التحول إلى الهند: عصر الرومانسية
«يمكن أن نفسر افتتان المفكرين الألمان بالهند، تفسيرًا جزئيًّا، على أساس أن الرُّوح المتنامي للتحرر القومي الذي تصاعد نتيجة الثورة الفرنسية، دفع كثيرين منهم، وهذا وجه المفارقة، إلى النظر إلى الروابط القديمة المفترضة مع الهند باعتبارها وسيلة لتأكيد هويتهم الخاصة المميزة.»
الهند والرومانسيون
بينما كانت الصين هي موضوع الاهتمام الرئيسي عند فلاسفة التنوير، فإن الهند هي التي استحوذت على العقول والخيال عند الرومانسيين. توارت الصين في الحقيقة، وربما أفل نجمها تمامًا من حيث الاهتمام الفلسفي الجاد وعلى مدى القرن التاسع عشر، بل أضحت بدلًا من ذلك، موضوعًا للازدراء إلى حد كبير، وللاستعلاء العنصري من جانب الغرب. وبعد أن كانت الصين نموذجًا للاستنارة السياسية والأخلاقية أصبحت في عيون الأوروبيين حضارة فاسدة منحطة. وها هو ألكسيس دو توكفيل عالم السياسة العظيم في القرن التاسع عشر رأى أنه «ليس من المفهوم أبدًا لماذا اضطر الفيزيوكرات في القرن الثامن عشر إلى هذا الإعجاب الشديد بالصين» (برنال، ١٩٨٧م، ٢٣٨).
إحياء هذا المُناخ في القرن التاسع عشر نشأ مع وصول أول نصوص سَنسِكريتية إلى أوروبا … إذ أدى إلى حدوث تأثير مساوٍ للتأثير الذي حدث في القرن الخامس عشر نتيجة وصول مخطوطات إغريقية ومعلقين بيزنطيين على إثر سقوط القسطنطينية.
وكما هي الحال في فترة التنوير، كان الدافع الفكري الأول للاستشراق الجديد لا يتمثل في عمليات بحث منزهة عن الغرض، بقدر ما كان أساسًا في تنامي الإحساس بزوال الأوهام المتعلقة بأنماط الفكر والاعتقاد السائدة في أوروبا. نجد من ناحيةٍ التراثَ الرُّوحي المسيحي اليهودي الذي أثبت أنه غير كافٍ أو مقنع، ومن ناحية أخرى النزعة المادية والموقف المناهض للدين المميزَيْنِ لحركة التنوير، اللذَين ظهرا بهدف إمكان إلغاء الرُّوح تمامًا. ويقول في هذا أحد المؤرخين: «إن الرومانسي الذي أصبح يضيق ذرعًا بالرُّوح الباردة الجامدة السائدة في المُناخ العقلاني المسيحي الأوروبي الداعي إلى الانفصال الصريح عن جذوره، بدت له الهند هي أرض الميعاد» (ويلسون، ١٩٦٤م، ١١٣).
مصادر العبادة الجديدة
كل من يدرس بدقة وحرص خطوط فكر عمانويل كانط ومبادئه الأساسية، وكذا نتائجه، سوف يدرك أنها لا تنحرف بعيدًا عن تعاليم البراهمانية التي تقود المرء عائدًا إلى ذاته، فيجمع شتات نفسه ويركزها داخل ذاته.
وذهب دوبيرون إلى أن هذه المقارنات أهم من مجرد كونها مقارنات أكاديمية. إنه باعتباره واحدًا من أبناء التنوير كان مدفوعًا بإيمان قوي راسخ يؤكد وحدة الإنسانية، كما أن أوجه التطابق التي وجدها بين الحضارتين أفادت كحافز يحثنا «على التوافق والمحبة». وأفادت أيضًا كأساس لتجديد أوروبا معنويًّا. وطبيعي أن دوافع قوية كهذه كان مقدرًا لها أن تصبح القَسَمة المميزة لجماع الرابطة الرومانسية بالهند.
منشورات الباحثين في الشئون الهندية في كَلْكُتا أججت نوعًا من سَورة الحماس الشديد لدى بعض الشباب الألمان. نذكر من هؤلاء في مجال الفلسفة شلنغ وفيشته وهيغل، فضلًا على شوبنهاور وشلايرماخر. ونجد من بين المشتغلين بالشعر جوته وشيلر ونوفاليس وتييك وبرنتانو. ونذكر من بين المجددين العظام للأفكار الجديدة هيردر الذي نقل الرسالة إلى فريدريتش شليغل.
