الفصل الثاني

بعض الأفكار المبدئية

بينما أصاب إدوارد سعيد إذ قال إن «الاستشراق» نمط «غربي» مميَّز في التفكير … فإنه بسط الأمر للغاية عندما أفاد ضمنًا بأن «هذا الأسلوب في التفكير مرتبط ارتباطًا لا انفصام له بواقع السيطرة، بل إنه في الحقيقة مشتق منها.»

حوراني

إغراءات الشرق

لماذا كان الغرب مفتونًا بالشرق؟ لماذا على مدى قرون طويلة شهدنا كثيرين بل كثيرين جدًّا من المفكرين والكتَّاب والمثقفين على اختلاف أشكالهم وضروبهم، إضافة إلى قطاع عريض من عامة المتعلمين استبد بهم سحر ثقافة بعيدة أقصى البعد، مختلفة غاية الاختلاف عن ثقافتهم؟ كانت اليونان القديمة تنظر إلى الشرق باعتباره أرض العجائب وفلاسفة الهند العراة Gymnosophist،١ وترى في هؤلاء موضوعًا جديرًا بالاهتمام الكبير في العالم الهيليني. والجدير ذكره أن رحلة ماركو بولو الاستكشافية إلى الصين في القرن الثالث عشر ربما كانت هي الاستهلال لتاريخ طويل من التصور الخيالي للثقافات الآسيوية في عقول الأوروبيين. ولكن الرحلات الاستكشافية في القرن السادس عشر، وما أعقبها من زيادة في الوعي الأوروبي مع تعاظم الاهتمام والقوة، هي ما يؤلف أول الفصول الجادة والمحورية في هذه الدراما. وبينما الشرق الممتدُّ فيما وراء الشرق الأوسط بدا حتى ذلك التاريخ — أيًّا كانت المقاصد والنوايا — صفحة بيضاء يمكن أن نخط عليها كل ألوان التخييلات، لكنه بعد ذلك بدأت المعلومات تتدفق إلى أوروبا. تواترت المعلومات بادئ ذي بدء في صورة تقارير من الإرساليات التبشيرية اليسوعية (الجيزويت)، ثم بعد ذلك على أيدي الرحالة من كل حدَب وصوب، والتجار والمسئولين الإداريين الاستعماريين، ثم أخيرًا على أيدي الدارسين وكذا الباحثين عن الحكمة. وليس من المبالغة في شيء القول إن هذه المعلومات، وإن كانت في غالب الأحيان مشوهة ومصبوغة بالتخييلات والتفكير القائم على الأماني، فإنها كانت لها جاذبية ساحرة بالنسبة إلى العقل الأوروبي. والجدير ذكره أن الصين كانت في القرن الثامن عشر هي موضوع الفتنة والسحر، حيث احتل كونفوشيوس في نظر المفكرين الأوروبيين من أمثال فولتير مكانة رفيعة تقارب العبادة. وتحول الاهتمام في المرحلة الرومانسية إلى الهند. وهنا نجد الرؤى الصوفية عن وحدة الرُّوح مع الكل، وحدة آتمان مع براهمان،٢ وكذا صورة عن رابطة قديمة بين الشرق والغرب يتردد صدى هذه وتلك بقوة لدى كبار المفكرين الأوروبيين، واستحوذت على اهتمامهم ومشاعرهم. وجاء دور البوذية في القرن التاسع عشر مقترنًا برسالتها الرُّوحية القوية مع نظرة إلى الكون والحياة بدت منسجمة إلى حد كبير مع العلم التجريبي، واستهوت عددًا من المفكرين الغربيين. وشهد القرن العشرون ذيوعًا استثنائيًّا للاهتمامات الشرقية ابتداء مما اشتهر عنها من تأثير واضح لعقيدة الزِّن في السلوك الوجودي وأجيال الهيبيز. وتناثرت هنا وهناك الحكمة البوذية المضنون بها على غير أهلها، الوافدة من التبت، وتلقفها العاشقون لها من أبناء الغرب، ثم وصولًا إلى الاهتمامات الأقل ذيوعًا، وهي اهتمامات العالم الأكاديمي الذي اشترك مع الشرق في حوار عبر سلسلة طويلة من المباحث العلمية، من بينها فقه الإلهيات والفلسفة وعلم النفس والعلاج النفسي.

إن هذا الافتتان بالشرق الذي تعاظم وذاع سوف أسميه — توخيًا لبساطة الحديث — الاستشراق. ويبدو في ظاهره مثيرًا للحيرة، ويلح التماسًا لنوع من التفسير التاريخي. وأذكر هنا ما قاله فيلسوف أمريكي معاصر:

إذا تأملنا جميع التحولات المثيرة للدهشة في عالمنا المعاصر فلن نجد ما هو أكثر غرابة من الطريقة التي استوعبت بها أكثر بلدان الغرب تقدمًا صناعيًّا — ومن خلال الهواء الذي تتنفسه — أقدم الأطر الفكرية لأقدم مذهب فلسفي على ظهر الكوكب.

(جاكوبسون، ١٩٨١م، ٣)

إن ما يلزم تفسيره بخاصة هو اهتمام الغرب الشديد بالشرق من جانب واحد وعلى نحو مطلق، أو هكذا على الأقل حتى وقت قريب نسبيًّا. نعرف أن المستكشفين والمفكرين الغربيين وعلى مدى مئات — وربما آلاف — السنين سعَوا إلى استكشاف الشرق والالتقاء به، ودرسوه واستوعبوه وعمَدوا بالتناوب إلى تتويجه ليحتل عرش الديانات والخيال الثقافي للغرب، وكذا إلى إقالته عن عرشه. ونجد في المقابل الشرق لم يسع خارجًا إلى الغرب بالطريقة نفسها، إذ لم يحاول جاهدًا أن يحتل أراضيه، أو أن يتعلم منه، أو أن ينحني راكعًا أمامه. نعم، إن بلدان وثقافات آسيا أفسحت يقينًا الطريق في الآونة الأخيرة للافتتان بالتكنولوجيا الغربية وما اقترن بها من عقيدة الاستهلاك، وكذا لأيديولوجيات الغرب السياسية ومذاهبه وأوثانه الشعبية، بل ولفلسفاته. ولكن يجب أن نتذكر أن عملية «التحديث» هذه ما هي إلا عملية لم تزدهر تلقائيًّا من غرس ثقافي شرقي، بل كانت نتيجة تدخلات الغرب قسرًا وما فرضه من مطالبات.

وثمة واقع آخر يمثل لغزًا يثير الحيرة، ألا وهو أن الجانب الأكبر من الخلفية التاريخية التي تطور على أساسها الاستشراق بدا في ظاهره معاديًا لتطوير أي نوع من مشاعر الحب مع الشرق، إذ بينما نجد من ناحية أن المفكرين الأوروبيين يسرفون في إنتاجهم الأدبي بغية الارتفاع بمكانة الهند والصين إلى ذرًى سامية من حيث الكمال الأخلاقي والفلسفي، نجد الاتجاه العام للجماهير وللتجار والسياسيين والإداريين الاستعماريين أقرب ما يكون إلى المزيج من الاستعلاء القومي «الشوفيني» والازدراء العنصري. مثال ذلك أن الحكام الاستعماريين للهند «البريطانية» اعتادوا النظر إلى أنفسهم باعتبارهم طائفة متميزة فوق كل من سواها، وعمدوا في غالب الأحيان إلى التعامل بنوع من اللامبالاة أو الاحتقار مع كل ما يستثير المشاعر، ومع كل المعتقدات والعبادات الخاصة بالشعوب الخاضعة لهم. وعلى الرغم من أن أراضي الصين لم تخضع كلها للاستعمار بشكل كامل لكنها أصبحت خلال فترة التوسع الإمبريالي الغربي هدفًا وموضوعًا معياريًّا للانحياز والتعصب القائم على المحورية العرقية، مثلما كانت موضوعًا للسخرية بسبب تخلفها وانحطاطها الأخلاقي. ونلحظ أن الدارسين كثيرًا ما دعموا مثل هذه الاتجاهات، مثال ذلك أن إس ويليامز، الباحث المتخصص في الشئون الصينية خلال القرن التاسع عشر، أدان الصين لأنها بلد يكشف عن قدر من الانحطاط الأخلاقي على نحو لا يمكن تصوره أو التعبير عنه وفهمه بصورة ملائمة (١٨٨٣م، ١–٨٣٦). كذلك الحال بالنسبة إلى من كانوا معنيين بالشأن الديني، فضلًا عن الشئون التجارية والسيطرة السياسية، إذ اعتادوا النظر في كبرياء إلى معتقدات وممارسات الشعوب الآسيوية وقد ملأهم الفزع والاحتقار (وإن كانت هناك بعض الاستثناءات كما سوف نرى فيما بعد). وحري أن نقول إن الإيمان بأن الله أوكل للأوروبيين حقًّا العمل على تحضر هذه الشعوب إنما كان في الحقيقة حافزًا قويًّا يدعم نشاط الإرساليات التبشيرية المسيحية، ويتجلى هذا بوجه خاص خلال القرن التاسع عشر، حتى عندما نرى مبشرًا مَعمدانيًّا ذا عقل ليبرالي مثل وليام كاري يؤكد أنه لولا التأثير المسيحي لغرقت بلدان آسيا ضحية العنف والنهب والسلب وسفك الدماء.

شيء آخر بحاجة إلى تفسير، وهو الاتجاه الغربي الحديث نحو النسيان الجزئي لكل المجموعة المركبة من الظواهر المقترنة بالاستشراق. إذ من المؤكد أن إنجازات ماركو بولو الفذة مطبوعة في ذاكرة سلالة الأوروبيين. ولكن كثيرين ممن يتباهون بمعرفتهم الكاملة بالتاريخ الأوروبي سوف يدهشون حين يعرفون بعضًا عن مدى التغلغل الشرقي في الغرب منذ ذلك التاريخ، وأن هذا التغلغل جاء نتيجة عملية الاستيراد النشط. ولا يزال كثيرون أسرى انطباع أن الافتتان بسحر المنتجات الثقافية للهند والصين، والجهود النشطة للحصول عليها وتبنيها، إنما هما أمران يعودان إلى تاريخ حديث نسبيًّا. هذا إذا ما تركنا جانبًا قليلًا من الأحداث العرضية الهامشية والتي حدثت بشكل فردي. ونعرف جيدًا أن مؤرخي الفن يؤكدون بالفعل أثر الرسم الصيني في رسم لوحات المشاهد الطبيعية للبساتين وتصميمات الإنتاج المحلي في القرن الثامن عشر، وكذا أثر الرسوم الجدارية اليابانية في الرسوم الأوروبية أواخر القرن التاسع عشر. ويتذكر الفلاسفة بين الحين والآخر أن شوبنهاور — وهو شخصية لم تنل مكانتها المحورية في الفلسفة حتى عهد قريب — قارن فلسفته بفلسفة الهندوس والبوذيين. وكثيرًا ما يذكر مؤرخو الثقافة المجتمع الثيوصوفي المعتمد على الحكمة اللدُنِّيَّة على الرغم من أنه يرتبط عادة بإحياء الإيمان بخوارق الطبيعة، أو باعتباره مثالًا للاحتيال العقيدي. والجدير ذكره أن أعمال جوزيف نيدهام لفتت أنظارنا أخيرًا إلى إمكان وجود كثير من الإنجازات التقنية والعلمية المنسوبة إلى أوروبا في عصر الثورة العلمية التي هي نتاج تأثيرات لإنجازات صينية سابقة عليها. وأوضح أن هذه تؤلف تأثيرات مهمة في العلم الحديث الوليد إبان عصر النهضة (١٩٦٩م، ٥٧). بَيْد أن مثل هذه الأصوات أُخْرست وظلت كذلك. كما أن صورة الذات للغرب — سواء لدى العامة أو كما صاغها المفكرون بثقافتهم — لم تجد متسعًا كافيًا للفكرة القائلة إن الشرق لم يقدم شيئًا أكثر من جزء تافه ضئيل في تشكيل ثقافة وفكر الغرب.

