بعض الأفكار المبدئية
بينما أصاب إدوارد سعيد إذ قال إن «الاستشراق» نمط «غربي» مميَّز في التفكير … فإنه بسط الأمر للغاية عندما أفاد ضمنًا بأن «هذا الأسلوب في التفكير مرتبط ارتباطًا لا انفصام له بواقع السيطرة، بل إنه في الحقيقة مشتق منها.»
إغراءات الشرق
إن هذا الافتتان بالشرق الذي تعاظم وذاع سوف أسميه — توخيًا لبساطة الحديث — الاستشراق. ويبدو في ظاهره مثيرًا للحيرة، ويلح التماسًا لنوع من التفسير التاريخي. وأذكر هنا ما قاله فيلسوف أمريكي معاصر:
إذا تأملنا جميع التحولات المثيرة للدهشة في عالمنا المعاصر فلن نجد ما هو أكثر غرابة من الطريقة التي استوعبت بها أكثر بلدان الغرب تقدمًا صناعيًّا — ومن خلال الهواء الذي تتنفسه — أقدم الأطر الفكرية لأقدم مذهب فلسفي على ظهر الكوكب.
إن ما يلزم تفسيره بخاصة هو اهتمام الغرب الشديد بالشرق من جانب واحد وعلى نحو مطلق، أو هكذا على الأقل حتى وقت قريب نسبيًّا. نعرف أن المستكشفين والمفكرين الغربيين وعلى مدى مئات — وربما آلاف — السنين سعَوا إلى استكشاف الشرق والالتقاء به، ودرسوه واستوعبوه وعمَدوا بالتناوب إلى تتويجه ليحتل عرش الديانات والخيال الثقافي للغرب، وكذا إلى إقالته عن عرشه. ونجد في المقابل الشرق لم يسع خارجًا إلى الغرب بالطريقة نفسها، إذ لم يحاول جاهدًا أن يحتل أراضيه، أو أن يتعلم منه، أو أن ينحني راكعًا أمامه. نعم، إن بلدان وثقافات آسيا أفسحت يقينًا الطريق في الآونة الأخيرة للافتتان بالتكنولوجيا الغربية وما اقترن بها من عقيدة الاستهلاك، وكذا لأيديولوجيات الغرب السياسية ومذاهبه وأوثانه الشعبية، بل ولفلسفاته. ولكن يجب أن نتذكر أن عملية «التحديث» هذه ما هي إلا عملية لم تزدهر تلقائيًّا من غرس ثقافي شرقي، بل كانت نتيجة تدخلات الغرب قسرًا وما فرضه من مطالبات.
وثمة واقع آخر يمثل لغزًا يثير الحيرة، ألا وهو أن الجانب الأكبر من الخلفية التاريخية التي تطور على أساسها الاستشراق بدا في ظاهره معاديًا لتطوير أي نوع من مشاعر الحب مع الشرق، إذ بينما نجد من ناحية أن المفكرين الأوروبيين يسرفون في إنتاجهم الأدبي بغية الارتفاع بمكانة الهند والصين إلى ذرًى سامية من حيث الكمال الأخلاقي والفلسفي، نجد الاتجاه العام للجماهير وللتجار والسياسيين والإداريين الاستعماريين أقرب ما يكون إلى المزيج من الاستعلاء القومي «الشوفيني» والازدراء العنصري. مثال ذلك أن الحكام الاستعماريين للهند «البريطانية» اعتادوا النظر إلى أنفسهم باعتبارهم طائفة متميزة فوق كل من سواها، وعمدوا في غالب الأحيان إلى التعامل بنوع من اللامبالاة أو الاحتقار مع كل ما يستثير المشاعر، ومع كل المعتقدات والعبادات الخاصة بالشعوب الخاضعة لهم. وعلى الرغم من أن أراضي الصين لم تخضع كلها للاستعمار بشكل كامل لكنها أصبحت خلال فترة التوسع الإمبريالي الغربي هدفًا وموضوعًا معياريًّا للانحياز والتعصب القائم على المحورية العرقية، مثلما كانت موضوعًا للسخرية بسبب تخلفها وانحطاطها الأخلاقي. ونلحظ أن الدارسين كثيرًا ما دعموا مثل هذه الاتجاهات، مثال ذلك أن إس ويليامز، الباحث المتخصص في الشئون الصينية خلال القرن التاسع عشر، أدان الصين لأنها بلد يكشف عن قدر من الانحطاط الأخلاقي على نحو لا يمكن تصوره أو التعبير عنه وفهمه بصورة ملائمة (١٨٨٣م، ١–٨٣٦). كذلك الحال بالنسبة إلى من كانوا معنيين بالشأن الديني، فضلًا عن الشئون التجارية والسيطرة السياسية، إذ اعتادوا النظر في كبرياء إلى معتقدات وممارسات الشعوب الآسيوية وقد ملأهم الفزع والاحتقار (وإن كانت هناك بعض الاستثناءات كما سوف نرى فيما بعد). وحري أن نقول إن الإيمان بأن الله أوكل للأوروبيين حقًّا العمل على تحضر هذه الشعوب إنما كان في الحقيقة حافزًا قويًّا يدعم نشاط الإرساليات التبشيرية المسيحية، ويتجلى هذا بوجه خاص خلال القرن التاسع عشر، حتى عندما نرى مبشرًا مَعمدانيًّا ذا عقل ليبرالي مثل وليام كاري يؤكد أنه لولا التأثير المسيحي لغرقت بلدان آسيا ضحية العنف والنهب والسلب وسفك الدماء.
