الفصل الثاني عشر

الاستشراق وما بعد الحداثة

«يمكن القول إن الاستشراق شجع التعددية والنسبوية في الثقافة، وشكك في بعض الأساطير التي تمثل محورًا للحداثة.»

المؤلف

الحداثة وما بعد الحداثة

أين الاستشراق الآن؟ هل أكمل الشوط واستنفد الدور؟ هل نحن الآن في عصر ما بعد الاستشراق، كما قد يرى البعض، وتحدونا رغبة ملحة في أفول «الآخر» الغريب أخيرًا مع نهاية الإمبراطورية ونهاية الحداثة؟ إن العوامل التي انتجت الاستشراق، وهي انفتاح أوروبا على كثرة من النصوص والأطر والسياقات الفكرية، وتوسع سلطة ووعي أوروبا إلى أبعاد كوكبية — طرأت عليها تغيرات عميقة خلال السنوات الأخيرة. وإن العائد الإمبريالي كاد يختفي تمامًا، بل إن الهيمنة الثقافية والاقتصادية للغرب باتت تواجه ما يتحداها. كذلك الحال بالنسبة إلى تطلعات حقبة التنوير لكي تفرض نفسها على العالم، والتي استهدفت من ذلك فتح العقل الأوروبي لاستقبال فلسفات الشرق، أفسحت الطريق لكثرة ممزقة ولنظرة نسبوية تعبر عنها رؤًى عالمية. وإن ثنائية الشرق والغرب التي كانت أسطورة حاكمة للاستشراق تحللت بفعل القوة المشتركة للنقد الثقافي والتحول الاجتماعي. وها هي عولمة الثقافة التي أكدها علماء الاجتماع من أمثال أنطوني غيدينز أسفرت عن صوغ صور جديدة من الاعتماد المتبادل على الصعيد العالمي والتي لم تعد بالضرورة أو بشكل مطرد تدور حول محورية أوروبية، بل أضحت تتألف من كثرة من الهويات المتداخلة. ونشهد الآن في مضمار التبادل الثقافي، ما لم نشهده من قبل هجينًا مزدهرًا من الأفكار والممارسات المتشعبة والتي تقاوم حصرها ثانية في قالب الإثنينية «الغرب وبقية العالم». علاوة على هذا فإن هذه التحولات لا تعود فقط إلى التمزقات الداخلية الخاصة بالغرب، بل تعود بالقدر نفسه إلى «الآخر» عند أوروبا، إذ يعيد تقييم هويته الخاصة. ذلك لأنه، كما يلحظ عالم الأنثروبولوجيا جيمس كليفورد «ومنذ ١٩٥٠م، دأب الآسيويون والأفارقة وعرب المشرق وسكان جزر المحيط الهادي والمواطنون الأصليون الأمريكيون على العمل بأساليب مختلفة لتأكيد استقلالهم عن الهيمنة الثقافية والسياسية للغرب، وأسسوا مجالًا متعدد الأصوات لخطاب فيما بين الثقافات» (١٩٨٨م، ٢٥٦).١
وفي ضوء هذا التقييم لظرفنا الراهن لا بد أن يساورنا قدر من الشك فيما يتعلق بخصوصية موضوع هذا الكتاب في الوقت الحالي. فإذا كانت الظروف التي أدت إلى ظهور الاستشراق قد أضحت في عداد الماضي فإن لنا أن نتوقع للاستشراق أن يذوي ويدخل التاريخ باعتباره منتجًا غريبًا مشتقًّا عن العالم الحديث، واختفى باختفاء الثاني. وتحقق هذا الفرض الأولي جزئيًّا. ذلك أن الاستشراق، كما رأينا في الجزء الثالث، تغير خلال السنوات الأخيرة. وإن تطلعاته ليصبح طابعًا عالميًّا أفسح الطريق في الغالب الأعم لنزعة تعددية حذرة، وأفسحت ثقتُها المعرفية الطريق لمنهج بحث هرمنيوطيقي أكثر تواضعًا وأكثر نقدًا للذات. وأفسحت مثاليتُها الساذجة الطريق لتصميمٍ أقوى على الكشف عن حوافزها الخفية، بل والشريرة أحيانًا. وإن ميلها إلى إضفاء طابع رومانسي على الشرق حل محله، إلى حد كبير، نزوع واقعي أكثر دقة وإحكامًا، يرى الشرق ليس باعتباره مهد حكمة متعالية وخالدة بشكل ما، بل باعتباره طائفة متنوعة ومتعددة الشرائح من العوامل الثقافية والحركات الفكرية المنبثقة عن ضروب متباينة من الأوضاع التاريخية.٢ زد على هذا أن الاستشراق انخرط بقوة في تفكيك نسيج خطابه هو، وذلك حين تشكك في القطبية الجوهرية للشرق-الغرب والتي ارتكز عليها في غالب الأحيان، وأيضًا بالبحث في الظروف الاجتماعية والسياسية لظروف ميلاده هو.

ولكن ثمة شواهد كثيرة توحي بأن الاستشراق، على الرغم مما طرأ عليه من تحول، لا يزال حيًّا وفي حالة جيدة، بل إنه في الحقيقة آخذ في الازدهار بقوة أكثر مما كان، ويمارس بكفاءة نفوذًا متزايدًا من حيث الأهمية والوضوح على كثير من جوانب الثقافة الغربية. ويواصل الشرق من خلال سلسلة كاملة من البحوث والدراسات الأكاديمية ومجالات الاهتمام العام والشخصي وضعه كبؤرة اهتمام وفضول معرفي، كما لا يزال يمثل مصدرًا ثريًّا للنقد والإلهام الثقافي.

وإن هذا الدور المزدهر أبدًا يكشف عن بعض الروابط الخفية مع حوارات معاصرة بارزة. ذلك لأن الاستشراق يظهر من نواحٍ كثيرة، وكأنه متحد مع «ما بعد المودرنزم»، وأكثر من هذا يمكن القول إن الاستشراق شجع التعددية والنسبوية في الثقافة، وشكك في بعض الأساطير التي تمثل محورًا للحداثة، والتزم موقفًا مناهضًا للمركزية الأوروبية، ودعا إلى إضفاء قيمة على نظريات المعرفة والتواريخ الخفية التي استبعدتها الحداثة الغربية، وبناء على هذا الرأي يصبح الاستشراق ما بعد مودرنزم — ما قبل الحالة النهائية. وهذا من شأنه، وفق ظاهر القول، أن يوقعنا في مفارقة: إذا كان الاستشراق وثيق الصلة جدًّا بالحداثة، كيف تسنى له أيضًا أن يقترن بما بعد الحداثة؟ ألا يبدو هنا أننا نتوسع بحيث نتحلل من فكرة سبق أن شدَّدنا عليها سابقًا في هذا الكتاب، حين قلنا إن الاستشراق مؤهل لأن ننظر إليه في ضوء رواية واحدة متماسكة؟ إجابتنا على هذا تكمن بالضرورة في الفرض القائل إنه فيما يتعلق بجوانب حاسمة معينة والتي تمثل جانبًا محوريًّا في اهتماماتنا الراهنة، تمثل ما بعد المودرنزم استمرارًا لخطاب حداثي أو أنها على أي حال تؤلف آخر مراحل تجليه، أو لنقل: ذروة نضجه. والملاحظ أن هذا الرأي، وإن بدا مثيرًا للجدل بوضوح، إلا إنه صادف دعمًا من جانب عدد من الكتاب في هذا المجال. مثال ذلك دافيد هارفي في بحثه الشامل فيما بعد الحداثة يخلُص إلى نتيجة مفادها: «هناك اتصال أكثر مما يوجد من اختلاف بين التاريخ العام للمودرنزم والحركة المسماة ما بعد المودرنزم.» ويرى هذه الأخيرة «نوعًا خاصًّا من الأزمة في المودرنزم، وهي أزمة تؤكد التمزق وسرعة الزوال والشواش» (١٩٩٠م، ١١٦).٣ وأوضح أيضًا أن هناك اختلافات كبيرة. إذ إن رفض السرديات الكبرى والنظريات الشمولية العالمية، والأسس المطلقة، علاوة على تأكيد ما هو قائم من تصدع وتغاير ولا قياسية، كل هذا يُخرج ما بعد المودرنزم من مشروع التنوير الحداثي. ومع ذلك، وكما سبق أن أشرت في الفصل الثاني، فإن الطبيعة الجوهرية لهذا المشروع الأخير وانعكاسيته على وعيه الذاتي، والتزامه الدقيق بالنسبة إلى الحقيقة والقيم والأهداف اتجه إلى تأجيج وليس إخماد نيران الشك الديكارتي. وإن هذه الشكوك التي تضخمت إلى نسب تثير الانزعاج، وأهاجتها مقاطع السخرية هي التي أشعلت حريق ما بعد المودرنزم المدمر. ونحن نرى الشرق منذ أيام أن سافر الجيزويت إلى الصين والهند واليابان في القرن السادس عشر، وهو يمثل تحديًا للتفرد الفكري بل وللهوية الثقافية لأوروبا، وأثار الشكوك التي أسفرت في مُناخنا الثقافي الراهن عن ظهور مصطلحات مثل «اللاقياسية» و«النسبوية»، كما أثار الشكوك بشأن قضايا «العقلانية» و«عالمية وكلية الحقيقة». وتسود الآن حالة من القلق بشأن الهوية الثقافية، وصواب التراث والتقاليد، ورغبة في تمكين الأصوات المكبوتة. وهذه توجهات يمكن اعتبارها بعد حداثية مميزة، وكان لها حتمًا أن تحتل الصدارة بسبب الاهتمامات الاستشراقية التي ساعدت بكل السبل الممكنة على توضيح هذه القضايا وجعلها بؤرة الاهتمام. علاوة على هذا فإن تحدي قيم الحداثة المتمثل في التعددية والنسبوية امتد وأصاب قلب القيم الحداثية؛ أعني نزعتها الإنسانية المتوطنة وتأكيدها على القيمة اللانهائية للذات. وهنا أيضًا استطاع الاستشراق أن يقدم لنا أطرًا فكرية جديدة، وكثيرًا ما تثير البلبلة والاضطراب.