ونجد في المقابل الاعتراف الواسع بأثر الغرب في الشرق. ونلحظ تحول وتحديث آسيا بمختلف الأدوات والوسائل من المسيحية والعلم والرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية التي أضحت جميعها موضوعات لدراسات تفصيلية ومستفيضة. وأصبحت أوْرَبة الكوكب ثقافيًّا وسياسيًّا وفكريًّا أكبر كثيرًا من أن يغفلها باحث. واقترن هذا بجانب حتمي هو شعور الأوروبيين بالذنب واتهام الذات. وإن من الأهمية بمكان عقد مقارنة بين هذه الدرجة من الاهتمام والإدراك المحدود والمقيد من جانب الباحثين والعامة بالمعنى الواسع إلى درجة تغلغل الشرق في الوعي الغربي. لذلك أقرر أن من بين أغراض هذه الدراسة السعي لتصحيح هذا الخلل والوضع غير المتوازن، وبيان أن للشرق دوره القيم فيما يتعلق بتشكيل وتحول الفكر الأوروبي والثقافة الأوروبية ابتداء من القرن الثامن عشر فصاعدًا. وحري أن أذكر هنا اقتباسًا لعالم الإلهيات الألماني هندريك كرايمر في معرض الحديث عن غزو الغرب للشرق، إذ قال: «هناك أيضًا غزو شرقي للغرب أكثر خفاء وأقل وضوحًا للعِيان من الغزو الغربي، بَيْد أنه مهم في الحقيقة» (١٩٦٠م، ٢٢٨).٣

سحر الشرق

لعل كلمة الاستشراق توجز أكثر التفسيرات شيوعًا للافتتان الغربي بالشرق دائمًا ومن دون انقطاع. وتفيد هذه النظرة بأن اهتمام الغرب بالشرق دفعته في الغالب الأعم الرغبة في الهرب إلى «آخَر» خيالي وبعيد إلى حد ما، أملًا في أن يهتدي هناك إلى وسائل رفيعة المكانة حتى إن بدت وهمية، أو إلى مادة ينسج من خلالها أحلام الحكمة المفقودة أو العصور الذهبية الخوالي. ويحدثنا رادها كريشنان — على سبيل المثال — عن انجذاب الغرب إلى وهج الشرق الغريب الفريد، ويشير إلى واقع أن «الشرق ظل دائمًا وأبدًا في نظر الغرب لغزًا رومانسيًّا، ومهد المغامرات التي على شاكلة ألف ليلة وليلة، وموطن السحر، والعالم الذي يتوق إليه القلب» (١٩٣٩م، ٢٥١). وها هو ميشيل لو بري في دراسته عن «الرومانسية»، يرى الشرق من منظور الإنسان الغربي، ويقول:

هذا المكان الآخر الذي هناك، والمملكة التي تتوق إليها النفس، حيث يسود الظن أن الإنسان يمكنه هناك أن يفيق متخففًا من عبء الذات، إنه تلك الأرض الواقعة خارج المكان والزمان، حيث نهتدي — كما يسود الاعتقاد — إلى موضع يهيم فيه الخيال ونشعر معه بأننا في بيتنا.

(لوبري، ١٩٨١م، ١٦١)

ويمثل الشرق — حسب هذا المنظور — ميلًا يسود في الغرب إلى الهرب من آلامه وأوجاعه السائدة، والتماس مكان للسلوى، حتى إن بدا غير واقعي وزائلًا، ولكن ليهيم في عوالم من نسج الخيال، والتطلع في شوق إلى حالة من الوجود خارج الزمان متعالية على التقسيمات الأليمة التي يئن بسببها هذا العالم. يعبر هذا بإيجاز عن حلم يقظة جمعي لأوروبا، والذي يمثل عرضًا لحالة من الإجهاد والإرهاق تستبدُّ بالثقافة الأوروبية بين الحين والآخر.

وينطوي هذا الفرض على بعض الحقيقة. أولًا إن القسط الأكبر من الأدب المعني بالشرق لديه ميل متضخم ومبالغ فيه، وخاصية تتصف بالتسامي تقدم للأوروبي صورة من نسج السحر والأسرار الخفية، هي في آن واحد شيء أكثر حكمة وأكثر غرابة وتفردًا، وأكثر إثارة للنفس من كل سلوكيات وأعمال المشاهدة في الحضر المحلي. ونرى هذا جليًّا واضحًا في أمرين: أولًا في نوع الأدب الاستشراقي الأكثر شيوعًا من مثل القصص الخيالي وأدب الرحلات المفرد على أوسع نطاق، الذي بدأ ينتشر منذ القرن السابع عشر وما بعده. ولعل أشهر هذه الصور هي تلك الصورة التي ترسمها شخصية شانغري-لا La-Shangri، الفردوس الأسطوري للاما البوذي التي وصفها جيمس هيلتون في رواية «الأفق المفقود» (١٩٣٣م). ونراه واضحًا جليًّا ثانيًا في سمة ثابتة تميز الكتابات الأكثر جدية، التي ستكون محط اهتمامنا في هذا الكتاب. أذكر كمثال كُتَّاب القرن الثامن عشر — من مستوى فولتير — الذين لم يقنعوا بالكتابة عن فضائل كونفوشيوس وفق فهمهم لها، بل عمدوا أيضًا إلى وصفها بعبارات مشحونة بقدر مبالغ فيه من العاطفة التي تصدق عليها حتمًا صفة الرومانسية. وجدير بالذكر أن التبت أضحت منذ عهد قريب موضوعًا للميول الرومانسية في الغرب، وذلك لما تتصف به من عزلة نسبية. ويوضح الأُسقُف بيتر هذا بقوله: «أذنت للغرب أن يلوذ بها كمهرب خيالي، ومجال لنوع من الاستراحة القصيرة. وهي مكان حبته الكتابات في وصفها بكل خصائص الحلم والهُذاء الجمعي» (١٩٩٣م، ١٦). زد على هذا — كما سوف نرى بالتفصيل فيما بعد — أن هذا النزوع إلى إضفاء نظرة رومانسية أفضى في الغالب إلى فهم خاطئ مطرد وإلى تبسيط مخل للشرق، ليس فقط فيما يتعلق بأفكاره وفلسفاته، بل أيضًا فيما يتعلق بحقائقه الاجتماعية والسياسية. ومع هذا، فإن وجود هذا الميل واضحًا في الخطاب الاستشراقي طوال تاريخه لا يزودنا بتفسير كافٍ شافٍ؛ ذلك أن الفرض القائل إن الاستشراق هو في الأساس استراتيجية هروبية هو فرض يغفل عددًا من العوامل المهمة سوف تبرز لنا خلال الاستقصاء التاريخي. إذ إن هذا المسح الاستقصائي التاريخي سوف يؤكد بوضوح إلى أي مدى توحدت الأنشطة الاستشراقية مع الاهتمامات الفكرية الغربية المحورية خلال الفترة الحديثة. وسوف يفيد كذلك ضمنًا أن من الأفضل ألا ننظر إلى الاستشراق باعتباره ملاذًا للهرب إليه والتخفف عن طريقه من التزامات وأعباء، بل باعتباره وسيلة مواجهة لبعض مشكلات الغرب الضاغطة والمباشرة بحدة أكثر من سواها.٤
ويتلازم هذا الفرض على نحو وثيق مع الاعتقاد بأن افتتان الغرب بالشرق يمثل ردَّة عن العالم الحديث إلى اللاعقلانية. إذ نلحظ أن الاستشراق، وبخاصة في أكثر صوره شيوعًا، اقترن كثيرًا بما يسمى «الهرب من العقل». ويعبر هذا عن ميل غير محدد المعالم للتاريخ الثقافي لأوروبا، الذي كثيرًا ما نظنه ناشئًا مع الحركة الرومانسية. ويستمد مباركته الفلسفية من شوبنهاور وكيركغارد ونيتشه، ويتجلى واضحًا في سلسلة من الحركات والصراعات الثقافية والفكرية بدءًا من الإيمان بالقوى الخارقة للطبيعة في القرن التاسع عشر وصولًا إلى حركة العصر الجديد٥ في أواخر القرن العشرين. وليس من شك في أن اهتمام الأوروبيين بالشرق حفزه في أوقات متباينة رد الفعل إزاء ما تصوره بأنه الانحياز القوي والمحوري من جانب الثقافة الغربية الحديثة تجاه ما يمكن وصفه على نحو فضفاض بكلمات «العقل والمنطق»، و«العقلاني». ويعني هذا في الحقيقة رد فعل ضد مجمل قيم وقواعد العلم والتكنولوجيا، وضد ما تعبر عنه بإيجاز عبارة «المشروع التنويري». ودعم هذه النظرة — على سبيل المثال — ما أبداه آرثر شوبنهاور — الذي اعتبره كثيرون إمام أو رائد اللاعقلانية — من اهتمام شديد بفلسفات الشرق وارتباط الاهتمامات الشرقية بالعالم الخفي، عالم خوارق الطبيعة، والميل الحديث جدًّا إلى مطابقة الفكر الشرقي بالنزعات السرية والصوفية، وولع جيل الوجودية والهيبيز بمأثورات الشرق.

وسوف نكون بحاجة إلى دراسة فاحصة أكثر تفصيلًا في فصل تال للاتهام باللاعقلانية. إذ ربما يكون هذا المصطلح — بعيدًا عن أي اعتبارات أخرى — مجافيًا تمامًا للدقة وله دلالات فلسفية كثيرة ومعقدة، لتفيد كمفتاح لكشف مغاليق الاستشراق. وهذه هي الحال يقينًا عندما تولَّد الحماس أحيانًا للأفكار الاستشراقية نتيجة لحالة مزاجية تستلزم التخلص من وهمٍ أرى من الأفضل أن أسميه بعامة «العقلانية العلمية». وكذلك التحرر من وهم الفلسفات المادية والميكانيكية التي احتلت الصدارة في أعقاب التنوير. بَيْد أننا سنرى فيما بعد أن هذا لن يقدم لنا بأي حال من الأحوال تفسيرًا وافيًا للاستشراق. وإذا شاء القارئ مثالًا واضحًا على هذا نقول إن الاستشراق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر لم يقترن في غالب الأحيان باللاعقلانية، بل على العكس، اقترن بالتأكيد على العقل والعلم في مواجهة محددة لمفهوم اللاعقلانية في الأيديولوجيات ولدى المؤسسات الأوروبية. وحري أن نذكر أن القسط الأكبر من «اكتشاف» البوذية خلال العصر الفيكتوري نتج عن الاعتقاد بأنه بالمقارنة بالمسيحية، المؤمنة بالخرافات، تمثل عقيدة دينية منسجمة مع الفروض الأساسية للعلم. ونحن كذلك بحاجة إلى أن نؤكد أن اللاعقلانية في هذا السياق ليست بالضرورة المعادل للهجوم الشامل ضد المناهج المقررة للبحث العقلاني، بل إنها كثيرًا ما اقترنت بالحاجة إلى توسيع وإثراء مفهومنا عن العقلانية. وثمة عدد من مفكري القرن العشرين أبدوا اهتمامًا بالأفكار الشرقية، اعتمادًا على نماذج شرقية من دون أن يكون هدفهم إفساد مناهج العقلانية العلمية من حيث هي كذلك، بل — وهذا هو الأصح — من أجل حث هذه المناهج على توسيع نطاقها. واكتشفوا كذلك عناصر «لاعقلانية» في الفكر الشرقي، ليس في معرض إبدالها، بل من أجل استكمال وموازنة ما سبق أن رئي تركيزًا مغالًى فيه في الأوساط الغربية على وظيفة الاستدلال العقلي في ضوء فهم ضيق ومحدود.