وأهم الأفكار التي راجت في كل أنحاء ألمانيا الزعم بأن اللغات الأوروبية والهندية تحمل أوجهًا واضحة للتشابه بين بعضها والبعض الآخر. واعتمد جونز على هذه في توقعه أن السلالات الأوروبية والهندية نشأت من مصدر مشترك. ونعرف أن مسألة أصول الشعوب الأوروبية ظلت موضوع جدل حادٍّ لفترة من الزمن. ويُبدي هنا بي جي مارشال الملاحظة التالية: «ورِث جونز قرنًا من التأملات عن الهجرات من آسيا». ولكن معرفته بالسَّنسِكريتية مكنته من «إضافة عنصر يتسم بالدقة إلى هذه التأملات» (١٩٧٠م، ١٦). ونراه في بحث له تحت عنوان «عن أصل الأمم وأنسابها» يؤكد «توافر برهان لا سبيل إلى دحضه على أن أول سلالات الفرس والهنود، الذين يمكن أن نضيف إليهم الإغريق والشعوب القوطية وقدماء المصريين أو الإثيوبيين، كانوا في البدء يتحدثون لغة واحدة ويتقاسمون عقيدة شعبية واحدة …» وأضاف اقتراحًا بأن إيران كانت هي موطن النشأة المشتركة (الاقتباس من مارشال، ١٩٧٠م، ١٥). وأحدثت هذه الفكرة أصداء ضخمة على مدى السنوات التالية. بيد أنها في حدود ما كان يشغل الرومانسيين تمثل متاعًا مفيدًا في نضالهم من أجل التحلل مما رآه بعضهم يمثل ضِيق أفق التراث المسيحي-اليهودي. وتُمثل أيضًا في ضوء الروابط التي أقامها «الفلاسفة» مع العقيدة الصينية، خطوة إلى الأمام على الطريق نحو فهمٍ أكثر شمولية للإنسانية. ونرى لزامًا، بعد الحديث عن جهود جونز، أن نشير إلى اثنين آخرين من الموظفين المدنيين البريطانيين اللذَين قدَّما إسهامات ذات شأن من أجل التطور الباكر للنهضة الشرقية، وهما: تشارلز ويلكينز (١٧٤٩–١٨٣٦م)، الذي قدم في عام ١٧٨٥م أول ترجمة إلى الإنجليزية عن السَّنسِكريتية للملحمة الهندية العظيمة البهاغافاد غيتا. «وهذا عمل تُرجم مرات ومرات إلى لغات كثيرة، وأثر تأثيرًا هائلًا في عقل أوروبا وأمريكا» (شارب، ١٩٨٥م، ١٠). والثاني توماس كوليبروك (١٧٦٥–١٨٣٧م)، صاحب كتاب «مقالات عن الدين والفلسفة عند الهندوس». واستطاع بهذا العمل أن يقدم للناس أوجهًا لم تكن معروفة في السابق من الثقافة الهندية، وقرأها جمهور واسع في القرن التاسع عشر.
هذه إذن بعض الأفكار العامة التي تدفقت عبر الحوار الألماني مع الهند القديمة. وحان الوقت الآن لدراستها دراسة مدقِّقة متفحِّصة وبتفصيل أكثر، حسبما جاء تطبيقها على أيدي بعض كبار مفكري هذه الفترة. وسوف نركز اهتمامنا على الشخصيات الرئيسية دون أن ننسى أن الهوس بالهند لم يسلَم منه تقريبًا أيٌّ من شعراء وفلاسفة وعلماء الإلهيات من أبناء جيل الرومانسية.
المفكرون الألمان
يُعتبر جوهان غوتفريد هيردر (١٧٤٤–١٨٠٣م) من نواحٍ كثيرة المسئول عن تحديد جدول أعمال الرومانسية. إنه أول أبناء هذا الجيل الذي استوعب الشرق ووضعه نصب عينيه في سعيه لتحقيق أهداف الرومانسية. وتتجلى نغمته في الهوس بالهند واضحة في تعليقات له من مثل: «أيتها الأرض المقدسة [الهند] تحية وسلامًا، أنت نبع كل موسيقى، وصوتك صادر عن القلب» (الاقتباس من إدوارد، ١٩٧١م، ١٥٢). وأيضًا «انظر إلى الشرق — مهد السلالة البشرية، ومهد العاطفة الإنسانية، ومهبط الأديان» (الاقتباس من آير، ١٩٦٥م، ١٨٨). ولم يكن هو أول من امتدح عراقة الهند ذات الجلال، ويزعم أن مصدر جميع الحضارات، بل اللغات نفسها، ليس في البحر المتوسط، ولا في الشرق الأوسط، وإنما في الهند. ولكنه بهذا أسهم في وضع مسألة الأصول والهوية الأوروبية، أو بدقة أكثر، أصول وهوية ألمانيا، والهوية الثقافية في صميم قلب الحركة الرومانسية. ولم يكن بأي حال من الأحوال ينظر نظرة غير نقدية للهند. مثال ذلك نفوره من ممارسة طقس سوتي، أي حرق الزوجة مع زوجها المتوفَّى، ومن نظام الطوائف، وكذا ما اعتبره موقفًا يتمثل في الاستسلام عن رضا. ولكنه مع هذا أسهم في نشر ورواج الصورة التي ابتدعها روسو عن أوروبا المتحللة مقارنة بمجتمع قديم رَعَوي غنائي، ووضع الهند في موضع المثل الأعلى الذي يتعين على أوروبا أن تقتدي به، وتكتشف من خلاله نواقصها الأخلاقية.