ولعل من المفيد أن نسهب ونوضح هذه الأفكار بأن ندقق بإيجاز في عدد من المفاهيم المحورية في حواراتٍ ما بعد حداثية راهنة، والتي تدور في ساحة مشتركة إلى حد ما مع الاهتمامات الاستشراقية.

أول هذه المفاهيم: «التعددية»، والتي تعني، في هذا السياق، تشظي التقاليد التي كانت قبل ذلك موحدة، والمعتقدات والقيم المشتقة منها. وإن للتعددية مصادر كثيرة، وتتضمن التنوع والتفكك الاجتماعي، وازدياد الوعي السياسي بين الجماعات التي كانت مهمشة، والشك الفلسفي إزاء كلية المعرفة والقيم. وواضح أن تبادل الأفكار الشرقية على مدى القرون القليلة الماضية أسهم بوضوح في تفتح العقل الأوروبي ومشاعر التعاطف الأوروبية في التطلع إلى رؤًى عالمية تتصف بالدوام، ومتباينة مع الرؤى الأوروبية الخاصة. ويمكن القول في ضوء هذا الظرف إن الاستشراق عزز منذ البداية النظرة التعددية، وشجع على الاعتراف بإمكان وجود وسائل بديلة للتفكير والتقييم والعمل. وشهد تاريخ الاستشراق ظهور اتجاهات تحقق توازنًا مقابلًا حيث رُئي أن التعددية تمثل محطة على الطريق في اتجاه وحدة أسمى مكانة. ولكن الملاحَظ هنا، كما كانت الحال في استراتيجيات مؤتمر هاواي للشرق والغرب التي سعت إلى إضفاء رؤية عالمية الطابع، فقد كانت النتيجة الصافية في غالب الأحيان إثبات استحالة المشروع بحكم طبيعته، وظل بيت القصيد إجمالًا يتمثل في ميلاد ثقافة الاعتراف المتبادل، وليس الاستيعاب المتبادل. وأصبح هذا الميل لتحقيق التعددية أكثر فأكثر وضوحًا داخل الانعكاسية الذاتية الوليدة للخطاب الاستشراقي ذاته. وهنا نجد أن فكرة «الآخر» الشرقي باعتباره موضوعًا موحدًا وغير متغير، أفسح الطريق لظهور رؤية تقضي بأن «الشرق» ليس إلا رمزًا أو شفرة متواضعة للدلالة على تنوع غني على نحو لا يصدق لظواهر ثقافية وفكرية. وتم التجاوز بوعي عن فكرة أن الشرق يجب أن نتعامل معه باعتباره جوهرًا أبديًّا يمكن تأمله من بُعد كما نتأمل الأجرام السماوية. وانبثق الاعتراف بأن الممارسات الغربية هي التي تضفي جوهرًا ثابتًا على الموضوعات، هذا مع بزوغ فهم متزايد بتعاليم آسيا، وأنها ثاوية في تنوع مطرد لتراثات متنامية ولها ديناميتها التاريخية الخاصة.

وكان حتمًا أن تؤدي الحجج المتعلقة بموضوع التعددية الثقافية إلى قضية التصور الذهني، والتي تفضي بدورها إلى قضايا وثيقة الصلة متعلقة بالسلطة والقوة، ثم إلى أسئلة من نوع: من الذي سادت تصوراته الذهنية ولماذا؟ ومن له سلطة تصور الحقيقة الواقعة؟ وتحتل هذه الأسئلة في صورة صارخة بؤرة سياق الاستشراق. وتزايد التحالف الصريح بين هذه القضية والنظرية النقدية الأدبية والدراسات النسوية والدراسات عن السود. وطبيعي أن يفضي هذا التحالف إلى إثارة أسئلة مهمة عن المواقف الثاوية في الأعماق تجاه المعرفة، وتشجع الحساسية تجاه التواريخ البديلة والأصوات المتمردة، وتجاه الممارسات الغربية مع النصوص.٤ وكما لمسنا في كل صفحات الكتاب، اشتبك الاستشراق في الحقيقة، وعلى مدًى طويل في عملية تحدٍّ للنظام المعرفي الغربي المهيمن. وانخرط مرارًا في تساؤلات مرتابة إزاء إمكان تأسيس قواعد عالمية محايدة ثقافيًّا تكون أساسًا نبني عليه دعاوى معرفية وشهادات مصداقية للعقلانية. وإذ لفتت الأنظار إلى مخططات مفاهيمية بديلة، وإن كانت قابلة للحياة مثلها، فإنها ساعدت بذلك على إثارة الشك ليس فقط في القيم النوعية للثقافة الأوروبية الحديثة، بل وأيضًا في المسلَّمة التي تفترض أن هذه القيم أساسية من الناحية المعرفية وأنها إطار فكري كلي شامل. ونقضت استخدام مفاهيم مثل العقلانية والفردية والتقدم عند الحكم على الثقافات الأخرى. ورأينا أيضًا أن الفكرة الأثيرة في الوقت الراهن التي تفيد أن التصورات الذهنية هي، بمعنًى ما، صياغة ذهنية، وأنها مضللة منهجيًّا بمعنًى منتظم، إنما هي فكرة مسبقة داخل كثير من الفلسفات الشرقية. وواضح أن ما اكتشفه واستثمره المستشرقون يمثل اتجاهًا ثريًّا للتفكير الفلسفي الآسيوي المعني «بتفكيك» ونقض جميع المقولات، ومن ثم واجهنا بالطبيعة المصطنعة لكل أنماط التفكير. مثال ذلك أن الطاويَّة، كما لاحظنا، كشفت عن نزعتها الشكية الساخرة من كل الصور اللغوية والرمزية، ودأبت على بذل الجهد لتقويض دعائم ارتباطنا بالكلمات والمفاهيم. وتأكدت الرابطة بين هذا النهج وبين ما بعد المودرنزم بشكل خاص في حالة البوذية، على نحو ما صورها بخاصة ناغارجونا ومدرسة مادهياماكا. وهذه المدرسة كما لاحظنا في فصل سابق أكدت على تجريد اللغة من الغوايات التي صاغتها الثقافة، وأكدت كذلك على أن مصادر الخبرة البشرية صيغت عقليًّا، والتزمت نهجًا يستهدف إثبات الطبيعة المناقضة لجميع المواقف الفلسفية. ونرى أن هذه المدرسة، بفضل كل ما سبق، كثيرًا ما يرد ذكرها في ارتباط بما يسمى «التحول في الدراسات اللغوية» في التفكير النقدي والفلسفي الحادث أخيرًا، ويرد ذكرها أيضًا مع الأسلوب التفكيكي المقترن بكل من نيتشه ودريدا.٥
ولا شيء أثبت وفقًا للتفكير ما بعد الحداثي، أنه الأكثر تضليلًا من التصورات عن النفس، وإن أحد جوانب ما بعد الحداثة الأقوى تأثيرًا وتشويشًا هو التخلي عن القول بمركزية الذات البشرية، وهي الأقدس بين جميع الأيقونات الغربية. وهنا وللمرة الثانية وعلى أيدي المستشرقين أثبت الشرق قدرته على تقديم منظور خارجي حافز، وأن فكرة النفس ليست معطًى من الطبيعة بل هي صياغة، وليست ثابتة ودائمة بل ممزقة تستلزم الرعاية. وأدى هذا المنظور إلى دفع الاهتمامات المعاصرة لتعاين عن كثَب التعاليم التقليدية للبوذية. ويقول عالم الإلهيات دافيد تراسي الذي تجاوز بفكره راديكالية كلٍّ من دريدا ولاكان: «إن الطريق البوذي يرغم الغربيين المحدثين على مواجهة أفكارنا الثقافية والنفسية عن الأنا والنفس والذات بعيدًا عن البدائل المعتادة» (١٩٩٠م، ٧٥). ولقد نزع الفكر الغربي تقليديًّا، بسبب مذهبه الراسخ عن الجوهر الثابت، إلى التسليم بأن الطبيعة البشرية جوهر ثابت يميز البشر عن الطبيعة، وعن جميع الكائنات الحية الأخرى، وإلى القول بنموذج للنفس يراه دائمًا أساسًا ومستقرًّا ثابتًا للقوة والمعرفة. واتجه القسط الأكبر من الاهتمام خلال الحوارات المعاصرة صوب نموذج بديل عرضته الطاويَّة والبوذية. ويؤكد هذا النموذج ألا شيء ثابت ودائم، وأن كل شيء في حالة دفق متصل، وبخاصة البشر أنفسهم. وإن الطاويَّة، على سبيل المثال، برفضها للتعاليم الإنسانية للكونفوشية انخرطت بالفعل في عملية تلغي المركزية، وتشكك في الفكرة الكونفوشية عن «الإنسان الأسمى» الذي يجد محور وجوده داخل نفسه من خلال ازدهار واكتمال إنسانيته الجوهرية. وعارض لاوتسو التقاليد المصطنعة سواء للغة أم للدولة. وأبدى غلوًّا في عدائه للمحورية الإنسانية، وجعل الصيرورة في مكانة أعلى من الوجود، مما يؤكد الغيرية والاختلاف بدلًا من الذاتية والجوهر.٦ وإن من أبرز قَسَمات بوذية زن التي استهوت كثيرين من الغربيين هو تأكيدها على الحاضر الزائل، والضئيل، والعام والتافه، وعلى هذا الشعور وهذا السحاب، وهذا الصوت، وليس على اللازماني والخالد. وركزت على «التفريغ إلى خارج» بُغية جني الحكمة بدلًا من التركيز على البناء والدمج. وجدير بالذكر أن تعاليم جميع المدارس البوذية فيما يتعلق باللاديمومة على نحو متطرف تحمل معها ضمنيًّا ما يفيد أن النفس وجود متغير أبدًا. إنها سلسلة من الخبرات والتجارِب اللحظية التي هي بدورها عناصر مشروطة داخل الشبكة الكلية الشاملة للظواهر المتفاعلة. وهذه فكرة معروفة باسم «النشوء المشترك المشروط». وإن ما تنكره هذه التعاليم ليس وجود الوعي أو حتى الوعي بالذات، بل تنكر افتراض وجود كيان دائم كامن وراء الوعي الذي يُشار إليه بالضمير الشخصي.٧