شيء آخر بحاجة إلى تفسير، وهو الاتجاه الغربي الحديث نحو النسيان الجزئي لكل المجموعة المركبة من الظواهر المقترنة بالاستشراق. إذ من المؤكد أن إنجازات ماركو بولو الفذة مطبوعة في ذاكرة سلالة الأوروبيين. ولكن كثيرين ممن يتباهون بمعرفتهم الكاملة بالتاريخ الأوروبي سوف يدهشون حين يعرفون بعضًا عن مدى التغلغل الشرقي في الغرب منذ ذلك التاريخ، وأن هذا التغلغل جاء نتيجة عملية الاستيراد النشط. ولا يزال كثيرون أسرى انطباع أن الافتتان بسحر المنتجات الثقافية للهند والصين، والجهود النشطة للحصول عليها وتبنيها، إنما هما أمران يعودان إلى تاريخ حديث نسبيًّا. هذا إذا ما تركنا جانبًا قليلًا من الأحداث العرضية الهامشية والتي حدثت بشكل فردي. ونعرف جيدًا أن مؤرخي الفن يؤكدون بالفعل أثر الرسم الصيني في رسم لوحات المشاهد الطبيعية للبساتين وتصميمات الإنتاج المحلي في القرن الثامن عشر، وكذا أثر الرسوم الجدارية اليابانية في الرسوم الأوروبية أواخر القرن التاسع عشر. ويتذكر الفلاسفة بين الحين والآخر أن شوبنهاور — وهو شخصية لم تنل مكانتها المحورية في الفلسفة حتى عهد قريب — قارن فلسفته بفلسفة الهندوس والبوذيين. وكثيرًا ما يذكر مؤرخو الثقافة المجتمع الثيوصوفي المعتمد على الحكمة اللدُنِّيَّة على الرغم من أنه يرتبط عادة بإحياء الإيمان بخوارق الطبيعة، أو باعتباره مثالًا للاحتيال العقيدي. والجدير ذكره أن أعمال جوزيف نيدهام لفتت أنظارنا أخيرًا إلى إمكان وجود كثير من الإنجازات التقنية والعلمية المنسوبة إلى أوروبا في عصر الثورة العلمية التي هي نتاج تأثيرات لإنجازات صينية سابقة عليها. وأوضح أن هذه تؤلف تأثيرات مهمة في العلم الحديث الوليد إبان عصر النهضة (١٩٦٩م، ٥٧). بَيْد أن مثل هذه الأصوات أُخْرست وظلت كذلك. كما أن صورة الذات للغرب — سواء لدى العامة أو كما صاغها المفكرون بثقافتهم — لم تجد متسعًا كافيًا للفكرة القائلة إن الشرق لم يقدم شيئًا أكثر من جزء تافه ضئيل في تشكيل ثقافة وفكر الغرب.
سحر الشرق
لعل كلمة الاستشراق توجز أكثر التفسيرات شيوعًا للافتتان الغربي بالشرق دائمًا ومن دون انقطاع. وتفيد هذه النظرة بأن اهتمام الغرب بالشرق دفعته في الغالب الأعم الرغبة في الهرب إلى «آخَر» خيالي وبعيد إلى حد ما، أملًا في أن يهتدي هناك إلى وسائل رفيعة المكانة حتى إن بدت وهمية، أو إلى مادة ينسج من خلالها أحلام الحكمة المفقودة أو العصور الذهبية الخوالي. ويحدثنا رادها كريشنان — على سبيل المثال — عن انجذاب الغرب إلى وهج الشرق الغريب الفريد، ويشير إلى واقع أن «الشرق ظل دائمًا وأبدًا في نظر الغرب لغزًا رومانسيًّا، ومهد المغامرات التي على شاكلة ألف ليلة وليلة، وموطن السحر، والعالم الذي يتوق إليه القلب» (١٩٣٩م، ٢٥١). وها هو ميشيل لو بري في دراسته عن «الرومانسية»، يرى الشرق من منظور الإنسان الغربي، ويقول:
هذا المكان الآخر الذي هناك، والمملكة التي تتوق إليها النفس، حيث يسود الظن أن الإنسان يمكنه هناك أن يفيق متخففًا من عبء الذات، إنه تلك الأرض الواقعة خارج المكان والزمان، حيث نهتدي — كما يسود الاعتقاد — إلى موضع يهيم فيه الخيال ونشعر معه بأننا في بيتنا.
ويمثل الشرق — حسب هذا المنظور — ميلًا يسود في الغرب إلى الهرب من آلامه وأوجاعه السائدة، والتماس مكان للسلوى، حتى إن بدا غير واقعي وزائلًا، ولكن ليهيم في عوالم من نسج الخيال، والتطلع في شوق إلى حالة من الوجود خارج الزمان متعالية على التقسيمات الأليمة التي يئن بسببها هذا العالم. يعبر هذا بإيجاز عن حلم يقظة جمعي لأوروبا، والذي يمثل عرضًا لحالة من الإجهاد والإرهاق تستبدُّ بالثقافة الأوروبية بين الحين والآخر.