واحتل الاهتمام بالطبيعة وهوية الثقافات قلب تفكير هيردر. وبعد أن طرح جانبًا العامل الكونفوشيوسي، احتل عالم الإغريق والرومان الكلاسيكي مكانة سامية كمثل أعلى يتعين أن نقتدي به في كل جهد إنساني، بدءًا من الفلسفة والحث على الفضيلة ووصولًا إلى الفن والعمارة والشعر. وتضمن هذا النهج بدوره افتراض وجود قيم كلية شاملة، والتي نرى من خلال الممارسة العملية أن أكمل تجسيد لها في ثقافات البحر المتوسط الكلاسيكية القديمة. ونعرف أن الشعب الألماني لم يأنس سعيدًا أبدًا لهذا النموذج الكلاسيكي، خصوصًا في القرن الثامن عشر وقتما تجسد بوضوح وجلاء في الثقافة الفرنسية. وتعبر نظرية هيردر عن التاريخ والثقافات ببلاغة شديدة عن هذه المشكلة الألمانية. وإذا به على نقيض النوازع الكلية والعقلانية للتنوير يرى أن التاريخ البشري يشتمل ويؤالف بين أمم وتراثات كانت تعيش كوحدات كلية وتمثل كيانات عضوية لها حياتها ورُوحها الخاصة. ويرى أيضًا أن المنتجات الثقافية والنوازع الدينية لهذه الكيانات لا يمكن تقييمها إلا من داخل كل تراث حي. والجدير ذكره أن التشبيهات المجازية للنمو والتطور العضوي تعبر عن نموذج تفكيره. واستطاع بفضل هذه التشبيهات المجازية أن يثبت الروابط الحية الوثيقة بين أوروبا والهند. ويبدي هالبفاس ملاحظة هنا في معرض حديثه عن هيردر فيقول: «تطور البشرية من الشرق إلى روما يشبه جذع شجرة ثُبتت فيه الفروع والبراعم … ويمثل الشرق الدولة في مرحلة الطفولة. ومن ثم تتسم بالبراءة والنقاء والإمكانات التي لا تنفد» (١٩٨٥م، ٧٠).
كان هيردر، مثله مثل وليام جونز، راعيَ كنيسة لوثري المذهب، لم يراوده الشك أبدًا بشأن تميز المسيحية على الهند والشرق، ولكن حبه لفهم الفلسفة الهندية، وخصوصًا تقمصَه للشعر في الكلاسيكيات الهندية القديمة، كان الدافع لدى جيل كامل من المفكرين الألمان. ورأينا توًّا أن الفكرة القائلة إن الهند كانت تمثل طفولة البشرية أسهمت كثيرًا في صوغ النزعة البُدائية الرومانسية، والتي أصبحت بدورها فيما بعد سلاحًا قويًّا في نقد الثقافة المعاصرة، هذا على الرغم من أن هيغل استخدم فكرة طفولة الهند لأغراض أخرى بعد ذلك في فلسفته. وحري أن نلحظ أن تصوره للشعب الهندي أنه شعب رقيق الحواشي، نباتي المذهب، إنما يمثل نقدًا ضمنيًّا لعدم فعالية الأخلاق المسيحية. ونعرف أنه كان متحمسًا في معارضته لأنشطة الإرساليات التبشيرية المسيحية التي حاولت أن تفرض على الهنود رؤاهم الغريبة عليهم، وارتبطت هذه الصورة بمسألة أولوية الكتاب المقدس. ونعود لنقول إن هيردر كقسيس مسيحي لم يهدف إلى مهاجمة الرؤية الأصولية (الأرثوذكسية)، ولكن إقراره بعصر الحضارات العظيم في الشرق، وإيمانه بأن الأمم الأوروبية انبثقت من آسيا، أدى بالقطع إلى وضع علامات استفهام بشأن الإيمان بأن سفر التكوين في العهد القديم يضم الرواية القاطعة الصادقة عن التاريخ الأول للسلالة البشرية. واتسع نطاق تعاطفه وحبه للفكر الهندي. ورفض عقيدة التقمص (أو تناسخ الأرواح) ورأى أنها عقيدة زائفة، ولكنه اعترف في الوقت نفسه بأنها مصدر التعاطف الأمثل بين جميع المخلوقات، وربط بينها وبين الوحدة الأساسية الجامعة بين كل الكائنات الحية، واستهوته كذلك الأفكار الهندية عن وحدة الوجود وعن الرُّوح العالمي (آتمان). ونعرف أن الرومانسيين الألمان رأوا في الاثنين ما يدعم آراءهم عن الرؤية الكلية المتعالية وعن الجوهر الرُّوحي الأساسي للعالم الطبيعي.