الاستشراق في حقبة ما بعد الاستعمار

كيف لنا إذن أن نقيِّم الاستشراق الآن؟ ونسأل في ضوء الارتباط بلغة ما بعد المودرنزم التي أسفرت عن تفكيك جميع المفترضات الذهنية المنطقية للحداثة: هل يمكن للاستشراق أن يؤدي أي دور غير تأمل نسبوية ما بعد التنوير والتحرر من الوهم؟ هل ثمة أي شيء آخر غير استشراق يفضي إلى تشويه وتلاعب، وربما أصابته أدوات التفكيك ذاتها التي أسهم في صنعها بجرح قاتل؟ نرى في ضوء الأسباب التي عرضناها في الفصل الأخير أن من المستحيل، وربما من غير المتصور وجود حوار منفتح ومنزه ومستنير، واستشراق براء من الانحياز والهوى. ومع ذلك، ثمة شواهد توحي بأن الاستشراق ما فتئ يؤكد إمكان تحقيق تبادل مثمر بين الثقافات، حتى وإن بدا في غالب الأحيان أحادي الجانب وقاصرًا إذا ما قيس في ضوء نموذج أساسي يمثل مثلًا أعلى. وواضح على الرغم من هذا كله، أن ظروف اللقاء بين آسيا وأوروبا تغيرت جذريًّا خلال القرن العشرين. ولكن لا يزال صحيحًا أن «أوروبا ما فتئت تتطلع صوب التراثات والتقاليد غير الأوروبية التي حاولت السيطرة عليها وإدراجها في صورة حلفاء ضد تطورات استهلتها هي نفسها» (هالبفاس، ١٩٨٨م، ٤٤٠). ويرى البعض هذا بمنزلة عملية تحسينية تمحو عادات الماضي السيئة. مثال ذلك أن المستشرق مكسيم رودنسون يعتقد أن مجال دراسته حقق «تقدمًا حقيقيًّا حيث لم يعد هناك انتقاء مسبق أو تلاعب أو محاولات تجميل … للوقائع بحيث تلائم رؤية أيديولوجية واعية» (١٩٨٨م، ٤٤٠). ويتحدث شيلدون بولوك عن تيار «استجوابات الذات في مجالنا» التي اقترنت باختفاء «الأسس والاستخدامات التقليدية لمبحث الدراسات الهندية». وها هو إدوارد سعيد نفسه فيما يبدو منه أحيانًا بمنزلة اعتراف مهم بالقيم الإنسانية، يعتقد أنه ونحن نعيش عصر ما بعد الاستعمار مع التزايد المطرد للدراسات المتقدمة وتنامي «الوعي النقدي»، فإن بالإمكان أن يبدأ عصر ما بعد الاستشراق، حيث يمكن للغربيين دراسة الشرق دراسة متحررة من كل الانحيازات المسبقة والمسلَّمات التي تفسدها وتحرِّفها. ونراه إذ يسلم بإمكان «تحرير المعرفة من الاستعمار» يعترف بأن «ثمة دراسات ليست فاسدة، أو على الأقل ليست عمياء عن الحقيقة الإنسانية»، شأن الاستشراق الذي دانه هو (١٩٨٥م، ٣٢٥).٨ ويرى أن ثمة دليلًا على أن الاستشراق شرع في مهمة الكشف عن تاريخيته وانحيازاته المقموعة والعمل على علاجها، وهي مهمة أعلنها سعيد نفسه في كتاب «الاستشراق».٩ ويتحدث سعيد هنا بطبيعة الحال عن الشرق الأوسط، ولكن ثمة اعتبارات مماثلة تصدق على الخطاب الغربي فيما يتعلق ببقية آسيا. وتطرأ الآن على الاستشراق من نواحٍ كثيرة تغيرات أساسية تعكس تحولات ثقافية كاملة وأوسع نطاقًا، حيث توافرت قنوات كثيرة للاتصال والتفاعل على الصعيد العالمي كله. وأدت هذه إلى رفض المثل العليا القديمة للهيمنة الغربية، وادعاءاتها الكوكبية مع الاعتراف بدعاوى التنوع والاختلاف. وبدأت تتهاوى الحدود القديمة، وظهرت محاولات أصيلة لتحقيق تلاحم آفاق الرؤى. وتوارى النزوع القديم لرؤية الشرق في صورة مثالية ليفسح الطريق لنزوع قادر على أن يكون نقديًّا دون استعلاء، وأن يفيد من تراثات الشرق دون خوف من أن يكون انتقائيًّا أو نقديًّا. وزال بذلك عن تراث الشرق الغموض الذي اكتنفه ونزل من عليائه، حيث سُحُب البَخور التي اعتاد البعض أن يضع الاستشراق بينها، وتبددت الهالة الخارقة للطبيعة التي صنعها الخيال الشعبي لتحل محلها ترابطات خصبة مثمرة مع اهتمامات وقضايا العصر الفلسفية والاجتماعية والإيكولوجية.
وهذا التطور سيكون حتمًا بطيئًا وغير مطرد بانتظام بحيث إن النظرة التفاؤلية عند علماء من مثل رودنسون وبولوك وسعيد يتعين عليها مواجهة الإصرار العنيد على البقاء من جانب مواقف المحورية الأوروبية؛ ذلك لأن ثمة عددًا من العوامل تعمل بوضوح في الاتجاه المضاد. ونجد من بين أكثر هذه العوامل وضوحًا بعث النزعة القومية عقب انتهاء الحرب الباردة، وإحياء سياسات الجناح اليميني المتطرف في أوروبا وأمريكا، والنمو المشئوم للأصوليات الدينية. وهذه ظاهرة نراها واضحة الآن بين الهندوس والبوذيين مثلما هي كذلك في تراثات الأديان الإبراهيمية. ونشهد زيادة على هذا تصاعد التناقض المزدوج من الطاقات المتحررة للخطاب الاستشراقي ذاته. وعلى الرغم من أن عوامل كثيرة تشارك في معادلة هذه الظاهرة إلا إن إحدى النتائج المترتبة على الحالة الأخيرة تتمثل في التأكيد العدواني المتزايد باطراد للهويات العديدة التي تدور حول محورية عرقية. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة هي بوضوح رد فعل ضد عملية الأوربة، إلا أنها يمكن أن تنقلب لتصبح صورة مرآة تحاكي الوضع ذاته على نحو عمدي، وهنا وفي هذه الحدود يكون الاستشراق شجع الوضع الانقسامي ذاته الذي أبدى الرغبة كثيرًا في التعالي عليه وتجاوزه. وجدير بالذكر هنا ما ذهب إليه بعض النقاد من أمثال سارة سوليري، إذ أوضحت أن ما تسميه «نزعة الغيرية» alterism ذاتها السائدة في بعض من خطاب ما بعد الاستعمار، والتي استهدفت إعادة تمكين «الآخر» المستعمَر، تنزع إلى تأكيد البقاء المستمر «لأكذوبة شمولية الآخَرية»، ومن ثم تعزز الثنائية القديمة القائلة بالجوهر الثابت للشرق-الغرب (١٩٩٢م، ١٣). علاوة على هذا فإن المطالبة بالاعتراف بالأقليات واحترام مصالحهم، سواء جاءت المطالبة على لسانهم أو باسمهم، أدت أحيانًا إلى ظهور شكل جديد من التسامح الذي يندرج تحت العنوان الشعبي «التصحيح السياسي». وواضح أن القضايا المحيطة بالتصحيح السياسي تشغل نطاقًا أوسع من الاستشراق، ولكن الملاحظ أنه منذ صدور كتاب سعيد عام ۱۹۷۸م، أصبح الاستشراق كثيرًا ما يقترن بما يسمى «حالة العالم الثالث»، بمعنى موقف العقل الذي يشجع على إحساس الغرب بالذنب واحتقار الذات في فترة ما بعد الاستعمار. والشعور، كما يقول فيرينك فيهير، «بتعذيب النفس» بسبب جرائم الاستعمار، والذي من شأنه أن يفضي إلى احتدام «مناهضة المحورية العرقية» وإلى نزعة أصولية سياسية جديدة ذات صبغة دينية (١٩٩١م، ١٨١). وطبيعي أن موقف لوم الذات لن يشجع فقط على تولد إحساس يتسم بالغلو والعقم بتدهور الغرب وفق ما هو مفترض، بل ويشجع أيضًا على رؤية مهذبة بصورة مفرطة ومنافية للتاريخ عن النقاء الرُّوحي والأخلاقي للشرق، وهذه عملية هدمت الأساطير القديمة لا لشيء سوى لإبدالها بأساطير جديدة.