وإذا لم يكن الاستشراق يمثل في الأساس نزوع الغرب التماسًا للهرب بعيدًا عن الواقع، أو إلى عالم لا يثقل العقل والمنطق بقيوده على الرُّوح البشرية، فإنه ربما يكون قد انبثق من خاصية أوروبية أخرى من المظنون أنها خاصية سامية، وأعني بها الفضول المعرفي. إذ ربما مصداقًا لكلمات رجلٍ عالم إلهيات بروتستانتي «نتيجة» بحث الغرب عن الحقيقة والمعرفة، وهو ما يمثل في ذاته خاصية بارزة في ثقافة الغرب (كرايمر، ١٩٦٠م، ١٨). وفق هذه النظرة يصبح الاستشراق — أيًّا كان ما تضمنه من مبالغات أو عبارات إنشائية — جهدًا دفعته من حيث الجوهر الرغبة في المعرفة، ومن ثَم نتاجًا لهذا الابتكار الغربي المميز، ألا وهو العلم التجريبي. أو يمكن القول بصورة أكثر عمومية بما قاله جوزيف نيدهام ساخرًا حين أشار إلى أنه يجسد «تطلعات رُوح فاوست الأوروبية التي لا تشبع أبدًا» (١٩٦٩م، ١٢٠). وحدث أن استعان بهذا الفرض أحيانًا من يزعمون وجود فوارق أساسية بين التكوين النفسي لشعوب الشرق ونظيره في الغرب. واحتج به التواقون إلى تأكيد الخصال المميزة للغرب في صورة من الدينامية والاندفاع بقوة في الأداء وإنجاز المشروعات على نقيض الشرق الكسول القانع بنفسه، وفق زعمهم، إذ يكشف عن فضول معرفي محدود بالقياس إلى الغرب. مثال ذلك ما يحدثنا به إم كوليس عن أوروبا، إذ يرى أنها «تفيض فضولًا معرفيًّا»، وأنها كذلك «بلغت من الذكاء أوجه، بحيث تدرك أنها بحاجة إلى الكثير الذي تتعلمه من الصين» (١٩٤١م، ٤٣). وصرح دينيس دو روجمونت خلال نوبة من السخرية بالذات بأن «الإنسان الغربي هو من دأب دائمًا على المضي قدمًا وتجاوز الحدود التي تفرضها الطبيعة، وكذا تجاوز التقاليد التي غرسها السلف، بل تجاوز ذاته قدمًا على طريق المغامرات» (١٩٦٣م، ٢٥).٦

أعود لأقول ثانية إن هذا العامل يمثل جزءًا من القصة وليس كلها بأي حال من الأحوال. إن تاريخ الثقافة الأوروبية منذ القرن السادس عشر فصاعدًا يؤكد بوضوحٍ تنامي الوعي بمعرفة جديدة ومتجددة. ويرتبط هذا الوعي ارتباطًا وثيقًا بالتحولات الاقتصادية والسياسية التي جرت آنذاك. وحفزت هذه التحولات، مثلما أثارتها، رحلات الاستكشاف الكوكبية على مدى هذه الفترة. وطرأت على الأساليب القديمة من التفكير بشأن العالم والمجتمع والقيم والمصير البشري تطورات جذرية على مدى القرون التالية مباشرة للنهضة. ويمثل الاستشراق — وفق هذا الإطار — جهدًا عاديًّا ملازمًا للبحث المتسع باطراد عن المعرفة، بما يعني أنه قَسَمة مميزة للحقبة الغربية الحديثة، وهو ما ليس بحاجة بالتالي إلى تفسير حي يتجاوز ما يمكن أن نفسر به توسع الرُّوح العلمي في العموم. إن ظهور الاستشراق في القرن التاسع عشر كمبحث دراسي مقترنًا بالدقة العلمية يمكن أن نرى فيه شاهدًا يدعم هذه النظرة العامة. إذ لنا أن نتصور هنا أن بالإمكان أن نرى حالة واضحة لبرنامج بحثي انبثق من النزوع العلمي والوليد الجديد لهذا العصر. ونرى كذلك أن له جذوره الممتدة في الماضي إلى الباحثين عن الحقيقة في اليونان القديمة.

ولكن، وكما هو الحال في الفرضين السابقين، فإن نظرية «الفضول المعرفي» تتسم بالبساطة الشديدة، ولا تفسر بوضوح كامل الظواهر موضوع البحث. إننا حين نراجع ونستعرض تاريخ الاستشراق سوف نجد المرة تلو الأخرى أنه — ومع فعالية الرغبة في المعرفة العلمية — مرتبط عادة برباط وثيق بعوامل أخرى أكثر تعقيدًا. إذ سوف يبين لنا أن الخطاب الاستشراقي يرتبط ارتباطًا وثيقًا لا انفصام له بخطط أوسع نطاقًا بكثير من تلك المقترنة بمتطلبات البحث والدراسة الاستشراقية من حيث هي. وسوف يبين لنا أيضًا أن الافتتان بالشرق لا ينبثق من اهتمام نظري بحت فضلًا عن الفضول المعرفي الشعبي إزاء الثقافات الأجنبية، وإنما ينبثق بالأَوْلى من اهتمامات ترتبط ارتباطًا وثيقًا باهتمامات عملية (براجماتية) تضرب بجذور عميقة في التاريخ الفكري والثقافي والسياسي الخاص بأوروبا. وطبيعي — كما سوف نرى فيما بعد — فإن هذه الاهتمامات والاستجابات الاستشراقية إزاءها، تتباين من عصر إلى آخر. ويبقى علينا أن نرى بدقة وتحديد دورها الذي أدته خلال الخطاب الغربي الحديث في عمومه. لذلك فإن إحدى الحجج الرئيسة التي ينبني عليها هذا الكتاب تفيد بأن الاستشراق — حتى وهو في أكثر مسوحه إغراقًا في الأكاديمية — ارتبط بقوة وعلى نحو لا انفصام له بالاهتمامات والمشكلات الغربية، ومن ثم لا يمكن تصوره إلا في نطاق محدود جدًّا، باعتباره بحثًا عن المعرفة المنزهة عن الغرض.

إدوارد سعيد: مسألة السلطة

أهم هجوم مؤثر ومتسق فكريًّا على تفسير الاستشراق تأسيسًا على مقولة «المعرفة الخالصة» جاء على لسان إدوارد سعيد. استعان سعيد بنظرية ميشيل فوكو عن «السلطة/المعرفة»، وأكد أن الاستشراق، أيًّا كانت دعاواه الصريحة والمعلنة لا يقدم لنا «صورة صادقة» عن الشرق، وإنما يقدم تصورًا، أو تصورًا في صياغة جديدة، وبناء جديد نتاج معرفة «استعمارية» هي من نتاج وخَلق الغازي المحتل؛ لكي يفهم في ضوئها حتمية الاختلاف. ويستهدف التصور وفق صياغته تأكيد هوية الغرب المتميزة، وكذا تعزيز هيمنة الغرب السياسية والثقافية على الشعوب الآسيوية. ومن ثم فإن الاستشراق في نظر سعيد بنية صيغت في غمرة الصراع الاستعماري، ويعبِّر عن الجناح المسيطر. ولم تأت الصياغة تعبيرًا عن دراسة علمية فقط، بل أيضًا عن دراسة أيديولوجية منحازة … تخفي الصراع وراء قناع عبارات أكاديمية وجمالية (١٩٨٩م، ٢١١). لذلك — ووفق هذا التفسير — نخطئ إذ نتصور الاستشراق في صورة معرفة موضوعية منزهة عن الغرض. ويكون الخطأ أعظم حين نفكر فيه في ضوء مزاج رومانسي يستهوي النفس. ولن يكون الاستشراق هنا فهمًا منهجيًّا خاطئًا ولا تشويهًا عنصريًّا للتقاليد وتراث الشرق، بل إنه في نظر سعيد ليس إلا تعبيرًا وتبريرًا للسلطة الكوكبية التي يمارسها الغرب الحديث.

وأصبح تفسير سعيد للاستشراق، الذي توسع وعُدِّل على أنحاء متباينة، عقيدة وقدوة لا يكاد يخرج عنها أحد من بين الباحثين والدارسين، كما أثار جدلًا واسع النطاق خلال السنوات الأخيرة. لذلك سوف يتعين علينا بالضرورة دراسته دراسة فاحصة مع قدر من التفصيل. ونحن بحاجة أولًا إلى أن نكون واضحين في ما يتعلق بنطاق موضوع بحثه. يبدو لأول وهلة أن «الشرق» موضوع اهتمام سعيد، ليس الصين أو اليابان أو الهند، بل هو على الأصح الشرق الأوسط. كذلك فإن الاستشراق موضوع بحث الكتاب الذي يحمل هذا الاسم (الذي صدرت طبعته الأولى عام ١٩٧٨م) معنِيٌّ بالمعالجة الفكرية الغربية للعالم العربي/الإسلامي، وهو العالم الذي مارست عليه بريطانيا وفرنسا نفوذهما بشكل أو بآخر على مدى المائتي عام الماضية. ويبدو واضحًا، بمعنًى ما، أن هذا التحديد يستبعد بوضوح الشرق القائم فيما وراء المشرق. ويلمح سعيد إلى الفوارق الواضحة في الروابط التاريخية التي تربط غرب آسيا من ناحية، وشرق وجنوب آسيا من ناحية أخرى بأوروبا (انظر ١٩٨٥م، ١٧). مثال ذلك، وفي مقارنة مع الإسلام، لم تكن الهند أو الصين تمثل تهديدًا عسكريًّا لأوروبا خلال الفترة الحديثة، ولم تكن المسيحية متداخلة من حيث فقه الإلهيات مع أديان شرق وجنوب آسيا. ويمكن القول بكلمة واحدة إن جماع تاريخ الشرق الأوسط ارتبط بتاريخ أوروبا سياسيًّا ودينيًّا وفكريًّا بوسائل تختلف اختلافًا صارخًا عن الحال مع بقية آسيا. ومع هذا يوضح سعيد أنه يرغب في أن يرى آثار دراسته ممتدة إلى ما وراء الشرق الأوسط لتبلغ جميع مناطق الشرق التي خضعت بطريقة أو بأخرى لنفوذ القوى الأوروبية. ونجد هذه الإشارة الضمنية في ملاحظة له تقول «إن نطاق الاستشراق يواكب بالدقة والتحديد نطاق الإمبراطورية» (المصدر نفسه، ١٠٤). علاوة على هذا، فإذا كانت ملاحظات سعيد فيما يتعلق بشرق وجنوب آسيا هي ملاحظات أولية وعاطفية إلا إن باحثين آخرين معنيين بالاستشراق التقطوا العصا التي قدمها ومضوا قدمًا بها. نذكر كمثال برنارد فور في بحثه عن بوذية شان Chan Budhism،٧ إذ يؤكد أن دراسة سعيد «تصدق أيضًا على حالة «الشرق الأقصى»: ذلك أن الهند والصين بخاصة أصبحتا موضوعًا لخطاب شرقي مماثل» (١٩٩٣م، ٥-٦). ويسترسل كولين ماكيراس في استخدام نموذج سعيد على نطاق واسع في دراسته عن الصور الغربية عن الصين. إذ يؤكد أن «هذا النموذج وإن صاغه سعيد تحديدًا ليكون نقدًا للدراسات الغربية عن حضارات غرب آسيا إلا إن الأفكار الرئيسية فيه تصدق بالمثل تمامًا على دراسة الصين» (١٩٨٩م، ٣). ونذكر بالمثل فيليب ألموند في دراسته التحليلية عن دور الأفكار البوذية في بريطانيا القرن التاسع عشر، إذ يبدأ انطلاقًا من فرض يقول إن «الخطاب الفيكتوري عن البوذية إنما هو جزء من خطاب أعم وأشمل عن الشرق على النحو الذي أوضحه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق» (١٩٨٩م، ٥). وانتهى عدد آخر من الباحثين إلى نتائج مماثلة وبشكل مستقل تمامًا عن سعيد. نذكر كمثال رينيه غوينون الذي يحدثنا عن الاستشراقي الألماني هيرمان أولدنبرغ ويقول إنه كان «أداة في خدمة الطموح القومي» (الألماني)، ويرى أن سبب اهتمام الغرب بالفلسفات الشرقية «ليس بهدف التعلم منها … بل للعمل بكل الوسائل الوحشية أو الماكرة لتحويلها وانتحالها أسلوبًا للتفكير الغربي واتخاذها أداة يعظون بها» (١٩٤١م، ١٥٦ و١٣٥). ويرفض إرنست غيلنر القول إن الاستشراق «صورة الشرق التي تبدو في آن واحد غلوًّا ساخرًا وفرضًا من أعلى ووسيلة للاستعباد والسيطرة» (١٩٩٢م، ٣٩).

