الفصل الرابع

التحول إلى الهند: عصر الرومانسية

«يمكن أن نفسر افتتان المفكرين الألمان بالهند، تفسيرًا جزئيًّا، على أساس أن الرُّوح المتنامي للتحرر القومي الذي تصاعد نتيجة الثورة الفرنسية، دفع كثيرين منهم، وهذا وجه المفارقة، إلى النظر إلى الروابط القديمة المفترضة مع الهند باعتبارها وسيلة لتأكيد هويتهم الخاصة المميزة.»

المؤلف

الهند والرومانسيون

بينما كانت الصين هي موضوع الاهتمام الرئيسي عند فلاسفة التنوير، فإن الهند هي التي استحوذت على العقول والخيال عند الرومانسيين. توارت الصين في الحقيقة، وربما أفل نجمها تمامًا من حيث الاهتمام الفلسفي الجاد وعلى مدى القرن التاسع عشر، بل أضحت بدلًا من ذلك، موضوعًا للازدراء إلى حد كبير، وللاستعلاء العنصري من جانب الغرب. وبعد أن كانت الصين نموذجًا للاستنارة السياسية والأخلاقية أصبحت في عيون الأوروبيين حضارة فاسدة منحطة. وها هو ألكسيس دو توكفيل عالم السياسة العظيم في القرن التاسع عشر رأى أنه «ليس من المفهوم أبدًا لماذا اضطر الفيزيوكرات في القرن الثامن عشر إلى هذا الإعجاب الشديد بالصين» (برنال، ١٩٨٧م، ٢٣٨).

ويجب أن نذكر من بين أسباب تقلب القلوب على هذا النحو، ما أبدته الصين من موقف عدائي متزايد باطراد تجاه الإغارات الغربية، وهو ما جعلها تضع نهاية لذلك، وتغلق الباب أمام الإرساليات المسيحية، ومعاملتها المذلة للمهمة الدبلوماسية لكلٍّ من أمهيرست ومكارتني،١ وهو موقف بدا صادمًا ومهينًا للمشاعر القومية المتعاظمة في أوروبا. ولكن يمكن القول، على المستوى الفكري البحت، إن الفكر الصيني في ضوء مراجعة المفكرين الأوروبيين كف عن الاستجابة للجديد من المسائل والاهتمامات التي كشفت عنها الفترة عقب التنوير. وهكذا فإن الجسر الواصل بين الطرفين، الذي بدا واعدًا للغاية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، توقف إلى حد كبير فجأة.٢
وكانت الهند في الحقيقة معروفة لدى «فلاسفة» التنوير. عرفوها بداية عن طريق تقارير إرساليات الجيزويت، كما أن كمًّا كبيرًا من المعلومات عن هذه الحضارة أصبح ميسورًا في أوروبا بدءًا من القرن السابع عشر وما بعده. ومع انتصاف القرن الثامن عشر شهدت أوروبا مناقشات واسعة النطاق بشأن الهند بين المثقفين الأوروبيين. وأبدى فولتير وآخرون نظرة إكبار تجاه الهندوسية كمثال لدين ربوبي طبيعي، تمتد أصوله العريقة إلى زمن أعمق من زمن المسيحية واليهودية. ولكن مؤسسات الهند السياسية لم تثر الاحترام في النفوس، وكذلك أساطيرها وآلهتها المتعددة على نحو مسرف، فضلًا عن المبالغة في الطقوس والشعائر. كل هذا كان موضع سخرية من جانب «الفلاسفة». كذلك فإن ممارسات من مثل السوتي suttee،٣ أثارت لدى كثيرين من كتاب هذه الفترة إحساسًا بالسمو الأخلاقي. ويلاحظ هنا بيتر مارشال أنه «على الرغم من تعاظم الفضول المعرفي بشأن الهندوسية فإن موقف جمهرة الأوروبيين الذين تواصلوا معها تراوح دائمًا بين السخرية والاشمئزاز» (١٩٧٠م، ٢٠). فضلًا على هذا فإن ما افترضه البعض بتميز الهند بأخلاقيات «السكينة» و«حب العدم» إنما نظر إليه الأوروبيون كعلامة على حضارة في طريقها إلى التحلل والأفول. وبدت، بالمقارنة بالصين، حضارة أخمدت النور الطبيعي للعقل، وأصبحت — كما ذهب كانط — حضارة مغشوشة، بالخرافات الكثيرة التي دخلتها (الاقتباس من هالبفاس، ١٩٨٨م، ٦١). وطبيعي أن التأملات الميتافيزيقية والنوازع «الصوفية» التي تسود الفكر الهندي كانت متضاربة مع الذوق التنويري. بَيْد أن هذه الجوانب تحديدًا، وبعد تغيير صفاتها وخصائصها من خلال العدسات الأوروبية، هي التي ظهرت لتعكس بوضوح وجلاء الإطار الرومانسي للعقل، والتي تعامل معها الرومانسيون بحماسة شديدة.
وجدير بالإشارة أن الاهتمام والحماس للأدب والأفكار الهندية خلال الفترة الرومانسية شاعا بالقدر الذي شاع به الاهتمام بالصين خلال العصر السابق عليها. وهذا الاهتمام هو الذي دفع رايموند شواب إلى إحياء فكرة البعث الشرقي Oriental Renaissance،٤ وهي الفكرة التي أثارها فريدريتش شليغل موضوعًا للجدل في مطلع القرن التاسع عشر. وذهب شواب إلى أن دخول الفكر الهندي إلى أوروبا بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر فصاعدًا واندماجه في نسيج الاهتمامات الثقافية والفلسفية لهذه الفترة أفضيا إلى ثورة ثقافية من مستوى الثورة نفسها التي حدثت مع النهضة في القرن الخامس عشر، وأن:

