوارات صعبة وقاسية في شأن الترجمة الملائمة لكلمة «الرب». ومنذ أوقات
أقرب عهدًا بنا الآن سببت مفاهيم من مثل «العقل» و«الرُّوح» و«الطاو» و«كارما»
مشكلات واضحة. ونجد في هذا الصدد عالم الدراسات البوذية هيربرت غوينتر في مناقشة
للتأويل الغربي لبوذية التانترا يحذرنا من أن اللغة بعامة «أداة خادعة»، وأننا
دائمًا عندما نترجم نصوصًا سنجد أنفسنا إزاء سؤال عما إذا كان كُتَّاب النصوص
الأصلية كانوا يعنون بالفعل ما نقوله نحن نفسه بهذه الكلمات التي تبدو معانيها لنا
نحن غير واضحة تمامًا (غوينتر، ١٩٨٩م، ٣٧، ٣٨). ونجد مثالًا معتدلًا لمثل هذه
المشكلات في الطبعة الجديدة من «كتاب التبت عن التحرر العظيم» حيث يعلق المترجم جون
رينولدز ساخرًا من أن الإصدارات الأولى ترجمة إيفانز-وينتز معيبة إلى درجة أن يونغ
الذي كتب «تعليقه النفسي» على هذه الطبعة «لم يجد طريقة ليعرف ما هو بالضبط الذي
يتحدث عنه النص التِّبِتي» (١٩٨٩م، ١٠٨).
وليس لنا أن ندهش، بالنظر إلى هذه المشكلات، لوجود تباينات واسعة بين ترجمات
المتون الشرقية الكلاسيكية. ونجد مثالًا واضحًا على ذلك في كتاب «طاو تي شنغ»، الذي
خضع لترجمات عدة، ومن ثم إلى تأويلات متباينة مثيرة للحيرة. وإن جزءًا من المشكلة
هنا أن الترجمات ليست محايدة أيديولوجيًّا بل صاغتها خلفية المترجم ونظرته العامة.
مثال ذلك أن ترجمات لأعمال هندوسية وبوذية ترجمها غالبًا في القرن التاسع عشر
مترجمون نشَئوا في كنف خلفية للكانطية الجديدة المثالية أو لفقه الإلهيات المسيحي،
ومن ثم تشكل عملهم، لا شعوريًّا في الغالب، وفقًا لخلفية كل مترجم. ولعل خير مثال
على الخلفية الأولى ماكس موللر الذي ترجم إلى الإنجليزية كتاب كانط «نقد العقل
الخالص» قبل الشروع في ترجمة نصوص سنسكريتية، ونلحظ أن ترجمة المتون الشرقية في
مطلع القرن العشرين تأثرت أحيانًا، كما هي الحال في ترجمات إيفانز-وينتز،
بالمعتقدات الثيوصوفية للمترجم، كما تأثرت ترجمة جيمس ليغ وريتشارد ويلهلم لكتاب
«الآي شنغ» بخلفياتهم التبشيرية المسيحية. وثمة مشكلة أخرى هي أن الكثير من النصوص
الواردة هنا إن لم تكن مثيرة للحيرة فإنها غالبًا ما تثير الشك وتقوض عن عمد
الوظائف التقليدية للغة، ونراها صيغت في صياغات لغوية — يمكن أن نسميها صياغات
شعرية — غالبًا ما تسخر من مناهجنا المعيارية للترجمة والتأويل.
٧
وإذا حدث أن أغرتنا اعتبارات كهذه بالعودة إلى موقف أكثر مغالاة في الشك فإننا
نكون حينئذ في حاجة إلى أن نعود لنذكر أنفسنا بأن عمل المترجم ما هو إلا صيغة أكثر
قبولًا من حيث الشكل المعتمد للبنية الهرمنيوطيقية الكلية للتواصل البشري. وكما
أكدنا في السابق فإن الناس تجتاز الحدود المفاهيمية والثقافية واللسانية ليس فقط
عندما يصوغون نصًّا أجنبيًّا بلغة خاصة بهم، بل أيضًا كلما قرءوا كتابًا أو استمعوا
إلى محاضرة أو شاركوا في مناقشة من أبسط المناقشات وأكثرها ابتذالًا؛ وذلك لأن كل
عمل تواصلي يتضمن قدرًا من فك غموض الشفرة مع التأويل، لذلك فإن المترجم حتى إن لم
يفارقه إدراكه المؤرق بوجود مسافة تفصله ثقافيًّا وتاريخيًّا عن النص الأصلي فإنه،
كما يقول غادامر «يبذل بعض الجهد لفهم الآخر أثناء المحادثة، ومن ثم فإن كل مترجم
شارك فيما نعتبره «حالة مفرطة من الصعوبة الهرمنيوطيقية»، أي من الاغتراب والتغلب
عليه» (١٩٧٥م، ٣٤٨، ٣٤٩). ونلحظ أن المشكلات الفلسفية الأساسية تكاد تكون واحدة على
مدى نطاق التواصل بكل أطيافه، وهو ما يعني أن ما تقضي به حجة قواين عن الترجمة يمكن
تطبيقه بالتساوي داخل الثقافات والتقاليد التراثية وكذا وبالقدر نفسه فيما بينها.
٨
إسقاط الرؤى الذاتية عبر الحدود
ونحن، حتى إذا افترضنا النجاح في إنقاذ الخطاب الاستشراقي من بين فكي النسبوية،
سنظل في حاجة إلى التصدي للاعتراض المشترك الذي يقضي بأن المترجمين الغربيين كانوا
عمليًّا دون مستوى الكفاءة اللازمة في محاولاتهم لاجتياز الحدود الثقافية، وأخفقوا
دائمًا في الاعتراف بالحاجة إلى وضع نماذج الفكر الشرقي في سياقاتها الأصلية وإلى
أن نفهمها في ضوء شروطها الخاصة. ويمكن القول في عبارة واحدة وفق هذا النوع من
الاتهام إنهم لاءموا الأفكار الشرقية بأن أسقطوا عليها المقولات والمسلَّمات
والاهتمامات الغربية، وأن الغرب أصبح بشكل عام «نوعًا من الحيوانات القارضة التي
تقتات على كل شيء، وتلتهم جميع الثقافات الأخرى» (رورتي، ۱۹۹۲م، ٥٨٨). والجدير ذكره
أن إدوارد سعيد في أواخر السبعينيات عبر بوضوح عن هموم من هذا النوع، كما عبر عنها
في الوقت نفسه هارفي كوكس الذي دفع بأن الشرق لم يعد أكثر من «أسطورة تثوي في رءوس
الغربيين، وشاشة ملائمة يُسقط عليها الغرب صورًا معكوسة لمظاهر النقص عنده» (١٩٧٧م،
١٤٩). وأصبح مألوفًا في السنوات الأخيرة أن نتحدث عن «الشرق» باعتباره خلقًا أو
افتراضًا ذهنيًّا غربيًّا وكأنه مؤلف من خطاب غربي وليس حقيقة قائمة وموجودة
مستقلة. وتصبح اللغة ذاتها، حسب هذه النظرة، أداة لاشعورية لإسقاط المسلَّمات
والقيم الغربية. وتنبثق هنا مسائل خطيرة على سبيل المثال نتيجة استخدام مصطلحات
تصنيفية مثل «الشرق» و«الدين» و«الهندوسية» المستخدمة في الغالب من دون تأمل كافٍ
لحقيقة أن مثل هذه المصطلحات نابعة من نمط خاص للتفكير الغربي. ويمكن القول للسبب
نفسه أن جهود نقل التعاليم البوذية إلى الأطر المفاهيمية للعلاج النفسي الغربي،
وللطاوية في أطر الإيكولوجيا الحديثة، وكذلك نقل أطر فلسفة مادهياماكا
٩⋆ في
ضوء الفلسفة اللسانية من شأنه ألا يفضي إلى تجسير بل إلى اتساع للهوة التي تفصل بين
الشرق والغرب. ونجد عند مستوى أدق الاستراتيجيات الانتقائية غير المفصح عنها إلى حد
كبير، والتي أدت، تأسيسًا على نموذج التقاليد الإنسانية والمسيحية الغربية، إلى
إضفاء امتياز وطابع كنسي معتمد على طائفة من المتون الآسيوية «الكلاسيكية»، وتهميش
الممارسات «الخرافية» و«الفاسدة» من مثل القول بتعدد الآلهة وتقديس «الأوثان» وكذا
الأساطير الشعبية والرؤى «الكوزمولوجية» الخاصة بأصل ونواميس الكون.
١٠ صفوة القول إن طرق تفكير كاملة من المصادر غير الأوروبية جرت إعادة
بنائها وصياغتها بدرجة أو بأخرى داخل ماكينة أنماط التصور الغربي. وعبر عن هذا
النهج بطريقة نقدية صريحة أحد النقاد إذ قال: «أصبح لزامًا عرض الفكر الآسيوي في
صورة وضعية وقتما تكون الوضعية هي موضة العصر، أو في صورة وجودية لأولئك الذين
يكبرون الوجودية، أو في صورة علمية اليوم إذا كانت هذه تنطوي على أي شيء ذي قيمة»
(جونز، ١٩٨٦م، ١٧٢).
وسيتطور هذا النوع من الاعتراض ليصبح ادعاء بأن الاستشراق أخفق في أن يرقى إلى
مستوى المثل العليا الهرمنيوطيقية الرفيعة التي حددها غادامر الذي يشدد بنبرة تفاؤل
على أن «المرء إذ يحاول فهم نصٍّ ما يكون مهيأً له ليقول له شيئًا ما». وأضاف أن
الشيء المهم أن «يحذر المرء انحيازه هو، حتى يكشف النص عن نفسه بكل جدته وبذا يكون
بالإمكان إثبات صدقه مقابل المعاني المسبقة التي لدى المرء» (١٩٧٥م، ٢٣٨). ترى هل
ثمة أي بينة على أن المستشرقين كانوا مهيأين لأن يدَعُوا النصوص المستمدة من التراث
الديني والفلسفي الشرقي تتحدث عن نفسها وبنفسها إليهم؟ وسبق أن رأينا المرة تلو
الأخرى في الجزء الأول من هذا الكتاب أن الباحثين والفلاسفة وعلماء الإلهيات وعلماء
النفس الغربيين لم يهلهلوا فقط النصوص الشرقية بأن أخرجوها من سياقاتها الدينية
والثقافية، بل عمَدوا أيضًا إلى إعادة وضعها وملاءمتها داخل أطر الخطاب الغربي.
وأدى هذا حتمًا إلى تبسيطها على نحو مخل وتشويهها.
١١ ويقول إريك شارب معلقًا: «التراث الغربي لتأويل هرمنيوطيقا بهاغافاد
غيتا كان يُعْوزه تمامًا الاهتمام بتقدير العالم الهندوسي نفسه لفلسفته هو غيتا»
(١٩٨٥م، ٨). ونقرأ أيضًا غاي إيتون في اتهامه إذ يقول: «اختلس هكسلي (في كتاب
الفلسفة الدائمة) توافه من مذاهب مختلفة من دون اعتبار لسياقها، وهي العناصر التي
رأى أنها تدعم موقفه من الحياة» (١٩٤٩م، ١٨٢). ويوجز ما عرضناه الآن ما قد يبدو
لكثيرين عيبًا شائعًا شاب الاستشراق.
وتبدو مجموعة الأعراض هذه واضحة حتى حين تبدو الحوافز الواعية لدى العناصر صاحبة
الشأن من أسمى الحوافز. وها هو سي إيه مور ومشروعه ﻟ «التوفيق» بين الفكرين الشرقي
والغربي أو بين أديان الشرق والغرب داخل جميعة أوسع نطاقًا وأكثر شمولًا. نلحظ أن
دافعه إلى مشروعه ليس سوى رغبة منه في إنقاذ العالم من كارثة سياسية ورُوحية. ولكن
نجد من يؤكد أنه في سعيه الحثيث وصولًا إلى هذا الهدف القيم أخفق هو وشركاؤه من
أصحاب النظرة العالمية في تأمل الجهد الذي يحمل الخصائص الأوروبية لتأليف وإبداع
المشروع، خاصة مصدره الماثل في التفكير التنويري. وقد نجد من يمضي إلى أبعد من ذلك
ويتفق مع ليروي رونر في أن نشأة الميل إلى النظرة الكونية إنما «جاءت يسيرة لدى
أولئك الذين لديهم بنية ذهنية صاغتها سياسة النزعة الاستعمارية الغربية»، وأن مثل
هذا التفكير الذي هو أبعد ما يكون عن العالمية الأصيلة، إنما يمثل الرؤى القبلية
«للذكر الغربي الأبيض المهيمن» (من ماركس وأميس، ١٩٩٥م، ٩١). وأكثر من هذا أننا نجد
الدليل على توافر الرغبة في توجيه ومعالجة الأفكار الأجنبية لخدمة أغراض صيغت
محليًّا، وذلك في حالة «الدين المقارن» و«الفلسفة المقارنة» التي تبدو في ظاهرها
أكثر حيادية وانفتاحًا من مشروع مور ورفاقه في هاواي. ويبدي رايموندو بانيكار، على
سبيل المثال، قلقه لأن «الدراسات المقارنة لا تزال رائجة اليوم لأنها تنتمي إلى
الاندفاع في اتجاه إضفاء صبغة عالمية وهي الخاصية المميزة للثقافة الغربية». ونقرأ
اعتراضات مماثلة أثيرت ضد الذين عمَدوا بحسن نية كاملة إلى إعادة صياغة التعاليم
الآسيوية ضمن أنماط تبشيرية غير آسيوية على نحو ما نرى في كتاب بول كاروس بعنوان
«إنجيل بوذا» (الذي صدر لأول مرة عام ١٨٩٤م)، وكذلك في كتاب دافيد غودارد «الكتاب
المقدس البوذي» (صدرت أول طبعة له عام ١٩٣٦م).