وسوف نكون بحاجة إلى دراسة فاحصة أكثر تفصيلًا في فصل تال للاتهام باللاعقلانية. إذ ربما يكون هذا المصطلح — بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى — مجافيًا تمامًا للدقة وله دلالات فلسفية كثيرة ومعقدة، لتفيد كمفتاح لكشف مغاليق الاستشراق. وهذه هي الحال يقينًا عندما تولَّد الحماس أحيانًا للأفكار الاستشراقية نتيجة لحالة مزاجية تستلزم التخلص من وهمٍ أرى من الأفضل أن أسميه بعامة «العقلانية العلمية». وكذلك التحرر من وهم الفلسفات المادية والميكانيكية التي احتلت الصدارة في أعقاب التنوير. بَيْد أننا سنرى فيما بعد أن هذا لن يقدم لنا بأي حال من الأحوال تفسيرًا وافيًا للاستشراق. وإذا شاء القارئ مثالًا واضحًا على هذا نقول إن الاستشراق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يقترن في غالب الأحيان باللاعقلانية، بل على العكس، اقترن بالتأكيد على العقل والعلم في مواجهة محددة لمفهوم اللاعقلانية في الأيديولوجيات ولدى المؤسسات الأوروبية. وحري أن نذكر أن القسط الأكبر من «اكتشاف» البوذية خلال العصر الفيكتوري نتج عن الاعتقاد بأنه بالمقارنة بالمسيحية، المؤمنة بالخرافات، تمثل عقيدة دينية منسجمة مع الفروض الأساسية للعلم. ونحن كذلك بحاجة إلى أن نؤكد أن اللاعقلانية في هذا السياق ليست بالضرورة المعادل للهجوم الشامل ضد المناهج المقررة للبحث العقلاني، بل إنها كثيرًا ما اقترنت بالحاجة إلى توسيع وإثراء مفهومنا عن العقلانية. وثمة عدد من مفكري القرن العشرين أبدوا اهتمامًا بالأفكار الشرقية، اعتمادًا على نماذج شرقية من دون أن يكون هدفهم إفساد مناهج العقلانية العلمية من حيث هي كذلك، بل — وهذا هو الأصح — من أجل حث هذه المناهج على توسيع نطاقها. واكتشفوا كذلك عناصر «لاعقلانية» في الفكر الشرقي، ليس في معرض إبدالها، بل من أجل استكمال وموازنة ما سبق أن رئي تركيزًا مغالًى فيه في الأوساط الغربية على وظيفة الاستدلال العقلي في ضوء فهم ضيق ومحدود.
أعود لأقول ثانية إن هذا العامل يمثل جزءًا من القصة وليس كلها بأي حال من الأحوال. إن تاريخ الثقافة الأوروبية منذ القرن السادس عشر فصاعدًا يؤكد بوضوحٍ تنامي الوعي بمعرفة جديدة ومتجددة. ويرتبط هذا الوعي ارتباطًا وثيقًا بالتحولات الاقتصادية والسياسية التي جرت آنذاك. وحفزت هذه التحولات، مثلما أثارتها، رحلات الاستكشاف الكوكبية على مدى هذه الفترة. وطرأت على الأساليب القديمة من التفكير بشأن العالم والمجتمع والقيم والمصير البشري تطورات جذرية على مدى القرون التالية مباشرة للنهضة. ويمثل الاستشراق — وفق هذا الإطار — جهدًا عاديًّا ملازمًا للبحث المتسع باطراد عن المعرفة، بما يعني أنه قَسَمة مميزة للحقبة الغربية الحديثة، وهو ما ليس بحاجة بالتالي إلى تفسير حي يتجاوز ما يمكن أن نفسر به توسع الرُّوح العلمي في العموم. إن ظهور الاستشراق في القرن التاسع عشر كمبحث دراسي مقترنًا بالدقة العلمية يمكن أن نرى فيه شاهدًا يدعم هذه النظرة العامة. إذ لنا أن نتصور هنا أن بالإمكان أن نرى حالة واضحة لبرنامج بحثي انبثق من النزوع العلمي والوليد الجديد لهذا العصر. ونرى كذلك أن له جذوره الممتدة في الماضي إلى الباحثين عن الحقيقة في اليونان القديمة.
ولكن، وكما هو الحال في الفرضين السابقين، فإن نظرية «الفضول المعرفي» تتسم بالبساطة الشديدة، ولا تفسر بوضوح كامل الظواهر موضوع البحث. إننا حين نراجع ونستعرض تاريخ الاستشراق سوف نجد المرة تلو الأخرى أنه — ومع فعالية الرغبة في المعرفة العلمية — مرتبط عادة برباط وثيق بعوامل أخرى أكثر تعقيدًا. إذ سوف يبين لنا أن الخطاب الاستشراقي يرتبط ارتباطًا وثيقًا لا انفصام له بخطط أوسع نطاقًا بكثير من تلك المقترنة بمتطلبات البحث والدراسة الاستشراقية من حيث هي. وسوف يبين لنا أيضًا أن الافتتان بالشرق لا ينبثق من اهتمام نظري بحت فضلًا عن الفضول المعرفي الشعبي إزاء الثقافات الأجنبية، وإنما ينبثق بالأَوْلى من اهتمامات ترتبط ارتباطًا وثيقًا باهتمامات عملية (براجماتية) تضرب بجذور عميقة في التاريخ الفكري والثقافي والسياسي الخاص بأوروبا. وطبيعي — كما سوف نرى فيما بعد — فإن هذه الاهتمامات والاستجابات الاستشراقية إزاءها، تتباين من عصر إلى آخر. ويبقى علينا أن نرى بدقة وتحديد دورها الذي أدته خلال الخطاب الغربي الحديث في عمومه. لذلك فإن إحدى الحجج الرئيسة التي ينبني عليها هذا الكتاب تفيد بأن الاستشراق — حتى وهو في أكثر مسوحه إغراقًا في الأكاديمية — ارتبط بقوة وعلى نحو لا انفصام له بالاهتمامات والمشكلات الغربية، ومن ثم لا يمكن تصوره إلا في نطاق محدود جدًّا، باعتباره بحثًا عن المعرفة المنزهة عن الغرض.