ويرتبط هذا الموقف المنطوي على مفارقة بحقيقة أن الاستشراق غالبًا ما وقع في توتر جدلي بين الطرفين النقيضين للنزعة الكلية الشمولية والنزعة التعددية؛ إذ ينزع إلى نظرة كلية تتجاوز الحدود الثقافية ويشجع على صوغ منظور شامل لما بين الثقافات، بَيْد أنه في الوقت نفسه ينزع أكثر فأكثر إلى تأكيد الفوارق المحلية والإقليمية، وإلى تغذية الخصوصية الفريدة المميزة للثقافات. وهكذا تظهر النزعة إلى العولمة والنزعة إلى تأكيد الطابع الخاص كنِدَّين متكافئين وعاملَي إغواء على طرفي نقيض في الآن نفسه، وإذا نظرنا إلى هذا الموقف من منظور أوسع فإنه يعكس بوضوح التوترات التي تتضمنها جميع اللقاءات «الهرمنيوطيقية» التأويلية التي تمثل نموذجًا لما يدور في حركة من الخاص إلى العام وبالعكس، وهي ليست بالضرورة دورة خبيثة. وتبدو مثل هذه العملية في الحقيقة ملائمة بشكل خاص لمتطلبات العالم المعاصر. إن التطلعات القومية والعرقية ليست بالضرورة تطلعات تعصبية وقومية عدوانية متطرفة، والعولمة ليست بالضرورة عمياء عن المتطلبات المحلية والإقليمية. وليس ثمة سبب يدعونا إلى القول: لماذا سيعجز الاستشراق عن بيان الطريق للتوسط بين هذين الموقفين. إن حوار الشرق-الغرب في نهاية المطاف ساعد في الوقت نفسه على استعادة وإحياء التراثات الأصلية، بينما فتح العقول في الآن نفسه من أجل مشاعر التعاطف الأوسع نطاقًا والأكثر شمولًا. وليس القارئ في حاجة إلى أن نذكره بأن العالم اليوم يفيض بالنزاعات، ومن ثم أصبحت الحاجة ملحة لخلق اتفاقات تفاهم قادرة على الاعتراف بمتطلبات كل من العامِّ العالمي والخاص المحلي. ومن ثم فإن الاستشراق المستنير لديه دور مهم يُسهم به من أجل خلق مثل هذه الاتحادات واتفاقات التفاهم. بَيْد أن تاريخه الذي راجعناه هو تاريخ محاولات استهدفت خلق تقاطعات عبر الحدود، وحوارات بين ثقافات متباعدة، وآفاق مشتركة. ثم، وهو الأهم بوجه خاص، تأمل نقدي انعكاسي للذات. وأثبت، على أحسن الفروض، قدرته على توسيع مشاعر التعاطف المشترك وإثراء الخيال، وتشجيع الانفتاح والتعددية الثقافية، وتعزيز التسامح بين الشعوب. وأكثر من هذا أن بإمكانه الإسهام لبناء نظام عالمي جديد، وهو شيء مأمول سوف نعود إليه بعد قليل.

ويمكن تقييم دور الاستشراق في المقررات التعليمية في ضوء هذه الاعتبارات. يمكن أن نلحظ في السنوات الأخيرة بعض التحركات تجاه رغبة أكبر لدى الغرب في إدراج عناصر غير غربية في المقرر الدراسي مع التحرر من القيود التي فرضتها تقليديًّا المحورية الغربية. وإن تزايد حضور عنصر الدراسات الشرقية، سواء على مستوى المدرسة أو الجامعة، دليل على أن الغرب عاقد العزم على مكافحة النظرات القومية ضيقة الأفق وتهيئة الفرصة للآراء المهمشة، أو التي أُسكتت، لكي تعبر عن نفسها، وانبثق هذا عند مستوًى معين من اقتناع بعض الأكاديميين بأن «فهم حضارتنا نحن الغربية يأتي مشوهًا وناقصًا ما لم ننظر إليه في إطار كوكبي، وليس في إطار إقليمي ومحلي فقط» (لويس، ١٩٩٣م، ١٢٨). وانبثق أيضًا عن مستوًى أكثر راديكالية يتمثل في المطالبة بمعالجة أكثر نزاهة للنصوص والتراثات غير الغربية. ويتضمن هذا النهج تحديًا للقاعدة الغربية ولكل مسلَّمات المحورية الأوروبية. ونذكر هنا ما قاله أخيرًا سولومون وهيغينز:

تشهد الأكاديميات محاولة نشطة وقوية لمكافحة المحورية العرقية السائدة في المقررات التعليمية التقليدية (سواء محورية عرقية ذَكَرية أو عن الأبيض أو أوروبية)، وكذا ما تمثله من نزعة قومية ضيقة (إن لم تكن نزعة عنصرية). والتزمت بعض الأدوات في الفلسفة خاصة بأن تصبح كميدان دراسي أكثر وعيًا وحذرًا إزاء التراثات الفلسفية الأخرى.

(١٩٩٣م، المقدمة)
ويمثل هذا الحذر إزاء الأصوات الأخرى والتراثات الأخرى مساهمة ليس من أجل خلق بوتقة صهر ثقافي جديدة، بل من أجل خلق تشكيل متكامل متعدد الثقافات، وهذا من شأنه أن يشجعنا على التعالي على حدود وقيود تفاعلنا الثقافي وأنماط فكرنا الناشئة في بيئتنا. وطبيعي أن التكوين المتعدد الجديد سيحول بيننا وبين الوقوع في شَرَك مطابقة وتوحيد تفكيرنا المحلي مع «العقل الإنساني» من حيث هو.١٠

وواضح أن مثل هذه التطلعات والمثل العليا ليست كافية وحدها لتحويل عالم يسوده ظلم وقهر، أو عالم مقسم إلى أحزاب يناصب بعضها بعضًا العداء أو فرق إثنية. وحري بنا أن نلتزم الحذر من أن يغوينا نموذج تحاور ودي يصبح البديل من مواجهة التفرقة وعدم المساواة الاجتماعية والعداوة فيما بين الثقافات. ولست أهدف من دراستي إلى الزعم بأن الاستشراق بريء تمامًا من قبضة العنصرية أو المحورية العرقية أو الاستغلال أو التشويه. وواضح أن كل هذه الأخطاء وأكثر منها عمَدنا بطريقة أو بأخرى إلى توثيقها في مواضع كثيرة من الكتاب. بَيْد أن الاستشراق في صوره وتجلياته المتباينة، وعلى الرغم من هذه النواقص والقيود، أفاد، ولا يزال في الحقيقة، كقوة تحريرية مهمة داخل الحضارة الغربية. وأدى في الوقت نفسه دورًا مهمًّا لاستعادة واستكشاف المتون والتعاليم الشرقية ذاتها. ولنا كل الحق في أن نرتاب من دوافع الاستشراق، وأن نوضح ونركز على مواطن القصور فيها. ولكن لا يلزم عن هذا أنه عاطل من أي قيمة، أو أنه محصور على نحو لا فِكاك منه داخل ماضيه الإمبريالي. وإن منطقًا من نوع «إما-أو» الذي يسود كلًّا من التفكير الصحيح العنصري والسياسي يحتاج تحديدًا إلى التسامح والتعددية والنسبوية، وهي خصائص الاستشراق في أحسن حالاته.

تحولات الاستشراق

هذه النتائج المتواضعة المقترنة، كما هي الحال، برُوح ما بعد المودرنزم المفعمة أحيانًا بشك يثير الإحباط ربما تترك القارئ، مثلما تترك المؤلف، في حال استياء. إن الموقف العالمي الراهن في حاجة ملحة ليس فقط إلى إسكات كل أصوات القهر القديمة، ولا حتى مجرد الدعوة إلى كثرة متسامحة من أصوات جديدة، على الرغم من الأهمية الحيوية لكل هذا. ونقول ما أكده الفيلسوف الأسترالي أران غار وهو يستحثنا بكلمته: «إن ما نحن بحاجة إليه للمساهمة في تحقيق تفاهم متبادل أكثر وأعظم بين الشعوب … ليس مجرد هدم سردية المحورية الغربية، بل بناء سرديات أكبر تتجاوز أطر فكر المحورية الغربية» (١٩٩٥م، ٣٢٤). ولكن أليس اتجاه ما بعد المودرنزم يقودنا ليس فقط إلى إحساس بالتحرر من الوهم ومن السحر وإنما إلى التخلي الحاسم عن مثل هذا الحديث منتفخ الأوداج، ويقودنا في الحقيقة أيضًا إلى التخلي ليس فقط عن «السرديات الكبرى»، بل عن أي فكرة عن معايير موضوعية كلية شاملة؟ إن البحث عن وعاء فوق ثقافي وفوق تاريخي للحقيقة كان أحد الاهتمامات المثيرة للمشكلات في الفلسفة الغربية، ورأى الكثيرون أن التخلي عنها يمثل قطيعة حاسمة مع الماضي.