١٢
وأكثر من هذا أنه حتى الدراسات الأكاديمية التي يغلب عليها الطابع العلمي أكثر لم
تُفلت من هذا النوع من النقد. إن تطوير مناهج بحث أكثر دقة وتنظيمًا في القرنين
التاسع عشر والعشرين ساعد يقينًا على نزع المصداقية العلمية عن بعض التشوهات
والتخييلات الصارخة، وزودنا بأدوات متقدمة للترجمة والتأويل، لكن على الرغم من هذا
كان حتمًا على الباحثين أن يسقطوا اهتماماتهم وانحيازاتهم الشخصية وكذا اهتمامات
وانحيازات الثقافات التي نشئوا فيها على موضوعات بحوثهم. ويؤكد عالم الدراسات
الصينية برنارد فور أنه على الرغم من الانتقادات الموجهة إلى الاستشراق، وعلى الرغم
من محاولات الباحثين التحرر من المواقف والانحيازات التي سادت في السابق إلا إننا
«نخطئ إذا اعتقدنا أن شيئًا كثيرًا قد تغير. إذ نجد في جميع الأحوال أن الآخر
شرقيًّا كان أم بدائيًّا صيغ في صورة كاريكاتيرية أو مثالية، ونجد تماثل المقدمات
الاستشراقية والمحورية العرقية الخاصة بالخطاب الغربي» (١٩٩٣م، ٦). وإذا عدنا
بأنظارنا إلى الماضي وقت الخلافات التي شهدتها أوروبا في القرن التاسع عشر في شأن
فكرة «نيرفانا» يوضح غاي ويلبون، في اتساق مع النهج السابق نفسه، أن الباحثين
«صاغوا تأويلاتهم بحيث تتوافق إلى درجة كبيرة مع انحيازاتهم الأيديولوجية، ومن ثم
لا بد من أن نراها وكأنها في النهاية لا ترتكز فقط على اعتبارات فلسفية ونقدية
تاريخية، بل أنها وفي كل مثال منها تعكس الالتزام الشخصي للباحث كفرد» (١٩٦٨م،
المقدمة). وهكذا على سبيل المثال كانت حال هيرمان أولدنبرغ، أحد العلماء الرواد
المختصين في الدراسات الهندية وقتذاك، إذ كان الشك في الميتافيزيقا وفقًا للكانطية
الجديدة هو الحافز له في القسط الأكبر من أبحاثه. وكذلك الحكم الذي قضى به المستشرق
الفرنسي بارتيليمي سانت هلير «دعمه بالتزامه العميق وواسع الاطلاع» إزاء مبادئ
دينية وفلسفة بعينها (المرجع نفسه، ٢٠٨ و٧٦). ونجد على مستوًى يندرج أكثر في
السياسة مثالًا لما سُمي الدعم «العلمي» الذي قدمه علماء الدراسات الهندية الألمان
لقضية النازي. وهذه مسألة استثنائية غريبة سوف نعود إليها ثانية في هذا الفصل.
١٣
وهنا تكون آراء غادامر وثيقة الصلة بموضوعنا، إذ يرى أن نزوع الإنسان إلى إسقاط
رؤاه على عملية الفهم عنصر جوهري في العملية الهرمنيوطيقية: «إن المرء إذ يحاول فهم
نص ما إنما يقوم دائمًا بعملية إسقاط» (١٩٧٥م، ٢٣٦). بَيْد أن كل تأويل يشتمل ضمنًا
على عملية تجري من خلالها دراسة النص وتفحصه، فالجملة نستمع إليها، والعمل الفني
نتفحصه مليًّا ويستوعب المؤوِّل أيًّا منهما ضمن أفقه المفاهيمي ويصوغ ما استوعبه
تأسيسًا على الاهتمامات والإلزامات الجارية. وتحدث عملية تفاعل فيما بين السياقين
حيث تنعكس الكتابات الأجنبية وتصاغ ثانية من داخل الآفاق السياقية المحلية. ويعبر
عن هذا عالم الدراسات الصينية إيه سي غراهام، إذ يقول: «نحن مثل الصينيين يشغلنا
فكر الآخر ونشتبك معه فقط عندما نربطه بمشكلاتنا نحن» (١٩٨٩م، المقدمة). وتتضمن
العملية الهرمنيوطيقية زيادة على ذلك قدرًا من التبادلية وتبدأ بالضرورة بالمقولات
الخاصة بالمرء نفسه، لكنها على الرغم من ذلك تفضي — على الأرجح — إلى ترجمتها في
أثناء عملية التلاقي: «يبدأ التأويل بمفاهيم مسبقة لتحل محلها مفاهيم أكثر ملاءمة»
(المرجع نفسه، ٢٣٦). وليس هذا جزءًا عرَضيًّا أو عابرًا من عملية التأويل، بل إنه
جوهر طبيعتها، إذ من المستحيل منطقيًّا على المؤوِّل الملتزم نهجًا هرمنيوطيقيًّا
أن يعكف على مثل هذا الموضوع النصي من دون هذا الفرض المسبق، أو أن يتخيل أن معنى
النص يمكن أن يكون «ماثلًا» للمؤول دون تدخل أي عامل وسيط. فضلًا على هذا ليس ثمة
ما نسميه «جوهر» أي معني ماثلًا في مكان ما داخل وعاء محكم الغلق من لغات وثقافات
أجنبية. إن المعنى — وفق ما يقول غادامر — هو دائمًا نتاج عملية تفاعلية تجري بين
قطبين أو أكثر قد يكونان قريبين جدًّا أحدهما من الآخر أحيانًا أو متباعدين أحيانًا
أخرى. وإن التوتر الحادث بين هذه الأقطاب هو — تحديدًا — الذي يجعل الفهم ممكنًا.
«أن نؤوِّل يعني — تحديدًا — أن نستخدم مفاهيمنا نحن المسبقة، بحيث نستطيع أن نجعل
معنى النص يُفصح عن نفسه حقيقة لنا». وهذه عمليةٌ رأى غادامر أنها تطبيق نموذجي
وفقًا لنموذج بنية المحادثة على أساس السؤال والجواب وليس نموذج الاستبصار الحدسي
أو التلقي السلبي (المرجع نفسه، ٣٥٨).
١٤
ونجد للمرة الثانية في المواقف من البوذية مثالًا مفيدًا لهذه العملية التأويلية
الدينامية. ونعرف أنه في القرن التاسع عشر ساد إطاران رئيسيان للتأويل: أحدهما يرى
البوذية في صورة شديدة التشاؤم، بينما الثاني يراها في صورة عقلانية علمية. وثارت
شكوك وتساؤلات في القرن العشرين في شأن هذين المنظورين وأُبدلت بهما تأويلات أكثر
تفاؤلًا وإيجابية، وتؤكد على الخصائص الرُّوحية دون العقلية للبوذية. وحدث خلال هذه
الفترة ذاتها، كما لاحظنا قبلًا، تحول من التقليد التأويلي الذي تغلب عليه الرؤية
الكانطية فيما يتعلق بتأويل الفلسفة الهندية، إلى تقليد يستلهم الفلسفة اللغوية.
وواضح أن هذا التحول وثيق الصلة بالتغير الراديكالي الذي حدث في الأسلوب الفلسفي
الغربي وأصبحت له السيادة خلال هذا القرن.
١٥ لكن من العسير في الوقت نفسه الدفع بأننا، بالمقارنة بالقرن التاسع
عشر، قد بلغنا الآن مستوى التأويل «الصحيح». وها هو توماس ميرتون يشكو من «الغواية
التي لا تقاوَم من أجل التفكير في بوذية زِن في ضوء الأفلاطونية المحدثة أو
باعتبارها مذهبًا للنزعة الواحدية الحلولية» (١٩٦١م، ١٤). وواضح أن هذه شكوى غير
مفهومة فعلًا، وإن كان هذا لا يعني أن علينا أن نحاول فهم زِن دون الاستعانة بأي
مفاهيم غربية أيًّا كانت — بما في ذلك المفاهيم التي يذكرها. وحقيقة الأمر أن أحد
التطورات التي شهدتها هذه الفترة هي زيادة الوعي المنهجي في البحث، وزيادة درجة
الحساسية الهرمنيوطيقية التي لم تشجعنا فقط على تأمل الأسئلة والمسلَّمات الموجودة
ضمنًا في جهودنا الهرمنيوطيقية، بل دفعتنا أيضًا إلى تأمل حقيقة أن تأويلاتنا نحن
الراهنة ليس لها أن تدعي أنها بلغت الغاية والنهاية ولا أنها الصواب والقول الفصل.
علاوة على هذا لنا أن نستنتج من هذا المثال أن الترجمات القاصرة للبوذية التي تمت
في الماضي ليست مجرد أخطاء كان من المستحسن تجنبها، بل كانت دورات ضرورية ومبشرة
للعجلة الهرمنيوطيقية.
العنصرية
هل لنا بعد كل هذا أن نواصل الحديث عن «حوار» بين الشرق والغرب بهذه الشروط
الهرمنيوطيقية من دون التصدي ببسالة للآثار الاجتماعية والسياسية لهذا العالم الخاص
من الخطاب؟ يرى بعض النقاد أن شعار غادامر الذي يحمل اسم هرمنيوطيقا يتضمن نظرية
استسلامية للتاريخ. ويتهمه جي كابوتو بأنه يصوغ نظرية عن التراث تبدو «خالية من عين
نيتشه المرتابة، ولا تتصدى ببسالة لقدرتها على القمع» (١٩٨٧م، ١١٢). والحقيقة أن
خطة العمل الاستشراقية المرتكزة على المحورية الأوروبية والتي عرضناها بشكل توثيقي
في الأجزاء الوسطى من هذا الكتاب تُلزمنا بأن ننظر إلى الاستشراق «بعيني نيتشه
المرتابتين» وأن نهيئ إمكانًا لأن تكون هذه الأنشطة التي تبدو حميدة قد ساعدت على
صوغ ورواج مظانِّ الوهَن الثقافي. ونجد من بين أوضح وأبغض مظاهر العنف هذه المواقف
العنصرية ومعاداة السامية، وأفكار وحركات فاشية وثيقة الصلة. نعم، كانت المواقف
العنصرية يقينًا قَسَمة شائعة يتسم بها ارتباط الغرب التاريخي بالشرق. وقد يكون من
المبالغة أن نقول: «إن كل أوروبي كان في كل ما يقوله عن الشرق … عنصريًّا
وإمبرياليًّا، بل ويلتزم موقفًا ينبني على المحورية العرقية بشكل كامل» (إدوارد
سعيد، ١٩٨٥م، ٢٠٤). ولكن في منتصف وأواخر القرن التاسع عشر تنامت ثقافة عنصرية في
أوروبا موجهة، من بين وجهات أخرى، إلى الصين والهند قرين مد صاعد لمعاداة السامية
الذي كانت له نتائج كارثية خلال القرن التالي، وأقحم كل مسألة أوروبا ومن تسميه
«الآخر» في حوار غاضب مثير.
١٦ ولكن كيف ترتبط هذه المرحلة الأليمة من التاريخ بالاستشراق؟ يقينًا إن
جماع سيرة الاستشراق — بالمعنى الذي استخدمناه في هذا الكتاب للمصطلح — كانت أساسًا
سيرة تتصف بالإرادة الحسنة تجاه ثقافات وحضارات الشرق، وعلى خلاف مع الأوضاع
والنزعات الوطنية المفرطة والإمبريالية والعنصرية. فهل لنا إذن ومن دون جلبة أن
نطرح مثل هذه الأسئلة باعتبارها غير ذات صلة بأغراضنا الراهنة؟
تبدو هذه الإجابة الخاطفة في ظاهرها إجابة مبررة، ذلك لأن المستشرقين منذ فترة
التنوير فصاعدًا عملوا من نواحٍ كثيرة على تشجيع المواقف الداعية إلى التفاهم
والتسامح فيما بين الثقافات، وإلى تمجيد المتون المقدسة القديمة وديانات الشرق.
وكثيرًا ما حدث هذا في تعارض مع سلوك القمع والغطرسة من جانب القوى الاستعمارية.
بَيْد أننا حتى وإن طرحنا جانبًا المواقف السلوكية المتعالية التي استمرت في
الكتابات الاستشراقية الشعبية نجد جانبًا آخر مهمًّا للقصة. أولًا أشار بعض النقاد
إلى أن هذه الرؤية التي تضع المتون القديمة في مرتبة مثالية جدًّا أبعد ما تكون عن
خلق رابطة من التكافؤ والمساواة مع شعوب الشرق، أفضت إلى نتيجة تمثلت في الحط من
قدر أبناء الثقافات الشرقية المعاصرة واختلاق مبرر لاستغلالهم التجاري والسياسي عن
طريق عرضهم في صورة من هم أدنى مستوى من الأوروبيين المحدثين.
١٧ زد على هذا أنه سواء صح أم لم يصح وصف خلق هذه المواقف على نحو مقبول
عقلًا بأنها مواقف عنصرية فاعلة أو صريحة، فإن الشيء الذي لا اختلاف عليه هو أن
الاستشراق صاغ أحيانًا في الممارسة روابط مع النزعة العنصرية. كذلك فإن الطريقة
التي أثر بها الاستشراق في الشرق، في سجالات غربية محددة، أدت أحيانًا إلى استغلاله
لأغراض تمييزية عنصرية. إن أهم نقطة اتصال في القرن التاسع عشر حدثت وقتما كانت
النزعة العنصرية الوليدة آنذاك في صورة خطاب فكري واضح محدد يمكن النظر إليها
باعتبار أنها أسست روابط وثيقة مع عدد من تجليات الاستشراق. لقد كانت لكليهما جذور
في الحركة الرومانسية، كما يمكن تحديد بذور معاداة السامية في كتابات المستشرقين
الرومانسيين من أمثال هيردر وشليغل وشوبنهاور. وسبق أن رأينا كيف استثمر فريدريتش
شليغل أفكارًا كان أول من ألمح إليها وليام جونز. وقدم شليغل إسهامًا مهمًّا لصياغة
مفهوم الجنس الآري مع الفصل التام بين عائلة اللغات الهندو-أوروبية وبين العائلات
اللغوية الأخرى. وقرن هذا التمييز بتمييز عنصري. ونعرف أن شوبنهاور كانت له صلة
وثيقة بالفلسفات الهندية لا تقل عن صلة شليغل بها، ومتهم تحديدًا بتطوير مواقف
ممالئة للعنصرية ومعادية للسامية. بَيْد أننا دفعنا في السابق بأن أيًّا من هذين
المفكرَين لا يمكن اتهامه جازمِين بالعنصرية أو معاداة السامية. إن شليغل لم يبذل
أي محاولة صريحة للحط من قدر الجنس اليهودي عن طريق مقارنته بالجنس الهندو-أوروبي.