ما هو الاستشراق إذن كما يفهمه ويتصوره سعيد؟ هنا الاستشراق في أدنى الحدود مجال لدراسة علمية تكتنفها خلفية من التعبير الأدبي وحماس الهواة والأساطير الشعبية. إنه المبحث العلمي المستخدم أداة للتعامل مع الشرق على نحو منهجي باعتباره موضوعًا للدراسة والاستكشاف والممارسة، ولكنه في الوقت نفسه يتضمن «تلك المجموعة من الأحلام والصور والمفردات اللغوية المتاحة لكل من حاول الحديث عن الشرق» (١٩٨٥م، ٧٣). إذا كان الاستشراق استمد معلوماته من الرحلات واغتذى بمعلومات جرى تحويلها إلى أوروبا على أيدي الإرساليات التبشيرية والتجار والمديرين فهو في جوهره «عالم نص، بنية، أوروبية» اختلقها أصحابها لخدمة متطلبات خطط أوروبية معينة. والغرض من بناء مثل هذه الصورة وصياغة مثل هذا الإطار للخطاب هو تأسيس «آخر ذي دلالة»، والذي عن طريقه تحدد أوروبا (أو الغرب) هويتها هي الخاصة، ومن ثم تأكيد تفوقها وحقها في الحكم والتسيد. ويصرح سعيد قائلًا «وطبيعي أن جميع الثقافات تفرض تصويبات على الواقع الخام»، وتحول الموضوعات الخاصة بالثقافات الأخرى «لمصلحة المتلقي» (المصدر نفسه، ٦٧). معنى هذا أن جميع المعارف يجري تخطيطها بهذه الوسيلة واختزالها إلى شيء يمكن إدارته واستيعابه. ولكن في حدود ما يتعلق بمعرفة الشرق فإن من المهم الإقرار بأن عنصر السلطة ينفذ إلى أعماق العملية. إذ إننا هنا لا نتعامل مع نوع من المعرفة المحضة، حتى وإن افترضنا وجود مثل هذا النوع من المعرفة منفصلًا عن الأحداث السياسية ومن دون أن يصطبغ بصبغتها. ولكننا بصدد معرفة محصورة داخل العملية التاريخية في مجموعها، والتي يمكن إيجازها في كلمة «الإمبريالية الغربية». وجدير بالملاحظة أن هذه الحجة في أعم صورها تعني السلطة بأوسع معانيها، ولها جذورها الممتدة إلى نيتشه على أقل تقدير. ولعل أشهر صورة معاصرة عنها هي دراسة فوكو التي تقرر أن المعرفة هي في واقع الحال دالة سلطة، بمعنى أن «كلًّا من السلطة والمعرفة يتضمن الآخر مباشرة … حيث لا توجد علاقة قوى من دون مجال معرفة يمثل البنية المترتبة عليها، ولا أي معرفة لا تفترض مسبقًا ولا تؤلف في الوقت نفسه علاقات قوى» (فوكو، ١٩٧٧م، ٢٧).

وهكذا يدفع إدوارد سعيد — بوجه عام — بأنه لا إنتاج للمعرفة في العلوم الإنسانية في وسعه أن يُغفل أو يستنكر تورط صانعه كذات إنسانية في ظروفه الخاصة (١٩٨٥م، ١١). وهذا هو ما يتجلى تحديدًا في الظروف السياسية لعلاقة الغرب التاريخية بالشرق.

وتشتمل هذه الحجة على عدد من القضايا تتميز بأنها ذات طبيعة محددة من حيث الصواب التاريخي للقضية التي يعرض لها سعيد، وكذا من حيث الطبيعة الإبيستمولوجية أو المعرفية بعامة. ونجد في الفئة الأولى بعضًا ممن دفعوا بأن سعيد قدم صورة شائهة عن عمل الاستشراقيين، وأنه بالغ كثيرًا في الحديث عما وصل إليه إنتاجهم مدفوعًا بالعداء للإسلام. ولكن نظرًا إلى أن هذه القضايا متعلقة بالشرق الأوسط، فإن لنا أن نطرحها جانبًا.٨ وتُعتبر القضايا الإبيستمولوجية أوثق صلة باهتماماتنا الراهنة. وهنا لا يبدو لنا واضحًا دائمًا ما الذي يفهمه سعيد في شأن العلاقة بين المعرفة والسلطة، إنه يقرر من ناحية، وبإصرار، أن جميع المعارف عن الشرق صاغتها في التحليل النهائي حوافز إمبريالية شاملة مهما ادعى الباحث الاستشراقي الإخلاص والاستقلال. إذ ما هي الصورة الأخرى التي يمكن أن نصوغ بها عبارات من مثل «جميع المعارف الأكاديمية عن الهند ومصر صبغها إلى حد ما الواقع السياسي العام (للإمبريالية) ووسمها بمِيسَمه وانتهكها؟ ويؤكد أن التصورات عن الشرق ما هي إلا تصورات خاطئة وتشويهات» (المرجع نفسه، ٢٧٢-٢٧٣). ونراه من ناحية أخرى يحاول تجنب ما قد يفيده هذا ضمنيًّا من أن الاستشراق «مجرد مجموعة من الأكاذيب» (المرجع نفسه، ٦). ونراه أيضًا في نقاط عديدة يخرج عن طريقه التي رسمها لإنكار أي نوايا اختزالية، مؤكدًا أن «الاستشراق ليس مجرد موضوع أو مجال سياسي تعكسه وتعبر عنه بشكل سلبي الثقافة أو الدراسة أو المؤسسات» (المرجع نفسه، ١٢). ويستطرد قائلًا: «وعلى عكس فوكو … فإنني أومن بأن كل فرد من الكتاب يترك بصمته المحددة على بنية النصوص الجمعية التي تغدو من دون ذلك نصوصًا جمعية مجهولة الصاحب» (المرجع نفسه، ٢٣). وتكمن عند المستوى الأعمق تلك المسألة القديمة قدم الزمن بِشأن المرجعية الذاتية، وهي مسألة تستبد بأي وضع شكِّي أو نسبوي في أساسه. ونذكر هنا ما أشار إليه أخيرًا كريستوفر نوريس، إذ قال إن من بين المشكلات التي تبرز مع استخدام فهم فوكو لعلاقة السلطة/المعرفة مشكلة تفيد بأنه إذا كانت جميع مزاعم الحق وثيقة الصلة بدافع السيادة والسيطرة، إذن معنى هذا أن الأطروحة ذاتها تقوضت. ويؤكد نوريس، تأسيسًا على هذا الرأي، أن أكثر الاستراتيجيات استنارة وليبرالية والتي اقترنت بالاستشراق لا يمكن تمييزها من حيث الإطار المعرفي عن أكثر أشكال القهر والاستغلال إبهامًا وغموضًا (١٩٩٣م، الفصل ٥). كذلك وفي الاتجاه نفسه دفع برنارد فور بأن نقد سعيد أخفق في أن يكون واضحًا صريحًا بشأن الأسس الأيديولوجية للكاتب ذاته، ووقع في شرك «اصطناع كبش فداء» منهجي، حيث ينزع نقد أخطاء الاستشراقيين إلى تجاوز «القيود الإبيستمولوجية» التي تعج بها كل أشكال الخطاب. علاوة على هذا يؤكد فور أن سعيد لا يسلم تمامًا بواقع أن الاستشراق أفرز عددًا من الاستبصارات العميقة، وأن هذه الأخيرة كان مصيرها الإهمال بشكل منظم بسبب الفرض القائل إن فلاسفة وباحثي الغرب وكلاء غير واعين لحساب الإمبريالية الغربية (١٩٩٣م، ٥–٧). ويمكن لهذا النقد الموجه إلى إدوارد سعيد أن يصل في ذرى حدَّته إلى درجة الزعم بأن فرضية الاستشراق من شأنها أن تفضي حتمًا إلى نزعة شك عقيم، بل يمكن أن تصل بنا إلى حيث يتعذر توافر تصور ملائم أو عادل عن أي ثقافة أخرى.٩
وثمة تأويل بديل أكثر ليبرالية لدراسة سعيد، وقد يبدو في جوهره أكثر استساغة. ويذهب هذا التأويل إلى أن السلطة تمثل عاملًا واحدًا فقط من بين عدد من عوامل معادلة الشرق-الغرب. ومن ثم فإن عبارات مثل «القوة متلاحمة النسيج للغاية للخطاب الاستشراقي، وروابطه الوثيقة جدًّا بمؤسسات التمكين السياسية والاقتصادية الاجتماعية» (سعيد، ١٩٨٥م، ٦) تفيد ضمنًا أن هيمنة الغرب على الشرق ليست في الحقيقة سوى عامل واحد، وإن كان مهمًّا للغاية، وذلك في محاولة إضفاء معنًى تاريخي على الاستشراق. ويبدو لي أن قوة القضية التي يعرض لها سعيد تكمن في قدرتها على إرغام الاستشراق على الكشف عن أصوله التاريخية المكبوتة وعن خططه الأيديولوجية الخفية، أيًّا كانت الطبيعة النوعية المحددة لهذه الأصول وتلك الخطط. وسوف يتضح لنا تمامًا في الأجزاء الوسطى من هذا الكتاب أن مسألة حب الغرب للصين والهند لم تكن شأنًا بريئًا موضوعيًّا غير متحيز، هذا إذا جاز لنا أن نستعمل عبارة فرنسيس بيكون. ولم يكن الدافع إليها يقينًا في الجوهر والأساس رغبة منزهة عن الغرض التماسًا للحقيقة، بل كانت مؤلفة من عوامل حفز متباينة ارتبطت بدورها باهتمامات ومصالح الغرب المتنامية باطراد في الشرق. ولهذا فإن تاريخ العلاقة الثقافية والفكرية بين أوروبا وآسيا على مدى القرون الأربعة الماضية يتعين حتمًا النظر إليها في ضوء نمو القوة العسكرية والاقتصادية للغرب. وذهب البعض إلى مدى أبعد كثيرًا من هذا، بما يفيد أن الاستشراق في دراسته للتقاليد الدينية والفلسفية لآسيا إنما كان مجرد الجناح الفكري لكل الاستراتيجية المترابطة والمتكاملة التي تهدف إلى وضع خارطةٍ وعمل قياسات تقديرية وتصنيف لشعوب آسيا. وكان الهدف الوصول إلى أنجع وسائل السيطرة والتحكم، وإن دور الباحثين الاستشراقيين لم يختلف إلا في القليل عن دور الجغرافيين والمسَّاحين رسامي الخرائط الذين كانوا جزءًا من الحاشية الاستعمارية.١٠ وهكذا فإن الافتتان بالديانات الهندية، الذي بدأ في أواخر القرن الثامن عشر، لا نراه فقط باعتباره حدثًا توافق وقوعه مع فترة التوسع الاستعماري الأوروبي في شبه القارة، بل باعتباره حدثًا مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا لا انفصام له بالرغبة في تحقيق السيطرة، بكل معاني السيطرة، على مناطق الهيمنة التي تم الاستيلاء عليها حديثًا. وسوف نكتفي بمثال واحد. يشير إي جيه شارب في دراسته عن الصور الغربية لكتاب الهند المقدس بهاغافاد غيتا، ويقول:
السبب في أن شركة الهند الشرقية في لندن كانت على استعداد لتمويل أول ترجمة لكتاب غيتا كان — جزئيًّا — اقتناعهم بأنه قد يؤكد أن من المفيد لهم سياسيًّا أن يفعلوا هذا … وقد موَّلت هذه الشركة التجارية نفسها ترجمة ماكس موللر لنص الريغ فيدا١١ بناء على تلك الأسس ذاتها.
(شارب، ١٩٨٥م، ٤٥)

وإذا كانت البينة التاريخية التي سنوردها فيما بعد تشير إلى نتيجة مفادها أن ما يسميه فوكو «نظم حكم الحق»، سواء من وراء قناع سياسي أو تجاري أو ديني، إنما كانت فاعلة ومؤثرة صراحة أو ضمنًا في المشروع الاستشراقي. ولكنها تفيد أيضًا بأن هذا لا يمكن طرحه باعتباره تفسيرًا كافيًا ووافيًا للاستشراق. وعبر عن هذا المفكر الإسلامي ألبرت حوراني بقوله:

بينما أصاب إدوارد سعيد إذ قال إن «الاستشراق» نمط «غربي» مميز في التفكير … فإنه بسط الأمر للغاية عندما أفاد ضمنًا بأن هذا الأسلوب في التفكير مرتبط ارتباطًا لا انفصام له بواقع السيطرة، بل إنه في الحقيقة مشتق منها.

(حوراني، ١٩٩١م، ٦٣)

ومن ثم فإن الرأي الذي أود إبرازه أنه بينما أصاب إدوارد سعيد في دعواه بأنه لا توجد معرفة مبرَّأة من السياسة، فإن ربط الاستشراق بالسلطة الاستعمارية يمكن أن يمثل جزءًا واحدًا فقط من القصة. ونحن لكي نتبين ما يتعين أن نحكيه لاستكمال القصة يلزم النظر الآن إلى بعض الآراء النقدية الأخرى لجهود سعيد في هذا المجال.