إحياء هذا المُناخ في القرن التاسع عشر نشأ مع وصول أول نصوص سَنسِكريتية إلى أوروبا … إذ أدى إلى حدوث تأثير مساوٍ للتأثير الذي حدث في القرن الخامس عشر نتيجة وصول مخطوطات إغريقية ومعلقين بيزنطيين على إثر سقوط القسطنطينية.

(شواب، ١٩٨٤م، ١١)
إن تدفق سيل المخطوطات الإغريقية من الإمبراطورية البيزنطية المنهارة هو الذي حفز النهضة الإيطالية. وكذلك وبالأسلوب نفسه، تصاعدت سريعًا النهضة الشرقية نتيجة انهيار إمبراطورية المغول في أواخر القرن الثامن عشر، وفتح أبواب شبه القارة الهندية على مصاريعها للمصالح السياسية والتجارية لفرنسا وبريطانيا، وهو ما أدى بدوره إلى ترجمة ودراسة المتون السَّنسِكريتية على أيدي الباحثين الأوروبيين.٥

وكما هي الحال في فترة التنوير، كان الدافع الفكري الأول للاستشراق الجديد لا يتمثل في عمليات بحث منزهة عن الغرض، بقدر ما كان أساسًا في تنامي الإحساس بزوال الأوهام المتعلقة بأنماط الفكر والاعتقاد السائدة في أوروبا. نجد من ناحيةٍ التراثَ الرُّوحي المسيحي اليهودي الذي أثبت أنه غير كافٍ أو مقنع، ومن ناحية أخرى النزعة المادية والموقف المناهض للدين المميزَيْنِ لحركة التنوير، اللذَين ظهرا بهدف إمكان إلغاء الرُّوح تمامًا. ويقول في هذا أحد المؤرخين: «إن الرومانسي الذي أصبح يضيق ذرعًا بالرُّوح الباردة الجامدة السائدة في المُناخ العقلاني المسيحي الأوروبي الداعي إلى الانفصال الصريح عن جذوره، بدت له الهند هي أرض الميعاد» (ويلسون، ١٩٦٤م، ١١٣).

وكما كانت الحال بالنسبة إلى «الفلاسفة» ظهرت الحاجة إلى جديد. وأخذ هذا الجديد، في حالة الرومانسي، صورة البحث عن براءة الطفولة، ورؤية كلية شاملة، وتوقًا من أجل استعادة ما رأى الشعراء والفلاسفة أن العصر قد فقده، ألا وهو واحدية البشرية والواحدية مع الطبيعة، وتوحيد الدين والفلسفة والفن، بعد أن مزق أوصالها العالم الغربي الحديث. وهكذا بينما انبثق الاهتمام بالشرق أول الأمر من متطلبات أخلاقية وسياسية في الأساس، فإن الصيغة الجديدة قد انبثقت أساسًا مما يمكن وصفه بصفة واحدة، ألا وهو الظمأ الميتافيزيقي. وبينما احتلت الصين سويداء القلب ﻛ «يوتوبيا سياسية»، أضحت الهند مملكة الرُّوح. وإذ عكس الفكر الهندي كمرآةٍ هموم العصر الفلسفية، أصبح بالإمكان مطابقته بشكل انتقائي في عقول المفكرين الأوروبيين مع الفلسفة المثالية والواحدية المتمثلة في الفيدانتا.٦ وأفضى هذا الموقف حتمًا إلى ظهور أسطورة رُوحانية الهند المجيدة مقابل الغرب المادي. ويعبر عن هذا أحد المعلقين فيقول: «إن فكرة شبه قارة من المثاليين استحوذت على خيال الغرب.» وأدى هذا إلى ظهور تصور دام طويلًا عن الهند باعتبارها أرض الحالمين والصوفيين (توك، ١٩٩٠م، ٢٦). وكان للاعتبارات السياسية حضورها أيضًا على الرغم من أنها أدت دورها في صمت أكثر مما كانت الحال في فترة التنوير. ويمكن أن نفسر افتتان المفكرين الألمان بالهند، تفسيرًا جزئيًّا، على أساس أن الرُّوح المتنامي للتحرر القومي الذي تصاعد نتيجة الثورة الفرنسية، دفع كثيرين منهم، وهذا وجه المفارقة، إلى النظر إلى الروابط القديمة المفترضة مع الهند باعتبارها وسيلة لتأكيد هويتهم الخاصة المميزة. والمعروف أن التنوير ظهر في أغلب الأحيان في ألمانيا باعتباره — أساسًا — شأنًا فرنسيًّا. ولكن الحركة الرومانسية، مدعومة بصلة نسب صوفية مع الشرق، عبرت عن جهود ألمانيا في البحث عن هوية ثقافية وسياسية تتجاوز طاقة النفوذ الفرنسي. ولم تظهر الدلالات الضمنية الكاملة لهذا في نزعة عنصرية ونزعة معادية للساميَّة إلا في فترة متأخرة من القرن التاسع عشر. وهذا ما سوف نعود إليه فيما بعد.٧