ولم يكن الشعب اليهودي عند شوبنهاور موضوع عدائه، بل المذاهب اليهودية الخاصة
بالإلهيات التي قارن بينها وبين تعاليم البوذية مقارنة ليست لمصلحتها.
١٨ لكن إذا كان الربط بين الاستشراق منذ بداية فترة التنوير فصاعدًا، وبين
النقد المتطرف للتراث الديني اليهودي وعلاقته بالحضارة الغربية لا يعني ضمنًا وجود
أي رابطة بين الاستشراق ومعاداة السامية، إلا إن بالإمكان القول إنه، في إطار ظروف
تاريخية، هيأ الإمكان لتمهيد الطريق للربط بين الاثنين.
الجدير ذكره أن هذه الوقفة القصيرة بين الرسالة المنطقية والعملية نراها واضحة في
حالة المستشرق ماكس موللر الذي كان أول من صاغ نظرية كاملة عن عائلة اللغات الآرية
في محاضرات له ألقاها في أكسفورد فيما بين عامي ١٨٥٩ و١٩٦١م، بدا في هذه المحاضرات
حريصًا على إنكار أي دلالات عنصرية، مؤكدًا أن صفة آري في اللغة العلمية غير قابلة
للتطبيق على السلالة، ونحن إذا ما تحدثنا أصلًا عن سلالة آرية فيجب أن نعرف أن هذا
لا يعني أكثر من اللغة الآرية (الاقتباس من شودوري، ١٩٧٤م، ٣١٤)، لكن مع هذا لا
نستطيع أن ننكر أن أفكاره في موازاة عرضه للعوامل اليهودية والعوامل الهندية
باعتبارهما طرفين متقابلين في الإرث الأوروبي ساعد على صوغ إطار مفاهيمي ثبت أنه
حاسم فيما حدث بعد ذلك من صوغ خطاب عنصري ومعاد للسامية في صراحة ووضوح. ويرى عالم
الدراسات الهندية شيلدون بولوك أن المطابقة بين الشعب الألماني والشعوب
الهندو-أوروبية لعبت دورًا مهمًّا في بحث ألمانيا الرومانسي عن تعريف لذاتها، وأدى
إلى الفصل بين السلالات الهندوجرمانية والسلالات السامية، وكذا إلى تأكيد تفوق
العنصر الآري. ويشير بولوك إلى هذه العملية باعتبارها «استعمارًا داخليًّا لأوروبا»
والتي يرى فيها الاستشراق وقد اتجه «إلى داخل أوروبا ذاتها وليس إلى الخارج، حيث
مستعمرات أوروبا، كما اتجه إلى صوغ مفهوم جوهر ألماني تاريخي مع تحديد موقع ألمانيا
في تحديد مصير أوروبا». ويقتبس هنا حديث هوستون ستيوارت شامبرلين الممالئ للفاشية،
والذي قال فيه: «إن علم الدراسات الهندية يجب أن يساعدنا على تثبيت استبصاراتنا
بوضوح أكثر على أهداف ثقافتنا. إن مهمة إنسانية عظمى ملقاة على عاتقنا وعلينا
إنجازها. وهذا هو ما ندعو الهند الآرية إليه» (بريكنريدج وفان دير فير، ١٩٩٣م، ٨٣،
٨٦).
وظهر عدد من الدعاة للمبادئ العنصرية في القرن التاسع عشر عززوًا تصور وجود علاقة
تكاملية بين الاستشراق والنزعة العنصرية. ونذكر من بين هؤلاء رينان ولوبون، وكذا
العديد من الشخصيات الأخرى الذين شاركوا في صوغ المواقف العنصرية من مثل بوب
وبويتيشر-ليغارد، وأيضًا بطبيعة الحال فاغنر، والجميع مرتبطون بالاستشراق. وأَفصحَ
بوضوح كامل الدبلوماسي والمؤرخ الفرنسي جيه إيه غوبينو (١٨١٦–١٨٨٢م) في كتاباته عن
المبادئ العنصرية والمعادية للسامية. ويتميز غوبينو باطلاعه الواسع على اللغات
الشرقية، واستعان كثيرًا بالمراجع الاستشراقية من أجل صوغ آرائه العنصرية. وحذا في
كتاباته حذو كل من فولتير وشوبنهاور للتأكيد على دَين أوروبا الثقافي للشرق. وصاغ،
تأسيسًا على فكر هيردر وشليغل، بل وتجاوزهما، فكرته عن الجنس الآري المتفوق وهي
الفكرة التي انبثقت منها عبارة الشعوب الهندية والجرمانية. وعمَد إلى تمجيد الآريين
البيض في الهند، ورأى في نظام الطوائف وسيلة للحفاظ على نقاء العنصر، وهو الضامن
لبقاء الهند بعد التحرر من السيطرة البريطانية. لكنه في الوقت نفسه أعلن أن
«السلالات السوداء»، بما في ذلك سلالات الهند القديمة قبل الآري، أدنى مستوى من
الجنس الأوروبي. وأكد تفوق الجنس الآري الأبيض الذي غزا شبه القارة الهندية على
سكانها الأصليين، لكنه رأى في الوقت نفسه أن الشعوب الهندية شعوب منحطة في حقيقتها،
ومن ثم أدنى مستوى، وخليط من سكان آريين وأصليين. وأعرب فضلًا على ذلك عن آراء
تنطوي على الازدراء، هي نموذج لما كان سائدًا يومذاك فيما يتعلق بالشعب الصيني
«ضعيف القوة البدنية والميال إلى البلادة … والضعة … ولديه فهم كاف وساذج لما هو
ليس بالرفيع ولا بالعميق جدًّا» (الاقتباس من برنال، ١٩٨٧م، ٢٤٠).
وأيًّا كان الأمر، علينا أن نتذكر أن الاعتقاد بعدم المساواة بين السلالات
باعتباره — كما قيل — حقيقة «علمية» كان رائجًا وسط مثقفي هذه الفترة. وأكثر من هذا
أن النزعة العنصرية ومعاداة السامية في القرن التاسع عشر كانتا مسألة هجين وشديدة
التعقيد وبمنزلة «أيديولوجيا إزالة» كما كان يسميها المؤرخ جورج موس. ذلك لأنها
اشتملت على أفكار متباينة، حتى إنها تضمنت أفكارًا مثل الاشتراكية القديمة
والمسيحية التقليدية اللتين بدتا في ظاهرهما متنافرتين معها» (١٩٨١م، المقدمة).
ولعل من أهم هذه «الأفكار الخليط» الفكر الشعبي، وهو مزيج من نظريات مقتبسة من
هيردر والرومانسيين والتي تؤكد الهوية العرقية والثقافية المشتركة بين الشعوب
الجرمانية، وكذا أفكار وثيقة الصلة عن «الأرض والدم». واقترنت آراء معادية للسامية
أيضًا بأزمة العقيدة المسيحية والاعتقاد المصاحب لها بأن اليهود شعب غير رُوحاني
وينظر إليهم الناس باعتبارهم مستسلمين للنظرة المادية السائدة في العصر. وارتبط
اليهود أيضًا برد الفعل ضد التصنيع والتحديث اللذين اقترنا بتحرير وعلمنة الشعب
اليهودي في أوروبا الغربية. وإذا لم يغب عن ذهننا أن الاستشراق أيضًا بدا عند
كثيرين رد فعل ضد كل من المسيحية وبعض الاتجاهات العقلانية الطامحة إلى الهيمنة،
فلن يبدو غريبًا أن نجد أرضًا مشتركة بينها وبين النزعة العنصرية. وواضح أن
الاستشراق في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين وقع أحيانًا أسير الخطاب
العنصري الوليد، ومن ثم كان أداة دعم له. ونشأت شبكة فريدة من نقاط الالتقاء
الأيديولوجية كانت بمنزلة قَسَمة مميزة للفكر الأوروبي آنذاك، وتضمنت من بين مسائل
أخرى السلالة وتحسين النسل والقومية والنزعة الطبيعية والتطورية والإيمان بالقوى
الخارقة والقدرة على إخضاعها، وتستجيب جميعها لحالة «الحمى المتقدة» التي استبدت
بأوروبا. وتداخلت عناصر هذه الشبكة وتعقدت معًا بحيث تبدو لنا الآن، إذا ما رجعنا
بأنظارنا إلى الماضي، أشبه بسلسلة من التداعيات غير المحتملة والعارضة. ولهذا نخطئ
إذا ما عزونا إلى الاستشراق صبغة عنصرية «جوهرية» فيه تأسيسًا على دراسة أوروبا في
القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. ونحن بعيدًا عن هذا الخليط المعقد المؤلف من
الكثير من الاتجاهات الثقافية والفكرية المتباينة لنا أن نتذكر بالمثل حقيقة
التفاعل ما بين لغات وتاريخ وأديان الهند وأوروبا. ونجد صورة تخطيطية لهذا رسمها
سلسلة من المستشرقين ابتداء من جونز وشليغل ومن كوينيت وماكس موللر. وتمثل هذه
العملية قوة شديدة التأثير من أجل توسيع وإثراء النظرات الغربية التقليدية، كما
وضعت الأساس لتعزيز التفاهم بين الثقافات والمساعدة في تخفيف حدة مشاعر الكراهية
للأجانب التي كانت مشاعر متوطنة. ويجب علينا في الوقت نفسه ألا نغفل الوجه الآخر
للصورة وألا ننسى حقيقة أن غوبينو وأصدقاءه توجهوا صوب الشرق بهدف صياغة معتقداتهم
العنصرية. واستخدموا في سبيل ذلك نظريات استشراقية بغية وضع تصور لخيارات توضح سبيل
الخلاص، والتي يمكن الاستعانة بها لمكافحة الأمراض وحالات التدهور التي، حسب رأيهم،
تمثل سمة الوضع الراهن للثقافة الأوروبية.
١٩
الفاشية
تصادفنا أفكار مناظرة حين نلقي نظرة إلى أحداث مماثلة ومتزامنة وقعت في مطلع
القرن العشرين، إذ بدأ الاستشراق ينشئ صلات تنذر بسوء، ليست فقط صلات مع مواقف
عنصرية، بل وأيضًا مع الفاشية. وسبق أن أشرنا في أحد الفصول إلى الاهتمام الشديد من
جانب كل من دبليو بي ييتس وإزرا بوند وتي إس إليوت بالأفكار الشرقية. لكن الشيء
الذي لم نلفت الأنظار إليه هو واقع أن الثلاثة جميعهم كشفوا عن ميول معادية
للسامية، وأن باوند أفصح عن تعاطفه مع نظم الحكم الفاشية. بَيْد أنني مع هذا أعود
لأقول: حري بنا ألا ننسى أن مثل هذه المواقف كانت شائعة بين مفكري هذه الفترة وأن
كثيرين آخرين من ذوي الميول الاستشراقية لم يُبدوا مثل هذه النزعات. ليس معنى هذا
التماس «عذر» لمثل هذه المواقف، بل فقط نريد أن نشير إلى أي مدى كان كل من
الاستشراق والعنصرية عنصرين يتعين فهمهما داخل مزيج أوسع نطاقًا من منظومات عقيدية
بينها روابط فَضفاضة، علاوة على سَورات الغضب الاجتماعية في تلك الفترة. ولكننا بعد
هذا كله لا نزال أسرى شك مثير للانزعاج في أن الرابطة هنا ليست قط مسألة عرضية أو
طارئة. وإذا أخذنا الدليل الذي نسترشد به من الفترة الرومانسية السابقة، فإن لنا أن
نخمن أن الرابطة ليست أبدًا رابطة مباشرة ولا منطقية بين الأفكار الاستشراقية
والفاشية، بل نجد في الحقيقة في الحالتين هجمة شرسة موجهة ضد أفكار وتقاليد معينة
غربية راسخة. وحري بنا أن نتذكر أن ييتس وباوند وإليوت كانوا جميعًا شخصيات محورية
في بناء الحركة الحديثة في الأدب، وهي حركة استهلت بوعي ذاتي اتجاهًا جديدًا بشكل
جذري، وشنت حملة متضافرة أدت إلى إثارة الشك والتساؤل إزاء تقاليد أدبية وفنية
راسخة ورائجة. ونعرف أن الموضوعات المحددة للنقد الحداثي والاستشراقي ليست متطابقة
ولكنها تتداخل عند نقاط معينة. مثال ذلك أن الجمعية الثيوصوفية، كما أشرت سابقًا،
التي تمثل نفوذًا على هؤلاء الكتاب الثلاثة، اعتبرت نفسها، كما اعتبرها آخرون،
جمعية متطرفة في نظرتها، وهاجمت كما حدث بالفعل، كل الأساس المسيحي واليهودي
للثقافة الغربية. وإذا تأملنا اهتمامها واهتمام الشعراء الحداثيين الأوائل بالمسائل
الرُّوحية والقوى الخفية فإنه قد يبدو متعارضًا مع كل ما ربطناه بالنظرة «الحديثة».
بَيْد أننا يمكن أن نفهم هذه المفارقة إذا ما اعتبرنا هذا التعارض جزءًا من محاولة
لإحداث تجديد وتحول للحياة الثقافية الغربية. وطبيعي أن هذه المحاولة لم تكن على
الإطلاق مقتصرة في هذا الوقت على أعضاء الجمعية الثيوصوفية والشعراء الحداثيين. إن
كثيرين في مطلع القرن رأوا أن العالم القديم في دور الاحتضار وأن ثمة حاجة إلى
بداية جديدة. ولقد كان الاستشراق والفاشية حالتين من بين حالات كثيرة مماثلة يؤرقها
النزوع إلى التحول.