إن نموذج إدوارد سعيد في التفسير، حتى وإن تعاملنا معه في أقصى صوره تحررًا، نجده في آن واحد عامًّا جدًّا ومحدودًا جدًّا من حيث القدرة على الوفاء بالأغراض التي نهدف إليها هنا. إنه عام جدًّا، لأننا حتى إن سلمنا بقوة إقناعه المنطقية خلال ذروة الفترة الاستعمارية التي تمتد تقريبًا ما بين ١٨٠٠م و١٩٥٠م، فإنه يصبح هشًّا ضعيفًا إذا ما عمَدنا إلى توسيع نطاق تطبيقه إلى ما بعد هذه الحدود. وهذا ما عبر عنه أحد الباحثين إذ قال: «كان هناك استشراق قبل الإمبراطوريات» (رودنسون، ١٩٨٥م، ١٣١). ومن ثم ليس من المستساغ القول بأن مصلحة فلاسفة التنوير في الكونفوشية إنما كان حافزها، حتى لو لا شعوريًّا، الرغبة في السيطرة على الصين. إذ إن هذا أضعف ما يمكن أن تفيده هذه العبارة. علاوة على ذلك فقد شهدت هذه الفترة ذاتها من ١٨٠٠–١٩٥٠م بعض الاستثناءات لفرضية سعيد، التي كثيرًا ما يستشهد بها الباحثون، وأولها ألمانيا. فمن المعروف أن الباحثين الألمان قاموا منذ مطلع القرن التاسع عشر بدور محوري، بل ورائد أحيانًا، في ترجمة نصوص الهند القديمة والتعليق عليها. وهذه هي النصوص التي عرفت طريقها إلى أوروبا على أيدي الموظفين الاستعماريين البريطانيين. ولم تكن لألمانيا خلال هذه الفترة أي مصالح استعمارية في الهند أو في الصين.١٢ ويخص الاستثناء الثاني اليابان، التي لم تكن أبدًا مستعمرة أوروبية، ولم تخضع أبدًا لأي نوع من المؤامرات التجارية التي كانت مفروضة على الصين خلال القرن التاسع عشر. كذلك لم تحدث أي محاولة منظمة منذ مطلع القرن السابع عشر لتحويلها عن عقيدتها الدينية على أيدي الإرساليات التبشيرية المسيحية. ولكنها، مع هذا كله، كانت موضع اهتمام الدراسات الاستشراقية.١٣
وتتجلى محدودية التفسير السعيدي، من ناحية أخرى، في نزوعه إلى الاختزال وميله إلى إغفال قدر كبير مما يتصف به الاستشراق من ثراء وتعقد، وما لازمه من دوافع وحوافز. أو أنه بطريقة أخرى عمد إلى التكلف في ملاءمتها قسرًا ضمن قالب بسيط أكثر مما ينبغي. إنه في الوقت الذي يسلِّم فيه بأهمية العوامل المقترنة بدعم السلطة الاستعمارية نرى أن أحد القسمات الشائعة للاستشراق التي سادت مباشرة طوال الفترة الحديثة هي طريقة استخدام الغرب للأفكار الشرقية كفعالية للنقد الذاتي ولتجديد الذات سواء في المجالات السياسية أو الأخلاقية أو الدينية، حتى وإن أدركها باعتبار أنها ذلك الآخر. وإن آخَرية الشرق المتصورة ليست حصرًا تعبيرًا عن كراهية متبادلة، وليست كذلك مجرد وسيلة لتأكيد تفوق أوروبا المظفرة، ولكنها توفر إطارًا مفاهيميًّا يسمح بمرجعية خِصبة متبادلة، ويسمح باكتشاف نماذج وأوجهٍ للتماثل والتناظر. أو لنقُل، بعبارة أخرى، دعم وتعزيز علاقة تأويلية استيطانية «هِرمِنيوطيقية» مثمرة. لم يكن الأمر مقتصرًا فقط على إعلاء قيمة الشرق مرارًا في أعين الأوروبيين والارتفاع به إلى ذرى الكمال المجيد — وهو ما يفسره على نحو كاف فرض «إضفاء النظرة الرومانسية» — ولكن الصحيح أن هذه المكانة كانت مصدرًا لتوترٍ خلاق بين الشرق والغرب. واستثمر الغرب هذه المكانة كأساس ليعيد تقدير وتقييم نفسه، وإصلاح مؤسساته وتجديد مذاهبه الفكرية وليدة الغرب. وسوف يتبين لنا المرة تلو الأخرى أن المثقفين الأوروبيين وضعوا صراحة وعلى مدى القرون تراث الغرب الأصلي وتفرده موضع تساؤل، بل وأيضًا مسألة احترام الذات؛ نجد كونفوشيوس مكافئًا لأرسطو، والكتاب الهندي المقدس بهاغافاد غيتا على قدم المساواة مع الكتاب المقدس؛ التوراة والإنجيل، ومجموعات الأطروحات الفلسفية لفقه الإلهيات الهندوسي في الكتاب الهندوسي المقدس الأوبانيشاد١٤ تناظر، قيمة وقدرًا، فكر الفيلسوف الألماني كانط، والحكيم الهندي بوذا مناظر للمسيح، والطاويَّة، وهي النزعة الطبيعية عند الحكيم الصيني لاوتسو، تناظر علوم الإغريق. ونلحظ أن الحماس الزائد والمتضخم للأفكار والممارسات الشرقية كثيرًا ما اقترن بحركة الثقافة المناهضة في ستينيات القرن العشرين، بكل ما تضمنته من تمرد شبابي ضد النزعات الأصولية «الأُرثوذُكسية» للحياة البورجوازية الحديثة.
ولكن ما سوف يتضح لنا هو أن الاستشراق أدى على مدى ثلاثة قرون دورًا ثقافيًّا مناهضًا ودورًا مضادًّا للهيمنة، وأصبح بوسائل متباينة الناقد بإلحاح لجميع أنواع الفكر الأصولي «الأرثوذكسي»، كما كان عامل شحن للاحتجاج الراديكالي. واستطاع بفضل هذا كله أن يفيد إيجابيًّا، ليس في تعزيز الدور المقرر رسميًّا لأوروبا وللهوية الأوروبية، بل أفاد في تقويض أسسهما.١٥ ويتعين أن نضيف أن هذا الدور الثقافي المناهض ليس بالضرورة هو ما يستلزم منا تلقائيًّا التسليم به. إن البعض قد يختلف بشأن الاستحقاقات الأخلاقية والاجتماعية لحركة الستينيات في القرن التاسع عشر التي أشرنا إليها توًّا، ومن ثم يدفع بأن أهدافها ونتائجها كانت ضارة بكل المقاييس. وإن من بين الأمور الخلافية أيضًا القول بأن بعض المتحمسين الشرقيين استهوتهم الأفكار الفاشية. وليس ثمة خلاف أبدًا بشأن التورط المخزي لبعض المستشرقين في دعم التمرد النازي ضد الديمقراطية الليبرالية. وسوف نعود ثانية إلى هذه الأمثلة المثيرة للجدل ولغيرها في حديث تالٍ.

الاستشراق من حيث هو مرآة تصحيحية

لنحاول في هذه الأثناء أن نُلقي نظرة عن كثَب وتدقيق أكثر في هذا التساؤل المعبر عن استراتيجية الشك أو مراجعة الذات. وهذا عامل معترف به في التاريخ الفكري للغرب والذي ظهر خلال القرون القليلة الماضية واكتسب نمطًا مميزًا. وتحدث ميرسيا إلياد، مؤرخ الأديان، عنه باعتباره ارتباطًا «هرمنيوطيقيًّا» أي تأويليًّا استبطانيًّا مع الشرق، وباعتباره كذلك «مواجهة مع» الآخرين، مما يساعد الإنسان الغربي على أن يفهم ذاته على نحو أفضل (١٩٦٠م، ١٠-١١). ويظهر عند مستوى معين ببساطة كبيرة كوسيلة تساعد المفكرين على النظر من بُعد إلى أوروبا والتطلع إليها وكأنهم من خارج؛ أي كمرآة يتفحص منها الناس فروض وانحيازات تراثهم وتقاليدهم الخاصة. وطبيعي أن هذه الاستراتيجية ليست مقتصرة أبدًا على علاقة أوروبا بالشرق. مثال ذلك أنه في أثناء حقبة التنوير راجت مختلف أنواع التصورات عن المجتمعات والقبائل الأجنبية، سواء منها ما هو واقعي أو متخيل، وذلك بهدف انتقاد مظان الحمق والقصور في الحضارة الأوروبية. وخير مثال مشهور عن ذلك أسطورة الهمجي النبيل. وهكذا نجد آمي غلاسنر غوردون في نقاش له لاتجاهات التنوير الفرنسي إزاء الثقافات الأخرى بعامة يبرز حقيقة أن «الفلاسفة كانوا يؤمنون بأن توافر منظور أوسع وفهم أشمل للمجتمعات غير الأوروبية من شأنه أن يمكنهم من فهم أنفسهم على نحو أفضل، وكذا فهم العالم الذي يعيشون فيه» (من كتاب بولابيلي وفان كلي، ١٩٨٦م، ٧٥، ٧٦). وقدمت الصين، كما سوف نرى لاحقًا، إلى «الفلاسفة» التنوير الذي أرادوه تحديدًا في صورة «منظور أوسع». وكانت الهند هي التي زودت الرومانسيين بالمرآة التي كشفت لهم عن مظاهر القصور في عصورهم. ثم بعد ذلك البوذية والطاويَّة اللتان اقتحمتا طريقهما لإسداء خدمة مماثلة. وما فتئت هذه الاستراتيجية رائجة وملحَّة بوضوح اليوم في عدد من المجالات الفكرية والثقافية. وهذا هو ما يعبر عنه اقتباس لعبارة على لسان ريتشارد بيرنشتين قالها في مؤتمر فلاسفة الشرق-الغرب، إذ قال: «إن المرء لا يسعه التوصل إلى فهم مؤسس على المعلومات ومتسق البنية للتراث الذي ننتمي «نحن» إليه إلا من خلال لقاء متشابك مع الآخر، أي مع آخَرية الآخر، أي وجود هذا الآخر كذات مستقلة عني» (عن الألمانية، ١٩٩١م، ٩٣).

إذا مضينا إلى أعمق من ذلك، إلى حيث يثوي في مركز هذا النمط ما يمكن وصفه على أحسن وجه بالقلق الثقافي السائد، وهو إدراك لا يبعث على الاطمئنان لخطوط المنازعات، ويسري عميقًا إلى ثنايا قطاعات الحياة الثقافية الأوروبية، نافذًا عبر مستويات من السياسة والدين والفلسفة. وينبثق عنه هنا إحساس بنوع من الانهيار الأساسي في قلب الوجود الفكري والرُّوحي والمعنوي للغرب. ويذهب المؤرخ وليام هاس إلى أن اهتمام الغرب بالشرق منذ القرن السادس عشر وما بعده يكشف عن حالة «شك عميق»، ويبرز حقيقة أن «الحضارة الغربية في العصر الحديث أصبحت، أكثر فأكثر، لغزًا غامضًا بالنسبة إلى نفسها — مرتابة بشأن جوهرها وقيمتها — مشوشة غير مطمئنة بالنسبة إلى الطريق والهدف» (١٩٥٦م، ٤٢-٤٣). ويحدثنا ريتشارد بيرنشتين من وجهة نظر يغلب عليها الطابع الفلسفي عن «قلق ديكارتي لا يكفُّ عن غزو تراث فكري أضحت أسسه ذاتها مشكلة دائمة بالنسبة إلى التراث نفسه» (انظر بيرنشتين، ١٩٨٣، ١٦–٢٥). ونلحظ استخدام مصطلحات طبية ومصطلحات تحليل نفسي مرارًا في هذا النص. وليس من العدل القول، بكلمات فيلسوف الأديان نينيان سمارت، إن كلًّا من الشرق والغرب يمثل «نقدًا مفيدًا لتراث الآخر، والذي به يمكن لكل طرف أن يتحدى الآخر ويكون عامل تصحيح له» (١٩٩٢م، ٩٩، ١١١). وثمة نهج أكثر تدميرية في نزعته المتطرفة، نجده يكرر المرة تلو الأخرى الحديث عما يعانيه الأدب الاستشراقي من «أزمة» أو «اعتلال» متباين الأشكال. ويجري عرضه باعتباره مرضًا يُحدِق بالحضارة الغربية مما يستلزم أن نوجه أنظارنا إلى الشرق التماسًا للعلاج وطلبًا للشفاء. مثال ذلك أنه في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين حذَّرنا سي جي يونغ من أننا «نعيش يقينًا في فترة تعاني أشد أنواع القلق والتوتر العصبي والتشوش وفقدان الاتجاه في نظرتنا» (١٩٦١م، ٢٦٦). وبعد بضعة عقود علق الفيلسوف تروي ويلسون أورغان على الأزمة الراهنة بقوله: «نحن في حاجة إلى ما وراء الغرب التماسًا للعلاج» (١٩٧٥م، ٧). وتباين «العلاج» الذي بإمكان الشرق أن يضعه للغرب وفق تغير الظروف والمطالب والاحتياجات على مدى القرون الأربعة الأخيرة. وأصبح شائعًا أن «تجدد الاهتمام بالديانات الشرقية يتوافق مع فقدان الغرب لثقته في قيمه هو الثقافية، ومع تضاؤل مكانة المسيحية في داخل المجتمع والثقافة الغربيين» (دافيز، ١٩٧١م، ١٧). ولكن دعوى الكتاب الذي بين أيدينا هي أن البحث عن تشخيص وعلاج من خلال الارتباط بالشرق ليس أبدًا ظاهرة معاصرة، بل يمكن تتبع تاريخها باعتبارها فكرة متسقة باطراد على الرغم مما اعتراها من تباينات كثيرة على مدى التاريخ الفكري الغربي الحديث.