عرضنا هنا قضايا فلسفية عميقة لا نستطيع معالجتها في السياق الراهن، لكن حيث إننا نُجري مسحًا لمختلف الأشكال المعاصرة للاستشراق فإننا نجد في الحقيقة دليلًا على توافر نظرات وأفكار إيجابية تجعلنا نرى إمكانات بنائية — إن لم نقل سرديات كبرى — تشير إلى ما بعد موت المودرنزم، لكنها لا تلتمس مجرد سبيل إلى ميلاد جديد لآراء عالم ما قبل الحداثة.١١ وطبيعي ليس مطروحًا جمعية فكرية جديدة شاملة، إذ سيكون عسيرًا أن نتخيل في الوقت الراهن، وفي ضوء عمليات النقد التفكيكي، أيَّ رِدة متفق عليها إلى رؤية متكاملة وواحدة عن العالم تجمع كل استبصارات وحكمة الشرق والغرب معًا ضمن فلسفة كلية واحدة. فضلًا على هذا فإن مظاهر سوء استخدام الاستشراق التي ناقشناها — من مثل تحالفاتها بين الحين والآخر مع الخطابات العنصرية والفاشية — حري بها أن تشجعنا على التزام درجة من الحذر واليقظة، وأن تعزز التزام الغرب برُوح التواضع الخاص بالنقد الذاتي في أساليبه عند تناول التراثات غير الأوروبية. وثمة حاجة إلى التزام الحذر، خصوصًا في ما يتعلق بالتوقعات الخاصة بعالم أخروي والتي تقترن بالتحول إلى عصر رُوحي جديد، وهي فكرة مصيرية لها أصول يهودية-مسيحية وإن عمَدت أحيانًا — كما هي الحال في ثيوصوفية بلافاتسكي — إلى الْتِماس سند لها من مصادر شرقية. ومع ذلك، ربما نشهد بعض التخمينات الملائمة تنبثق عن الجذور النقدية التي أمسكت بتلابيب الخطاب الشرقي أخيرًا لا تحتاج منا إلى تقدير وتشجيع. ونشهد إرهاصات لمبادرات فكرية تعتمد على مصادر شرقية قبل حداثية من دون أن تنزلق إلى أساطير «الشرق خير والغرب شر»، أو إلى الاعتقاد أن في وسع الفلسفات الآسيوية القديمة أن تعفينا من كل أسباب السخط الحداثية وما بعد الحداثية. وعرضت في الجزء الثالث من هذا الكتاب رؤية تخطيطية عامة لبعض أساليب الاهتمامات المعاصرة التي تشتمل عليها الأفكار الشرقية، وكيف كشفت عن مجالات جديدة وهيأت إمكانات جديدة. أذكر من هذه، كمثال، ما حدث في إطار الحوار البوذي-المسيحي، وفي البحوث النفسية في أثناء دراسة الوعي، وهو ما لست بحاجة إلى أن أكرره هنا. بَيْد أنني في هذا الجزء أريد أن أقترح في عبارات تأملية وعامة بعض السبل التي ربما تم من خلالها تقمص رُوح الاستشراق، وإن جاء بصورة مفككة، في تطورات فكرية وثقافية معاصرة يمكن التعرف عليها، والتي تؤلف عوامل من اليسير تبينها وإدراكها خلال الدينامية الإبداعية للفكر المعاصر. وسوف أحدد هنا أربع مجموعات حتى لا أشق على القارئ.
أولى هذه الطرق مرتبطة بتزايد أعداد الغربيين الذين يتبنون، ولو بصورة مغايرة غالبًا، الأفكار والممارسات الرُّوحية الشرقية. إن أعدادًا متزايدة باطراد على مدى العقود القليلة الماضية عمدوا إلى تبني الأساليب الشرقية ابتداء من الممارسة المنتظمة للتأمل واليوغا وحتى الالتزام الديني الشامل الذي يتضمن غالبًا اعتناق تعاليم زِن أو تعاليم بوذية التِّبِت. وأود هنا أن أشير إلى أن ما نشاهده الآن ربما لا يعني إضافة فصل جديد إلى القصة الأوروبية القديمة الخاصة بالتجريد الثقافي أو حتى معكوس تحويل الشرق إلى المسيحية، وإنما هو بمعنًى ما تطور تاريخي للتقاليد الشرقية ذاتها. وتمثل البوذية هنا خير مثال في صميم الموضوع، إذ نعرف أنها على مدى تاريخ آسيا الممتد والمعقد نبتت وأنبتت نبتًا جديدًا في كثير من البيئات الثقافية والدينية الخصبة، وحولت وتحولت في أثناء هذه العملية، ونقلت إلينا صورة كائن حي لا يزال يعيش حالة تطور مطرد. وتطرأ على البوذية اليوم في الغرب تحورات واعية، ربما تناظر، كما يرى كينيث إينادا «ما حدث في الصين واليابان … إذ خلقت كل منهما النحلة البوذية الخاصة بها». وسبق أن لحظنا صورة لهذا النوع من التحول مرتبطة بالحوار البوذي-النسوي، ونرى اليوم عديدين من الكتاب يفكرون مليًّا وفقًا لهذا النهج ومن زوايا متباينة. مثال ذلك ستيفن باتشيلور الذي قضى سنوات طويلة قبل عودته إلى إنجلترا، كراهب بوذي في الهند وكوريا، إذ يؤكد أن البوذية تمر بمرحلة تشوش، ولكنها مرحلة انتقال خلاقة من خلال التقائها بالغرب. ويستطرد ليقدم بعض التأملات التي تمثل تحديًا، وتتعلق بميلاد بوذية للغرب «وجودية وعلاجية وديمقراطية وتخييلية وفوضوية ولاأدرية» (١٩٩٤م، ٢٧٤، ٢٧٧). ويرى أن التكيف ليس اختيارًا بقدر ما هو مسألة درجة، موضحًا أنه حتى أفراد اللاما في التبت الأشد نزوعًا إلى المحافظة، أو رهبان «بهيكاس»١٢ سريلانكا ينزعون إلى ملاءمة تعاليمهم مع السياق الغربي (المرجع نفسه، ٣٣٧). ونجد خير مثال على التكيف العمدي في الطائفة البوذية الغربية التي أسسها الراهب الإنجليزي الذي يحمل اسما دينيًّا هو سانغاراكشيتا. إذ أنشأ طريقة بوذية متلائمة مع المتطلبات الثقافية والاجتماعية الغربية.١٣ ويضع عالم الإلهيات دافيد تراسي هذه المسألة في سياق تاريخي عام، ويعلق قائلًا: «إن البوذيين الغربيين لم يقنعوا فقط بأن جعلوا من البوذية اختيارًا حيًّا مطروحًا على غربيين كثيرين، بل غيروا بدقة ورقة البوذية نفسها على نحو جذري يضارع التحولات الكلاسيكية الباكرة التي طرأت عليها مع تحولها من الهند إلى تايلاند والتبت والصين واليابان» (تراسي، ١٩٩٠م، ٣٩).١٤

فضلًا على هذا، يبدو أن ثمة مجالًا لحدوث انقسامات تقدمية وأخرى محافظة. وسوف تتوزع ما بين من يرون، من ناحية، أن ثمة حاجة إلى بوذية متطورة تعكس متطلبات عالم ما بعد الحداثة، وبين أولئك الذين يعتقدون، من ناحية أخرى، أن الوضع نفسه يستلزم حسمًا وانضباطًا للحفاظ على التراث المقدس القديم. وأثبتت البوذية دائمًا قدرتها على استيعاب كل من هذه المتطلبات والنزعات من دون اختيار حاسم وإيثار أحدها على الآخر.

وتُعتبر الطاويَّة مثالًا آخر في هذا الاتجاه على الرغم من أنها حتى الآن لم تحقق ما حققته البوذية من انتشار وجاذبية. ولا ريب في أن استيعاب الغرب لجوانب من الطاويَّة ساعد عليه واقع أن تراثها ومؤسساتها الأصلية في الشرق أحاط بها ستار كثيف من الغموض والسرية. ويبدو من غير المرجح أن الطاويَّة، بسبب جذورها العميقة في الثقافة الصينية القديمة، سوف تبلغ مكانة العقيدة الدينية في الغرب، لكن، مع هذا، نجد جوانب من هذا التراث احتضنها الغرب في شوق ولهفة وغيَّر من مواضعها وطورها. نذكر من بينها ممارسات تاي تشي-شوان١٥ وفنغ شوي١٦ ونهجها القائم على التكافل في العلاقة بين عالم الإنسان وعالم الطبيعة. وأشار مارتن بالمر إلى أنه على مدى رحلة الطاويَّة إلى الغرب «نرى صورًا ومصطلحات وحكمًا وممارسات طاوية … بدأت تتجلى في صورة جديدة ستحمل أوجه شبه قليلة بالعقيدة الأصلية». وإذ يعرب عن أسفه لأن الغربيين يفتقرون إلى الاستعداد العملي اللازم لدراسة متعمقة للطاوية التاريخية فإنه، مع هذا، يقر بالأهمية التاريخية لهذه الحركة متأملًا إياها في ضوء التحولات الباكرة لها في الصين نفسها.

والإشارة إلى الطاويَّة تنقلنا إلى الدرب البنائي الثاني للاستشراق الذي يمكن أن نلخصه في كلمة «الإيكولوجي». والجدير ذكره أن هذا تطور له جذوره المهمة الممتدة في التراث الثقافي الغربي أيضًا. ولا يتضمن فقط نقدًا راديكاليًّا للقيم والمسلَّمات الحداثية، بل يتضمن كذلك مؤشرات على نظرة أكثر إيجابية وإنتاجية. حقًّا، ربما يدفع البعض بأن النموذج الإيكولوجي، من حيث هو فلسفة لها نطاقها الواسع، يقدم لنا الأسلوب الوحيد للتقدم أبدًا إلى الأمام، ليس فقط داخل الغرب بل أيضًا في سياق كوكبي. ونجد مثالًا مهمًّا لهذا الضرب من التفكير في أعمال الفيلسوفة السياسية الأمريكية شارلين سبريتناك التي حاولت بوسائل عديدة ومتباينة أن تدمج الحِكم الشرقية في رُوحانية علمانية جديدة تسميها «ما بعد المودرنزم الإيكولوجية». وعمَدت خلال صياغتها للفكرة إلى تحديد معالم تراث لحكمة جديدة تتجاوز «جوانب الحداثة الفاشلة» ولكنها تعتمد على جوانب «للتراثات نفسها» التي نبذتها الحداثة «في ازدراء». ويمكن لنا الآن أن «نرى أن هذه التراثات تتضمن إلهامًا بالمشاركة الإيكولوجية والواحدية الدينامية» (١٩٩١م، ١٩، ٢٧). وإذا كان نقاد ما بعد الحداثة يعمِدون في بهجة وسعادة إلى نزع طبقات من التصور المفاهيمي الثقافي فإنهم يصلون إلى مواقع يقدمون عندها أطرًا فكرية هي من بعض النواحي أطر محورية في تراث الحكمة العظيمة الموروثة من الماضي، خصوصًا حكمة الشرق. وتبدي سبريتناك ملاحظة تقول فيها: «إن بعضًا من أبرز المفكرين التفكيكيين بعد الحداثيين شرعوا يسألون الأسئلة ذاتها التي تضعهم على عتبة تراثات الحكمة» (المرجع نفسه، ٢١٩)، أعني إلى النقطة التي نرى فيها مواضعات وتقاليد الكلام والمذهب العقيدي خداعات تقيدنا وتكبحنا.