ترى هل لنا أن نطبق الحجة نفسها على هيدغر ويونغ وقد كانت لكليهما نوازع
استشراقية مهمة فضلًا على اتهامهما، الاثنين معًا، بمعاداة السامية ومناصرة
النازية؟ نعرف أن هيدغر كان عضوًا بالحزب النازي وعمل لفترة قصيرة قسيسًا لجامعة
فريبورغ، حيث نقل سياسات الحزب المعادية للسامية، لكن يونغ الوطني السويسري لم يكن
عضوًا بالحزب، وإن أدت بعض كتاباته وأنشطته في الثلاثينيات إلى أن بدا في أنظار
الناس متعاطفًا مع الحزب. ورأى النازيون أنفسهم في فكرته عن اللاوعي الجمعي دعمًا
لفلسفتهم. كذلك فإن نظرياته عن الفوارق السيكولوجية بين السلالات، حتى وإن تحوطت
بإنكار أي نية عنصرية مضمرة، إلا إنها تبدو وكأنها عامل دعم لنزعة معاداة السامية.
وأعود لأقول نحن في حاجة إلى أن نسأل عما إذا كانت هنا أي روابط حقيقية وأصلية أم
أن المسألة مجرد تلاق فكري عارض؟ وهل ثمة عقيدة محورية أو أساسية لتفكيرهما تربطهما
على نحو لا فِكاك منه بهذه الأمراض؟ طبيعي أن الإجابة الشافية لا تتأتى إلا بفضل
دراسة مدققة لكلتا الحالتين اللتين تختلف إحداهما في جميع الأحوال عن الأخرى من
نواحٍ حاسمة. ومع هذا ثمة قَسَمة مميزة تميز كلا المفكرين، ألا وهي الحاجة إلى
تقديم نقد أساسي للحضارة الغربية الحديثة، وكذا الحاجة إلى استكشاف طرق تصل إلى
أنماط وجود تتصف بالأصالة. وكان الأمر بالنسبة إلى هيدغر هو الحاجة إلى إعادة
استكشاف معنى الوجود، بينما أهداف يونغ يمكن فهمها على نحو أفضل في ضوء الحاجة إلى
التجديد الرُّوحي كوسيلة في اتجاه تحقيق صحة نفسية. وقدم الفكر الشرقي لكليهما، ومن
نواحٍ مختلفة، سبيلًا للعودة في اتجاه تحقيق ارتباط مباشر بالوجود الإنساني وبعالم
الطبيعة، كما قدم لهما نموذجًا وليد الخبرة ييسر إمكان الاهتداء إلى بديل، أو ربما
إلى عامل مكمل، للعقلانية العلمية والتكنولوجية الغربية. وثمة احتمال أن المثل
العليا النازية بدت للاثنين وكأنها تطرح إطارًا سياسيًّا لإنجاز مثل هذه الآمال،
وقوة دفع دينامية ظنًّا أنها ستولد الثورة الرُّوحية المطلوبة بإلحاح في أوروبا،
لكن من الواضح أن الاثنين أفاقا من وهمهما فيما يتعلق بهذا الشأن وفق الصياغة التي
جاءت على أيدي النازي. وأصبح يونغ — دون هيدغر — نتيجة لذلك معاديًا قويًّا لكل ما
دعا إليه النازي. يبدو هنا وللمرة الثانية أننا بصدد نوع من التوافق العرضي للأهداف
جملة، وعسير أن نتصوره تلاحمًا بين آفاق فكرية. وأكد يونغ أهدافًا ذات طابع شخصي
تمامًا للتطور الفردي، كما كانت له نظرة دولية الطابع، فضلًا على نفوره العميق من
الكيانات الاجتماعية الجمعية. ونلحظ أن كل هذا لا يشترك إلا في النَّزْر اليسير مع
الهستيريا الشاملة وسَورة النزعة القومية التي عمت ألمانيا الهتلرية. كذلك استخدام
يونغ للفكر الشرقي لتوضيح مفهومه عن «النفس» يمثل أحد قطبين على طرفي نقيض كامل
قياسًا إلى المثل العليا التي عبر عنها المدافعون عن النازية.
٢٠
وماذا عن علاقة النازيين أنفسهم بالاستشراق؟ يبدو الأمر في ظاهره ثانية وكأن وجود
رابطة غير محتمل. لكن دراسات أكاديمية حديثة العهد تكشف عن موقف يثير الاضطراب، حيث
نجد نقاط التقاء واضحة عند مستويات معينة بين الاستشراق وأيديولوجية النازي. مثال
ذلك أن شيلدون بولوك دفع بأن علماء الدراسات الهندية أدَّوا دورًا مهمًّا في صياغة
خطاب ألمانيا عن الهيمنة العنصرية خلال السنوات ۱۹۳۳–١٩٤٥م (انظر بريكنريدج وفان
دير فير، ١٩٩٣م، ٨٦، ٩٦). ويوضح أنهم في بحثهم عن هوية ذاتية ألمانية وعن مشروعية
ذاتية للاشتراكية القومية في الماضي الآري، التمس أقطاب الدفاع التبريري عن النازية
أسبابًا لتأكيد عقيدتهم ليس فقط في ضوء دراسات القرن التاسع عشر بل وأيضًا من مصادر
معاصرة، وخلقوا ما يبدو تعاونًا بين خِدمات عدد كبير من المستشرقين الألمان. صفوة
القول إن «علم» البحوث والدراسات الاستشراقية صيغ لإضفاء شرعية على نظام الدولة
الاشتراكية القومية. وهكذا نجد والتر ووست، رائد المتخصصين في دراسات الفيدا
والمؤيد للنازي، ذهب في اعتقاده إلى أن النصوص الهندية القديمة المقدسة ليست فقط
براءً من أي وصمة سامية، بل إنها تتفق بشكل أساسي مع نظرة هتلر في كتابه «كفاحي»؛
إذ يراه «نصًّا يكشف عن الاتصال الرُّوحي الممتد من الألفية الثانية قبل الميلاد
وحتى الوقت الراهن» (الاقتباس من المصدر نفسه، ٩٠). ومضى إلى أبعد من ذلك إلى حد
أنه وصف نظرة الفوهرر بأنها تتوافق مع عقيدة «الطريق الوسط» البوذية، كما عمَد إلى
ربط تصدي بوذا للمعاناة البشرية بتجرِبة هتلر بشأن معاناة الشعب العامل خلال فترته
الأولى في فيينا. يضاف إلى هذا حقيقة أن بعض زعماء النازي كانوا على ألفة ودراية
بالتعاليم الهندية. ويقال إن هيملر كان مغرمًا بوجه خاص بكتاب «بهاغافاد غيتا».
وطبيعي أن مثل هذه الروابط المثيرة للقلق تستلزم أن نُولِيها اهتمامًا جادًّا. ولكن
أقول ثانية: حري ألا تقودنا إلى استنتاج وجود عنصر شر أصيل في جوهر الاستشراق. إذ
من البديهي أن جميع الأفكار القوية ذات التأثير والنفوذ تحمل إمكانات الخير والشر
معًا. والجدير ذكره أن اثنين من المستشرقين يحملان قدرًا من التعاطف مع النازي،
وهما جيه دبليو هاور، وإي هيريغل لهما مؤلفاهما الأول عن منظومة «شاكرا»،
٢١⋆
والثاني عن زن. وتبدو أعمالهما الآن خالية من أي قَسَمة أيديولوجية مميزة، بل ثبت
في الحقيقة أنها حافز فكري ورُوحي للجيل الراهن.
٢٢
ويتجلى التواطؤ بين الاستشراق والفاشية أيضًا في حالة الإيطالي غيوسيب توتشي. إنه
من أبرز علماء الدراسات البوذية في القرن العشرين، وتشمل دراساته نطاقًا واسعًا من
الهند والتبت وحتى الصين واليابان، وبدا تأثيره بخاصة في فتح مجال للدراسات عن
التبت. بَيْد أنه أثناء حكم موسوليني انخرط في السياسة الفاشية وفي سلسلة من
المقالات شبه الشعبية ووضع دراساته في خدمة الحملات الأيديولوجية للدولة الإيطالية.
وأبدى اهتمامًا خاصًّا بتوثيق وتعزيز الروابط بين إيطاليا واليابان، ووصولًا لهذا
الهدف شرع يقدم البراهين ليؤكد أن الخصائص المحورية المميزة للفاشية الإيطالية
نجدها أيضًا ماثلة في الممارسات التقليدية للزن، من حيث عقيدة المحارب وإحساسها
باتصال مباشر وأصيل مع طبيعة عنصرية سابقة على عقلنة العلم والتكنولوجيا، ويمكن
القول بعامة إن توتشي قارن بين الثراء الرُّوحي والكمال النفسي الذي التقاه في
الشرق وبين حياة أوروبا المعاصرة المصطنعة التي لا جذور لها، والممزقة. وحرص في كل
كتاباته خلال الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات على أن يصوغ الفكرة الطوباوية الرئيسية
عن مرض الحنين إلى نموذج للوجود أكثر أصالة، وبيان التعارض العدائي العميق إزاء
الميول التحديثية لنزعات التصنيع وبناء المدن والديمقراطية الليبرالية. وهكذا أضحت
كتاباته في النهاية وسيلة للتوافق مع حداثة تعبر عن الخطة الأساسية لأيديولوجيا
فاشية. ويعبر عن هذا غوستافو بينافيد بقوله: «كان الاستشراق عند توتشي مخلوقًا
خاصًّا في داخله سخط عميق ضد الحداثة، الذي أفضى به إلى تصور الشرق الذي يمكن أن
يجد فيه دائمًا الشمولية التي باتت مفتقدة في الغرب» (لوبيز، ١٩٩٥م، ۱۸۲).
وأعتقد أن الدرس الذي نتعلمه هنا ليس معنيًّا بأي هوية جوهرية جامعة بين
الاستشراق والفاشية، بل معنيٌّ بضرورة اليقظة والتأمل الانعكاسي النقدي للذات. وسبق
أن دفع الفيلسوف الفرنسي جوليان بندا خلال تصديه لنزعة التضليل العنصرية وقال إن
خيانة المثقفين للولاء تكمن في خيانة التزام طريق البحث عن الحقيقة والعدالة من أجل
اعتبارات سياسية. علاوة على هذا، وكما أوضح بولوك، ثمة تأثيرات أوسع نطاقًا تتعلق
هنا بالدراسات الإنسانية بعامة. ذلك أن علم الدراسات الهندية في ألمانيا نادرًا ما
كان مختلفًا عن بقية البحوث والدراسات الألمانية خلال هذه الفترة، ويعبر عن الأمل
في أن يتسنى تطوير دراسات مسئولة وواعية بذاتها، وذلك للإفلات من التواطؤ في «أشكال
جديدة من القوة القسرية» (من بريكنريدج وفان دير فير، ١٩٩٣م، ١١٢). وإنه لمن المهم
بمكان أن نفهم كيف تسنى لمستشرقين أن يقيموا علاقات وثيقة مع الفاشية في ظروف
تاريخية معينة، ثم يتصدون بجرأة لذلك ويتوصلون إلى تفاهم ليس بهدف إدانة الاستشراق
من حيث هو، بل لضمان عدم تكرار مثل هذه الأخطاء الشائنة. ونرى أن هذا تحذير وثيق
الصلة بخاصة ونحن في عصر نشهد فيه تحورات تصيب المعتقدات النبيلة وتحولها إلى أدوات
أساسية للسعي وصولًا إلى مغنم مادي أو «سياسة واقعية» تعود لتلقي ظلالًا تنذر
بالسوء. ونحن بحاجة دائمًا إلى أن نذكر أنفسنا أن أفكار الشرق الدينية، شأنها شأن
التراث الإبراهيمي، تملك قدرة على الانشطار وتجسيد طاقة كامنة للخير والشر على السواء.
٢٣
اللاعقلانية
توحي مناقشتنا لعلاقة النازي بالحاجة إلى سبر الموضوع وصولًا إلى أعماق أكثر،
وإلى أن نسأل ما إذا كان بالإمكان تتبع الرابطة بين النظرات الفاشية والاستشراق إلى
مستوى من البحث أعمق. يبدو الأمر في ظاهره أن أفكار مفكرين من مثل يونغ وهيدغر
صلتها ضعيفة بالفاشية، ولكن قد يظل الأمر على حاله من التساؤل والشك إذا ما حفرنا
إلى أعماق أبعد ونجد شريحة مهمة مثيرة أكثر للقلق. ولنا أن نوجز هذه الشريحة في
كلمة اللاعقلانية وارتباطها بالنوازع المناهضة للحداثة والمناهضة للإنسانية والتي
ارتبطت غالبًا بالاستشراق. نعرف أن الفاشية والاستشراق ارتبطا في أوقات متباينة
وبأساليب مختلفة ليس فقط بتثبيط همم العقلانية النقدية بل عملًا على نطاق أوسع في
ارتباط بمتلازمةٍ نفس-معرفية تثير اليأس من كل حصاد حركة التنوير — العقل والعلم
والتكنولوجيا والحرية الشخصية — وتتوق إلى العودة لاستكشاف المصدر الرئيسي العميق
للطبيعة البشرية والكامن في شيء بدائي. إنها تتوق إلى الكشف عن شيء مقترن بخبرة
أكثر مباشرة وغير عقلانية ومفعمة وَجْدًا صوفيًّا، وتضعنا في صلة مباشرة مع شيء
حقيقي ولكننا نفتقده الآن ويمثل نبع وجودنا. تُرى هل هذا النموذج اللاعقلاني يتطابق
مع الاستشراق؟ هل كل المشروع الاستشراقي مع اقترانه مرارًا بثقافة القوى الخفية
وهموم ثقافة العصر الجديد يمثل تراجعًا خطرًا إلى اللاعقلانية والتعصب المدفوعين
بإشراقة شخصية وكشفٍ صوفي، وإلى ما سماه سي إس بيرس «صوفية الشرق المتوحشة»؟
يتردد كثيرًا في الأيام الأخيرة هذا النوع من النقد للاستشراق، خاصة في أعقاب
الثورة الثقافية المضادة في الستينيات. وشهدنا آنذاك اقتران الأفكار والممارسات
الشرقية بثقافة العقاقير وأسلوب حياة الهيبيز وهو ما تأكد كثيرًا. وسبق أن لحظنا في
فصل سابق أن كلًّا من سي جي يونغ وميدارد بوس التزما الحرص والحذر لبيان الأخطار
النفسية التي تتهدد الغربيين بتبنيهم الطرق الشرقية من دون توفر وسائل حماية كافية.