وكم هو عسير أن نجد في الشرق خلال الفترة الحديثة متوازيات تاريخية للاتجاه إلى الخارج التماسًا لعلاج ثقافي ورُوحي. وثمة أمثلة كثيرة بطبيعة الحال للاهتمام بالأفكار الغربية بين المتعلمين من أبناء الصين والهند. ومن الجدير ذكره أن عددًا من أهل الفكر في الصين في عصر أسرة مانشو كانوا تواقين للتعلم من أوائل إرساليات الجيزويت والتحاور معهم. واستمع باهتمام وشغف بلاط السلطان المغولي أكبر (جلال الدين أكبر، ١٥٤٢–١٦٠٥م) في القرن السادس عشر للأفكار الجديدة الوافدة من أوروبا. بَيْد أن مثل هذه الاهتمامات كانت محدودة للغاية من حيث دلالاتها وتأثيراتها الثقافية، ولا يمكن النظر إليها باعتبارها تجليات لحالة من القلق الثقافي العميق. ويمكن القول إجمالًا إن الشرق لم يقبل على الغرب في حماس وفضول معرفي، وأنه لم يرحب طوعًا وعن أرْيَحية ذاتية بالأفكار الغربية، كما لم يشأ أن يستخدم هذه الأفكار لتقويض دعائم أفكار سائدة عنده. ولكن لا ريب في أن الشرق شهد خلال الفترة الحديثة حركات إصلاح مهمة وذات شأن؛ إذ إن الأفكار الغربية استوعبتْها في القرن التاسع عشر عن قصدٍ حركة الإصلاح الهندية، وكذا اليابان في عصر الإصلاح الميجي (١٨٦٨–١٩١٣م)، وحركة التغريب الصينية في ستينيات القرن التاسع عشر. وحري أن نقول إن الهند والصين في القرن العشرين أيضًا استوعبتا الأفكار الغربية، واستجابت كل منهما بطريقتها الخاصة على نحو إبداعي إزاء هذه الأفكار، وعايشت نتيجة لذلك فترة كانت خلالها ثورة تجديد وإعادة تقييم للذات بكل ما صاحب هذه الثورة من آلام. بَيْد أن هذه العملية، كما يوضح هالبفاس، لم «تأت نتيجة لتطورات انطلقت بداية من الداخل وتم إنجازها كاملة داخل الذات (الشرق)، ولكن ثمة تغيرات وانقطاعات مفروضة من الخارج» (١٩٨٨م، ٣٨٠). حقًّا، وكما يقول هندريك كرايمر: «إن الشك ومراجعة الذات والأزمة الداخلية التي تعاني منها حضارات الشرق العظمى اليوم … ألقيت عليها كقنبلة من خارج» (١٩٦٠م، ٢٣٠). علاوة على هذا، إذا نظرنا إلى الصين وهي في أوج سلطانها وذروة نفوذها الإمبراطوري في القرن الخامس عشر، وقتما كانت أمم كثيرة متاخمة لحدود الصين تدفع الجزية للإمبراطور «ابن السماء»، وكانت بالتالي رعيَّة لهيمنة الصين الشاملة، لا نلحظ أي زيادة ذات بال في الفضول المعرفي لمعرفة هذه الأمم التابعة، ولا نلمس رغبة، إلا في القليل، للتعلم منها. ونعرف أنه على مدى ثلاثين عامًا تقريبًا، ما بين ١٤٠٥ و١٤٣٣م، انطلقت من الصين حمَلات بحرية تحت قيادة شنغ هو، وضمت مئات السفن الحربية — كان أكثرها أكبر كثيرًا من أي سفن عرفتها أوروبا حتى القرن التاسع عشر، وكان هدفها تأكيد هيمنة الإمبراطورية الصينية على بحر الصين والمحيط الهندي. ولكن لم تشهد الصين آنذاك، ولا في أي فترة أخرى، أي ظاهرة موازية للاستشراق.١٦

ولكن كيف لنا أن نفسر هذا التضارب؟ قد يدفع البعض بأن عدم التماثل بين الشرق والغرب في هذا الصدد إنما حدث ببساطة نتيجة لفارق اقتصادي عميق يمثل أساس الاختلاف بين الاثنين، وأن ميل الغرب نحو الْتِماس تحليل للذات لبيان أسباب المرض إنما هو «قانون راسخ في ثنايا نسيج وجوده، وأنه نتيجة لنمطه الرُّوحي المميز وديناميته الأصيلة» (كرايمر، ١٩٦٠م، ٢٢٩، ٢٣٠). ورأى بعض المعلقين كما أشرنا سابقًا في هذا الفصل «أن هذا دليل على الفضول المعرفي في إصرار فاوستي وعلى دينامية الجبلية». وتبين لنا أن هذا كان أشبه بطابع دائم، «كليشيه»، منذ القرن السابع عشر، والذي يؤكد أصحابه أن الثقافات الآسيوية هي بطبيعتها الغالبة ثقافة سكونية، ومحافظة بشدةٍ بالمقارنة بأوروبا. ربما، والحال كذلك، أن ميل الغرب إلى نقد الذات إنما هو تجلٍّ لنوع من الاستياء الإلهي، ورغبة لا فِكاك منها في السؤال والاستقصاء، وهي ميول ظهرت جميعها أولًا بين فلاسفة الإغريق، وكانت قَسَمة جوهرية مميزة للنفس الأوروبية منذ ذلك التاريخ.

وغير خافٍ أن مثل هذا النوع من التفسير قد يكون مخرجًا يسيرًا للخلاص من مشكلاتنا، ومن شأنه أن يفسر لنا الاستشراق دفعة واحدة. ولكن، هل يمكن الزعم أصلًا بأنه تفسير، إن لم نقل إنه يعطي الأيديولوجيا الغربية والادعاء الكاذب بأن النزعة العنصرية علم؟ إننا لكي نهتدي إلى تفسير أكثر ملاءمة نغدو في حاجة إلى توسيع بؤرة حوارنا، وأن نضع ضمن أفق رؤيتنا النطاق الأوسع من أطياف التاريخ الثقافي الغربي الحديث.١٧

العدمية والغرب

من المسلَّم به لدى جميع المؤرخين بعامة أن أوروبا، أثناء النهضة وبعدها، ومنذ البداية الأولى للفترة الحديثة، تعرَّضت، وعلى جميع المستويات؛ ابتداء من المستوى الفكري والثقافي وحتى السياسي والاقتصادي، لتحوُّل عميق وصل إلى حد القطيعة الجذرية مع ماضيها. وكثيرًا ما اصطبغ هذا التحول بألوان بطولية. وهو ما تمثل في الإطاحة بقيود الإقطاع ومظاهر القمع الثقافي التي شهدها العصر الوسيط، والتبشير بميلاد العالم الحديث قرين اكتشاف الحرية الفردية وإطلاق العِنان لقوى العقل البشري وتحريره من أسر قيود الطبيعة. ويمكن أيضًا النظر إلى هذا التحول باعتباره كان تحولًا صادمًا؛ نظرًا لأنه أحدث قطيعة عميقة مع الماضي ومع تقاليد الفكر المترسبة في النفس من زمن طويل، وكذا مع تراث العقيدة والممارسة، علاوة على ما أحدثه من تحلل من الفروض اللاهوتية والسياسية التي تأسست وترسخت على مدى العصور الوسطى، حتى إن تجلى في قصورها في أحيان كثيرة. وحري أن ندرك أن هذه الصدمة قرينة التوسع الكوكبي لمصالح أوروبا التجارية والسياسية هي التي هيأت لنا، كما سوف أؤكد فيما بعد، أفضل مفتاح لفهم ميلاد الاستشراق في الفترة الحديثة. وتمثل في الحقيقة أيضًا عاملًا ظل فاعلًا حتى يومنا هذا. وهذه هي النظرة التي أوجزها جوزيف نيدهام الذي رأى في «جِماع تحولات النهضة والثورة العلمية والإصلاح الديني وظهور الرأسمالية، العوامل التاريخية التي ساعدت على تولُّد نوع من عدم الاستقرار الثقافي وانفصام الرُّوح، ليؤدي هذا كله إلى بذل جهد محموم بغية الوصول إلى أطر فكرية بديلة» (انظر نيدهام، ١٩٦٩م، ١١٦–١٢٢).

ولنحاول معًا النظر إلى هذه التحوُّلات عن كثَب مع تدقيق أكثر. كان الرأي السائد عادة اعتبار القرنين الخامس عشر والسادس عشر وما اقترن بهما من تدفق مستمر للأفكار من الإغريق القديمة وروما، وكذا من التراث اليهودي والهرمسي السري، هي نقطة الارتكاز التي يعتمد عليها الفكر الغربي الحديث. ويعبر المؤرخ في سي كيرنان عن هذا بقوله:

شهدت أوروبا، وعلى مدى قرنين بعد عام ١٤٥٠م، هزة وزلزالًا شمِلا كل مناحي الحياة، وكأنها غاصت في مِرجل الأميرة والساحرة الإغريقية ميديا لتجديد شبابها. وأعود لأقول كان تحولًا أكثر جذرية من أي تحول آخر شهدته المناطق الكبرى على ظهر المعمورة، وعانت معه في مسيرة تحول عاصف حافل بالتغيُّرات خيرها وشرها منذ العصر الوسيط حتى الحديث.

(كيرنان، ١٩٧٢م، ١٢)
برزت شخصيات جسورة أول الأمر من أمثال مارسيللو فيشينو وبيكو ديلا ميراندولا، ومن بعدهم روبرت فلود وجيوردانو برونو. والتمسوا معًا سبيلًا لتجميع هذه الأفكار ومواءمتها ودمجها معًا داخل إطار توفيقي موحد جديد، ثم العمل على إعادة تأسيس فروض العصر الوسيط على قاعدة جديدة أكثر شمولًا. ويمثل هذا الجهد — كما سوف نرى فيما بعد — مشروعًا تأويليًّا «هرمنيوطيقيًّا» تم إحياؤه وتجسيده في صورة جديدة داخل خطاب استشراقي، وذلك في مراحل ومواضع متباينة على مدى القرون. وظهر الإصلاح الديني البروتستانتي كرد فعل ضد هذا الميل التوفيقي. ولعل حركة الإصلاح هي أعمق تحوُّل وأبعده أثرًا في الحياة الفكرية للغرب؛ إذ وضعت عمليًّا نهاية للمشروعات الكلية الكونية، سواء لمسيحية العصر الوسيط أو للنهضة، ومهدت الطريق لاحتمالات مثيرة، ولا تزال مؤرقة، بشأن التعددية اللاهوتية والفلسفية. وأُعيد اكتشاف فلسفات الشك والفلسفات الذرية التي عرفتها اليونان القديمة، وكانت سلاحًا قويًّا لمناهضة النزعة الأصولية (الأرثوذكسية) الرسمية. وأدى هذا كله في اقتران بالفوضى التي تولدت عن الصراع الديني إلى ظهور أسلوب جديد للتفكير أكثر انفتاحًا وميلًا للصراع. وخيرُ ما يُوجِز هذا الأسلوب التزام ديكارت في كتابه «التأملات» بالعمل على تقويض أسس الآراء الرسمية الراسخة آنذاك وإعادة بنائها على أسس جديدة أكثر رسوخًا. علاوة على هذا نجد أن الثورة العلمية لم تؤد فقط إلى تحول في فهمنا للطبيعة، بل ساعدت أيضًا عند مستوى أعمق من حياتنا الفكرية على توليد رُوح جديدة للبحث أكثر انفتاحًا مع موقف الشك، إزاء كل ما نتلقاه من معارف. ونلحظ هنا، وعلى امتداد هذا التحول، خيطًا شديد الوضوح والفعالية يمثل صراعًا أصبح معروفًا خلال القرن السابع عشر بعبارة «معركة القدماء والمحدثين». ودار هذا الصراع حول محور: هل نبقى ملتزمين بالحكمة التقليدية التي أكدتها التجرِبة، أو نعمل اقتداء بوحي رواد الفكر من أمثال بيكون وديكارت وغاليليو، ونشق لأنفسنا سبيلًا جديدة وتوجهات جديدة غير محددة المعالم بعد.١٨