ليس معنى هذا رِدة مبتذلة إلى معتقدات بالية، وسقوطًا في مهاوي نسيانٍ غامض بُغية تجنب أهوال الحاضر، وليس حتى ردة إلى أصولية متحجرة، بل إنه عودة إلى اشتباك (هرمنيوطيقي) تأويلي جديد مع الأفكار القديمة بعد ملاءمتها وتطبيقها على الوضع الراهن، وإنجاز ذلك بأسلوب نقدي ومنفتح. واقتداء بما ذهبت إليه سبريتناك نرى أن هذه النظرة المعبرة عما سمته: «ما بعد المودرنزم الإيكولوجية» يمكن أن تشمل الخصائص التالية:

  • (١)
    مفهوم ألوهية حالَّة في الكون وقدسية كل شيء.١٧
  • (٢)

    معنى الكون من حيث هو خلق ذاتي، والحياة الإنسانية من حيث هي عملية على مدى التحقق الذاتي.

  • (٣)

    التغلب على الإثنينية بأن تصبح الذات ثاوية في حقيقة أكبر شاملة الطبيعة وكل ما بين الناس.

  • (٤)

    معنى للذاتية مناهض للمعنى «البطريركي» أو الأبوي والحكمة الموجهة إلى الباطن.

  • (٥)

    إدراكٌ قوي للبدن ولإمكاناته الكامنة العاطفية والرمزية والرُّوحية.

  • (٦)

    إقرار واضح بنسبية الخطاب البشري وتعددية النصوص البشرية.

  • (٧)

    اعتراف بالدفق والفيض المتصل اللانهائي، وتعقد وتشابك الأشياء والموجودات في عالم الطبيعة.

  • (٨)

    ارتياب في القوانين والقواعد لمصلحة التراحم والشعور المتبادل، وإمكان مذهب أخلاقي لا ينبني على أساس جزاءات مفارقة أو مبادئ خالدة.

وينقلنا هذا إلى الطريق الثالث. وترغب سبريتناك هنا في تجاوز ما بعد المودرنزم التفكيكية. وسبيلها إلى هذا إعادة اكتشاف معنًى للتواصل مع الواقع، وهو معنًى متعالٍ مفارق للبنى الافتراضية الثقافية. وثمة آخرون يزعمون أنهم يجدون في الممارسة التفكيكية ذاتها إمكانيةً ليقظة رُوحية ذات ارتباطات إيجابية مثمرة مع «تراث الحكمة» في الشرق. والجدير ذكره أن ما نتصوره ميولًا لدى ما بعد المودرنزم التفكيكية تجاه العدمية وتحلل المعنى يمكن أن تبدو للوهلة الأولى وكأنها ميولٌ تحُول دون مثل هذه الروابط. ونحن في حاجة إلى أن ننظر عن كثَب وتدقيق أكثر إلى مفهوم شونياتا shunyata (الفراغ أو الخواء)، وإلى فلسفة المفكر البوذي ناغارجونا، وهو المفكر الذي تولَّد لديه، كما رأينا سابقًا، اهتمام متزايد باطراد بالغرب. وتمثل فلسفته واحدة من أهم التطورات التي شهدها تراث بوذية ماهايانا. ويعرض هنا أسلوبًا للتفكير يمكن أن يبدو ضربًا من العدمية المفجعة، حيث في السياق الغربي غالبًا ما يقترن العدم بالتشاؤم والرُّوح والمعنى. ولكن من المهم أن نؤكد أن المنهج «التفكيكي» أو «شونياتا» عند ناغارجونا يبدو، عند إسقاط كل الخداعات، حالة تهيئ إمكانًا، وليس سد السبيل أمام إمكان، لتوفُّر وجودٍ أكثر ثراءً وأصالة. ونراه أيضًا يزودنا بإمكان الانعتاق من عادات العقل العُصابية. وإن هذا المفهوم البوذي الأساسي لا يعني ضمنًا إنكارًا لوجود العالم أو أنه مجرد خداع، بل يعني ألا شيء بالإضافة إلى الظواهر البادية العابرة. ثم إنه على عكس التوقعات الغربية لا يشير إلى قلق نفسي أو عدمية، بل إلى استبصارات وحِكم تحريرية وإلى استراتيجية صحة عقلية وازدهار رُوحي. ومن ثم فإن الشونياتا دعوة لكي نرى أن ما هو موجود لا يمكن حصره قسرًا في تصنيفات لسانية متواضَع عليها بما لها من ميل لكي تعزو إلى هذه التصنيفات وجودًا فرديًّا دائمًا وجوهرًا ثابتًا، وأنها بذلك تسهم في تحريرنا من حالات التسلط الفكري والعقبات التي تعيق طريقنا إلى التنوير. ونلحظ أن الفراغ في بوذية هينايانا ينطبق فقط على الأشخاص بينما هو في تراث بوذية ماهايانا يشمل جميع الكائنات، إذ نراها فراغًا من أي ماهية، «فراغ من نمط معين للوجود نسميه «الوجود الذاتي الأصيل» أو «الوجود الموضوعي» أو «الوجود الطبيعي»» (هوبكنز، ١٩٨٣م، ٩). إذ إن كل هذا يتراكب على الظواهر ولكن يمكن أن نراه خداعًا بفضل التحليل الفلسفي. وقام ناغارجونا بتعليم هذا باعتباره علاجًا لجميع الآراء العقائدية الجامدة، وكوسيلة للتحرر من سامسارا؛ أي دورة الميلاد المتجدد من خلال التقمص. ولعله ذهب إلى أبعد من ذلك زاعمًا أن مفهوم شونياتا هو نفسه فارغ وينبغي عدم التشبث به: «إن المؤمنين بمفهوم شونياتا مآلهم ألا يبرءوا من أدواتهم» (اقتباس من هايوارد، ١٩٨٧م، ٢٨٢). وإن جميع المذاهب العقيدية، بما في ذلك البوذية، هي أمراض يتعين الشفاء منها.
وثبت أن هذا المفهوم أغوى عددًا من المفكرين المعاصرين في الغرب، ونراه رائجًا بوسائل مختلفة للتشكيك في التصنيفات الفئوية السائدة، ولتهيئة آفاق جديدة.١٨ مثال ذلك أن جيريمي هايوارد، وهو عالم ومعلِّم بوذية، يرى أن شونياتا ليست تجريدًا فلسفيًّا ولا حتى وسيلة لمكافحة البقايا المتخلفة عن الإطار الفكري الميكانيكي، بل تتضمن تحولًا جِشطلتيًّا وجوديًّا عميقًا، «تحول في الإدراك يقال إنه أشبه باليقظة من الحلم»، وتحقق من «خطأ فريد وعميق وقع المرء فيه طوال حياته». ويؤكد أنها «خبرة مزلزلة قرين بهجة غامرة وراحة، وكأن عبئًا ثقيلًا سقط عن كاهل، ومدخلًا إلى طريق جديد لتوجيه مسيرة حياة المرء» (١٩٨٧م، ٢١١). وثمة نهج مماثل في التفكير، لكنه أكثر ثراء ونضجًا قدمه عالم الإلهيات دون كوبيت. إذ يرى أن التشاؤمية مرض العصر المتوطن، وشجع عليها مفكرو ما بعد المودرنزم الذين يؤكدون على زوال كل شيء، بما في ذلك جوهر أعماق نفوسنا، واغتربنا على أيديهم إلى عالم «لم يعد ناموسًا واحدًا، في خضم سيالٍ دافق من التأويلات والنظريات والأطر الفكرية والمعاني والإشارات». ونتيجة لذلك أقحمنا نحن الغربيين على أنفسنا معنًى بوذيًّا لزوال كل شيء (١٩٩٢م، ١٠٩، ١١٠). ويدفع قائلًا: ولكن هذا من بعض النواحي أسوأ كثيرًا بالنسبة إلينا عما هي الحال بالنسبة إلى البوذيين التقليديين. ذلك لأن تراثنا الفكري والديني الغربي على اختلاف أشكاله يؤكد بشكل نمطي على الدوام والموضوعية، فضلًا على ما يقضي به من الإيمان بأن تحت فيض المظاهر يثوي «نظام للعقل خالد ومفهوم يحمل جميع الخصائص التي ينشدها القلب» (المرجع نفسه، ١١٠). وأن هذه التراثات القائمة على «المحورية اللغوية» تُخلفنا فاغرين أفواهنا يائسين داخل نفق مظلمٍ فَور تهاوي دِعامة هذه العقائد التي تروِّح عن النفوس. لهذا فإن مصدر المشكلة كامن في التوقعات الضاربة بجذور عميقة التماسًا لحل فيه راحة للنفس، والذي لم يعد حدثًا وشيكًا في عالمنا المعاصر. ويعتقد كوبيت أن السبيل لتجاوز هذه المعضلة المؤلمة هو أن نفطم أنفسنا عن الحاجة إلى مثل هذه الراحة، وذلك بأن نواجه غيابها الذي لا مفر منه. وإن تراث بوذية ماهايانا بكل فلسفته غير الواقعية المثيرة للإعجاب بوسعها أن تعيننا على هذا. إنها تقدم تشخيصًا وعلاجًا للموقف الإنساني الذي يؤكد أولًا الطبيعة الاصطناعية المحضة للمقولات اللغوية. وثانيًا: الحاجة إلى تطوير ممارسة تفكيكية تعمل على حسم كل مظاهر التعارض والاغتراب، وبذا لا تمسك بنا أسرى. وثالثًا: أن نحقق لأنفسنا لمحة خاطفة فيها شفاء النفس مستمدة من الوحدة البدائية التي تفوق الوصف لجميع المتناقضات (المرجع نفسه، ١٢٧). ويشير إلى ملاحظة قائلًا: «وسار على هذا المنهج نفسه الياباني دوجين أحد كبار أئمة بوذية زن الذي أكد على زوال كل الموجودات، بما في ذلك ذاتنا التي هي مكنون أعماقنا. ويحثنا على «التخلي عن الأهداف الكونية الشاملة وعن المعتقدات الجامدة الواقعية»، ويوجه أنظارنا إلى سلام العقل حيث الوجود الزماني ماثل في كل لحظة ولا شيء في الحقيقة آتٍ أو راحلٌ عنا» (المرجع نفسه، ١٢٩). وليس معنى هذا أن ندير ظهورنا للتراث الأصلي على اختلاف ضروبه؛ وذلك لأن كوبيت، مع كل ما سبق، يرى من الأهمية بمكانٍ الجمع بين التراث البوذي والتراث المسيحي بأسلوب تأويلي «هرمنيوطيقي»، ويشير بإبدال أحدهما بالآخر. إن إنجاز مذهب مناهض للواقعية مستمد من هذين التراثين «هو وحده القادر على أن يجعلنا غير أنانيين، ظاهرنا كباطننا، أحرارًا وخلاقين في براءة» (المرجع نفسه، ١٦٣).١٩