وكتب عالم الدراسات الهندية آر سي زاينر نقدًا من أهم الكتابات النقدية وأكثرها
وضوحًا. ونعرف أن زاينر كاثوليكي روماني سعى جديًّا للحفاظ على مسافةٍ ما بين
التقاليد الرُّوحية المسيحية والشرقية، ولذلك لفت الأنظار إلى ما اعتبره تأثيرات
خطرة منافية للأخلاق تفيض من الفكر الشرقي. وأقام دعوى بشأن شخصية شارلز مانسون
الشريرة المحرض على قتل شارون تيت
٢٤⋆
وعلى الرغم من أنه لم يكن هو نفسه من أنصار العقيدة الشرقية فإنه تأثر إلى حد ما
بأفكار بوذية زن والهندوسية وأصبح يمثل في أذهان الكثيرين كل ما تدعو إليه حركة
الثورة المضادة، خاصة إمكاناتها الكامنة لفعل الشر. ويرى زاينر أن مانسون عاش خبرة
تحول ديني نابعة من تعرفه على الديانات الشرقية، ولذا استغرق في حالة «متحررة» حيث
غاب العقل وغابت الأخلاق، وهو وضع «يتجاوز الخير والشر» مما يمكنه من أن يقتل في
هدوء وبدم بارد. وعلى الرغم من أن زاينر بدا حريصًا على تجنب أي شيء يفيد بأن
المعتقدات الشرقية من شأنها أن تصفح عن أفعال مانسون، فإنه بدا مقتنعًا بأن النزعات
اللاعقلانية في الديانات الشرقية من مثل ساتوري في زن وفيدانتا، الكل مبدأ واحد،
يمكن أن تسهم في أن تطلق لدى الغربيين سلوكيات شريرة صارخة. ويعرض آرثر كويستلر
بقلمه الأكثر بلاغة في كتابه «زهرة اللوتس والروبوت» نقدًا آخر يهاجم فيه بالمثل ما
يوصف بأنه «ميول الاستشراق اللاعقلانية، ويؤكد أخطارها المفترضة التي تتهدد
الغربيين. إذ يرى أن نزعة التوحيد والميتافيزيقا المثالية اللتين يطابق بينهما وبين
الفلسفة الهندية تمثلان «تشوهات منطقية كثيرة جدًّا. إن الفلسفة الهندية بما تتصف
به، في رأيه، من لا مبالاة إزاء التناقض لا يسعها إلا أن تعمل عمل المذيب للفكر
المفاهيمي الغربي» (١٩٦٠م، ٤٩، ٥٠). ومن ثم فإن الهند بكل ما تحمله من توق إلى حالة سامادهي
٢٥⋆ لا
تملك علاجًا رُوحيًّا تقدمه يفي باحتياجات الحضارة الغربية (المرجع نفسه، ١٦٢).
ويرفض البوذية للأسباب نفسها إذ يكتنفها رطانة صوفية كاذبة «لتصبح على أسوأ الفروض
كمًّا من البطلان المقدس» (المرجع نفسه، ٢٤٥). وتكشف لامبالاتها الأخلاقية عن أن
زِن خطر حقيقي. ويشهد على صدق هذه النظرة إخفاق السادة من أئمة زِن في إدانة جرائم
الحرب التي ارتكبتها اليابان وألمانيا. وزعم أن دارسي زِن تعلموا أن يطرحوا العقل
والأخلاق جانبًا، ويعملوا على نحو ما يعمل الروبوت أو الإنسان الآلي. كذلك فإن
احتفاء زن بالعفوية كاد يصل بالمرء إلى مستوى الاقتران الشرطي للسلوك الآلي العاطل
من الفكر.
٢٦
ويرى بعض النقاد أن هذا التقريع له آثار سيئة أوسع نطاقًا، مثال ذلك أن داستي
سكلار تدفع بأن الثورة المضادة في الستينيات وعقيدة مانسون بخاصة، هي تجليات نزعة
لاعقلانية رومانسية تشبه تلك التي أدت إلى صعود حركة النازي في مطلع القرن. وترى أن
ثمة رابطة قوية بين الإحباطات الاجتماعية والسياسية التي شهدتهما هاتان الفترتان،
وأن الاثنتين أدتا إلى صعود حركات استشراقية وأخرى تؤمن بالقوى الخفية وتضمنتا معًا
إمكان توليد شر عظيم. وتشير إلى أن الشباب الألمان وقبل جيلين من ظهور الهيبيز
كانوا أيضًا أسيري التطلع في شوق إلى التجديد الرُّوحي. وعبَّر هذا التطلع عن نفسه
في عدد من الاهتمامات المتباينة من بينها الثيوصوفية والديانات الشرقية والعقائد
الخاصة بالقوى الخفية. وتستطرد لتزعم أن «كل ألمانيا (في مطلع القرن) غرقت في هذه
الموجة الخفية والغريبة التي تمثل رومانسية جديدة تتصف في الأساس بأنها لاعقلانية»
(سكلار، ۱۹۷۷م، ١٠٥-١٠٦).
٢٧
وليس لنا أن نطرح جانبًا حُججًا كهذه باعتبارها تشير إلى ما يتجاوز قليلًا حالات
شذوذ. إذ من الواضح أنه في ظروف تاريخية معينة هيأت الأفكار الدينية الشرقية إمكان
خلق دروب غواية صوفية تصل بأصحابها إلى طريقة للوجود أكثر إشباعًا فيما وراء القيود
المزعجة أو وراء مشاعر التمزق في العالم الحديث. لقد بدا أن القَسَمة الواضحة
يقينًا لفترة الستينيات هي البحث عن نوع من الانعتاق الفوري من متاعب الرأسمالية
وأخلاق العمل والعقلانية العلمية التي يسميها كويستلر «البابا نيرفانا». ويعكس
إحياء الاعتقاد في القوى الخفية خلال السنوات الأخيرة خصائص ودوافع مماثلة لتلك
التي كانت سائدة مطلع القرن عندما استلهم كثيرون؛ الجمعية الثيوصوفية وغيرها،
السبيل لإلهامات دينية بديلة يستمدونها من التقاليد السرية الغربية سواء في الشرق
أو في الغرب، لكن يجب الحذر من أن تقودنا هذه العوامل إلى فهم الاستشراق من جانب
واحد، ومن أن تدفعنا إلى العودة إلى الأنماط القديمة التي رفضنا الشرق بسببها
واعتباره مصدر ظلامية لا خلاص منها. وجدير بالذكر أننا إذا ألقينا نظرة خاطفة على
المسارات الاستشراقية على مدى العقود القليلة الماضية سيتضح لنا أن شيئًا ما يمكن
وصفه باللاعقلانية، على الرغم من تجليه واضحًا في أوقات وظروف معينة، لا يمثل فكرة
محورية أو مهيمنة. وحري أن نتذكر هنا أن الصين لم تكن تمثل «للفلاسفة» التراث
اللاعقلاني، بل على العكس التجسيد الحقيقي للعقل. وعلى الرغم من أن الأوبانيشاد
استهوت إلى حد ما الرومانسيين التماسًا لبعض الخصائص الصوفية، إلا إنهم نظروا إليها
ليس باعتبارها فقط صورة لحكمة غريبة، بل مَعلمًا يحدد أسس منظومة فكر منطقي متماسك،
والتي عرضَتْها تفصيلًا وبالكامل أعمال الفلاسفة. علاوة على هذا فإن التفاعلات التي
ناقشناها سابقًا بين البوذية والتطورية في القرن التاسع عشر، وكذا المقايضة الفكرية
بين الفلسفات الشرقية والفيزياء الجديدة، وعلى الرغم مما شاب هذا كله من دون شك من
إشكاليات في جوانب معينة، إلا أنه ليس يسيرًا علينا أن نوحد بين هذا وبين أي عقيدة
لا تؤمن بالعقل. ولا ريب في أن مظاهر الحماس للزن واليوغا والطاويَّة اقترنت
أحيانًا بنزعات مناهضة للفكر العقلاني. واقترنت كذلك بردود فعل قوية ضد العقلانية
العلمية الغربية، وكذا ضد الرغبة في اكتشاف الحقيقة التي تنبثق من مصدر للكشف
الإشراقي الباطني والذي كثيرًا ما يكون كشفًا وجدانيًّا قسريًّا، لكن نلحظ أنه في
جل الحالات التي ناقشناها في الجزء الثالث من هذا الكتاب، والتي تتعلق بالفلسفة
وفقه الإلهيات والعلم والإيكولوجيا، كان الاهتمام متجهًا أكثر نحو تحقيق توازن بين
نظرات الشرق والغرب، والحاجة إلى دمج ما هو حدسي بما هو عقلاني، والباطني بالظاهر،
والسري المضنون به على غير أهله إلى الظاهر المنظور والعام. واتجه الاهتمام أيضًا
إلى بيان، على سبيل المثال، أن «كلًّا من النهج العلمي في الفيزياء والنهج الصوفي
في الشرق متكاملان وليسا متقابلين ومتعارضين» (رينكور، ١٩٨١م، ١٢٩).
علاوة على هذا فإن مفهوم «لاعقلاني» يثير التساؤل على نحو مزعج، كما أن الاتهامات
ضد اللاعقلانية يمكن أن يكون الدافع إليها دافعًا أيديولوجيًّا، ومن ثم يمكن أن
ينقلب الاتهام على صاحبه. ثم إن التسليم بوجود تقابل بين الغرب العقلاني والشرق
اللاعقلاني إنما هو طريقة متبعة على نحو نمطي ليبدو فيها الغرب كأنه يرسخ هيمنته
الثقافية والفكرية على الشرق، مما يمكننا من قاعدة آمنة تتمثل في العقلانية
الغربية، وأن نشجب الفكر الشرقي باعتباره صوفيًّا وغريبًا ضالًّا، وكذا أن نحذر من
سقطات خطرة نتعرض لها في صوفية ولاعقلانية الشرق. وهذا رأي شجعته فكريًّا مجموعة
متوالية من المفكرين الغربيين ابتداء من هيغل فصاعدًا، ونذكر من هؤلاء ماكس فيبر
الذي رأى أن عملية التحديث الناجمة عن الرأسمالية الغربية تكشف عن شكل من
العقلانية، ومن ثم عن امتلاك ناصية السيادة على العالم، الأمر الذي لا نظير له في
الشرق. ونحن حتى إن أسقطنا الجانب السياسي لذلك إلا إنه خطأ موجود يقينًا في صيغة
فلسفية خالصة. وإذا ما تتبعنا دربًا مستهلكًا للحوار الفلسفي امتد على طول عقود
قليلة ماضية فسيكون عسيرًا علينا أن نتبين كيف يمكن أن نؤسس الطبيعة العقلانية
الأصيلة للتفكير الغربي من داخل الفكر الغربي ذاته. إننا سواء انطلقنا من فتغنشتين
أو من موقف هرمنيوطيقي أو بنيوي فسنجد أن قالب الحديث المتكرر عن العقلانية الغربية
مقابل اللاعقلانية الشرقية بات مستهلكًا. إن كل تفكير يجري داخل أفق تاريخي، ويلزم
عن هذا أن ليس بإمكان أي مخطط مفاهيمي أو لغوي أن ينتحل لنفسه حقًّا قاصرًا عليه
وحده لكي يصف نفسه بأنه «عقلاني»، ويدعي أنه قابل للتطبيق عالميًّا. وتأسيسًا على
هذه النظرة نرى من المستساغ الدفع بأن طرق التفكير الشرقية لها عقلانيتها التي يمكن
أن تختلف من نواحٍ بعينها عن طرق التفكير المميزة للغرب، ولكنها ليست دونها
عقلانية، وأكثر من هذا أننا حتى إن أخذنا بالمعايير الغربية العامة، نرى أن
الافتراض المسبق الذي يقضي بأن الفكر الشرقي لاعقلاني متأصل هو افتراض خاطئ وغالبًا
ما ينبني على دراسات بالية مضى زمانها، وعلى ألفة مع نصوص شرقية محدودة جدًّا. وها
هم علماء الدراسات الصينية اليوم، كمثال، متفقون على أن الفلسفة الصينية تتضمن
خطابًا أكثر عقلانية بكثير مما كان مفترضًا عادة، وعلى أن تحليل النصوص والمفاهيم
الصينية يشف عن أن الغالبية العظمى من مفكري الصين القدماء أكثر عقلانية بكثير
جدًّا مما بدا لنا عادة (غراهام، ١٩٨٩م، المقدمة، ٧١).
٢٨
حياة التأمل في سكينة
غالبًا ما اقترن الطعن في اللاعقلانية بالاتهام بحياة التأمل في سكينة.
٢٩ ولنعبر عن هذا ببساطة: إنه من دون معتقدات واضحة وموضوعية وقائمة على
أسس عقلانية فإن جميع المعايير الأخلاقية تنهار وتفسح الطريق لحالة من اللامبالاة
العاطلة من أي هدف، بل إلى حالة من العدمية حيث أي قيمة هي قيمة خبرة شأنها شأن أي
قيمة أخرى، ولا شيء في التحليل النهائي يستحق المكابدة. ويعزز هذا النهج التصور
الشائع أن ممارسات التأمل واليوغا هي ممارسات «أنانية» وتقودنا في اتجاه الانسحاب
الكامل من الواقع والدخول أخيرًا في شيء يشبه حالة الغَشْية التخشبية. وهذه كما
يقول دون كوبيت ساخرًا (١٩٩٢م، ١٤٨): «إنها أخلاق المتقاعدين». علاوة على هذا يسود
اعتقادٌ أن الكثير من جوانب الفكر الشرقي هي صور تشاؤمية منكرة للحياة و«زهد ينصرف
معه الإنسان إلى العالم الآخر» كما يقول ماكس فيبر، هذا على عكس خصائص الفكر الغربي
الذي يؤكد الحياة مع خاصية الاستجابة بالإيجاب.