إن طبيعة الاستشراق، وما تحمله من تناقض ظاهري، وما تكشف عنه بأسلوب فريد للغاية عن صورة مزدوجة للذات متكافئة التضادِّ عند الأوروبيين، يمكن إلى حدٍّ ما سبر غورها في ضوء طبيعة التضاد المزدوج الأصيل في التاريخ الأوروبي خلال مطلع العصر الحديث، وتكشف كذلك عن التوترات الباطنية داخل الحياة الثقافية والفكرية آنذاك. ومع هذا كله كان هذا هو العصر الذي بدأت فيه البلدان الأوروبية تتحد معًا باعتبارها كيانات واعية بذاتها ويمكن تحديدها والتعرف عليها. وحدث ذلك عندما بدأت أوروبا، وبعد فترة طويلة من الانكفاء على النفس طوال العصر الوسيط، أسلوبًا دفاعيًّا في التحول إلى الخارج، وقد امتلأت ثقة وطاقة جديدتين، وأصبحت مقتنعة تمامًا بتفوقها وبرسالتها العالمية. وشجعت هذه الفترة أيضًا على توهُّج فضول معرفي إنساني وعلمي جديد، وحفزت إلى تطوير سلسلة جديدة من المناهج والمباحث الدراسية. وكانت كذلك عصرًا استطاع، بفضل قوة هذه التغيرات العميقة، توليد درجة غير مسبوقة من القلق والشك الذاتي. وليس من المبالغة في شيء، في الحقيقة، الزعم بأن «بذور العدمية كانت كامنة في حركة التنوير منذ البداية الأولى» (غيدينز، ١٩٩٠م، ٤٨). والجدير ذكره هنا أن النزعة العقلانية ذاتها، التي ميزت حقبة التنوير ووعدت بالإطاحة بجميع الخرافات القديمة، ساعدت على خلق بيئة يمكن أن تصبح فيها التراثات الآسيوية، من بين أمور أخرى، موضوعات للتحليل والدراسة؛ تأسيسًا على التفكير العقلي. وخلقت بذلك النظير الفكري الذي استخدمته أوروبا بعد ذلك لتحدي مفهوم التنوير ذاته عن العقل. وأوجزت حنا أرندت الواقع الساخر لهذا الموقف، وذلك في ملاحظتها التي تقول: «إن أوروبا عندما عمَدت، بكل شغف وحماس، إلى الترويج لقوانينها ودعوة القارات الأخرى إلى العمل بها، حدث أنها هي نفسها كانت قد فقدت عمليًّا إيمانها بها» (١٩٥٥م، ٨٢).

وحري أن نلحظ أن المفهوم النظري لحالة عدم الاستقرار هذه، وما صاحبها من مظاهر القلق، يتمثل نَموذجها الكلاسيكي في مفهوم نيتشه عن العدمية، والفكرة القائلة إن جميع القيم والمعتقدات التقليدية في عالمنا الحديث جرى تجاهل قيمتها، وأن «أسمى القيم أنقصت من قيمتها نفسها». ولكن الهدف مفتقد، إذن «لماذا؟ لا إجابة عن السؤال» (١٩٦٨م، ٩). ويتجاوز كثيرًا تحليله للعدمية الشكوك الارتيابية بشأن المعرفة الإنسانية التي كانت الشغل الشاغل للفلاسفة، ويسعى إلى تحديدها باعتبارها أزمةً مكانها من قلب الحضارة الغربية؛ وذلك لأن العدمية تمتد جذورها من أسس الحداثة ذاتها. وذهب إلى أن هذا ظرف تاريخي خاص بأوروبا الحديثة، وأن سببه عوامل داخل التاريخ الثقافي الخاص بأوروبا. ويمكن تتبع جذور هذه العوامل وصولًا إلى التراث الفلسفي الغربي وظهور العلم الحديث، بل وظهور المسيحية ذاتها. ويؤكد نيتشه أن «العدمية الكاملة هي النتيجة الضرورية المترتبة على المثل العليا التي سادت آنذاك، وبل والإيمان بمقولة العقل ذاته» (المرجع نفسه، ١٩، ١٣).

وتتجلى واضحة أفكار مماثلة لأفكار نيتشه في كتابات عدد من علماء اجتماع القرن العشرين. إذ ها هو إميل دوركايم في دراسته التحليلية عن الثورة الاجتماعية التي اقترنت بالتحول من الأشكال التقليدية إلى الأشكال الحديثة للاجتماع البشري. ووصف هذه الحالة في ضوء ما سماه «الأنوميا»،١٩ وهي نزعة فردية مفرطة تفضي إلى ظهور حالة من عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ، ووهن كارثي لمعايير السلوك التقليدية. ووصف بيتر بيرجر منذ عهد قريب جدًّا الحداثة في ضوء «فقدان الشعور بهوية الانتماء، وهي حالة يكف خلالها المرء حرفيًّا عن معرفة من هو»، و«تصبح الحقيقة موضع شك، ويتهددها خطر الفراغ من المعنى» (١٩٧٤م، ١٣٧). ويتولد هذا الوضع عن فقدان المعتقدات التقليدية المتصفة بالشمول، وكذا نتيجة ظهور «كثرة من عوالم الحياة التي تواجه المرء بخبرات اجتماعية ومعان دائمة التغير داخل ألوان طيف واسعة النطاق؛ مما يجبر المرء قسرًا على اتخاذ قرارات ووضع خطط جديدة دائمًا. وها هنا لا يصبح العالم وحده، بل والذات أيضًا، موضوعًا … لعملية فحص وفرز أليمة» (المرجع نفسه، ٧٤-٧٥). ولا نزال حتى وقت معاصر أكثر نجد علماء اجتماع من أمثال أولريتش بيك وأنطوني غيدينز يرون الحداثة في ضوء المخاطرة والخطر وعدم اليقين. وهذا الموقف يمكن تتبع تاريخه إلى عصر نمو التجارة الدولية الحرة التي لا تخضع للسيطرة في القرن السابع عشر. ويرون أيضًا أن هذا كله يمكن أن نشهده في الظاهرة المعاصرة للعولمة الثقافية، التي تولِّد لدى الأفراد والجماعات ميلًا إلى القلق الذي يثير الشك والمراجعة الذاتية.٢٠ ويتوازى مع هذا تاريخ الفلسفة الحديثة. وهنا لا نرى فقط مجالًا للصراع بين مدارس متنافسة — العقلانية والتجريبية، المثالية والواقعية، الواحدية والتعددية، وهذا قليل من كثير من المذاهب الأكثر حيوية — ولكننا نذكر فقط نطاقًا احتلت فيه مظاهر القلق الثقافي سالفة الذكر بؤرة الاهتمام الثقافي. ونلحظ في هذا المجال أن خطر العدمية ظل دائمًا عند السطح أو دونه، ابتداء من صراع ديكارت مع نزعة الشك، ومرورًا بكانط واستجابته إزاء شكوك هيوم بشأن المعرفة البشرية، ووصولًا إلى سلسلة من فلاسفة القرن العشرين، عند راسل وحتى رورتي، الذين ناضلوا ضد مراوغة الأسس الإبيستمولوجية الراسخة.٢١

وحري أن نؤكد أنه ليس بالإمكان النظر إلى الاستشراق باعتباره مجرد عرض أو نتيجة لهذه الحالة من التشوش والاضطراب الثقافي والفكري، ذلك لأنه ساهم أيضًا في اطراد وتفاقم هذه الحالة. إن اكتشاف الحضارات القديمة والمتقدمة في الشرق كان إضافة إلى حالة الشك وفقدان اليقين التي تعانيها الثقافة، والتي بدأت تتشكك جديًّا في مدى صوابها هي. وشرع المفكرون الأوروبيون في أثناء هذه الفترة في صياغة فكرة التفرد الأوروبي، أو في الحقيقة الفكرة التي تتحدث عن تفوقها الأصيل على الثقافات والأعراق الأخرى. ومع هذا فإن اللقاء مع الصين ثم مع الهند كان بمنزلة قوة إضافية جديدة أثَّرت في اتجاه مساوٍ ومضاد. ونذكر هنا ما قاله الباحث الاستشراقي الفرنسي رايموند شواب في هذا الصدد: «أدرك الغرب أنه ليس المالك الوحيد لماضٍ فكري يثير الإعجاب.» وهذه حقيقة جاء إدراكها «خلال فترة بدا فيها كل شيء كأنه جديد غير مسبوق واستثنائي» (١٩٨٤م، المقدمة، ص٢٣). علاوة على هذا، أثارت الاكتشافات الجديدة كمًّا هائلًا من الأسئلة الحرجة عن أصول وتفرد المسيحية، وكذا أصول السلالة البشرية والمصادر التاريخية للغات الأوروبية وعالمية المعتقدات الدينية والأخلاقية. وحيث إن الفترة كانت هي الفترة نفسها التي بدأت فيها صياغة العلوم الإنسانية، فليس لنا أن ندهش إذ نكتشف وجود مفكرين يجدُّون بحثًا عن معلومات تتجاوز حدود كل من أوروبا وتاريخ الكتاب المقدس. وطبيعي، وفي مثل هذا السياق، فإن وجود حضارات غير أوروبية لها معتقداتها وسلوكياتها وأخلاقها المتقدمة، وإن بدت مختلفة جذريًّا، يمثل معلومات جديدة مهمة ولكنها مثيرة أحيانًا للحيرة والارتباك.

ولكن ماذا عن أوجه المقارنة مع آسيا؟ شهدت المجتمعات الآسيوية يقينًا ثورات عظيمة واضطرابات، سواء في مجالات السياسة أو الفكر. ولكن هذه الأحداث على جسامتها لم تسفر عن نتائج عميقة الأثر شأن النتائج التي أفضت إلى ميلاد العصر الحديث في التاريخ الأوروبي، والتي تحولت معها، خلال فترة قصيرة نسبيًّا إلى ثقافة كوكبية. ولنأخذ حالة الصين مثالًا، مع رفضنا للتفسيرات التبسيطية المخلَّة التي تحدثنا عن «ركود» الصين كفرض أساسي. يوافق الباحث الصيني وين-يوان قيان على أنه خلال الفترة التي أعقبت حكم أسرة شنغ أرسلت الصين في مطلع القرن الخامس عشر بعثات بحرية عسكرية. ولكن الصين كانت تفتقر آنذاك إلى الظروف الاجتماعية السياسية الواعدة، التي تفضي إلى إنتاج وتعزيز ودعم … سلسلة من العناصر الفكرية الجديدة تمامًا، والاتجاهات الجديدة، وأساليب الفكر الجديدة، شأن ما حدث في أوروبا منذ النهضة وما بعدها (١٩٨٥م، ٣١-٣٢). ويدعم نيدهام هذا الحكم «أنجزت أوروبا نهضة وإصلاحًا دينيًّا والتزامًا عظيمًا بإحداث تغيير اقتصادي، وهو ما لم تنجزه الصين» (١٩٥٦م، ٢٩٤). ذلك لأن الصين كانت واقعة في قبضة النظام البيروقراطي الخانقة، ولم تشهد التحول الجذري إلى الحداثة إلا بعد أن اضطرها الغرب إلى ذلك. وثمة مثال مهم معارض يمكن أن يكون موضوعًا للنقاش في حالة الانتفاضات الاجتماعية والسياسية في الصين، التي وقعت خلال الفترة التالية لانهيار حكم أسرة هان عام ٢٢٠م. أدت هذه الأحداث إلى عملية تدميرٍ والإطاحة بالأيديولوجيا الكونفوشية السائدة، كما أدت إلى فترة طويلة من الفوضى الثقافية والفكرية. ومهدت السبيل لهيمنة ديانة أجنبية هي البوذية، ثم أخيرًا إلى عصر إحياء ثقافي عظيم لأسرة سونغ. ويعلق المؤرخ آرثر رايت على هذه الفترة بقوله: «يلحظ المرء هنا اتجاهًا معاديًا للتقليد تجاه كل المظاهر التقليدية القديمة، حيث نشهد عملية بحث قلقة ومحمومة التماسًا لشيء جديد. وتضمَّنت هذه إعادة تفعيل، ثم تبني ما تم اقتباسه من دين غريب» (١٩٧١م، ١٢٤). ولكن على الرغم من المقارنات السطحية مع مستهلِّ الفترة الحديثة في أوروبا، يجب أن نؤكد أن هذه الحقبة من تاريخ الصين لم تشهد ما يميزها بالتوجه إلى الخارج للتوسع التجاري أو الإمبريالي خارج نطاق نفوذها التقليدي. كما لم تشهد أي شيء يماثل المشروعات الحرة المدفوعة بوحي الرأسمالية، أو ظهور نظام الدول القومية. ومن ثم لا شيء يمكن في التحليل النهائي أن نقارنه بالتحولات التي حدثت في أوروبا.