مصادر العبادة الجديدة

لنحاول معًا الآن إلقاء نظرة من كثَب أكثر إلى أصول نشأة هذا الحماس الجديد. هذا على الرغم من أن إرساليات الجيزويت التبشيرية كانت أول من فتح عيون الأوروبيين على كنز الهند الثقافي، وعلى الرغم من أن روايات كثيرة عن عجائب شبه القارة كانت قد بدأت تنتشر ويستوعبها الأوروبيون المتعلمون ابتداء من مطلع القرن الثامن عشر. لقد كانت المصالح التجارية لأوروبا، وبخاصة مصالح شركة الهند الشرقية، هي التي هيأت الدافع والوسيلة لنقل الأفكار بين الهند وأوروبا خلال الفترة الرومانسية. والمعروف أن انهيار إمبراطورية المغول في القرن الثامن عشر وتغلغل المصالح الفرنسية والبريطانية في البنغال أولًا، ثم في بقية الهند هما من الأحداث التي شكلت الأساس والدِّعامة ليس فقط للإمبراطورية البريطانية، بل أيضًا للنهضة الشرقية. وبرزت شخصيات للرواد الأوائل في عالم الدراسات الهندية، واستطاعوا استثمار هذا الانفتاح. نذكر من أهمهم اثنين من الإنجليز هما جون هولويل، وألكسندر داو. وَرِث الاثنان عن فترة التنوير ميولًا تجاه نزعة الربوبية والتسامح والنظرة الكلية العالمية. وخدم الاثنان في الهند، وقدما تعليقات عن الهند حظيت بالقراءة على نطاق واسع، وتناولت تعليقاتهما ثقافة وديانات الهند. عمل هولويل فترة حاكمًا للبنغال، وأبدى في كتاباته تقديرًا كبيرًا للأفكار الدينية والفلسفة الهندية، وشجع الاعتقاد بأن الهند هي مصدر كل أنواع الحكمة، وكان لهما تأثيرهما العميق في التراث الفلسفي لليونان القديمة. وتمت ترجمة كتبهما إلى الألمانية والفرنسية في الستينيات من القرن الثامن عشر. وكان فولتير أحد قرائهما، حيث تشكلت على أساس كتاباتهما آراؤه عن عراقة وقدم الديانة والحضارة الهنديتين.٨
وثمة رائد من الرواد الأوائل يضارعهما أهمية، وهو الفرنسي أنكيتيل دوبيرون (١٧٣١–١٨٠٥م)، قدم أول ترجمة للأوبانيشاد والتي أسهمت كثيرًا بنشرها في فهم المفكرين الأوروبيين للفكر الهندي. وجاءت ترجمته هذه عن ترجمة فارسية معروفة باسم أوبنيكهات Oupnek’ hat (وهي كلمة فارسية تعني الأوبانيشاد (المترجم)). وأحدثت الترجمة تأثيرًا قويًّا داخل أوروبا خلال القرن التاسع عشر، وأصبحت القراءة المفضلة عند آرثر شوبنهاور. ونعرف أن دوبيرون زار الهند فيما بين ١٧٥٤ و١٧٦١م. وعلى الرغم من أنه ظل مسيحيًّا صادقًا إلا إنه استحدث في الوقت نفسه «دربًا ممهدًا للمزيد من إنجازات الفكر غير المسيحي الذي يتجاوز المتعارف عليه أوروبيًّا، وهيأ ميلًا سريعًا للمقارنة الشاملة التي … تجاوزت حدود «الأصولية-الأرثوذكسية»» (هالبفاس، ١٩٨٨م، ٦٦). ويتجلى هذا الانفتاح واضحًا في توصيته التي تطالب بضرورة التعامل مع الكلاسيكيات الهندية ودراستها على قدم المساواة مع كلاسيكيات اليونان وروما، وطالب كذلك بضرورة إخضاع الأوبنيكهات لدراسة فلسفية جادة وليس مجرد القراءة من باب الاطلاع على أثر قديم. ويُعتبر في الحقيقة أول مفكري عصره الذي لفت الانتباه إلى مظاهر التوازيات بين الأفكار الهندية والمسيحية والبوذية، وأول من عقد مقارنات بينها وبين التعاليم الفلسفية الغربية. وإن من الأمور ذات الأهمية الخاصة تلك الرابطة التي خلقتها بين الفلسفة الهندية والمثالية المتعالية عن كانط، إذ أكد أن:

كل من يدرس بدقة وحرص خطوط فكر عمانويل كانط ومبادئه الأساسية، وكذا نتائجه، سوف يدرك أنها لا تنحرف بعيدًا عن تعاليم البراهمانية التي تقود المرء عائدًا إلى ذاته، فيجمع شتات نفسه ويركزها داخل ذاته.

(الاقتباس من هالبفاس، ١٩٨٨م، ٦٧)

وذهب دوبيرون إلى أن هذه المقارنات أهم من مجرد كونها مقارنات أكاديمية. إنه باعتباره واحدًا من أبناء التنوير كان مدفوعًا بإيمان قوي راسخ يؤكد وحدة الإنسانية، كما أن أوجه التطابق التي وجدها بين الحضارتين أفادت كحافز يحثنا «على التوافق والمحبة». وأفادت أيضًا كأساس لتجديد أوروبا معنويًّا. وطبيعي أن دوافع قوية كهذه كان مقدرًا لها أن تصبح القَسَمة المميزة لجماع الرابطة الرومانسية بالهند.

وبدأت أهم مرحلة في الدراسات الهندية وأكثرها تأثيرًا مع وصول الموظفين البريطانيين المدنيين إلى كَلْكُتا في ثمانينيات القرن الثامن عشر. وكان أكثرهم يتقاضون رواتبهم من شركة الهند الشرقية ويعملون بموجب اختيار الحاكم العام وارين هاستنغس. ويُعتبر وليام جونز (١٧٤٦–١٧٩٤م) الشخصية المحورية في هذه القصة. ويكتب عنه آرثر فيرسلويس ويقول: «إن جهود جونز الجبارة الهرقلية … التي بذلها من دون مبالغةٍ وحدَه تقريبًا، حولت نظرة أوروبا إلى آسيا … لتصبح نظرة إلى عالم غريب عريق الحضارة بقدراته الذاتية» (١٩٩٣م، ١٨). وتلقى جونز تعليمه بجامعتي هارو وأكسفورد، ولم يتميز كمحامٍ أو عالم لسانيات فقط، بل صنع لنفسه اسمًا كشاعر ومؤلف راديكالي لكراسات. واستطاع بفضل معرفته العميقة للسَّنسِكريتية أن يكون أول باحث حقيقي في مجال الهندوسية. وعُين قاضيًا بالمحكمة العليا في كَلْكُتا في عام ١٧٨٣م. وقضى بقية أيامه هناك حيث أسس جمعية الدراسات الآسيوية في البنغال، وقد أصبحت مركز الدراسات الهندية، وأصدرت أول صحيفة عن الدراسات الشرقية بعنوان البحوث الآسيوية Asiatic Researches. ويُعتبر جونز من نواحٍ كثيرة شخصية تنويرية أكثر منه رومانسيًّا. وكان صديقًا لبنيامين فرانكلين وجوزيف بريستلي، بَيْد أن دعمه لقضية استقلال أمريكا أدت إلى إرجاء تعيينه زمنًا طويلًا في سلك القضاء. ولكن تأثيره كان عظيمًا في الرومانسيين، سواء الإنجليز أو الألمان. وحظيت كتاباته وترجماته لمتون الهند بالانتشار على نطاق واسع في أوروبا. واشتملت هذه المتون على كثير من الأفكار التي صيغت لأول مرة، وطورها بعد ذلك الباحثون عشاق الهند في ألمانيا. وها هو شواب يؤكد أثر جونز الكبير على أوروبا، إذ يقول:

منشورات الباحثين في الشئون الهندية في كَلْكُتا أججت نوعًا من سَورة الحماس الشديد لدى بعض الشباب الألمان. نذكر من هؤلاء في مجال الفلسفة شلنغ وفيشته وهيغل، فضلًا على شوبنهاور وشلايرماخر. ونجد من بين المشتغلين بالشعر جوته وشيلر ونوفاليس وتييك وبرنتانو. ونذكر من بين المجددين العظام للأفكار الجديدة هيردر الذي نقل الرسالة إلى فريدريتش شليغل.