وإذا بدا كل ما سبق حديثًا مجردًا بل وغريبًا، فإننا كمثال أخير سنعود ثانية إلى روابط الاستشراق بالمضمار السياسي وببعض التحولات الاقتصادية-السياسية بعيدة المدى الجارية في وقتنا الراهن. يرى البعض أن الوقت الراهن عصر محوري جديد، ليس فقط من حيث كونه يشهد نهاية المشروع العولمي العظيم المقترن بالتنوير الأوروبي، بل وأيضًا عصرًا ستنتقل فيه نقطة الارتكاز الكوكبية من الغرب إلى الشرق. وكذلك عصر التحول الدرامي للقوة من الشرق إلى الغرب، وهو معكوس العملية التي حدثت خلال عصر التنوير. إن تغير مواقع بؤرة الجيوبوليتيكا من الأطلسي إلى الباسيفيكي، والصعود القوي والمؤكَّد باطرادٍ لاقتصادات اليابان وكوريا وسنغافورة وتايوان، ونهضة الصين والهند كلاعبَين عالميَّين، كل هذا يوحي بأن حضارات الشرق العظمى تمر، هي الأخرى، بعملية إحياء وحيوية عميقة. ويتجلى هذا، كما سبق أن أشرنا، في تجدد الوعي الذاتي بالتراث الفكري والرُّوحي الأصيل. ولعل من أهم تجليات هذا التحول في الأوضاع ما نشهده من تأكيد على «القيم الآسيوية» في بلدان مثل ماليزيا وسنغافورة، وهي القيم التي تتمحور حول الأسرة والرفاهة القومية، وعلى المسئولية تجاه المجتمع، في مقابل المثل العليا الغربية المتمثلة في الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ونرى في هذا السياق أن الجمع بين العولمة والتعددية اللذين ربطنا بينهما وبين الاستشراق سوف يؤدي دورًا مهمًّا في التفكير المنعكس على النفس. وثمة في الحقيقة عدد من الباحثين والنقاد بدءوا يعترفون بالصلة الوثيقة بين حوار الشرق/الغرب الذي امتد زمنًا طويلًا، وبين الموقف الراهن الذي حددنا معالمه توًّا. وهنا تحتل الكونفوشية بوضوح لا مزيد عليه بؤرة الاهتمام. وبدأت هذه الفلسفة تحظى بالاهتمام من جديد في الغرب بعد إغفال طال زمانه، كما أن صلتها الوثيقة بالنزاعات الراهنة تعكس بوسائل مهمة مشاركتها في الحوارات الأوروبية خلال عصر باكر. وعبر عن هذا بإيجاز أحد المؤرخين إذ قال:

على مدى العَقد أو العَقدين الأخيرين أُنزل كونفوشيوس بجلاله من عليائه للمشاركة في حوارات عن موضوعات كانت تبدو دون منزلته الرفيعة، وكأنه عضو حديثُ عهدٍ بأرستقراطية أسرة جو٢٠ يراقب أو يتحدث عن النمو التجاري والاقتصادي.
(يننار، ١٩٩٢م، ١٦٩)
يَبين الآن أن حوارًا قويًّا ونشطًا يجري الآن تأسيسًا على «الكونفوشية الجديدة» في بلدان غرب الباسيفيكي، حيث تبدو تعاليم كونفوشيوس الأخلاقية قرين تأكيدها على المشاركة الجمعية تقدم نقدًا مهمًّا للفردانية الغربية مع بديل منها (انظر لاي، ١٩٩٥م). ويرى جوديت بيرلنغ أن الكونفوشية «في هيئتها الجديدة تعمل مشاركًا نقديًّا، بحثًا عن قيم وتفاهمات بشأن الموقف الإنساني في العالم المعاصر» (لي، ١٩٩١م، ٤٧٦). وحري أن ندرك أن هذه التطورات الأخيرة تزودنا بمنظور جديد مهم عن الاستشراق ومحاولاته بناء نقطة وصل وتفاعل خلاق بين رؤى أوروبا وآسيا عن العالم. وثمة مفكر هو جون غراي أدرك مدى الأهمية الحيوية لنقطة الوصل والتفاعل هذه من أجل التأمل النقدي للعالم المعاصر. وجدير بالذكر أن المهمة المحورية لأعمال هذا الفيلسوف، والتي صدرت حديثًا، هي «الاهتداء إلى طريق يتجاوز أيديولوجيا الليبرالية التقليدية» الفاشلة مثلما يتجاوز طموحات النزعة العالمية لمشروع فترة التنوير. ويلتمس طريقًا يتجنب النزعات الأصولية لكل من اليسار واليمين، ولكنه قادر على تهيئة، بل والاحتفاء بالتسامح الذي يستلهم التعددية ويؤكد التنوع الثقافي. صفوة القول إن ما يبحث عنه هو «نظام تعددي لنمط حياةٍ سِلميٍّ بين التقاليد الثقافية المختلفة، وبين أساليب الحياة والشعوب. أو لنقُل يبحث عن سياسة تبدل مشروع عولمة الثقافات الغربية بإرادة تستهدف أن تجعل الكوكب شراكة بين الثقافات المختلفة جذريًّا» (غراي، ١٩٩٥م، ١٤٠، ١٨٠). وإذا كانت نظرية فرنسيس فوكوياما التي تزهو بانتصارها ترى أنه آن الأوان بعد المرحلة الشيوعية لكي تنتشر المؤسسات والمثل العليا السياسية الغربية وتشمل العالم كله، فإن غراي في المقابل يوضح، من بين أمور أخرى، ميلاد اقتصادات النمور الآسيوية، والحوار المتجدد في كل من آسيا والغرب بشأن الاستحقاقات المقارنة لكل من الفلسفة الجمعية الكونفوشية والفلسفة الفردية الغربية. ويذهب إلى أن مثل هذه العوامل تشير إلى أن طريق التقدم هو الطريق الذي يعترف في آن واحد بأن مشروع التنوير انتهى زمانه ويواجه واقع أن «الحياة السياسية تحكمها الآن النزعات الخصوصية التي انبعثت من جديد والعقائد الدينية المتطرفة والنزعات العرقية التي عادت إلى الظهور» (المرجع نفسه، ٢). ويأمل في أن ما يتولد عن اللقاء الجديد بين الشرق والغرب ليس «صدام حضارات» (وهي عبارة صمويل هنتنغتون)، بل شكل جديد من «الليبرالية القائمة على التنافس الهادف» حيث اللقاء التنافسي بين الأفكار والقيم يشكل أساس التسامح والتعايش المتبادل (المرجع نفسه، ٤٨). ويستلزم هذا قطيعة مع التراث الغربي الذي اتجه إلى تأكيد التناغم المطلق بين القيم، وإلى شكل جديد من التسامح — يسميه «التسامح الراديكالي» — ويتطلب تحقيق ذلك ليس فقط التسليم بما يرفضه من أساليب حياة غربية ومتعارضة، بل والقدرة على إثبات أن الحضارة الغربية بما في ذلك الديمقراطية الليبرالية ذاتها، إن هي إلا طائفة من أشكال ثقافية بين طوائف أخرى (المرجع نفسه، ١٩٧٩). ولنا أن نوسع من التشخيص الذي عرضه غراي، وذلك على أن ما يلزم ليس فقط الاعتراف بالاختلاف، بل والاستعداد إلى التدقيق وإمعان النظر في هذا الاختلاف، من خلال حوار ودي واسع الاطلاع، وتحديد معالم فضاء ديمقراطي ليس مقتصرًا على الاحتفاء بالتنوع، بل ويشمل حافزًا في اتجاه البحث النقدي والحواري التنافسي التماسًا لأرض مشتركة. وخير مثال على هذا النموذج تجسده الدورة المئوية التي انعقدت عام ۱۸۹۳م لبرلمان الأديان العالمية التي بحثت عن القيم الأخلاقية الصميمية، مع الاعتراف بالتنوع الثقافي واحترامه.٢١