وها نحن لم يبق لنا في النهاية سوى الفرض المسبق القوي، وهو أن ظهور وتطور الاستشراق في الغرب اقترن على نحو وثيق بظروف تفرَّدت بها أوروبا خلال الفترة الحديثة — وهذه هي ظروف الثورة الثقافية والتوسع الكوكبي — وساعدت هذه الظروف أولًا على خلق فراغ أليم في قلب الحياة الرُّوحية والفكرية لأوروبا، وثانيًا، ميلاد أوضاع سياسية جغرافية «جيوبوليتيكية» يسَّرت انتقال رؤى عالمية بديلة من الشرق. وسوف نعمل خلال القسمين التاليين من الكتاب على التوسع في عرض واختبار هذه الآراء الأولية التمهيدية، وذلك عن طريق تتبع جماع التطور التاريخي للاستشراق على مدى القرون الأربعة.

١  طائفة من النساك الهندوس في العصر القديم، روت عنهم كتب التاريخ. (المترجم)
٢  آتمان Atman: النفس أو الرُّوح الفردية. وأحيانًا، حين تبدأ بحرف كبير، تعني الرُّوح الكلي الأسمى في العقيدة الهندوسية. وبراهمان Brahman في الهندوسية: الحقيقة الإلهية وجوهر الكون، وهي الرُّوح الخالد الذي صدرت عنه كل الموجودات وتعود إليه، إذ منه المنشأ وإليه المعاد. (المترجم)
٣  يمكن للقارئ أن يجد في كتاب مارتن برنال محاولات موازية لمراجعة التفكير في دور الثقافات غير الأوروبية في تكوين الحضارة الغربية، وذلك فيما يتعلق بالمصادر المصرية والأفريقية (انظر برنال، ١٩٨٧م)، وسمير أمين فيما يتعلق بالإسلام (١٩٨٩م).
٤  استُخدم مصطلح «الرومانسية» هنا بمعناه الأكثر شيوعًا والسطحي. وطبيعي أن الرومانسية عند مستوى آخر لا تعني ضمنًا الهرب من المهام المباشرة، بل يمكن أن تكون وسيلة للاشتباك معها.
٥  حركة العصر الجديد New Age movement: هي إحدى دورات البعث التاريخي لرؤية خيالية عن مسار الفكر والقيم الإنسانية. يزعم أنصارها أن جذورها الفلسفية ممتدة إلى أعماق تراث تاريخي قديم وتنبني على أساس الاعتقاد بوجود قوى خارقة وأفراد من بني البشر لهم سلطان يتمثل في القدرة على التعامل مع هذه القوى. يجمع بين أنصارها تراث سري، وحديثهم رمزٌ وإشارات خفية. ويسير تاريخهم عبر دورات ازدهار وانحسار. يقولون بدأ التاريخ على أيدي حكماء القرون من السابع وحتى الخامس ق.م. وجسد هؤلاء فلسفات دينية بالغة العمق، وأعلام هؤلاء لاوتسو وكونفوشيوس في الصين، وهرمس مثلث العظمات أو تحوت المصري، وماهافيرا في الهند، وزرادشت في فارس، وأنبياء فلسطين، وفلاسفة الإغريق، ولكل دورة اسم خاص بها.
واقترنت نشأة الحركة في العصر الحديث بأزمة الإيمان المسيحي في الغرب نتيجة تناقضات واضحة بين ما نص عليه الكتاب المقدس وما كشفت عنه البحوث والاكتشافات العلمية وثقافات وأديان شعوب الشرق وما عاينه الشباب في رحلاتهم عبر العالم. وبلغت الحركة أوجها في الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن العشرين [الهيبيز]. وطالب الشباب بأن يكون لهم دور في تسيير جميع شئون المجتمع. وكان اسم الحركة في بداية نشأتها [عصر الدلو] للدلالة على عصر جديد مشمول بالرُّوحانيات، ثم تغير إلى «العصر الجديد». واستثارت الحركة تيارات معارضة قوية، خاصة الأصولية المسيحية، نظرًا إلى معارضة الحركة أصول العقيدة وروايات الكتاب المقدس. وسبقت دورة العصر الجديد دورات أخرى على مدى التاريخ منها «البعث الشرقي» في القرن اﻟ ١٩، والثيوصوفية والرُّوحانية والمِسمرية، وهكذا، عودًا إلى العصور القديمة الأولى. (المترجم)
٦  كثيرًا ما نجد مبالغة في الحديث عن افتقار الصين للفضول المعرفي تجاه الغرب. إن المعارف العلمية التي جلبها الجيزويت إلى الصين في القرن ١٧ كانت موضع ترحيب كبير من حلقة صغيرة من كبار المثقفين والإداريين الصينيين الذين عكفوا في شغف على دراسة الفلك والهندسة والميكانيكا. وسبق أن أشار ليبنتس في مقدمة كتابه «الصين الجديدة» أن الإمبراطور كانغ-هسي الذي حكم الصين من ١٦٦١م إلى ١٧٢٢م أبدى اهتمامًا كبيرًا بالمعارف والعلوم الغربية، ودرس الميكانيكا والهندسة والفلك دراسة متعمقة على يدي الأب الجيزويتي فيربيست.
٧  طائفة بوذية من سلالة بوذية زن اليابانية. (المترجم)
٨  للاطلاع على مناقشة هذا الجانب من فرضية سعيد انظر ريتشاردسون ١٩٩٠م، الذي يتهم سعيد بأنه لم يعتمد كثيرًا على معطيات تجريبية، كما اتهمه بأنه صاغ تصورًا عن الاستشراق نابعًا أساسًا من أيديولوجيا معادية للاستعمار أكثر من اعتماده على دليل تجريبي. وظهرت أخيرًا مجموعة من الدراسات التي حاولت تصحيح هذا النقص. ونجد أمثلة جيدة لهذا عند بريكنريدج وفان دير فير ١٩٩٣م. ونعرف أن كتاب سعيد أثار إعصارًا من النقاش النقدي وحفز إلى ظهور خطاب ما بعد الاستشراق، تجاوز الحديث فقط عن أصول نشأته في إطار الدراسات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية وغيرها.
٩  هذه النتيجة طبيعي أن تبدو مقبولة فلسفيًّا، وسوف أعود إلى هذه المسألة في فصلٍ تالٍ. لقد حرص سعيد أخيرًا على تأكيد مسافة فاصلة بينه وبين استخدامات فوكو لمعنى السلطة.
١٠  انظر مارشال وويليامز ١٩٨٢م، إذ يؤكدان على الرابطة الوثيقة بين الصياغة الفكرية وفرض السلطة الغربية على آسيا، على الرغم من حرصهما على إنكار أن «البحوث الشرقية الغربية أصحبت صناعة وَفق طلب الإمبريالية». ويشيران أيضًا إلى الحكومة البريطانية عام ١٨٠٠م التي أحجمت عن ارتداء عباءة استعمارية.
١١  ريغ فيدا Rig veda: الفيدا هي المتون المقدسة الأقدم في الهندوسية، بما في ذلك المزامير والتراتيل وطرق ونصوص العبادة، ومجمعة في أربع مجموعات اسمها ريغ فيدا. (المترجم)
١٢  لمناقشة هذه الحجة، انظر شيلدون بولوك في كتاب بريكنريدج وفان دير فير ١٩٩٣م. ويتحدث سعيد عن أن ألمانيا لديها نوع من السلطة الفكرية على الشرق (١٩٨٥م، ١٩).
١٣  للاطلاع على مناقشة أكثر خصوبة لهذه الحجج ولغيرها ذات الصلة بها انظر لويس ١٩٩٣م، الفصلين ٦ و٧.
١٤  الأوبانيشاد Upanishad: أي مجموعة من بين ١٠٨ نصوص تأملية فلسفية من الفيدا التي تتضمن صياغة شعرية. ويُعتقد أنها أُلِّفت عام ٥٠٠ق.م. تأسيسًا على تعاليم شاعت منذ ١٠٠٠ق.م. وتمثل المرحلة الأخيرة في تراث الفيدا والتعاليم المبنية عليها تسمى فيدانتا Vedanta. وتتعلق الأوبانيشاد بوجه عام بالحديث عن الرسائل الفلسفية التي تصوغ معالم فقه الإلهيات في الهندوسية قديمًا، وطبيعة الحقيقة والواقع والرُّوح الفردية آتمان ورُوح الكون الكلي براهمان ونظرية التناسخ وطبيعة الأخلاق. (المترجم)
١٥  يشير ماكينزي إلى أن سعيد اعترف بأن الشرق كان «أداة لإحياء الغرب … وكانت لديه القدرة لكي يصبح أداة لثورة ثقافية ومصدرًا شرعيًّا للمقاومة … ضد المواضعات والتقاليد الغربية»، ولكنه أخفق في تطوير ذلك (١٩٩٥م، ١٠). ولاحظ عدد من النقاد الدور المناهض للثقافة والمناهض للهيمنة. انظر على سبيل المثال توك (١٩٩٠م، ٨) ويونغ (١٩٩٠م، ١٤٠).
١٦  نطالع هذا الرأي عند ليفينسون ١٩٦٧م الذي يقدم مختارات من الكتابات المقارنة بشأن موضوع التوسع الأوروبي في عصر النهضة.
١٧  نستلهم هنا الأفكار من جوزيف نيدهام الذي يردد صدى أفكار ماكس فيبر من حيث عرض مسألة كلاسيكية تتعلق بالأصول الأوروبية لنشأة الرأسمالية. وعالج مسألة موازية هي: «لماذا نشأ وتطور العلم الحديث في أوروبا وليس في الصين حيث كانت الظروف، فيما يبدو، مواتية أكثر لذلك عما هي الحال في أوروبا؟» ويحذو نيدهام هنا حذو وِيتفوغيل ويدفع (١٩٥٤م و١٩٦٩م) بأن تراث البيروقراطية المركزية في الصين حال دون نمو طبقة تجار، ومن ثَم حرَمها من الظروف التي تساعد على تطوير العلم الحديث على عكس الحال في أوروبا. وللاطلاع على مناقشة لفرضية نيدهام انظر بود ١٩٩١م، وهف ١٩٩٣م، وسيفين (١٩٩٥م) الذي يزعم أن الصين شهدت بالفعل ثورة علمية خلال القرن السابع عشر مماثلة للثورة التي شهدتها فرنسا المعاصرة.
١٨  هذا هو أكثر العروض إيجازًا عن فترة تاريخية معقدة والتأويلات التي أثارت خلافات حادة.
١٩  الأنوميا Anomie: تعني في العلوم الاجتماعية حالة عدم الاستقرار أو حالة الاضطراب والقلق لدى الأفراد، الناجمة عن انهيار المعايير والقيم الاجتماعية، أو الافتقار إلى الهدف والمثل العليا. دخل المصطلح إلى علم الاجتماع على يدي عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم عام ١٨٩٧م في كتابه «الانتحار»، واقتبسه من الفيلسوف الفرنسي جين-ماري غويو. وتتجلى حالة الأنوميا في ظل حالة التفكك التنظيمي لمؤسسات المجتمع وانهيار المعايير والانفصال بين الأهداف الاجتماعية المعلنة والوسائل الصحيحة لتحقيق هذه الأهداف، والتناقض الفاضح بين ما يشاع من أيديولوجيات رسمية وبين ما يجري على أرض الواقع. ويشعر المرء سيكولوجيًّا بالاغتراب والعبثية والانهيار الأخلاقي مما ينعكس سلبًا وعزلة وانحرافًا. (المترجم)
٢٠  انظر بيك ١٩٩٢م، وغيدينز ١٩٩١م. هذا نهج لا يُجمِع عليه علماء الاجتماع. مثال ذلك نوربرت إلياس الذي دفع بأن الحياة الحديثة تنزع إلى أن تصبح أكثر لا أقل تنظيمًا. كذلك فإن أعضاء مدرسة فرانكفورت، مثل ماركيوز وهابرماس، أكدوا على خطر المواجهة في المجتمع الحديث وخطر مكننة المواقف والسلوكيات عند البشر. انظر تيرنر ١٩٩٤م، الفصلين ١٢ و١٣.
٢١  يدفع بوبكين ١٩٦٨م بأن نزعة الشك كانت المشكلة الأساسية في الفلسفة الغربية الحديثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