(شواب، ١٩٨٤م، ٥٣)

وأهم الأفكار التي راجت في كل أنحاء ألمانيا الزعم بأن اللغات الأوروبية والهندية تحمل أوجهًا واضحة للتشابه بين بعضها والبعض الآخر. واعتمد جونز على هذه في توقعه أن السلالات الأوروبية والهندية نشأت من مصدر مشترك. ونعرف أن مسألة أصول الشعوب الأوروبية ظلت موضوع جدل حادٍّ لفترة من الزمن. ويُبدي هنا بي جي مارشال الملاحظة التالية: «ورِث جونز قرنًا من التأملات عن الهجرات من آسيا». ولكن معرفته بالسَّنسِكريتية مكنته من «إضافة عنصر يتسم بالدقة إلى هذه التأملات» (١٩٧٠م، ١٦). ونراه في بحث له تحت عنوان «عن أصل الأمم وأنسابها» يؤكد «توافر برهان لا سبيل إلى دحضه على أن أول سلالات الفرس والهنود، الذين يمكن أن نضيف إليهم الإغريق والشعوب القوطية وقدماء المصريين أو الإثيوبيين، كانوا في البدء يتحدثون لغة واحدة ويتقاسمون عقيدة شعبية واحدة …» وأضاف اقتراحًا بأن إيران كانت هي موطن النشأة المشتركة (الاقتباس من مارشال، ١٩٧٠م، ١٥). وأحدثت هذه الفكرة أصداء ضخمة على مدى السنوات التالية. بيد أنها في حدود ما كان يشغل الرومانسيين تمثل متاعًا مفيدًا في نضالهم من أجل التحلل مما رآه بعضهم يمثل ضِيق أفق التراث المسيحي-اليهودي. وتُمثل أيضًا في ضوء الروابط التي أقامها «الفلاسفة» مع العقيدة الصينية، خطوة إلى الأمام على الطريق نحو فهمٍ أكثر شمولية للإنسانية. ونرى لزامًا، بعد الحديث عن جهود جونز، أن نشير إلى اثنين آخرين من الموظفين المدنيين البريطانيين اللذَين قدَّما إسهامات ذات شأن من أجل التطور الباكر للنهضة الشرقية، وهما: تشارلز ويلكينز (١٧٤٩–١٨٣٦م)، الذي قدم في عام ١٧٨٥م أول ترجمة إلى الإنجليزية عن السَّنسِكريتية للملحمة الهندية العظيمة البهاغافاد غيتا. «وهذا عمل تُرجم مرات ومرات إلى لغات كثيرة، وأثر تأثيرًا هائلًا في عقل أوروبا وأمريكا» (شارب، ١٩٨٥م، ١٠). والثاني توماس كوليبروك (١٧٦٥–١٨٣٧م)، صاحب كتاب «مقالات عن الدين والفلسفة عند الهندوس». واستطاع بهذا العمل أن يقدم للناس أوجهًا لم تكن معروفة في السابق من الثقافة الهندية، وقرأها جمهور واسع في القرن التاسع عشر.