إدوارد سعيد: مسألة السلطة
أهم هجوم مؤثر ومتسق فكريًّا على تفسير الاستشراق تأسيسًا على مقولة «المعرفة الخالصة» جاء على لسان إدوارد سعيد. استعان سعيد بنظرية ميشيل فوكو عن «السلطة/المعرفة»، وأكد أن الاستشراق، أيًّا كانت دعاواه الصريحة والمعلنة لا يقدم لنا «صورة صادقة» عن الشرق، وإنما يقدم تصورًا، أو تصورًا في صياغة جديدة، وبناء جديد نتاج معرفة «استعمارية» هي من نتاج وخَلق الغازي المحتل؛ لكي يفهم في ضوئها حتمية الاختلاف. ويستهدف التصور وفق صياغته تأكيد هوية الغرب المتميزة، وكذا تعزيز هيمنة الغرب السياسية والثقافية على الشعوب الآسيوية. ومن ثم فإن الاستشراق في نظر سعيد بنية صيغت في غمرة الصراع الاستعماري، ويعبِّر عن الجناح المسيطر. ولم تأت الصياغة تعبيرًا عن دراسة علمية فقط، بل أيضًا عن دراسة أيديولوجية منحازة … تخفي الصراع وراء قناع عبارات أكاديمية وجمالية (١٩٨٩م، ٢١١). لذلك — ووفق هذا التفسير — نخطئ إذ نتصور الاستشراق في صورة معرفة موضوعية منزهة عن الغرض. ويكون الخطأ أعظم حين نفكر فيه في ضوء مزاج رومانسي يستهوي النفس. ولن يكون الاستشراق هنا فهمًا منهجيًّا خاطئًا ولا تشويهًا عنصريًّا للتقاليد وتراث الشرق، بل إنه في نظر سعيد ليس إلا تعبيرًا وتبريرًا للسلطة الكوكبية التي يمارسها الغرب الحديث.
ما هو الاستشراق إذن كما يفهمه ويتصوره سعيد؟ هنا الاستشراق في أدنى الحدود مجال لدراسة علمية تكتنفها خلفية من التعبير الأدبي وحماس الهواة والأساطير الشعبية. إنه المبحث العلمي المستخدم أداة للتعامل مع الشرق على نحو منهجي باعتباره موضوعًا للدراسة والاستكشاف والممارسة، ولكنه في الوقت نفسه يتضمن «تلك المجموعة من الأحلام والصور والمفردات اللغوية المتاحة لكل من حاول الحديث عن الشرق» (١٩٨٥م، ٧٣). إذا كان الاستشراق استمد معلوماته من الرحلات واغتذى بمعلومات جرى تحويلها إلى أوروبا على أيدي الإرساليات التبشيرية والتجار والمديرين فهو في جوهره «عالم نص، بنية، أوروبية» اختلقها أصحابها لخدمة متطلبات خطط أوروبية معينة. والغرض من بناء مثل هذه الصورة وصياغة مثل هذا الإطار للخطاب هو تأسيس «آخر ذي دلالة»، والذي عن طريقه تحدد أوروبا (أو الغرب) هويتها هي الخاصة، ومن ثم تأكيد تفوقها وحقها في الحكم والتسيد. ويصرح سعيد قائلًا «وطبيعي أن جميع الثقافات تفرض تصويبات على الواقع الخام»، وتحول الموضوعات الخاصة بالثقافات الأخرى «لمصلحة المتلقي» (المصدر نفسه، ٦٧). معنى هذا أن جميع المعارف يجري تخطيطها بهذه الوسيلة واختزالها إلى شيء يمكن إدارته واستيعابه. ولكن في حدود ما يتعلق بمعرفة الشرق فإن من المهم الإقرار بأن عنصر السلطة ينفذ إلى أعماق العملية. إذ إننا هنا لا نتعامل مع نوع من المعرفة المحضة، حتى وإن افترضنا وجود مثل هذا النوع من المعرفة منفصلًا عن الأحداث السياسية ومن دون أن يصطبغ بصبغتها. ولكننا بصدد معرفة محصورة داخل العملية التاريخية في مجموعها، والتي يمكن إيجازها في كلمة «الإمبريالية الغربية». وجدير بالملاحظة أن هذه الحجة في أعم صورها تعني السلطة بأوسع معانيها، ولها جذورها الممتدة إلى نيتشه على أقل تقدير. ولعل أشهر صورة معاصرة عنها هي دراسة فوكو التي تقرر أن المعرفة هي في واقع الحال دالة سلطة، بمعنى أن «كلًّا من السلطة والمعرفة يتضمن الآخر مباشرة … حيث لا توجد علاقة قوى من دون مجال معرفة يمثل البنية المترتبة عليها، ولا أي معرفة لا تفترض مسبقًا ولا تؤلف في الوقت نفسه علاقات قوى» (فوكو، ١٩٧٧م، ٢٧).
وهكذا يدفع إدوارد سعيد — بوجه عام — بأنه لا إنتاج للمعرفة في العلوم الإنسانية في وسعه أن يُغفل أو يستنكر تورط صانعه كذات إنسانية في ظروفه الخاصة (١٩٨٥م، ١١). وهذا هو ما يتجلى تحديدًا في الظروف السياسية لعلاقة الغرب التاريخية بالشرق.
وإذا كانت البينة التاريخية التي سنوردها فيما بعد تشير إلى نتيجة مفادها أن ما يسميه فوكو «نظم حكم الحق»، سواء من وراء قناع سياسي أو تجاري أو ديني، إنما كانت فاعلة ومؤثرة صراحة أو ضمنًا في المشروع الاستشراقي. ولكنها تفيد أيضًا بأن هذا لا يمكن طرحه باعتباره تفسيرًا كافيًا ووافيًا للاستشراق. وعبر عن هذا المفكر الإسلامي ألبرت حوراني بقوله:
بينما أصاب إدوارد سعيد إذ قال إن «الاستشراق» نمط «غربي» مميز في التفكير … فإنه بسط الأمر للغاية عندما أفاد ضمنًا بأن هذا الأسلوب في التفكير مرتبط ارتباطًا لا انفصام له بواقع السيطرة، بل إنه في الحقيقة مشتق منها.
ومن ثم فإن الرأي الذي أود إبرازه أنه بينما أصاب إدوارد سعيد في دعواه بأنه لا توجد معرفة مبرَّأة من السياسة، فإن ربط الاستشراق بالسلطة الاستعمارية يمكن أن يمثل جزءًا واحدًا فقط من القصة. ونحن لكي نتبين ما يتعين أن نحكيه لاستكمال القصة يلزم النظر الآن إلى بعض الآراء النقدية الأخرى لجهود سعيد في هذا المجال.