ويتمثل سر جاذبية الأوبانيشاد لكل من غوته وهيردر وغيرهما من كبار فلاسفة المرحلة الرومانسية فيما رأوه في هذه المتون من نزعة مثالية توحيدية، أعني الإيمان بأن كل الموجودات تؤلف في التحليل النهائي كلًّا واحدًا جامعًا، وأن هذه الواحدية تنبثق من الطبيعة الرُّوحية الأساسية للواقع، ومن ثم الإيمان بأن كثرة وتعددية الموجودات ما هي إلا خداع وليد حواسنا المحدودة المتناهية. والجدير ذكره أن الحركة الفلسفية المثالية الألمانية بدءًا من فيشته وشلنغ وحتى هيغل وشوبنهاور تقترب كثيرًا جدًّا من هذا النهج في التفكير. ولعل الاستثناء الوحيد هو شوبنهاور الذي أقر دون تحفظ، بل إنه مجَّد صلة النسب هذه، بينما أنكر في الوقت نفسه أن تفكيره تأثر بالشرق. وكان فيشته خبيرًا وعلى دراية جيدة بالأفكار الشرقية الجديدة، وتحمل فلسفته المثالية الكثير من أوجه التشابه التي تغري بالمقارنة بينها وبين التفكير الهندي. ولكن ليس بالإمكان وصفه بالمفكر الرائد للعقيدة الهندية. هذا على عكس حالة إف دبليو جيه شلنغ (١٧٧٥–١٨٥٤م)، وهو شخصية حاسمة ومحورية في تطور المثالية الألمانية والفلسفة الطبيعية، إذ تسود الأفكار الشرقية في ثنايا تفكيره وتصبغه بصبغتها.
واعتاد شلنغ طوال حياته أن يعرب عن اهتمامه الكبير ودعمه للدراسات الهندية والشرقية بعامة. ونراه في محاضراته عام ١٨٠٢م يُفيض في مديحه «للمتون الهندية المقدسة» زاعمًا أنها أسمى منزلة من الكتاب المقدس. وطرأت على فلسفته تحولات عديدة على مدى حياته الفكرية المديدة. ولكنْ ثمة عنصران نحن بحاجة إلى لفت الأنظار إليهما من منظور استشراقي، وهما؛ أولًا: «فلسفة الطبيعة» عنده في المرحلة الباكرة من حياته، وثانيًا: كتابه الأخير عن «الميثولوجيا»، أو علم الأساطير. نلحظ أن شلنغ خلال التسعينيات من القرن الثامن عشر طور فلسفة يرى من خلالها الطبيعة في ضوء النمو والتطور الدينامي، وباعتبارها منظومة عضوية موحدة في صيرورة تكون ذاتي عن طريق التوافق بين ميول متضادة مع رُوح تنبثق من رحم الطبيعة لتمثل أسمى تجلياتها. وتبلغ الطبيعة أكمل حالات التحقق الذاتي حال توحدها مع المطلق. وإن ما سماه «منظومة الهُوية المطلقة» يعمِد إلى حسم الفوارق والاختلافات داخل الوحدة. ويصف فكرته المحورية عن المطلق بأنها الكمال الأقصى والوحدة النهائية لكل الموجودات في الطبيعة المادية والذهنية على السواء. ويؤمن بالطبيعة الخادعة المتوهمة للعالم المتناهي، وبوحدة الوجود، وكذا بالرُّوح العالمية أو الرُّوح الكلية، وبالنزعة الحدسية النافذة. وساد الاعتقاد في أيامه أن كل ما ذهب إليه نابع من المصدر الفكري نفسه، وهو فلسفة الأوبانيشاد. وأكد شلنغ نفسه على صلة النسب، وذلك في حديثه عن أن الفلسفة الهندية «ليست سوى المثالية في أسمى وأنقى صورها» (الاقتباس من هالبفاس، ١٩٨٨م، ١٠٢). هذا على الرغم من أنه أعرب عن أسفه لافتقاد الأوبانيشاد التوضيح النظري لفلسفتها.
وتميزت علاقته بالميثولوجيا الهندية بأنها أكثر نموًّا وتطورًا، وخص الهند بمائة صفحة في كتابه «فلسفة الميثولوجيا»، الذي جمع فيه على نحو منهجي التواريخ الدينية للشرق والغرب. وابتعد شلنغ في النصف الثاني من حياته عن الواحدية المثالية التي عُرفت عنه في أيامه الباكرة، وعاد إلى موقف توحيدي مسيحي أكثر أصولية «أرثوذكسي». ومن هنا نراه مختلفًا عن كثيرين من معاصريه، إذ لم يجعل همه الأول استخدام الهند سلاحًا يشدد به النكير ضد الأصولية. ومع هذا فإنه في أثناء دراسته للميثولوجيا وجد في أشعار الفيدا مصدرًا للأسطورة وأنه مصدر أقدم من الكتاب المقدس، وأنه أيضًا ليس من نتاج عالم البحر المتوسط. ونعرف أنه في باكر أيامه أعرب عن اهتمامه بالفكرة الرومانسية المميزة بشأن «رب واحد للبشرية جمعاء»، ولكنه في كتابه الأخير عن الميثولوجيا طور هذه الفكرة وصاغ منها فرضية تقول: لا توجد سوى ميثولوجيا واحدة في العالم مشتركة بين جميع التراثات. وحاول ابتكار صورة تصهر في وحدة واحدة كل التراثات الميثولوجية لكل البشرية (الاقتباس من شواب، ١٩٨٤م، ٢١٧). ويلاحَظ أن الشيء الذي أكدته الفيدا لشلنغ هو أن الجنس البشري تجمع بينه وحدة بدائية واحدة. لهذا فإن علينا النظر إلى جهده في هذا الصدد باعتباره محاولة من أعظم المحاولات البنائية التي تسعى لترى التاريخ الرُّوحي الكلي للبشرية كلًّا واحدًا. وتمثل هذه المحاولة المثل الأعلى لإنسانية عالمية كلية تتعالى على جميع الفوارق والاختلافات التاريخية والمحلية السطحية. وأحدثت هذه المحاولة، كما سوف نرى فيما بعد، أصداء مهمة داخل الاستشراق في القرن العشرين.