ويتجلى واضحًا أثر هذه الاكتشافات الباكرة لأمهات الكلاسيكيات الهندية في الأدب الإنجليزي خلال هذه الفترة، إذ هيأت مصدرًا جديدًا بديلًا ومهمًّا للتصورات الذهنية التي اعتمدت عليها محاولات الرومانسيين تقويض النزعة الكلاسيكية للقرن الثامن عشر. والجدير ذكره هنا أن وليام جونز الذي ذاع صيته في إنجلترا لشعره، وكذا لدراساته عن الهند، كان معجبًا أيما إعجاب بجماعة الشعراء المعروفين باسم «شعراء البحيرة» Lake Poets.٩ كذلك فإن أعمال كل من شيلي وساوذي وبايرون ودو كوينسي تكشف جميعها عن تأثير شرقي. ولحظ نيجيل ليسك أن «اهتمام شيلي بالهند يفوق كثيرًا مستوى قصص تتناول سير الحياة»، ويورد ملاحظة ذكرها إدغار كوينيت يقول فيها: «شيلي هندي تمامًا» (١٩٩٢م، ٧١). ودعم هذا الرأي إتش جي راولينسون الذي يرى أن فلسفة الفيدانتا «تتجلى في فخامة» في مرثية هذا الشاعر التي تحمل اسم أدونيس Adonais.١٠ كذلك كولريدج، نراه في تفكيره مدينًا للغاية للفلاسفة المثاليين الألمان، وتحتوي كتاباته على عدد كبير من الإشارات إلى أفكار وشخصيات أسطورية هندية. هذا على الرغم من أن كولريدج، كما يشير جون درو في دراسته عن الهند والخيال الرومانسي، كان عقب المرحلة الشبابية التي اتسمت بالهوس بالهند يبذل جهدًا شاقًّا في سبيل تعرية النظرة ذات الطابع المثالي للهند والحط من قدرها. ورفض أخيرًا الفلسفة الهندية باعتبارها شكلًا من وحدة الوجود (١٩٨٧م، ١٨٦–١٨٨). ومع هذا، كما يشير درو، فإن حماس كولريدج الطاغي في رفضه للميتافيزيقا الهندية هو في ذاته مؤشر له دلالته على مدى الحميمية الوثيقة التي ربطته بها يومًا ما، وما كان يستشعره من هيبة إزاءها. وتفيد كذلك أن كولريدج لم يتحرر تمامًا من دينه الأصيل المتمثل فيما قدمه من ولاء للمتون الهندية المقدسة. (المرجع نفسه، ص١٢٦).١١
ولكن النهضة الشرقية Oriental Renaissance لم تبلغ كامل نضجها في إنجلترا، بل في ألمانيا. إذ بينما تمركزت الظاهرة الرومانسية في إنجلترا حول الشعراء والرسامين أساسًا، نجدها في ألمانيا رائجة على لسان كتاب المسرح والموسيقيين كذلك. ولعل الأمر الأوضح في دلالته أنها وجدت تعبيرًا قويًّا عن نفسها بين كبار الفلاسفة والمفكرين الذين برزوا وازدهروا مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ويمثل هؤلاء سلسلة تبدأ من هيردر وغوته عبر هيغل وشلنغ وانتهاء بكل من فريدريتش شليغل وشوبنهاور. واصطبغ كل من هؤلاء بطريقة أو بأخرى بما سماه شواب «المسحة الهندية» (١٩٨٤م، ٢٠٦)، وأصابته عدوى وباءٍ وصَفه إدوارد سعيد في بلاغة ووضوح «الوباء الافتراضي الموسوم بالهوس بالمنتج الشرقي Orientalie الذي أثر في كل شاعر وفيلسوف وكاتبِ مقالاتٍ كبيرٍ خلال هذه الفترة» (١٩٨٥م، ٥٠). والجدير ذكره أن كانط الذي يمثل المصدر والنشأة لكل هذه الحركة الفلسفية يُعتبر استثناء في هذا الصدد، على الرغم من أنه لفت الأنظار إلى غياب «الدوغماتية» أو الجمود العقائدي وغياب التسامح في الديانات الهندية، وأعرب عن إعجابه الشديد بالمثل العليا الأخلاقية للبوذية.
ونلحظ خطوطًا متوازية مهمة بين الهوس بالهند في ألمانيا في المرحلة الرومانسية، والهوس بالصين في فرنسا في مرحلة التنوير. ويمثل هذا دليلًا واضحًا على استمرارية عدد من الأفكار المشتركة مع الإشارة في الوقت نفسه إلى افتراضات وقيم مختلفة اختلافًا جذريًّا. ونرى هنا، كما أكدت سابقًا، أن الشرق لا يتم تناوله في كلتا الحالتين برُوح البحث الموضوعي في المقام الأول أو الرغبة في فهم الهند المعاصرة، بل باعتبار البحث أداةً للهدم وإعادة بناء أو تجديد الحضارة الأوروبية. إن الشرق مستخدَمٌ هنا — وفي الأساس — أداةً لمعالجة ما بدا أنه أمراض متوطنة أصابت قلب أوروبا المعاصرة، لذلك نجد أن الاهتمام الاستحواذي بمشكلات أوروبا ذاتها قاد كلًّا من الرومانسيين الألمان، مثلما قاد «الفلاسفة» في فرنسا، إلى قدر من إضفاء نظرة مثالية وإلى قدر من التشويه أيضًا، ثم إلى بناء فردوس من نسج الخيال مبرأ من