الاستشراق من حيث هو مرآة تصحيحية
لنحاول في هذه الأثناء أن نُلقي نظرة عن كثَب وتدقيق أكثر في هذا التساؤل المعبر عن استراتيجية الشك أو مراجعة الذات. وهذا عامل معترف به في التاريخ الفكري للغرب والذي ظهر خلال القرون القليلة الماضية واكتسب نمطًا مميزًا. وتحدث ميرسيا إلياد، مؤرخ الأديان، عنه باعتباره ارتباطًا «هرمنيوطيقيًّا» أي تأويليًّا استبطانيًّا مع الشرق، وباعتباره كذلك «مواجهة مع» الآخرين، مما يساعد الإنسان الغربي على أن يفهم ذاته على نحو أفضل (١٩٦٠م، ١٠-١١). ويظهر عند مستوى معين ببساطة كبيرة كوسيلة تساعد المفكرين على النظر من بُعد إلى أوروبا والتطلع إليها وكأنهم من خارج؛ أي كمرآة يتفحص منها الناس فروض وانحيازات تراثهم وتقاليدهم الخاصة. وطبيعي أن هذه الاستراتيجية ليست مقتصرة أبدًا على علاقة أوروبا بالشرق. مثال ذلك أنه في أثناء حقبة التنوير راجت مختلف أنواع التصورات عن المجتمعات والقبائل الأجنبية، سواء منها ما هو واقعي أو متخيل، وذلك بهدف انتقاد مظان الحمق والقصور في الحضارة الأوروبية. وخير مثال مشهور عن ذلك أسطورة الهمجي النبيل. وهكذا نجد آمي غلاسنر غوردون في نقاش له لاتجاهات التنوير الفرنسي إزاء الثقافات الأخرى بعامة يبرز حقيقة أن «الفلاسفة كانوا يؤمنون بأن توافر منظور أوسع وفهم أشمل للمجتمعات غير الأوروبية من شأنه أن يمكنهم من فهم أنفسهم على نحو أفضل، وكذا فهم العالم الذي يعيشون فيه» (من كتاب بولابيلي وفان كلي، ١٩٨٦م، ٧٥، ٧٦). وقدمت الصين، كما سوف نرى لاحقًا، إلى «الفلاسفة» التنوير الذي أرادوه تحديدًا في صورة «منظور أوسع». وكانت الهند هي التي زودت الرومانسيين بالمرآة التي كشفت لهم عن مظاهر القصور في عصورهم. ثم بعد ذلك البوذية والطاويَّة اللتان اقتحمتا طريقهما لإسداء خدمة مماثلة. وما فتئت هذه الاستراتيجية رائجة وملحَّة بوضوح اليوم في عدد من المجالات الفكرية والثقافية. وهذا هو ما يعبر عنه اقتباس لعبارة على لسان ريتشارد بيرنشتين قالها في مؤتمر فلاسفة الشرق-الغرب، إذ قال: «إن المرء لا يسعه التوصل إلى فهم مؤسس على المعلومات ومتسق البنية للتراث الذي ننتمي «نحن» إليه إلا من خلال لقاء متشابك مع الآخر، أي مع آخَرية الآخر، أي وجود هذا الآخر كذات مستقلة عني» (عن الألمانية، ١٩٩١م، ٩٣).
إذا مضينا إلى أعمق من ذلك، إلى حيث يثوي في مركز هذا النمط ما يمكن وصفه على أحسن وجه بالقلق الثقافي السائد، وهو إدراك لا يبعث على الاطمئنان لخطوط المنازعات، ويسري عميقًا إلى ثنايا قطاعات الحياة الثقافية الأوروبية، نافذًا عبر مستويات من السياسة والدين والفلسفة. وينبثق عنه هنا إحساس بنوع من الانهيار الأساسي في قلب الوجود الفكري والرُّوحي والمعنوي للغرب. ويذهب المؤرخ وليام هاس إلى أن اهتمام الغرب بالشرق منذ القرن السادس عشر وما بعده يكشف عن حالة «شك عميق»، ويبرز حقيقة أن «الحضارة الغربية في العصر الحديث أصبحت، أكثر فأكثر، لغزًا غامضًا بالنسبة إلى نفسها — مرتابة بشأن جوهرها وقيمتها — مشوشة غير مطمئنة بالنسبة إلى الطريق والهدف» (١٩٥٦م، ٤٢-٤٣). ويحدثنا ريتشارد بيرنشتين من وجهة نظر يغلب عليها الطابع الفلسفي عن «قلق ديكارتي لا يكفُّ عن غزو تراث فكري أضحت أسسه ذاتها مشكلة دائمة بالنسبة إلى التراث نفسه» (انظر بيرنشتين، ١٩٨٣، ١٦–٢٥). ونلحظ استخدام مصطلحات طبية ومصطلحات تحليل نفسي مرارًا في هذا النص. وليس من العدل القول، بكلمات فيلسوف الأديان نينيان سمارت، إن كلًّا من الشرق والغرب يمثل «نقدًا مفيدًا لتراث الآخر، والذي به يمكن لكل طرف أن يتحدى الآخر ويكون عامل تصحيح له» (١٩٩٢م، ٩٩، ١١١). وثمة نهج أكثر تدميرية في نزعته المتطرفة، نجده يكرر المرة تلو الأخرى الحديث عما يعانيه الأدب الاستشراقي من «أزمة» أو «اعتلال» متباين الأشكال. ويجري عرضه باعتباره مرضًا يُحدِق بالحضارة الغربية مما يستلزم أن نوجه أنظارنا إلى الشرق التماسًا للعلاج وطلبًا للشفاء. مثال ذلك أنه في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين حذَّرنا سي جي يونغ من أننا «نعيش يقينًا في فترة تعاني أشد أنواع القلق والتوتر العصبي والتشوش وفقدان الاتجاه في نظرتنا» (١٩٦١م، ٢٦٦). وبعد بضعة عقود علق الفيلسوف تروي ويلسون أورغان على الأزمة الراهنة بقوله: «نحن في حاجة إلى ما وراء الغرب التماسًا للعلاج» (١٩٧٥م، ٧). وتباين «العلاج» الذي بإمكان الشرق أن يضعه للغرب وفق تغير الظروف والمطالب والاحتياجات على مدى القرون الأربعة الأخيرة. وأصبح شائعًا أن «تجدد الاهتمام بالديانات الشرقية يتوافق مع فقدان الغرب لثقته في قيمه هو الثقافية، ومع تضاؤل مكانة المسيحية في داخل المجتمع والثقافة الغربيين» (دافيز، ١٩٧١م، ١٧). ولكن دعوى الكتاب الذي بين أيدينا هي أن البحث عن تشخيص وعلاج من خلال الارتباط بالشرق ليس أبدًا ظاهرة معاصرة، بل يمكن تتبع تاريخها باعتبارها فكرة متسقة باطراد على الرغم مما اعتراها من تباينات كثيرة على مدى التاريخ الفكري الغربي الحديث.