وتكشف كتابات فريدريتش شليغل (١٧٧٢–١٨٢٩م) بوضوح أكبر عن الرغبة في تتبع كل شيء بالرجوع إلى الهند. وكتب شليغل في رسالة منه إلى تييك يقول: «كل شيء، نعم كل شيء، تعود أصوله الأولى إلى الهند» (الاقتباس من شواب، ١٩٨٤م، ٧١). لقد كان روائيًّا ومؤرخًا ودبلوماسيًّا، وكان بين جميع رواد الرومانسية الأكثر معرفة ودراية بالسَّنسِكريتية. وأصدر في عام ١٨٠٨م دراسة بعنوان «مقال عن اللغة والحكمة عند الهنود»، استهلها بإزجاء المديح لجمال وعراقة هذه اللغة المقدسة، وأهليتها للتعبير عن الأفكار الفلسفية. واستطرد ليصوغ أطروحة لغوية وأنثروبولوجية. ويذكرنا هنا بكل من جونز ودوبيرون. وتفيد أطروحته بأن أصول شعوب شمال أوروبا يمكن تتبعها عودًا إلى الهند. وتخيل أن شعبًا جديدًا يتصف بالدينامية شكل نفسه في شمال الهند، واتجه بفعل حافز ما أقوى من قوة دفع الضرورة إلى النزوح جماعيًّا تجاه الغرب. وبلغ به الأمر حد الزعم بأن مصر القديمة سبق أن استعمرها الهنود (الاقتباس من بولياكوف، ١٩٧١م، ١٩١).
ويضع هذا النهج شليغل في مصاف أكثر النقاد حدة لحالة الثقافة الأوروبية المعاصرة المثيرة للشجن، بينما يسمو بمكانة الشرق كنموذج للنقاء الأخلاقي والديني. ويعرب بموقفه عن أساه للنظرة المفتقدة التي تنظر إلى الوجود البشري الأصلي نظرة كلية واحدة. ونلمس في كتابات شليغل نغمة الحنين إلى الحياة الرعوية التي ميزت الثقافة الهندية القديمة، وقتما كان الناس يعيشون سعداء في رحاب الطبيعة، تجمع بينهم والطبيعة علاقةٌ جمعية وثيقة. ونلمس كذلك توقًا إلى تناغم الفنون والعلوم على النحو الذي كنا ندركه به في تلك الثقافة. وأعرب عن شكواه لأن «الإنسان لا يسعه الغوص إلى أعماق أبعد. إذ هذا أمر مستحيل. لقد أصبح الإنسان بعيدًا جدًّا في التقسيم التعسفي أو في النظرة الميكانيكية التي تصل بنا إلى الشيء ذاته، وهكذا أصبح الإنسان نفسه شبه آلة. ومن هنا دعا إلى العودة إلى مهد الحضارة، إلى الشرق الذي ظل ولا يزال حتى الآن منبع الدين والميثولوجيا» (الاقتباس من هالبفاس، ١٩٨٨م، ٧٥).
ونجد بعضًا من هذا الاتجاه، وهو حاجة الرومانسيين إلى مفهوم كوكبي للرُّوح الإنسانية وللتاريخ الإنساني، يتغلغل في كتابات أعظم فلاسفة هذه الفترة؛ وأعني به جي دبليو في هيغل (١٧٧٠–١٨٣١م). وتميز هيغل بأنه التزم في نواحٍ كثيرة رؤية نقدية في مجموعها. ولم يشارك، يقينًا، حماس الرومانسيين الجامح في موقفهم من الشرق. وأبدى مقتًا لمظاهر الغلو المفرط في التخييل، وللسعار الجامح وفوضى الأساطير والأيقونات التي وجدها في الثقافة الهندية. واعتاد كقاعدة عامة النظر إلى الشرق باعتباره كيانًا راكدًا، مجمدًا في ماضيه، وعاجزًا عن بعث جديد. بَيْد أنه على الرغم من هذا درس ثقافات الشرق بقدر من العمق وصاغ نظرة شاملة واعية إليها بقدر ما هو متاح في أيامه. واستنبط الكثير من فهمه عن الفلسفة الهندية من بحوث كوليبروك، ومن بحوث صديقه الباحث في الدراسات الهندية، فرانز بوب. ويظهر في كتابه الأخير كثير من المراجع التي رجع إليها في حديثه عن ثقافات وفلسفات الهند والصين. ونذر قدرًا كبيرًا من وقته في محاضراته للحديث عن تاريخ الفلسفة وفلسفة التاريخ وتاريخ الأديان، ولعرض وتوضيح آرائه بشأن مكانة الصين والهند في التاريخ العالمي للرُّوح الإنسانية. ولم يكن في الحقيقة هو أول من أدرج الفكر الشرقي ضمن تاريخ الفلسفة. ذلك أن جوهان غوتليب بوهل أدرج فصولًا عن الفلسفة الصينية والهندية ضمن كتابه «تاريخ الفلسفة» الصادر بالألمانية عام ١٧٩٦م. ولكنه هو