الهموم والمشكلات. وعبَّر عن هذا أحد المؤرخين بقوله: «تعانقت الطبيعة مع الحب، العاطفة والموضوع تشابكا بحيث لا انفصام بينهما، كل منهما يحتوي الآخر. وتراءت الهند ساحة للبراءة الذهبية الخالصة، إنها براءة الطفولة» (ويلسون، ١٩٦٤م، ٨٩). ومثلما أسقط «الفلاسفة» تمامًا على الصين الكونفوشية مفهومهم عن سياسة مثالية كدولة يحكمها حكام حكماء ومؤهلون فلسفيًّا، كذلك فعل الرومانسيون إذ أسقطوا على الهند فكرتهم عن وجود إنساني أكثر كمالًا في تحققه الواقعي، مع ثقافة أكثر شمولية في نظرتها ومدفوعة بقوة رُوحية. وبدا الشعب الهندي نفسه في نظرهم أمة على غرار الأطفال، تسود أخلاقَها رقةٌ، ويغلب على سلوكها اللطف والرشاقة، فظهرت حياة الهنود أقرب إلى النظام الطبيعي للأمور، على عكس الأوروبيين، مستسلمين لحياة الهدوء والسكينة والرصانة والنظام، زاهدين كل الزهد عن العنف المقترن بأكل اللحوم وتناول المسكِرات. إنهم أشبه بالصينيين في عيون الجيل السابق، يَبدون وقد تحلَّوا بمستوًى رفيع من السلوك الأخلاقي، وعلى نقيض الأوروبيين وحياةِ النهم والشره والضراوة. وهذه معايير أسهم في تحطيمها — إلى حد ما — الغزاة الأجانب، وأولهم المغول، ثم حديثًا الفرنسيون والبريطانيون. ويتسق هذا النوع من البُدائية مع رؤية روسو التي نفذت إلى أعماق إدراك الرومانسيين للثقافة والفلسفة الهندية. ولوحظ — على سبيل المثال — أن الكثير من متون السَّنسِكريتية القديمة، حتى ما تناول منها موضوعات مثل الفلك، مكتوبة جميعها نَظْمًا. وساعدت هذه الحقيقة في تأكيد النظرية الأثيرة لدى الرومانسيين وهي أن كلام البشرية في البدء كان في قالب شعري. وأضحى هذا بدوره جزءًا من اعتقادٍ عامٍّ وهو أن الهند امتلكت في أدبها الكلاسيكي نوعًا من الحكمة البُدائية، وهذه حقيقة أساسية، ثم ضاعت في الغرب، وكذا في الهند أيضًا. ومن ثَم فإن اللازم الآن استعادتها. ورأى كثير من الرومانسيين أن الهند مصدر الحكمة جميعها، بل هي نبع الحضارة بمعناها الكامل. وسبق أن ذكرنا أن فولتير تبنى هذه الفكرة في جيل سابق، مما أدى حتمًا إلى الشك في أولوية إسرائيل١٢ والإغريق في تكوين الثقافة الأوروبية. وأوحت هذه الفكرة للبعض بأن الرابطة اللغوية والعرقية بين ألمانيا والهند كانت أقوى من الروابط بين حضارات البحر المتوسط القديمة. ووصل الأمر إلى حد أن عمانويل كانط، الذي لم يكن من الرومانسيين المولَّهين بالشرق، ردد مرارًا الرأي العامَّ القائل بأن فنون أوروبا، من مثل الزراعة والأعداد ولعبة الشطرنج، وفدت من الهند.
وأحدثت فكرة الرابطة بين حكمة الهند القديمة أصداءً فلسفية مهمة أيضًا. وساد اعتقاد أن الأوبانيشاد تمثل هذه الحكمة في أعمق وأرقى صورها. ذلك أن الأوبانيشاد تشتمل على عقيدة توحيدية مقترنة بفكرة البراهمان، وحلت محل تعددية الفيدا السابقة … واشتملت كذلك على المفهوم المحوري «آتمان» Atman (الرُّوح أو العقل). ورئي أنه الموازي مباشرة للدور الذي يؤديه العقل أو الرُّوح Geist في الفلسفة المثالية الألمانية. وصادفت تعاليم الأوبانيشاد هوًى عظيمًا وأثيرًا في نفوس الألمان (طبعًا حسب فهمهم لها)، وأن العالم الذي نعرفه من خلال حواسنا العادية ليس هو العالم «الحقيقي» وإنما هو مظهر، بل وهم وخداع (مايا Maya) وأن غاية الحياة هي تحقق النفس أو الرُّوح — آتمان — من خلال توحدها مع المطلق (براهمان). وبدا أن هذه النظرة تنسجم تمامًا مع بعض القسَمات المحورية والمميزة للفلسفة المثالية الألمانية. ويمكن إيجازها في صورة النظرة القائلة إن عالم الظواهر موجود جوهريًّا خلال الرُّوح أو العقل ومتوحد معه، وأن العقل الفردي ما هو إلا لحظة من لحظات العقل المطلق في كامل ازدهاره. وهكذا، فمثلما قدمت الكونفوشية «للفلاسفة» نموذجًا لفلسفة عقلانية ربوبية، كذلك قدمت هندوسية الأوبانيشاد مذهبًا ميتافيزيقيًّا رفيعًا شاع مع كل افتراضاتهم المثالية. وهيأت كذلك ضربة مقابلة للفلسفة المادية والميكانيكية التي كانت لها الهيمنة طوال فترة التنوير.