ولكن كيف لنا أن نفسر هذا التضارب؟ قد يدفع البعض بأن عدم التماثل بين الشرق والغرب في هذا الصدد إنما حدث ببساطة نتيجة لفارق اقتصادي عميق يمثل أساس الاختلاف بين الاثنين، وأن ميل الغرب نحو الْتِماس تحليل للذات لبيان أسباب المرض إنما هو «قانون راسخ في ثنايا نسيج وجوده، وأنه نتيجة لنمطه الرُّوحي المميز وديناميته الأصيلة» (كرايمر، ١٩٦٠م، ٢٢٩، ٢٣٠). ورأى بعض المعلقين كما أشرنا سابقًا في هذا الفصل «أن هذا دليل على الفضول المعرفي في إصرار فاوستي وعلى دينامية الجبلية». وتبين لنا أن هذا كان أشبه بطابع دائم، «كليشيه»، منذ القرن السابع عشر، والذي يؤكد أصحابه أن الثقافات الآسيوية هي بطبيعتها الغالبة ثقافة سكونية، ومحافظة بشدةٍ بالمقارنة بأوروبا. ربما، والحال كذلك، أن ميل الغرب إلى نقد الذات إنما هو تجلٍّ لنوع من الاستياء الإلهي، ورغبة لا فِكاك منها في السؤال والاستقصاء، وهي ميول ظهرت جميعها أولًا بين فلاسفة الإغريق، وكانت قَسَمة جوهرية مميزة للنفس الأوروبية منذ ذلك التاريخ.
العدمية والغرب
من المسلَّم به لدى جميع المؤرخين بعامة أن أوروبا، أثناء النهضة وبعدها، ومنذ البداية الأولى للفترة الحديثة، تعرَّضت، وعلى جميع المستويات؛ ابتداء من المستوى الفكري والثقافي وحتى السياسي والاقتصادي، لتحوُّل عميق وصل إلى حد القطيعة الجذرية مع ماضيها. وكثيرًا ما اصطبغ هذا التحول بألوان بطولية. وهو ما تمثل في الإطاحة بقيود الإقطاع ومظاهر القمع الثقافي التي شهدها العصر الوسيط، والتبشير بميلاد العالم الحديث قرين اكتشاف الحرية الفردية وإطلاق العِنان لقوى العقل البشري وتحريره من أسر قيود الطبيعة. ويمكن أيضًا النظر إلى هذا التحول باعتباره كان تحولًا صادمًا؛ نظرًا لأنه أحدث قطيعة عميقة مع الماضي ومع تقاليد الفكر المترسبة في النفس من زمن طويل، وكذا مع تراث العقيدة والممارسة، علاوة على ما أحدثه من تحلل من الفروض اللاهوتية والسياسية التي تأسست وترسخت على مدى العصور الوسطى، حتى إن تجلى في قصورها في أحيان كثيرة. وحري أن ندرك أن هذه الصدمة قرينة التوسع الكوكبي لمصالح أوروبا التجارية والسياسية هي التي هيأت لنا، كما سوف أؤكد فيما بعد، أفضل مفتاح لفهم ميلاد الاستشراق في الفترة الحديثة. وتمثل في الحقيقة أيضًا عاملًا ظل فاعلًا حتى يومنا هذا. وهذه هي النظرة التي أوجزها جوزيف نيدهام الذي رأى في «جِماع تحولات النهضة والثورة العلمية والإصلاح الديني وظهور الرأسمالية، العوامل التاريخية التي ساعدت على تولُّد نوع من عدم الاستقرار الثقافي وانفصام الرُّوح، ليؤدي هذا كله إلى بذل جهد محموم بغية الوصول إلى أطر فكرية بديلة» (انظر نيدهام، ١٩٦٩م، ١١٦–١٢٢).
ولنحاول معًا النظر إلى هذه التحوُّلات عن كثَب مع تدقيق أكثر. كان الرأي السائد عادة اعتبار القرنين الخامس عشر والسادس عشر وما اقترن بهما من تدفق مستمر للأفكار من الإغريق القديمة وروما، وكذا من التراث اليهودي والهرمسي السري، هي نقطة الارتكاز التي يعتمد عليها الفكر الغربي الحديث. ويعبر المؤرخ في سي كيرنان عن هذا بقوله:
شهدت أوروبا، وعلى مدى قرنين بعد عام ١٤٥٠م، هزة وزلزالًا شمِلا كل مناحي الحياة، وكأنها غاصت في مِرجل الأميرة والساحرة الإغريقية ميديا لتجديد شبابها. وأعود لأقول كان تحولًا أكثر جذرية من أي تحول آخر شهدته المناطق الكبرى على ظهر المعمورة، وعانت معه في مسيرة تحول عاصف حافل بالتغيُّرات خيرها وشرها منذ العصر الوسيط حتى الحديث.