أول من أخضعها لمعالجة مذهبية منهجية، وحاول أن يراها ضمن إطار تطور الإنسانية ككلٍّ واحد، وباعتبارها جزءًا من الرُّوح العالمي في طور تجليه وكماله. وتمثل دراسته من نواحٍ كثيرة مشروعًا تأويليًّا «هِرمنيوطيقيًّا» فريدًا في تاريخ الأفكار. ورأى البعض أن تأويله كان بمنزلة تبرير لإسقاط الهند جملة من التأريخ الفلسفي. إلا إنه مع هذا، وكما يلحظ هالبفاس، يمثل «مرة واحدة وإلى الأبد إمكانية أساسية لمعالجة تراث أجنبي» (١٩٨٨م، ٩٨). ويذهب الفيلسوف الهندي جيه إل مهتا في حكمه على هذا إلى أن «هيغل كان الفيلسوف الغربي الوحيد ذا المكانة الرفيعة الذي أولى اهتمامًا جادًّا بالأفكار الدينية والفلسفية الهندية». وهو كذلك الوحيد الذي أكد «قوة وضوح الغرض عند هيغل من حيث إدراكه لصعوبات فهم الأفكار الهندية في ضوء المفاهيم الفلسفية الغربية» (مهتا، ١٩٨٥م، ١٩٧).
وثمة حقيقة وهي أن هيغل التزم نظرة نقدية ثابتة إزاء معاصريه. ونذكر من هؤلاء فريدريتش شليغل، الذي قاده افتتانه بالهند، حسب رأي هيغل، إلى خيانة الحاضر وتشويه التاريخ. ولكن على الرغم من هذا اعتقد هيغل بوضوح أن فهم الشرق له فوائده، وأنه يتجاوز كثيرًا حدود الاهتمام المحض بدراسة الآثار. إذ إنه أولًا يزودنا بالمادة اللازمة لصوغ تاريخ كوكبي شامل للثقافة البشرية، وهو ما مكن هيغل من وضع نموذج تاريخي لتطور الرُّوح البشري في حد ذاته. وإذا كانت قيم وأفكار حضارات الشرق القديمة باتت قاصرة عن أن تفيدنا بجديد إلا إنها، مع هذا، أسهمت في معرفة الذات على نحو ما نفهم الطفولة بالتفكير في ماضيها (أي على نحو ما يفعل التحليل النفسي كمثال) مما يهيئ للكبير فهمًا وافيًا ووافرًا عن حالته الراهنة. ثانيًا: فإن معرفة الشرق شأن معرفة جميع الثقافات الأجنبية في الحقيقة يمكن أن تزودنا بعامل تصحيح وترياق لعلاج مظاهر الإفراط المعاصرة والميول أحادية الاتجاه من مثل الرومانسية ذاتها، وتزودنا بترياق أيضًا لعلاج الفردية المفرطة في الفكر الأوروبي عند مقابلتها بما يكشف عنه التفكير الشرقي من «وحدة صُلبة». ويوضح هالبفاس ذلك بقوله: إن اهتمام هيغل بالهند لا ينفصل عن موقفه المناهض للرومانسية، كما لا ينفصل عن تحفظاته بشأن «الذاتية المسرفة ونزعة المحورية البشرية السائدة في الفكر الغربي الحديث» (١٩٨٨م، ٩٤، ٩٥).
من الهندوسية إلى البوذية
إذا كان هيغل ذهب إلى أن فلسفة الهند تنتمي على نحو لا رجعة فيه إلى الماضي، فإن آرثر شوبنهاور (١٧٨٨–١٨٦٠م) رأى أنها تمثل لحظة حاسمة في الحياة الفلسفية لأوروبا المعاصرة، وتَميز موقفه نحوها بالإعجاب المطلق من دون تحفظ. ويمثل في تاريخ الفكر، من بعض النواحي، شخصية انتقالية، إذ يمكن أولًا النظر إليه باعتباره ممثلًا لرُوح الفلسفة الرومانسية ونظرتها المثالية وموقفها المناهض للعقلانية. ولكن نجد في الوقت نفسه أن دراساته النفسية العميقة للوضع البشري ونزعته التشاؤمية تتطلع إلى تطورات مستقبلية من مثل التحليل النفسي والوجودية. ثانيًا: أنه يجمع ما بين الاهتمام الأوروبي بالهندوسية والبوذية. إذ إنه قضى فترة في سنواته الباكرة عاكفًا وبعمق على فلسفة الأوبانيشاد، ثم ارتبط بعد ذلك بالبوذية، وأصبح من أوائل مفكري الغرب الذين عُنوا ببحث دلالاتها الفلسفية. وغير خافٍ أن شهرته في نطاق فلسفة القرن العشرين وحتى عهد قريب بدت مزيجًا على نحو يقيني. ولكن حري ألا يقودنا هذا إلى غض الطرف عن حقيقة أنه خلال الشطر الأخير من القرن السابق كان من أكثر مفكري أوروبا تأثيرًا وكتاباته مقروءة على أوسع نطاق.