وذهب البعض هذا المذهب في التفكير للتشكيك في الاستشراق، مثال ذلك أن آر سي زاينر
يتحدث عن بوذية ماهايانا، ويرى أنها «مُشْرَبة تشاؤمًا وصوفية سلبية»، ولذلك فإنها
حتى إن أرْضَت بعض الأفراد لفترات عابرة، لا تستطيع الاندماج في المجتمع الحديث»
(١٩٦٣م، ١٨٥). ويتحدث بالأسلوب نفسه هندريك كرايمر عن تأثير الشرق بأنه تأثير سلبي
ينزع إلى استنزاف دينامية الغرب ذات الطابع الأخلاقي الاجتماعي (١٩٦٠م، ٢٢٩). ويبدي
عالم النفس جون رُوان ارتيابه في أن اهتمام الغرب بالأفكار الشرقية قد يفضي إلى
«تأمل في سكينة وتراجع بالمعنى السياسي للعبارة» (١٩٧٦م، ٢٥). وهناك من يرى أحيانًا
عقيدة كارما ومفهوم التقمص المقترن بها وكأنهما يُجمعان على تبني موقف قدري في
الحياة، وألا حاجة لمواجهة الأمراض الراهنة ما دامت مجرد لحظات عابرة في مسار
الدورات اللانهائية لعجلة التناسخ. ونجد بالمثل فيما يتعلق بمفهوم وو-وي (لا عمل
مجهدًا) وهو مفهوم محوري في الطاويَّة كثيرًا ما يعتبره البعض موقف اللامبالاة إزاء
متطلبات الوجود في العالم، وانسحابًا عن مواجهة الشرور الاجتماعية. ويدعم هذه
التصورات انطباع يفيد أن الديانات الشرقية لا تنبني على قواعد أخلاقية قوية، وأنها
تاريخيًّا تفتقر إلى الوعي السياسي أو الاجتماعي المتطور. مثال ذلك أن البعض ينظر
إلى بوذية زن أحيانًا كأنها تتسم بنوع من الفراغ الأخلاقي، وأن نظرتها المعارضة
للقواعد الأخلاقية يسرت، إن لم نقل شجعت بنشاط على اقتراف اليابانيين لجرائم الحرب
في الحرب العالمية الثانية.
٣٠
وهنا قد يدفع البعض بأن كل هذا تعبير عن سوء فهم للمواقف والممارسات الأخلاقية
الشرقية، وعن استمرارية أسطورة القرن التاسع عشر التي رسخت في أذهان الناس
الاستقطاب بين الغرب الذي يؤكد الارتباط الوثيق بالعالم، وبين الشرق الذي ينكر
الحياة ويوهنها. وجدير بالذكر أن دراسات حديثة العهد تميل إلى بيان أن هذا النوع من
الأسطورة وإدراك الديانات الشرقية كأنها غير مبالية اجتماعيًّا ينطوي على سوء تعبير
منهجي منظم. وها هو تريفور لينغ يشدد على أن «البوذية ليست كما تخيل الكثيرون،
عقيدة خاصة للهرب من عالم الواقع؛ ذلك أن البوذية يستحيل أن تكون خلاصًا «فرديًّا»
… إنها بحكم طبيعتها هي معنية بعالم العامة» (١٩٧٣م، ١٣٢، ١٤٠). ويوثق كين جونز
تفصيلًا الدور النشط للبوذية في الحياة الاجتماعية والسياسية للعديد من المجتمعات
الآسيوية المتباينة منذ عصر الإمبراطور أسوكا، ويدفع بأن التشخيص البوذي للوضع
الإنساني يدعم علم أخلاق نشطًا اجتماعيًّا، ويسهم في القضايا الأخلاقية الحيوية
المعاصرة (١٩٨٩م، المرجع نفسه). وأكثر من هذا زعم دبليو تي دو باري أن الكونفوشية
التقليدية كانت متطرفة اجتماعيًّا إلى حد كبير وضد النزعة المحافظة، وتتحدى
السياسات الإمبراطورية أكثر كثيرًا مما كان مفترضًا في الغرب (لي، ١٩٩١م، ٣٥٢)،
ويوضح آرثر رايت ما تلقته أسرة سونغ من دعم مستلهم من الكونفوشية لأعمال الخير
الاجتماعية من مثل العيادات الطبية العامة وبيوت المسنين والعجزة (انظر رايت،
١٩٧١م، ٩٤). ونجد من ناحية أخرى باحثين مثل ريتشارد غومبريتش يؤكدون أنه أيًّا كان
الدور الاجتماعي للبوذية في الماضي أو في المستقبل فإن بوذا نفسه علَّم عقيدة
الخلاص الشخصي وليس عقيدة الإصلاح الاجتماعي (انظر غومبريتش، ١٩٨٨م، ٣٠). وكذلك
كريستوفر إيفيس، إذ بينما يؤكد أن «زن تحتوي على مصادر مهمة للأخلاق الاجتماعية»
والتي يمضي ليحدثنا عنها تفصيلًا، إلا إنه يستطرد ويدفع بأن زن التقليدية لم تقدم
أخلاقًا اجتماعية خاصة بها، وأن زن الرهبانية لم تدرس تاريخيًّا ولم تحلل أو تستجب
في صورة نقدية لذاتها إزاء كل سلسلة المعاناة في العالم الاجتماعي (المرجع نفسه،
١٠٤).
واستجابة لمثل هذه الآراء يتعين علينا أولًا وقبل كل شيء ألا يغيب عن الأذهان أن
غواية الشرق في كثير من الحالات تمثلت تحديدًا في قوتها الظاهرة لكي تحقق توازنًا
مضادًّا لما اعتبرناه مواقف مفرطة في فاعليتها وانفتاحها على الخارج تسود الثقافة
الغربية. وكم من مرة في دراستنا التاريخية الاستقصائية التقينا بالرغبة في استخدام
الشرق في صورة نقد لجوانب معينة غير متوازنة في الثقافة الغربية، ليس بهدف الإطاحة
بهذه الثقافة بل بهدف الوصول بها إلى مستوى الشمولية. ودفع يونغ بأن «الإنسان
المنفتح إلى الخارج في الغرب حقق صعودًا بلغ به حدًّا جعله مغتربًا عن وجوده
الباطني» (١٩٧٨م، ١٢١). ويعبر عن هذا بوضوح أكثر إيفيس في تأكيده على أنه «إزاء
المحاولات الفوضوية للفوز على الآخرين والهيمنة عليهم، ربما ما يحتاج إليه الغرب
أكثر من أي شيء آخر هو الأديرة والقديسون أهل التأمل والسكينة الذين يمسكون عن
العمل بالمعنى الفعال النشط المألوف» (١٩٩٢م، ١١٠).
علاوة على هذا فمثلما رأينا تمامًا في حالة التقسيم الثنائي إلى عقل/لاعقل التي
ناقشناها سابقًا، كذلك المقابلة بين النشط/والسلبي، فإنها مثقلة بمحتوًى أيديولوجي
كبير. إذ كثيرًا ما رأى الغرب نفسه أنه دينامي، كفؤ، ذكوري، مقابل موقف الشرق
السلبي، الأنثوي، الراضي بالواقع. وأبدى الغرب استعدادًا دائمًا لكي يزهو بفعاليته
وكفاءته الخاصة، وصاحب أخلاق موجهة اجتماعيًّا فضلًا عن أنها بحكم طبيعتها الأصلية
متفوقة على أخلاق الشرق التي من المفترض أنها موجهة إلى باطن المرء. ونقول مثلما
قلنا في حجتنا السابقة إن المواجهة بين الشرق والغرب بدأت تؤتي ثمارًا طالما أثارت
تساؤلات أساسية بشأن المسلَّمات التي تنبني عليها الأخلاق في الغرب، وكذا بشأن
طبيعة الأخلاق ذاتها. مثال ذلك أن مفهوم وو-وي بدا صعبًا على الغربيين أن يفهموه؛
ذلك لأن القول بأن الإمساك عن العمل يمثل مثلًا أعلى، خاصة في مواجهة الشرور أو
الأخطار المعروفة، يتناقض مع الفعالية الأخلاقية النشطة والتي تمثل نهجًا غريزيًّا
في الغرب. بَيْد أن هذا المصطلح، وكما أوضح معلقون كثيرون، لا يفيد ضمنًا
اللامبالاة الأخلاقية، بل الأصح إنه مطلب اخلاقي رفيع يوجب العمل في تناغم وليس في
صراع مع الطبيعة، ويوجب كذلك العمل بأسلوب منزه عن الأنانية والمناورة. إنه بذلك
مثل أعلى لتحقيق توازن مهم مقابل النموذج الغربي النمطي لتأكيد الذات والتركيز على
النجاح الشخصي.
لكن قبل أن نسمح لأنفسنا بالعودة إلى لغة الغواية عن الاستقطاب الكوكبي، جدير بنا
أن نتذكر أن الاستشراق ظل كثيرًا بؤرة تركيز حاد فيما يتعلق بقضايا أخلاقية
واجتماعية على نحو يمكن وصفه بأنه إثاري بل ومتطرف أو ثوري. ولقد لحظنا على مدى
روايتنا التاريخية عديدًا من الأمثلة لهذا المنظور: في اهتمام «الفلاسفة» بالتعاليم
الكونفوشية الأخلاقية والسياسية، وفي النظرة الجيوبوليتيكية للمفكرين دعاة النظرة
«العالمية» ابتداء من ليبنتس وحتى نورثروب، وفي حوار الشرق-الغرب الذي باشره علماء
الإلهيات المسيحيون والفلاسفة الملتزمون بتحقيق مزيد من التناغم والسلم بين الحروب
الثقافية الدائرة وقتذاك. علاوة على هذا، وكما لاحظنا في الفصل التاسع، فإن ممارسة
التأمل التي كثيرًا ما نظر إليها الغرب على أنها تشجع على تبني موقف سلبي من الحياة
وتساعد على أن تلهينا عن قضايا الحياة الواقعية بدلًا من مواجهتها، بدأ الغرب أكثر
فأكثر ينظر إليها على أنها «لا تجدي شيئًا للهرب من هذا العالم عن طريق الدخول في
حالات من الغَشْية أو «حالات الوعي المتغيرة»» (هايوارد، ١٩٨٧م، ١٨٩)، ولم تعد تفضي
إلى «حالة شبه صوفية حيث رؤًى حالمة عن سعادة أو نشوة غير أرضية، بل إلى سلسلة من
الإجابات على سؤال: كيف لي أن أعيش في هذا العالم؟» (باتشيلور وبراون، ١٩٩٢م،
٣٤).
زد على هذا أن كلًّا من الطاويَّة والبوذية والهندوسية أصبحت خلال العقود القليلة
الماضية، وبوسائل مختلفة، موضوعًا لعدد من الحوارات الأخلاقية والاجتماعية باعتبار
كل منها عامل تنبيه وليس عامل تهدئة وتسكين، وباعتبارها عوامل حفز لصياغة معايير
اجتماعية وسياسية جديدة وليست دروبًا للتراجع عن المشكلات العصرية. وأدت البوذية
دورًا مهمًّا ذا شأن في هذا الصدد، خاصة في أمريكا، متمثلًا في حركة السلم منذ
السبعينيات، وقتما أسس روبرت أيتكين زمالة السلم البوذية الدولية. وهذه حركة ذات
نفوذ قوي وأصبحت في الواقع بمنزلة تنظيم جامع يضم أنواعًا عديدة من الحركات
الاجتماعية النشطة. ونذكر من بين هذه الحركات الشبكة الدولية للبوذيين الملتزمين
التي تشكلت في أواخر الثمانينيات. واستلهمت هذه الحركة وحيها أساسًا من الراهب
البوذي الفيتنامي ثيك نهات هانه الذي أصبح شخصية بارزة في الحركة المناهضة للحرب في
الستينيات، واستطاع من خلال توليه رئاسة تحرير صحيفة «البوذية الفيتنامية» أن يخوض
معركة لانخراط البوذية في القضايا الاجتماعية والسياسية.
٣١ وإذا انتقلنا إلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي فسنجد الفيلسوف
الويلزي كين جونز سكرتير شبكة المملكة المتحدة للبوذيين الملتزمين. وسعى جونز إلى
تأكيد الدور الذي يوضح أن الأفكار البوذية بدأت تؤثر في الخطاب الأخلاقي الغربي
بالتركيز على التطابق القوي بين بوذية ثيرافادا والصراعات الوطنية ضد الاستعمار في
الشرق، ودفع في سبيل ذلك بأن «التحليل الثوري البوذي للوضع الإنساني له فعلًا لا
قولًا تأثيراته ودلالاته الاجتماعية، وأن هذه الدلالات أشد مغالاة بكثير من أي شيء
يمكن تصوره في العقلية الدنيوية» (١٩٨٩م، ١٩٩). وهناك كاتبة أخرى انخرطت في حركة
البوذية الملتزمة اجتماعيًّا، وهي الكاتبة جوانا ماسي التي استعانت بالأفكار
البوذية لصياغة أخلاق بديلة ومفهوم بديل عن السلطة والقوة. ونعرف أنها درست البوذية
مع رهبان لاجئين من التبت إلى الهند واشتركت مع حركة سارفودايا
٣٢⋆ في
سريلانكا حيث المبادئ البوذية هي المرشد لبرنامج التجديد الاجتماعي. وتؤكد في إصرار
على أن البوذية ترتكز على مفهوم خطي ممتد ومتقابل عن «النهوض المشترك المتكامل الذي
يشجع على اتخاذ موقف «تضافر القوى» حيث البشر يؤثر بعضهم في بعض ويعزز بعضهم بعضًا
بالتبادل». وتوضح أن هذا البرنامج مناقض للتنظيم البطريركي والتراتبي للواقع، الذي
يمثل أصلًا من أصول التراث الغربي ويشجع على مواقف الهيمنة والسيطرة. ومثال آخر
للدلالة على انخراط الشرق في غمرة المحاجاة السياسية خلال القرن العشرين نراه
واضحًا وماثلًا في مهاتما غاندي الذي استوحى بعض آرائه من مفكرين غربيين من أمثال
ثورو وروسكين وتولستوي. نرى غاندي استثمر الأفكار الدينية الهندوسية في مواضع
جديدة، واستخدم تعاليم اليانية عن أهيمسا (اللاعنف) في الفلسفة السياسية
والاجتماعية التي ساعدت على دفع الهند بقوة إلى طريق الاستقلال. وأثبتت فلسفته
المبنية على أسس دينية أنها قوة حفز رئيسية وفاعلة في الثورات ضد الاستعمار
والعنصرية والعنف. وما أصعب أن نبالغ في تقييم شأنه وأهميته في سياسة القرن العشرين.