إن طبيعة الاستشراق، وما تحمله من تناقض ظاهري، وما تكشف عنه بأسلوب فريد للغاية عن صورة مزدوجة للذات متكافئة التضادِّ عند الأوروبيين، يمكن إلى حدٍّ ما سبر غورها في ضوء طبيعة التضاد المزدوج الأصيل في التاريخ الأوروبي خلال مطلع العصر الحديث، وتكشف كذلك عن التوترات الباطنية داخل الحياة الثقافية والفكرية آنذاك. ومع هذا كله كان هذا هو العصر الذي بدأت فيه البلدان الأوروبية تتحد معًا باعتبارها كيانات واعية بذاتها ويمكن تحديدها والتعرف عليها. وحدث ذلك عندما بدأت أوروبا، وبعد فترة طويلة من الانكفاء على النفس طوال العصر الوسيط، أسلوبًا دفاعيًّا في التحول إلى الخارج، وقد امتلأت ثقة وطاقة جديدتين، وأصبحت مقتنعة تمامًا بتفوقها وبرسالتها العالمية. وشجعت هذه الفترة أيضًا على توهُّج فضول معرفي إنساني وعلمي جديد، وحفزت إلى تطوير سلسلة جديدة من المناهج والمباحث الدراسية. وكانت كذلك عصرًا استطاع، بفضل قوة هذه التغيرات العميقة، توليد درجة غير مسبوقة من القلق والشك الذاتي. وليس من المبالغة في شيء، في الحقيقة، الزعم بأن «بذور العدمية كانت كامنة في حركة التنوير منذ البداية الأولى» (غيدينز، ١٩٩٠م، ٤٨). والجدير ذكره هنا أن النزعة العقلانية ذاتها، التي ميزت حقبة التنوير ووعدت بالإطاحة بجميع الخرافات القديمة، ساعدت على خلق بيئة يمكن أن تصبح فيها التراثات الآسيوية، من بين أمور أخرى، موضوعات للتحليل والدراسة؛ تأسيسًا على التفكير العقلي. وخلقت بذلك النظير الفكري الذي استخدمته أوروبا بعد ذلك لتحدي مفهوم التنوير ذاته عن العقل. وأوجزت حنا أرندت الواقع الساخر لهذا الموقف، وذلك في ملاحظتها التي تقول: «إن أوروبا عندما عمَدت، بكل شغف وحماس، إلى الترويج لقوانينها ودعوة القارات الأخرى إلى العمل بها، حدث أنها هي نفسها كانت قد فقدت عمليًّا إيمانها بها» (١٩٥٥م، ٨٢).
وحري أن نلحظ أن المفهوم النظري لحالة عدم الاستقرار هذه، وما صاحبها من مظاهر القلق، يتمثل نَموذجها الكلاسيكي في مفهوم نيتشه عن العدمية، والفكرة القائلة إن جميع القيم والمعتقدات التقليدية في عالمنا الحديث جرى تجاهل قيمتها، وأن «أسمى القيم أنقصت من قيمتها نفسها». ولكن الهدف مفتقد، إذن «لماذا؟ لا إجابة عن السؤال» (١٩٦٨م، ٩). ويتجاوز كثيرًا تحليله للعدمية الشكوك الارتيابية بشأن المعرفة الإنسانية التي كانت الشغل الشاغل للفلاسفة، ويسعى إلى تحديدها باعتبارها أزمةً مكانها من قلب الحضارة الغربية؛ وذلك لأن العدمية تمتد جذورها من أسس الحداثة ذاتها. وذهب إلى أن هذا ظرف تاريخي خاص بأوروبا الحديثة، وأن سببه عوامل داخل التاريخ الثقافي الخاص بأوروبا. ويمكن تتبع جذور هذه العوامل وصولًا إلى التراث الفلسفي الغربي وظهور العلم الحديث، بل وظهور المسيحية ذاتها. ويؤكد نيتشه أن «العدمية الكاملة هي النتيجة الضرورية المترتبة على المثل العليا التي سادت آنذاك، وبل والإيمان بمقولة العقل ذاته» (المرجع نفسه، ١٩، ١٣).
وحري أن نؤكد أنه ليس بالإمكان النظر إلى الاستشراق باعتباره مجرد عرض أو نتيجة لهذه الحالة من التشوش والاضطراب الثقافي والفكري، ذلك لأنه ساهم أيضًا في اطراد وتفاقم هذه الحالة. إن اكتشاف الحضارات القديمة والمتقدمة في الشرق كان إضافة إلى حالة الشك وفقدان اليقين التي تعانيها الثقافة، والتي بدأت تتشكك جديًّا في مدى صوابها هي. وشرع المفكرون الأوروبيون في أثناء هذه الفترة في صياغة فكرة التفرد الأوروبي، أو في الحقيقة الفكرة التي تتحدث عن تفوقها الأصيل على الثقافات والأعراق الأخرى. ومع هذا فإن اللقاء مع الصين ثم مع الهند كان بمنزلة قوة إضافية جديدة أثَّرت في اتجاه مساوٍ ومضاد. ونذكر هنا ما قاله الباحث الاستشراقي الفرنسي رايموند شواب في هذا الصدد: «أدرك الغرب أنه ليس المالك الوحيد لماضٍ فكري يثير الإعجاب.» وهذه حقيقة جاء إدراكها «خلال فترة بدا فيها كل شيء كأنه جديد غير مسبوق واستثنائي» (١٩٨٤م، المقدمة، ص٢٣). علاوة على هذا، أثارت الاكتشافات الجديدة كمًّا هائلًا من الأسئلة الحرجة عن أصول وتفرد المسيحية، وكذا أصول السلالة البشرية والمصادر التاريخية للغات الأوروبية وعالمية المعتقدات الدينية والأخلاقية. وحيث إن الفترة كانت هي الفترة نفسها التي بدأت فيها صياغة العلوم الإنسانية، فليس لنا أن ندهش إذ نكتشف وجود مفكرين يجدُّون بحثًا عن معلومات تتجاوز حدود كل من أوروبا وتاريخ الكتاب المقدس. وطبيعي، وفي مثل هذا السياق، فإن وجود حضارات غير أوروبية لها معتقداتها وسلوكياتها وأخلاقها المتقدمة، وإن بدت مختلفة جذريًّا، يمثل معلومات جديدة مهمة ولكنها مثيرة أحيانًا للحيرة والارتباك.