أنكر شوبنهاور أن مذهبه الفلسفي تأثر بالشرق من حيث الهياكل الأساسية. وصدَّق على هذا الحكم بريان ماغي الذي يوضح حقيقة أنه أكمل بالفعل كتابه «الجذر الرباعي لمبدأ العقل الكافي» قبل تعرفه على الفلسفة الهندية. ويشدد على أن كانط هو المصدر الرئيسي لتفكيره (انظر ماغي، ١٩٨٧م، ١٥ و٣١٦). ولكن يجب أن نوضح أن شوبنهاور كان على اطلاع واسع أيضًا على أفكار الأوبانيشاد قبل عدة سنوات من نشر كتابه المهم عام ١٨١٨م «العالم من حيث هو إرادة وتصور». وحقيقة الأمر أنه في عام ١٨١٤م التقى المستشرق فريدريتش ماير الذي أحيا في نفسه الاهتمام بالفلسفة الهندية وقدم له ترجمة دوبيرون للأوبانيشاد. وكان لهذا العمل بخاصة أثره القوي عليه والذي كتب عنه في سعادة بالغة أنه «القراءة الأكثر فائدة وتطويرًا للفكر … بل ولعله كذلك في العالم؛ لقد كان سلوى حياتي وسيكون سلوى مماتي» (شوبنهاور، ١٩٧٤م، ٢ و١٨٥). وسواء تأثر شوبنهاور أم لا فإن ثمة توازيات كثيرة وقوية بين فلسفته الخاصة والفلسفة الهندوسية ثم الفلسفة البوذية بعد ذلك، وأكد أن فهم الأوبانيشاد لن يساعد فقط على فهم فلسفته، بل سوف يُحدث تغييرًا أساسيًّا في الفكر الأوروبي. وبينما اعتقد هيغل أن التاريخ له اتجاه محدد ومحتوم ويتعين فهمه في ضوء غائي، فإن شوبنهاور على النقيض رأى التاريخ نوعًا من المسرحية الهزلية ونتاج إرادة كونية عمياء، من دون وجهة أو غرض. ومكنه هذا من أن يرى فلسفة الشرق ليس باعتبارها مقدمة فَتيَّة مفعمة بالحياة سابقة على فترة النضج والبلوغ للمسيحية الغربية، بل حكمة كونية دائمة الحياة ووثيقة الصلة أبدًا. وهكذا نراه يُقر بالفوارق التاريخية بين الشرق والغرب، ويؤكد في الوقت نفسه على إمكان أن تكون الاستبصارات الفلسفية مهمة وذات شأن داخل السياقات التاريخية المتباينة. وسمحت له وجهة النظر هذه بادعاء أن تعليماته هو متطابقة جوهريًّا مع تعليمات كلٍّ من بوذا وإيكهارت. وليس معنى هذا أنه رأى أن تفكيره ليس سوى ترديد لفلسفة الأوبانيشاد، بل — وهو الأصح — إن جوهر الفكر الهندي الموجود في فلسفته هو الاكتمال المنظومي والتحقق المذهبي، والكشف عن معناه الحقيقي. وكان مفهوم الخداع أو المايا الهندي من الأهمية بمكان بالنسبة إلى شوبنهاور لأنه كشف عن الطبيعة الخادعة لعالم الظواهر وما عليه من كثرة. كذلك فإن تعاليم الأوبانيشاد التي تقرر أن الكائنات على تعددها واحدة في النهاية، استهوته ورأى فيها المعادل الدقيق لفكرته عن أن ظاهر الانفصالية والفردية المتمثلة في الكائنات إنما هي خداع من صنع عقل الإنسان. وتكشف فلسفته الأخلاقية أيضًا عن رابطة وثيقة في عقله بينها وبين بعض التعاليم الشرقية المحورية. وتتمثل هذه الرابطة مع كل من المذهب الهندوسي عن هوية الرُّوح «آتمان» و«الرُّوح الكلي» أو البراهمان؛ أعني الإيمان بأن الرُّوح الفردي هو في حقيقته مظهر لتجلي حقيقة أكبر وأشمل. وتتمثل الرابطة ثانيًا مع التعاليم البوذية عن التراحم مع وبين جميع الكائنات الواعية. ونلحظ أيضًا أن شوبنهاور اختلف عن كانط الذي أسس فلسفته الأخلاقية على فكرة «الآمر المطلق»، إذ أكد شوبنهاور على أن «جذر الأخلاق تجده بالضرورة في التراحم، أي في التعاطف والشعور الرفقي إزاء الكائنات الحية الأخرى، وأن هذا الشعور بدوره ينبني على إدراك حدسي — لا يصادق عليه العقل — بأننا جميعًا في سُويداءِ طبيعتنا واحدٌ بعضنا مع بعض، وليس بالإمكان اختلاف بعضنا عن بعض. لذلك فأنا لست مجرد سَمِيٍّ مماثل للكائنات البشرية الأخرى، بل إنه في أعمق الأعماق نجد أنهم و«أنا» واحدٌ حرفيًّا ولا فرق» (ماغي، ١٩٨٧م، ١٩٩).