٣٣
وتمثل الحركة النسوية أيضًا حلقة ربط أخرى بين أفكار الشرق والقضايا الاجتماعية
المعاصرة. ربما تبدو الاهتمامات النسوية في ظاهرها بعيدة عن تراث الحكمة الموروث عن
الشرق لأنه ثاوٍ في أعماق غائرة للمجتمعات الأبوية (البطريركية) التقليدية. زد على
هذا وجود مجموعة متزايدة من الدراسات النقدية صدرت خلال السنوات الأخيرة والتي لفتت
الأنظار إلى العلاقة بين الحكم الإمبريالي وسياسة الجنوسة أو الجندر (التمييز
الثقافي الاجتماعي بين الجنسين. المترجم). وحاولت إثبات تواطؤ الاستشراق مع خطاب
الجنوسة القمعي، ولكن على الرغم من هذا توجد أمارات كثيرة تدل على تطور إدراك الصلة
الوثيقة بين التقاليد الشرقية وقضايا تتعلق بالجنوسة، وكذا الاعتقاد أن خطة عمل
الحركة النسوية يمكن أن تستنير بفضل أفكار شرقية. وجرى الاعتماد على هذه الأفكار
صراحة للاستعانة بها لكشف مظاهر القصور في الأفكار والممارسات الاجتماعية
والأخلاقية الغربية من مثل مفهوم الأخلاق الأبوية (البطريركية) القائمة على القانون
والالتزامات الأجنبية. واستُعين بها أيضًا لصياغة تقنيات الإدراك الذاتي والنقد
الذاتي، والتي يمكن أن تؤكد أهميتها بخاصة في مجال التطبيق العملي فيما يتعلق
بقضايا الحركة النسوية. وبدأت أعداد متزايدة من دعاة الحركة النسوية يعتبرون
البوذية بخاصة أهم حليف شرقي، إذ يجدون فيها كلًّا من رقة وحساسية مشاعر التراحم
والاهتمام المتبادل، كما يجدون فيها أيضًا قوة التحليل النفسي والأيديولوجي. مثال
ذلك أن مؤرخة الأديان الأمريكية ريتا إم غروس ترى أن من العوامل المبشرة بالنجاح
«الجمع بين رقة البوذية وقوة الحركة النسوية لكي نربط بين رؤية البوذية ورؤية
الحركة النسوية» (١٩٨٦م، ٢). وأنها إذ تعترف بمسافة الاختلاف بين الممارسات البوذية
التقليدية والاهتمامات النسوية المعاصرة تلفت الأنظار إلى الوسائل التي يمكن من
خلالها تحقيق التلاقي بين الاثنين، وإلى المعاني التي يمكن من خلالها أن تكون
البوذية مكملة للحركة النسوية بل وتتجاوزها (المرجع نفسه، ٤٤)، مثال ذلك: تجذر كلٍّ
من الحركتين في الخبرة العملية الإنسانية من دون النظرية، ومواجهتها الصلبة
والحاسمة من دون مساومة مع المواقف التقليدية. وتعتقد أن القيمة المميزة للبوذية في
بناء خطة عمل الحركة النسوية إنما تكمن في قوتها على تعرية الأساس النفسي للموقف
الإنساني، مثلما تكمن في تحليلها الصارم الحاسم لمسألة المعاناة البشرية، وفي نقدها
للمعتقدات الأيديولوجية الجامدة والآراء التي تحدثنا عن هوية ثابتة للطبيعة
البشرية. وثمة مفكرون عكفوا في السنوات الأخيرة على بيان الحلقات التي تربط بين
النظرة النسوية والأفكار البوذية. نذكر من هؤلاء جي باورز ودي كورتين. ويؤكد هؤلاء
أن المداولة البوذية/النسوية يمكن أن تؤصل اتجاهات جديدة مثمرة لوضع علم أخلاق
موجهٍ إلى المرأة مبنيٍّ على التراحم والحب والرعاية. وإن مثل هذه الاتجاهات تقدم
بديلًا جذابًا عن القواعد الكانطية المعمول بها وعن الحساب النفعي للذة، إذ إن
الاثنين يمثلان نموذجًا لأنماط التفكير الأخلاقي الذي يفرض نفسه عالميًّا (١٩٩٤م،
١٣، ٧). وجدير بالذكر أن أعدادًا متزايدة من مفكري الحركة النسوية يرون أن مثل هذه
الأفكار سوف تتمخض عنها نظرة عالمية إبداعية وإنسانية بالغة العمق (باوتشر، ١٩٨٨م، ٢٣).
٣٤
وها نحن لا نجد بين هذه الآراء رأيًا ينكر أن الاستشراق ربما أثبت في بعض الحالات
أنه المرفأ الآمن للمتعبين في الأرض ومن ينكرون الحياة. وربما قدم أيضًا للبعض
وسيلة ما للانسحاب من كل ما هو حديث ومن أفكار مثل تلك التي يجسدها العلم
والديمقراطية والتقدم. ولكن من الأهمية بمكان تحقيق موازنة مقابلة لهذا من خلال
الاعتراف أن الجهود الاستشراقية اتجهت منذ القرن الثامن عشر فصاعدًا نحو أهداف
تتداخل مع نواحٍ معينة من المشروع التنويري/الحداثي وتساندها. ونذكر من بين هذه
الأهداف استئصال المواقف والحواجز الإقطاعية محدودة الفكر، ونقد التقاليد الثقافية
والدينية المحلية، وعملت في الوقت نفسه على صقل ورواج فضائل التراحم والتسامح وعدم
العنف والخضوع. وإن الاستشراق يقينًا مهد الطريق للكثيرين الراغبين في السير على
درب النمو الذاتي والإشباع الرُّوحي. وهذا درب كثيرًا ما يتعارض مع المتطلبات
والقيم الاجتماعية للعالم الحديث. بَيْد أن هذا ليس سوى جزء من الصورة التي هي صورة
غنية ومتباينة على نحو فريد، والتي نبهت عقل وضمير الغرب بوسائل كثيرة ومثمرة.
٣٥
السلطة
إن مناقشة الأهمية السياسية والأخلاقية للاستشراق تعيدنا حتمًا إلى مسألة السلطة
التي تناولناها في الفصل الثاني من حيث علاقتها بالنقد الذي وجهه إدوارد سعيد إلى
الاستشراق. ومن ثم فإن السؤال الختامي الذي نحن بحاجة إلى إثارته في هذا الفصل هو
ما إذا كان العرض التاريخي في الجزأين الأوسطين من هذا الكتاب قد نجح في تزويدنا
ببديل عن فرضية سعيد التي تقضي بأن الاستشراق يمثل خطاب القوة/السلطة والهيمنة على
الشرق، وهو الخطاب الذي يعكس ويساند ويبرر القهر الاستعماري الغربي في آسيا.
يمكن التخلي فورًا عن فكرة أن الاستشراق شكل على نحو بسيط ومباشر دِعامة لأجهزة
القوة الاستعمارية. وحقيقة الأمر أن هذه النظرة التبسيطية لم تكن أبدًا جزءًا من
حجة إدوارد سعيد الذي أنكر أي اتهام من جانبه للاستشراق بأنه كان «ممثلًا ومعبرًا
عن مؤامرة إمبريالية غربية تهدف إلى إعاقة العالم الشرقي» (١٩٨٥م، ١٢). ومن المقبول
جدلًا أن منطق التبشير المقترن بجهود الكنائس المسيحية لتحويل الآسيويين عن
معتقداتهم تجمعه رابطة تكافلية مع مصالح الإمبريالية الغربية. وحقيقة الأمر أن بعض
أعضاء البعثات الآسيوية إلى برلمان الأديان العالمي عام ۱۸۹۳م انتقدوا جهود التبشير
المسيحية تأسيسًا على تواطئها مع استراتيجيات التوسع والهيمنة الاستعمارية الغربية
(انظر سيجر، ١٩٩٥م، ٥٣ و٧٣ و٧٧). جدير بالملاحظة أن الأنشطة التي أدرجناها تحت
مصطلح «الاستشراق» تدخل أغلبها ضمن فئة مختلفة تمامًا؛ وذلك لأن الاستشراق كثيرًا
ما واجه وتحدَّى المصالح الاستعمارية، بل وسعى أحيانًا إلى زعزعتها وتخريبها. ومع
هذا فإن من الأهمية بمكان عند معالجة قضايا تاريخية معقدة أن لا نبسِّطها على نحو
مسرف، إذ ثمة بعض الاستثناءات الواضحة. وسبق أن رأينا كيف أن النزعة التاريخية
التطورية ذات النفوذ التي جسدتها كتابات هيغل اتجهت إلى حصر الهند والصين في وضع
الدونية الأصيلة. وليس من شك في أن الاستشراق خدم متطلبات الإمبراطورية بأن وفر
المعلومات اللازمة لموظفي الإمبريالية، «الأثاث اللازم للإمبراطورية» كما وصفه لورد كورزون.
٣٦ لكن من الأهمية بمكان أن نتذكر ما قلناه في فصول سابقة عن جهود
المستشرقين سواء على المستوى الفلسفي أو مستوى البحث العلمي، وكيف سار أغلبها في
اتجاه مناقض، من نواحٍ كثيرة، لمتطلبات الإمبراطورية، بل كثيرًا ما تحدَّت
المسلَّمات الأيديولوجية للسلطات الإمبريالية من مثل الإيمان بالتفوق الأصيل
للثقافة وللمسيحية الغربيتين. وثمة مثال تاريخي مهم على ذلك وهو الأعمال العلمية
الباكرة التي أعدها جونز وزملاؤه، والتي لاقت تشجيعًا من دون ريب من السلطات
البريطانية كإضافة إلى عملية الاستعمار. بَيْد أن حوافز هؤلاء الباحثين والنتائج
الاقتصادية لعملهم تتجاوز كثيرًا هذه الرقابة الرسمية. مثال ذلك أن جونز رأى أن
جهوده في الترجمة تخاطب أساسًا حاجات أخلاقية، وكان لترجماته نفوذها الكبير وسط
الرومانسيين الألمان أكثر من تأثيرها بين أبناء وطنه.
٣٧ جدير بالذكر أن الموظفين المدنيين الذين «أصبحوا مواطنين» من خلال ما
أبدوه من اهتمام وتعاطف شديدين إزاء المعتقدات والممارسات المحلية كثيرًا ما كانت
تعتبرهم السلطات الإمبريالية خطرًا عليها. وكانت السلطات الحاكمة في راج الهندية
يساورها شك عميق إزاء الحركات التي توحدت مع الثقافة المحلية. مثال ذلك ما حدث في
حالة الجمعية الثيوصوفية التي وضعتها السلطات تحت رقابة الشرطة السرية البريطانية.
وإذا كانت المسيحية عاملًا أساسيًّا، ولو لاشعوريًّا، لدعم الأهداف الإمبريالية،
فإن الاستشراق غالبًا ما كان وسيلة لإبعادها عن دِعامتها.
لكن فكرة السلطة والهيمنة يمكن، على الرغم من هذا، تعديلها لتصبح أداة أقل وضوحًا
من دون أن ننكر أن الاستشراق، مثله مثل أي صورة أخرى من صور المعرفة، تصوغه
اهتمامات الذات العارفة. وحري بنا هنا أن نلحظ ثانية المزيج الواضح من الحوافز التي
كشف عنها الباحثون المستشرقون على مدى القرون، وعن الاستخدامات المتباينة، وكذا عن
سوء الاستخدام من جانب من استغلوا أعمالهم، الأمر الذي بحثنا بعضه سابقًا. ونحن هنا
أيضًا بحاجة إلى تجاوز غادامر نظرًا إلى أن أسلوبه الهرمنيوطيقي في البحث، كما أوضح
ناقدوه، يتماهى على نحو محدد ومحدود مع المعنى المخطط له عن وعي، ويكشف عن إدراك
قاصر للشرائح القاعدية التي تمثل أساسًا للمصلحة السياسية والتناول الأيديولوجي، أي
باختصار العلاقة بين المعرفة والسلطة. وقد تكون هذه هي الحال بالنسبة إلى دور
الخطاب الاستشراقي داخل النطاق التاريخي الواسع للهيمنة العالمية الغربية، إذ لن
نجده في عملية دعم مباشرة لأهداف الإمبراطورية، بل نجده داخل مضمار ثقافي أكثر
رهافة وإن بدا واضحًا، وهو ما يسمى الرغبة في امتلاك وملاءمة الأفكار الشرقية
والسيطرة عليها داخل إطار مفاهيمي غربي، أو بأسلوب يتسم بالزهو كأن يقال داخل
عقلانية النظام العالمي أو مشروع عولمة التنوير الأوروبي. وحسب هذا الرأي يمكن
النظر إلى الاستشراق في صورة تعبير عما وصفه إدوارد سعيد بأنه «نوع من السلطة
الفكرية على الشرق من داخل الثقافة الغربية» (١٩٨٥م، ١٩)، بمعنى أنه يعمل من حيث
علاقته بخطاب السلطة الأوروبية كوسيلة ليست لتعزيز ودعم ممارسة أي من السيطرة
بالمعنى الحرفي على الشعوب الخاضعة، بل بمعنى خلق نظام معرفي موحد عن الشرق الذي من
شأنه أن ييسر تصنيف الشرق فكريًّا وثقافيًّا ضمن فئة أكثر شمولًا تفي بالمصالح
الغربية. أو لنقل بعبارة أخرى إن ما نتعامل معه هنا هو شكل من أشكال الهيمنة
الثقافية أو الفكرية الذي مكن الغرب من استيعاب تراثات ثقافية أجنبية داخل ثوابت
أطره الفكرية، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن تحديده أو فهمه فقط من حيث علاقته بعوامل
اقتصادية وسياسية خالصة.