ولكن ماذا عن أوجه المقارنة مع آسيا؟ شهدت المجتمعات الآسيوية يقينًا ثورات عظيمة واضطرابات، سواء في مجالات السياسة أو الفكر. ولكن هذه الأحداث على جسامتها لم تسفر عن نتائج عميقة الأثر شأن النتائج التي أفضت إلى ميلاد العصر الحديث في التاريخ الأوروبي، والتي تحولت معها، خلال فترة قصيرة نسبيًّا إلى ثقافة كوكبية. ولنأخذ حالة الصين مثالًا، مع رفضنا للتفسيرات التبسيطية المخلَّة التي تحدثنا عن «ركود» الصين كفرض أساسي. يوافق الباحث الصيني وين-يوان قيان على أنه خلال الفترة التي أعقبت حكم أسرة شنغ أرسلت الصين في مطلع القرن الخامس عشر بعثات بحرية عسكرية. ولكن الصين كانت تفتقر آنذاك إلى الظروف الاجتماعية السياسية الواعدة، التي تفضي إلى إنتاج وتعزيز ودعم … سلسلة من العناصر الفكرية الجديدة تمامًا، والاتجاهات الجديدة، وأساليب الفكر الجديدة، شأن ما حدث في أوروبا منذ النهضة وما بعدها (١٩٨٥م، ٣١-٣٢). ويدعم نيدهام هذا الحكم «أنجزت أوروبا نهضة وإصلاحًا دينيًّا والتزامًا عظيمًا بإحداث تغيير اقتصادي، وهو ما لم تنجزه الصين» (١٩٥٦م، ٢٩٤). ذلك لأن الصين كانت واقعة في قبضة النظام البيروقراطي الخانقة، ولم تشهد التحول الجذري إلى الحداثة إلا بعد أن اضطرها الغرب إلى ذلك. وثمة مثال مهم معارض يمكن أن يكون موضوعًا للنقاش في حالة الانتفاضات الاجتماعية والسياسية في الصين، التي وقعت خلال الفترة التالية لانهيار حكم أسرة هان عام ٢٢٠م. أدت هذه الأحداث إلى عملية تدميرٍ والإطاحة بالأيديولوجيا الكونفوشية السائدة، كما أدت إلى فترة طويلة من الفوضى الثقافية والفكرية. ومهدت السبيل لهيمنة ديانة أجنبية هي البوذية، ثم أخيرًا إلى عصر إحياء ثقافي عظيم لأسرة سونغ. ويعلق المؤرخ آرثر رايت على هذه الفترة بقوله: «يلحظ المرء هنا اتجاهًا معاديًا للتقليد تجاه كل المظاهر التقليدية القديمة، حيث نشهد عملية بحث قلقة ومحمومة التماسًا لشيء جديد. وتضمَّنت هذه إعادة تفعيل، ثم تبني ما تم اقتباسه من دين غريب» (١٩٧١م، ١٢٤). ولكن على الرغم من المقارنات السطحية مع مستهلِّ الفترة الحديثة في أوروبا، يجب أن نؤكد أن هذه الحقبة من تاريخ الصين لم تشهد ما يميزها بالتوجه إلى الخارج للتوسع التجاري أو الإمبريالي خارج نطاق نفوذها التقليدي. كما لم تشهد أي شيء يماثل المشروعات الحرة المدفوعة بوحي الرأسمالية، أو ظهور نظام الدول القومية. ومن ثم لا شيء يمكن في التحليل النهائي أن نقارنه بالتحولات التي حدثت في أوروبا.
وها نحن لم يبق لنا في النهاية سوى الفرض المسبق القوي، وهو أن ظهور وتطور الاستشراق في الغرب اقترن على نحو وثيق بظروف تفرَّدت بها أوروبا خلال الفترة الحديثة — وهذه هي ظروف الثورة الثقافية والتوسع الكوكبي — وساعدت هذه الظروف أولًا على خلق فراغ أليم في قلب الحياة الرُّوحية والفكرية لأوروبا، وثانيًا، ميلاد أوضاع سياسية جغرافية «جيوبوليتيكية» يسَّرت انتقال رؤى عالمية بديلة من الشرق. وسوف نعمل خلال القسمين التاليين من الكتاب على التوسع في عرض واختبار هذه الآراء الأولية التمهيدية، وذلك عن طريق تتبع جماع التطور التاريخي للاستشراق على مدى القرون الأربعة.
واقترنت نشأة الحركة في العصر الحديث بأزمة الإيمان المسيحي في الغرب نتيجة تناقضات واضحة بين ما نص عليه الكتاب المقدس وما كشفت عنه البحوث والاكتشافات العلمية وثقافات وأديان شعوب الشرق وما عاينه الشباب في رحلاتهم عبر العالم. وبلغت الحركة أوجها في الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن العشرين [الهيبيز]. وطالب الشباب بأن يكون لهم دور في تسيير جميع شئون المجتمع. وكان اسم الحركة في بداية نشأتها [عصر الدلو] للدلالة على عصر جديد مشمول بالرُّوحانيات، ثم تغير إلى «العصر الجديد». واستثارت الحركة تيارات معارضة قوية، خاصة الأصولية المسيحية، نظرًا إلى معارضة الحركة أصول العقيدة وروايات الكتاب المقدس. وسبقت دورة العصر الجديد دورات أخرى على مدى التاريخ منها «البعث الشرقي» في القرن اﻟ ١٩، والثيوصوفية والرُّوحانية والمِسمرية، وهكذا، عودًا إلى العصور القديمة الأولى. (المترجم)