هل ما بعد الاستشراق؟

أخيرًا، ماذا نفيد من كل ما سبق من حديث عن المثل العليا للحوار في اتساق مع ما ترتبت عليه من نتائج ذات رنين إنساني عن التسامح والاحترام المتبادل والتأمل النقدي المنعكس على الذات؟ تُرى ماذا تبقَّى في التحليل النهائي من الاستشراق كفاعلية للتجديد، وكمركز للمشاركة الإبداعية للأفكار فيما بين الثقافات؟ إن الأساطير التي لها السيادة عن الاستقطاب والتكامل بين الشرق والغرب ربما نراها أخيرًا بسبيلها إلى استنفاد صلاحيتها لأسباب لا حصر لها، ليس أقلها أن المصطلحين التوأمين، الشرق والغرب، فقدا أي معني منطقي كان لهما في السابق. ومع ذلك فإن الأمثلة التي عرضناها سابقًا، وربما كل ما استعرضناه في هذا الكتاب من لقاءات وحوارات، تشجعنا على الاعتقاد أن الاستشراق لم يعد أمره موكولًا على الإطلاق للتاريخ. كذلك فإن الحديث عن الحوار لا يزال يحمل قدرًا من الحياة ذات النفع، حتى إن لم يعد يجري بين قوًى يمكن التعرف عليها مثل قولنا: «طرفا العالم القديم». وإن ما نشهده اليوم هو تحول شامل للأفكار والمؤسسات تدفعه طاقة ثقافية وسياسية تضرب بجذورها في الغرب، ولكنها تمتد الآن لتشمل العالم كله من حيث النطاق والتأثير. وإن العملية التاريخية الممتدة التي تلتمس دمج الكوكب، وهي عملية تمثل قوة دفع وتنبيه على مدى أربعمائة عام منذ أيام ماتيو ريتشي، وقتما كان يرسل تقاريره المتوهجة عن مملكة السماء للقراء الأوروبيين الشغوفين للاطلاع عليها. وواضح أن هذه العملية لا تزال حتى يومنا هذا تنمو بخطوات سريعة في مختلف مجالات النشاط الفكري والثقافي والسياسي. وربما يرى مؤرخو المستقبل في هذا علامة النهاية للتقسيم القديم بين شرق وغرب، وكذا نهاية الاستشراق. وربما من ناحية أخرى يرونها البداية لمرحلة جديدة من الاستشراق — أو أيًّا كان الاسم — لم يعد لقاء الأفكار فيها مقتصرًا على المشروع الأوروبي وحده مستهدفًا مصالح غربية خاصة ومقدمات تاريخية غربية، ولم يعد يقينًا استشراقًا إمبرياليًّا بأي معنًى من المعاني. وربما يبدو إسهامًا في اتجاه بناء «هرمنيوطيقا» كوكبية حقًّا، لتدخل مرحلة جديدة وحاسمة على طريق حوار الإنسانية الممتد.

١  خير مثال على هذا ظهور دراسات ثانوية تمثل محاولة مهمة لبحث وتحرير أصوات المعوزين اللطماء. انظر غوها وشاكرافورتي ١٩٨٨م.
٢  انظر على سبيل المثال فور ١٩٩١م، الذي يهيئ أبعادًا اجتماعية وشعائرية لبوذية زن التي لم تبرزها الروايات الغربية.
٣  انظر أيضًا بيك ١٩٩٢م حيث يصور التمزق والتناقض كقَسَمات أساسية لعملية التحديث، وحيث مصطلحات من مثل «الحداثة المتأخرة» و«التحديث الانعكاسي» يشار إليها بعبارة «ما بعد الحديث»، وكذلك غيدينز ١٩٩١م، حيث يصوغ قَسَمات مقترنة بما بعد المودرنزم باعتبارها نضجًا متأخرًا وليست تعاليًا للحداثة.
٤  انظر مارالدو ١٩٨٦م، بشأن مسألة الالتزام النصِّي في هذا الخصوص.
٥  للاطلاع على مناقشة علاقة ناغارجونا بالفلسفة الغربية المعاصرة، انظر شارفستين ١٩٧٨م.
٦  قدم دافيد هول أيضًا الكونفوشية بحسها العميق بشأن تجسيد الفرد داخل المبدأ الجمعي كأداة لنقد قوي دعَّم الفردية والتمزق في الحداثة (انظر ديوتش، ١٩٩١م).
٧  للاطلاع على تحليل تفصيلي لمبدأ «اللانفس» البوذي، انظر كولينز ١٩٨٢م.
٨  ولكن بريان وآخرين أوضحوا أن التزام سعيد بمنظور فوكو يسفر بالضرورة عن نتيجة تشاؤمية ما دام كل خطاب يخضع لتحولات تفرضها علاقات السلطة، ومن ثم فإن الاستشراق لا يمكنه تحرير نفسه من المصلحة السياسية والاقتصادية (١٩٩٤م، ٣١-٣٢ و٤٥-٤٦).
٩  للاطلاع على مزيد من المناقشة لهذه الفكرة، انظر سعيد ١٩٨٩م.
١٠  تجلت التطورات في هذا المجال بوضوح أكثر في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أستراليشيا. وجدير بالملاحظة أن القضايا المتعلقة بالتعددية الثقافية بعامة، وبالمناهج التعليمية والقانون الغربي بخاصة، كان موضوعًا لجدال حاد ومكثف خلال السنوات الأخيرة، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية. والآراء التي عبرت عنها ليست مقبولة بعامة وبشكل مطلق. انظر في هذا الشأن فوستر وهيرزوغ ١٩٩٤م، وتايلور ١٩٩٢م.
١١  يعرض غريفين ١٩٨٨م تمييزًا واضحًا ومفيدًا بين ما بعد مودرنزم تفكيكية، أو غائية من ناحية، وما بعد مودرنزم بنائية أو تنقيحية من ناحية أخرى. وإن سلسلة صاني Suny المعنية بالفكر البنائي بعد الحديث، والتي يرأس تحريرها دافيد غريفين، تمثل محاولة لدفع الحوار ما بعد الحداثي في اتجاه ساحة أكثر ثراء وخصوبة مع الاعتراف في الوقت نفسه بإنجازاتها الحاسمة. ويَرِد ذكر الإيكولوجيا المحيطة غالبًا كمثال لنظريةٍ بعد حداثية بنائية أو تنقيحية.
١٢  بهيكاس Bhikkus: تلميذ بوذا، وتعني حرفيًّا الشحاذ أو من يعيش على الصدقات، وهو مَن تم رسمه كاهنًا كاملًا في دَير بوذي ويعيش حياة تتسم بالبساطة تعزز الممارسات الرُّوحية والتأمل وصولًا مستقبلًا إلى النيرفانا. (المترجم)
١٣  انظر باتشيلور حيث يقدم عرضًا لهذه الطريقة.
١٤  انظر أيضًا كوب وإيفيس ١٩٩١م. يرى عالم فقه الإلهيات جون كوب أن المسيحية تتعرض لتحولات موازية في حوارها مع البوذية، وأن من المحتمل أن تختفي مظاهر التمايز بين المسيحية والبوذية.
١٥  الفن العسكري الصيني. (المترجم)
١٦  فن آسيوي قديم لخلق تناغم وتوازن في البيئة. (المترجم)
١٧  مثل هذه الرؤية تجلت واضحة عند كثيرين من صوفية الإسلام. (المترجم)
١٨  انظر أيضًا هنتنغتون ١٩٨٩م، ورينكور ١٩٨١م، وكوب ١٩٩١م، حيث يدفعون جميعًا في اتجاه رفض التأويل العدمي للفراغ شونياتا في البوذية.
١٩  يمثل ميتشيل ١٩٩١م محاولة أخرى لعالِم إلهيات لتشجيع علاقة بين الرُّوحانية المسيحية وفكرة البوذية عن الفراغ، ومن ثم يتجه إلى تحول متبادل للتراثين.
٢٠  أسرة جو في الصين حكمت في البداية ولاية ضعيفة ثم قويت واتسع ملكها. بدأ عهدها منذ القرن الحادي عشر واستمر حكمها ثمانية قرون. وفي القرن السادس قبل الميلاد شهدت ما يسمى عصر الممالك المتحاربة، كما ظهرت مائة مدرسة فلسفية تناقش كيف يمكن إدارة المجتمع-الدولة لخير الشعوب والنظام. وراج المثل القائل: «دع مائة مدرسة فكرية تزدهر، ودع الآراء تتصارع»، وأهم حكمائها كونفوشيوس. (المترجم)
٢١  انظر كونغ وكوشيل ١٩٩٣م، حيث عرض تفصيلي لهذه المناسبة والإعلان الأخير لها. انظر أيضًا جنغ ١٩٩٥م، حيث محاولة للتوفيق بين الأفكار السياسية الكونفوشية والتفكير الليبرالي الديمقراطي. وطبيعي أننا نخطئ إذا ما حددنا أن الكونفوشية هي القاطرة الأيديولوجية الوحيدة التي تحرك التقدم الاقتصادي في شرق آسيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