ورأى شوبنهاور، في اتساق مع الرومانسية، أن الهند «مَهْدُ أقدم أنواع الحكمة وأكثرها صفاء، والموطن الذي يمكن للأوروبيين أن يتتبعوا فيه جذورهم التي انحدروا منها والتراث الذي تأثروا به بوسائل جمة وحاسمة» (هالبفاس، ١٩٨٨م، ١٨٧)، وأن التعاليم الأخلاقية للعهد الجديد جذورها التاريخية هناك في آسيا وليس في إسرائيل. «علمتنا المسيحية فقط ما كانت تعرفه كل آسيا في السابق وعرَفته أفضل منا» (١٩٦٩م، ٦٢٧). ولعل ما يثير أكثر أنه استخدم حجته هذه لدق إسفين بين اليهودية والمسيحية؛ إذ أكد أن: «ليست اليهودية … بل البراهمانية والبوذية التي تشبه المسيحية من حيث الرُّوح والنزوع الأخلاقي. واستطرد ليقترح أن «الحقائق السامية» المقدسة في ديانات الشرق والغرب العظمى عبرت عن حكمة كونية تمثل الأساس لها» (المرجع نفسه، ٦٢٣). وإذا تأملنا هذه الأفكار مجتمعة فإنها توضح أن شوبنهاور يؤمن بأن تدفق سيل الأفكار الهندية إلى أوروبا يمثل نهضة جديدة سوف تُفضي حتمًا إلى تحول أساسي في الفكر الأوروبي، وسوف يكون لهذا التحول أثر أعظم من أثر أوروبا على آسيا. وأبدى اقتناعًا بأن المسيحية لن تتأصل في الهند، وأن «الحكمة القديمة للجنس البشري» لن تقتلعها وتبدلها أحداثٌ تقع في الجليل. وإنما على العكس، «فإن الحكمة الهندية تفيض إلى أوروبا. وتُحدث تغيرات أساسية في معارفنا وفكرنا» (شوبنهاور، ١٩٦٩م، ٣٥٧).
ويكشف انشغال شوبنهاور بالفلسفة الهندية عن عدد من مظاهر القصور؛ أكثرها مشترك بينه وبين غيره من المتحمسين الرومانسيين. وسبق أن أشرنا إلى أن التعاليم الهندية التي استندوا إليها منتزعة من دون رابط يربطها من محيطها الثقافي، وأعيد بناؤها على أساس من شذرات نصية انتقائية، وتم تناولها من خلال ترجمات ومناهج بحث لغوية تبدو لنا الآن، وفي ضوء المعايير الحديثة، معيبة إلى أقصى حدٍّ. فضلًا على هذا يوضح نقاشُنا حتى الآن أن هذه التعليمات تم تصورها وفهمها أولًا وأساسًا خلال إطار المصالح والاهتمامات الفلسفية الغربية. ويذهب أحد النقاد شوطًا أبعد إلى حد الزعم بأن الرومانسيين «ابتدعوا هندوسية من نسج خيالهم» ليؤكدوا بها معتقداتهم، وأن «الهندوسية المنبثقة عن جهودهم تشايع البروتستانتية المتحررة من الجمود العقائدي» (مارشال، ١٩٧٠م، ٤٣). وخير مثال على هذا محاولة شوبنهاور مطابقة بعضٍ من أفكاره المحورية الخاصة مع المفاهيم الهندية من مثل مطابقة «الإرادة» مع «براهمان». كذلك إعلاء شليغل من قدر الهند، باعتبارها نبع كل الحكمة التي على أوروبا أن تنهل منها، وكما أوضح هالبفاس أن «اهتمام الرومانسيين بالهند لا ينفصل أبدًا عن النقد الراديكالي لأوروبا الحاضر» (١٩٨٨م، ٨٣). لكن وعلى الرغم من مظاهر القصور الواضحة، فمن العسير أن نحجب مشاعر الإعجاب بمحاولات شوبنهاور والرومانسيين من أجل دمج هذه الأفكار البعيدة والأجنبية ضمن أفق التفكير الغربي. وغني عن البيان أن العمل على نشر الفكر الهندي باعتباره نقدًا لنوع بعينه من أساليب التفكير الكمي والميكانيكي، وضد أشكال الفلسفة العقلانية والمادية التي أخذت طريقها لتصبح النماذج السائدة في الفكر الغربي الحديث إنما هو عمل يتجاوز حدود الأهمية التاريخية. بَيْد أن فهم شوبنهاور الخاص للفلسفة الهندية، ومهما بدا قاصرًا يعتبر تمثيلًا بارزًا للتطلع الاستشراقي نحو استخدام الفكر الشرقي بغية إحداث تجديد أساسي ومراجعة للتراث الفكري الغربي. علاوة على هذا، فقد كان للمستشرقين الرومانسيين أثر هائل على تطور الدراسات المقارنة، وكذلك على تشكيل الدراسات اللسانية والفيلولوجية. وأرست هذه دعائم مهمة أساسًا لتطوير البحوث الاستشراقية خلال فترة تالية من القرن.