وأرى أن هذا الأسلوب في تأويل الاستشراق يبدو في ظاهره أكثر إقناعًا من الأسلوب
الذي يربطه على نحو اختزالي بالسلطة الاقتصادية والسياسية، وينتهي بإحالة جماع بنية
الخطاب الاستعماري إلى قصد واحد أصيل ومتجانس (تيفين ولاوسون، ١٩٩٤م، ٢٠). لكن
يلزمنا هنا قدر معين من الدقة، كما يتعين إضافة خاصتين. أولًا يوضح تاريخ الاستشراق
أن حافزه الجدلي موجه غالبًا إلى الداخل وليس إلى الخارج، وأن استراتيجياته للكسب
والتملك مرتبطة غالبًا بصراعات القوى داخليًّا أكثر من ارتباطها بما يجري خارج
الحدود. وخير مثال على هذا فكرة «النزعة العالمية» التي قرناها بأسماء مثل مور
ورادها كريشنان، أو بالمثل الأعلى لصوغ «فلسفة دائمة» عند مفكرين من أمثال هكسلي
وغوينون. ولنا جدلًا أن نرى هذه الاستراتيجيات الاستشراقية تنزع إلى تحصيل الناتج
الثقافي الشرقي والسيطرة عليه لمصلحة مشروع غربي ظاهر الفائدة؛ أي تحويل التراثات
الشرقية إلى سلعة لمصلحة الاستهلاك الغربي، لكن يتعين في الوقت نفسه أن نتذكر أن
مشروعات إضفاء الطابع العالمي التي تماثل ما ذكرناه توًّا كانت في الغالب مشروعات
هدامة ومناهضة للثقافة داخل السياق الغربي، واستهدفت عمدًا مواجهة المسلَّمات
والممارسات الفلسفية والدينية الغربية الأصلية وتقديم بديل راديكالي عنها. ووفق هذا
المعنى كانت تعبيرًا عن تمزقٍ داخل الغرب ذاته. لذا يقال إن مشروعات مثل مشروع
إضفاء الطابع العالمي إنما كانت وسائل فعالة لاستيعاب مذاهب الفكر الشرقي تحت
«السلطة الفكرية» للمقولات الغربية، ووفاءً لأغراض نابعة من تطلعات غربية تحديدًا.
ولكنها على الرغم من هذا توضع في صورة مقدمة تفيد الاعتقاد أن الإسهامات الشرقية
لهذه المشروعات تحظى بامتياز أصيل تفتقر إليه المصادر الغربية.
نقطة ثانية نحن بحاجة إلى التأكيد عليها وهي أن الاستشراق في حالات كثيرة لم
يقترن بمحاولات طمس الثقافات الشرقية المحلية — وهو إجراء واضح كل الوضوح في أماكن
أخرى على مدى تاريخ الاستعمار الغربي — بل اقترن بإحياء هذه الثقافات وبعث القوة
فيها من جديد، بحيث يمكن القول إنها أدت دورًا في إحياء وتجديد التراثات الشرقية من
مثل الهندوسية وزن والكونفوشية داخل بيئاتها المحلية الأصلية. وأسهمت كذلك في تشجيع
الباحثين الآسيويين لاستكشاف تراثهم هم، واستعادة أشكال المعارف التي كانت في
طريقها إلى الذبول وربما، لولا هذا، لكانت في طريقها إلى الضياع. وخير مثال هنا
يتمثل في الدور الذي أدته الترجمات الغربية لكتاب «بهاغافاد غيتا» المقدس من أجل
إحياء الهندوسية على مدى المائة عام الماضية أو حوالي ذلك. هذا علاوة على أن
انتشارها الواسع أحدث تأثيرًا قويًّا ليس فقط على المسائل الرُّوحية أو الفكرية
الخالصة، بل أيضًا على نمو واكتمال المقاومة الوطنية ضد الحكم البريطاني.
٣٨ مثال آخر وثيق الصلة وهو الجمعية الثيوصوفية. إذ على الرغم من أن هذه
الجمعية استهدفت تمجيد حكمة الهند القديمة فإنها شجعت بقوة على انطلاق الآراء
المحلية المعاصرة من مثل آراء كلٍّ من أناغاريكا دهارمابالا وغاندي وكريشنامورتي
الذين أدوا أدوارًا مهمة في سبيل بعث النشاط من جديد وإعادة صياغة التراث القديم.
وحري بنا أيضًا، إذا ما تحدثنا في إطار جبهة أوسع، أن نتذكر من جديد تأثير
الاستشراق على ما أصبح معروفًا باسم «النهضة الهندية»، ابتداء من رام موهان روي إلى
نهرو ومن بعده. ذلك أن الاستشراق، كما يقول المؤرخ دافيد لودين «من حيث هو جماع
معارف غذى بمعلوماته خطاب القومية الهندية» ويؤكد أن الاستشراق أصبح «بنية معرفية
مهيأة للانتشار ضد التفوق الأوروبي» (من بريكنريدج وفان دير فير، ١٩٩٣م، ٢٦٩ و٢٧٢).
٣٩ وثمة مثال آخر تجسده مؤلفات جوزيف نيدهام. إذ على الرغم من أن هذه
المؤلفات انبثقت، بمعنى من المعاني، عن إشكالية غربية أساسًا تتعلق بتسجيل تاريخ
العلم، وأثبتت هذه المؤلفات أمرين؛ أولًا: أنها عامل مهم للتيسير بين الباحثين
الصينيين. ثانيًا: أنها وهي كما يرى الفيلسوف الأسترالي أبعد ما تكون عن وصفها
بالتواطؤ مع الإمبريالية الغربية، قد أسهمت، ولو في نطاق محدود، من أجل تحرير الصين
من الهيمنة الغربية (١٩٩٥م، ٣٢٤).
ربما يعترض البعض قائلًا إن عمل العلماء من أمثال نيدهام واستراتيجياتهم للإحاطة
بالتاريخ الفكري للصين ضمن مشروعاتهم التاريخانية الخاصة يتعين النظر إليه باعتباره
إحدى صور الغطرسة واستعلاء الغرب وما يفيد ضمنًا بأن الشرقيين فشلوا في الحفاظ على
ثقافاتهم هم كما فقدوا كل حق لهم فيها. وفي مثل هذا قال أحد النقاد: «أصبح على
المستشرق بذلك أن يتكلم نيابة عن الشرق من خلال سلسلة الأبحاث والدراسات العلمية
التي تحددت مهمتها، وهي أن تمثل الشرق نظرًا إلى عجز الشرق عن تمثيل نفسه» (لوبيز،
١٩٩٤م، ٣٩). وسبق أن أشرنا إلى أن بعض النقاد مضَوا إلى أبعد من هذا ودفعوا بأن
حضارات الشرق الكلاسيكية التي مجدها الاستشراق أدت إلى تصور آسيا الحديثة كأنها في
انحسار، ومن ثم بحاجة إلى الغرب ليتحدث نيابة عنها. بَيْد أن نمو الاستشراق ارتبط
بالتوسع الاستعماري بوسائل أكثر تشابكًا ودقة مما توحي به هذه الانتقادات. واتجهت
الدراسات الحديثة إلى تأكيد الطبيعة التبادلية للعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر.
٤٠ وهكذا فإن هذه الانتقادات، على سبيل المثال، لا تبدي ثقة كافية إزاء
النمو العقلي للمعرفة بالتواريخ الفكرية والثقافية لآسيا التي وردت بداية على أيدي
العلماء الغربيين. كذلك لا تثق بالأساليب الجديدة للنظر إلى العالم التي تولدت عن
هذه الجهود. إن مثل هذه الجهود ربما جاءت محمولة على ظهر التوسع العسكري التجاري
الأوروبي قرين نزعة تاريخانية سوبرمانية
٤١⋆
مصاحبة. بَيْد أنها أيضًا وعلى لسان مفكر إسلامي، أسهمت في إيقاظ نوع جديد من
الفضول المعرفي، ورغبة في دراسة التنوع اللانهائي للعالم الإنساني والطبيعي،
ودراسته بلا خوف وبملء التحرر من الأحكام التي تقيد وتحد الفضول المعرفي (حوراني،
١٩٩١م). وهذه منافع تعلو على الحدود والمصالح الغربية. ونلحظ أيضًا أن هذه
الانتقادات لا تضع في الاعتبار بما فيه الكفاية المدى الذي شارك فيه الباحثون
والمفكرون الشرقيون أنفسهم في المشروعات الاستشراقية. وأن الشيء اليقيني، كما سبق
أن أكدت في ختام الفصل الثاني، أن هذه المشاركة علاوة على التحول العميق الذي طرأ
على الثقافات الشرقية على مدى القرون الماضية إنما أثارتها بداية الضغوط الخارجية
وليست الداخلية. لكن المشروع الاستشراقي برمته، ابتداء من محاورات ماتيو ريتشي مع
أهل الفكر والثقافة الصينيين فصاعدًا، تضمَّن تفاعلًا معقدًا للغاية بين الثقافات،
وهو ما لا يمكن اختزاله في صورة فرض قسري للسلطة أو فرض لرواية لها السيادة من جانب
طرف على الطرف الآخر. ولم يكن الأمر قاصرًا فقط على أن ينظر المفكرون الشرقيون
أنفسهم مرات ومرات إلى الاستشراق نظرة إيجابية والاحتفاء به باعتباره إلهامًا يحثهم
على النهوض بإحياء ثقافي خاص بهم — على الرغم من أن هذا هو واقع الحال في غالب
الأحيان — بل إنهم هم أنفسهم أصبحوا أكثر فأكثر مشاركين فعليًّا سواء باعتبارهم
نقادًا للمشروع الاستشراقي أو واعين متحمسين له. ونجد ابتداء من فيفكاناندا ومرورًا
بسوزوكي ووصولًا إلى الدلاي لاما خطًّا مميزًا من الباحثين الشرقيين الذين شاركوا
في الجهود الاستشراقية أو شجعوها بفعالية ونشاط، وليس من سبيل لإسقاطهم ببساطة
باعتبارهم ضحايا المناورات الغربية. والحقيقة أن الاتهام «بالتعالي» يمكن أن
يُوجَّه ضد من يصورون الشرق في صورة المتلقي السلبي جملة وتفصيلًا للأفكار
الاستشراقية المثيرة للانتباه. وأن يوجَّه أيضًا إلى من يلح على أن جماع المعارف
الخاصة بالشرق، التي هي حصاده، ليست سوى افتراض ذهني من صنع الغرب اختلقه وفقًا
لأغراض ومفاهيم غربية خالصة. وعلى الرغم من أن آسيا في نواحٍ مهمة معينة تجد نفسها
ضمن سياق تاريخي من ابتكار أوروبا، إلا إن الرأي القائل إن مشاركتها مع الاستشراق
هي مشاركة سلبية خالصة إنما يُغفل استقلال الأصوات الآسيوية المستقلة التي استجابت
وحاجَّت وعارضت بعنف، بل وافتتنت أحيانًا بأساليب القهر في الغرب، ولكنها عمَدت
أحيانًا إلى تحويل كل هذا للوفاء بأغراضها هي التحريرية.
٤٢
وإن ما نخلُص به من هذا بوجه عام هو أنه بينما يتعين علينا أن نضع مسألتي السلطة
والهيمنة الاستعمارية كعامل عند التفكير في الاستشراق، إلا إنه لا يمكن لنا أن نفهم
الاستشراق فقط في ضوء سلطة الغرب وحدها على الشرق. وكثيرًا ما عمَد نقاد الاستشراق
في الغرب إلى تصويره في صورة المواجهة، ومن ثم يخلدون إلى الاستقطاب، على غرار ما
فعل كيبلنغ الذي يرى الشرق والغرب في عداء أبدي أحدهما للآخر. ولكن حريٌّ أن ندرك
الاستشراق في بعض النواحي باعتباره أداة للغرب، التي حقق من خلالها قدرًا من
السيطرة على التراثات الفكرية والدينية للشرق. بيد أننا أيضًا يجب أن ندرك أن نمو
الاستشراق اتسم في نواحٍ أخرى بزيادة التبادلية والحوار والمعرفة والتعاطف. وهكذا
فإننا إذ نعترف بالتوترات السياسية الواضحة وتباعد المصالح التي ميزت العلاقة بين
الشرق والغرب، إلا إنه يجب أن نضع في الحسبان أيضًا حقيقة أن الشرق حقق لنفسه سلطة
متزايدة باطراد على تراثاته الثقافية الخاصة، وذلك نتيجة اللقاء بينه وبين الغرب.
وأنه ثانيًا حقق لنفسه قوة وسلطة على الغرب بتحوله إلى مناهض وناقد لجوانب أساسية
للثقافة الغربية. ويقول يونغ في هذا:
بينما نحن نقلب رأسًا على عقب العالم المادي للشرق مستعينين في ذلك بما
توافر لدينا من كفاءة تقنية، فإن الشرق بكفاءته النفسية ألقى بعالمنا
الرُّوحي في خضم الفوضى، وبينما نحن نعمِد إلى إخضاع الشرق من خارج، نراه
هو يُحكم قبضته علينا من داخل.
ولعل من الأفضل النظر إلى هذه القضايا في ضوء التطورات المعاصرة للاستشراق. وهذا
ما سنعالجه بإسهاب أكثر في الفصل الأخير.