هذه إذن بعض الأفكار العامة التي تدفقت عبر الحوار الألماني مع الهند القديمة. وحان الوقت الآن لدراستها دراسة مدقِّقة متفحِّصة وبتفصيل أكثر، حسبما جاء تطبيقها على أيدي بعض كبار مفكري هذه الفترة. وسوف نركز اهتمامنا على الشخصيات الرئيسية دون أن ننسى أن الهوس بالهند لم يسلَم منه تقريبًا أيٌّ من شعراء وفلاسفة وعلماء الإلهيات من أبناء جيل الرومانسية.

المفكرون الألمان

يُعتبر جوهان غوتفريد هيردر (١٧٤٤–١٨٠٣م) من نواحٍ كثيرة المسئول عن تحديد جدول أعمال الرومانسية. إنه أول أبناء هذا الجيل الذي استوعب الشرق ووضعه نصب عينيه في سعيه لتحقيق أهداف الرومانسية. وتتجلى نغمته في الهوس بالهند واضحة في تعليقات له من مثل: «أيتها الأرض المقدسة [الهند] تحية وسلامًا، أنت نبع كل موسيقى، وصوتك صادر عن القلب» (الاقتباس من إدوارد، ١٩٧١م، ١٥٢). وأيضًا «انظر إلى الشرق — مهد السلالة البشرية، ومهد العاطفة الإنسانية، ومهبط الأديان» (الاقتباس من آير، ١٩٦٥م، ١٨٨). ولم يكن هو أول من امتدح عراقة الهند ذات الجلال، ويزعم أن مصدر جميع الحضارات، بل اللغات نفسها، ليس في البحر المتوسط، ولا في الشرق الأوسط، وإنما في الهند. ولكنه بهذا أسهم في وضع مسألة الأصول والهوية الأوروبية، أو بدقة أكثر، أصول وهوية ألمانيا، والهوية الثقافية في صميم قلب الحركة الرومانسية. ولم يكن بأي حال من الأحوال ينظر نظرة غير نقدية للهند. مثال ذلك نفوره من ممارسة طقس سوتي، أي حرق الزوجة مع زوجها المتوفَّى، ومن نظام الطوائف، وكذا ما اعتبره موقفًا يتمثل في الاستسلام عن رضا. ولكنه مع هذا أسهم في نشر ورواج الصورة التي ابتدعها روسو عن أوروبا المتحللة مقارنة بمجتمع قديم رَعَوي غنائي، ووضع الهند في موضع المثل الأعلى الذي يتعين على أوروبا أن تقتدي به، وتكتشف من خلاله نواقصها الأخلاقية.

واحتل الاهتمام بالطبيعة وهوية الثقافات قلب تفكير هيردر. وبعد أن طرح جانبًا العامل الكونفوشيوسي، احتل عالم الإغريق والرومان الكلاسيكي مكانة سامية كمثل أعلى يتعين أن نقتدي به في كل جهد إنساني، بدءًا من الفلسفة والحث على الفضيلة ووصولًا إلى الفن والعمارة والشعر. وتضمن هذا النهج بدوره افتراض وجود قيم كلية شاملة، والتي نرى من خلال الممارسة العملية أن أكمل تجسيد لها في ثقافات البحر المتوسط الكلاسيكية القديمة. ونعرف أن الشعب الألماني لم يأنس سعيدًا أبدًا لهذا النموذج الكلاسيكي، خصوصًا في القرن الثامن عشر وقتما تجسد بوضوح وجلاء في الثقافة الفرنسية. وتعبر نظرية هيردر عن التاريخ والثقافات ببلاغة شديدة عن هذه المشكلة الألمانية. وإذا به على نقيض النوازع الكلية والعقلانية للتنوير يرى أن التاريخ البشري يشتمل ويؤالف بين أمم وتراثات كانت تعيش كوحدات كلية وتمثل كيانات عضوية لها حياتها ورُوحها الخاصة. ويرى أيضًا أن المنتجات الثقافية والنوازع الدينية لهذه الكيانات لا يمكن تقييمها إلا من داخل كل تراث حي. والجدير ذكره أن التشبيهات المجازية للنمو والتطور العضوي تعبر عن نموذج تفكيره. واستطاع بفضل هذه التشبيهات المجازية أن يثبت الروابط الحية الوثيقة بين أوروبا والهند. ويبدي هالبفاس ملاحظة هنا في معرض حديثه عن هيردر فيقول: «تطور البشرية من الشرق إلى روما يشبه جذع شجرة ثُبتت فيه الفروع والبراعم … ويمثل الشرق الدولة في مرحلة الطفولة. ومن ثم تتسم بالبراءة والنقاء والإمكانات التي لا تنفد» (١٩٨٥م، ٧٠).

كان هيردر، مثله مثل وليام جونز، راعيَ كنيسة لوثري المذهب، لم يراوده الشك أبدًا بشأن تميز المسيحية على الهند والشرق، ولكن حبه لفهم الفلسفة الهندية، وخصوصًا تقمصَه للشعر في الكلاسيكيات الهندية القديمة، كان الدافع لدى جيل كامل من المفكرين الألمان. ورأينا توًّا أن الفكرة القائلة إن الهند كانت تمثل طفولة البشرية أسهمت كثيرًا في صوغ النزعة البُدائية الرومانسية، والتي أصبحت بدورها فيما بعد سلاحًا قويًّا في نقد الثقافة المعاصرة، هذا على الرغم من أن هيغل استخدم فكرة طفولة الهند لأغراض أخرى بعد ذلك في فلسفته. وحري أن نلحظ أن تصوره للشعب الهندي أنه شعب رقيق الحواشي، نباتي المذهب، إنما يمثل نقدًا ضمنيًّا لعدم فعالية الأخلاق المسيحية. ونعرف أنه كان متحمسًا في معارضته لأنشطة الإرساليات التبشيرية المسيحية التي حاولت أن تفرض على الهنود رؤاهم الغريبة عليهم، وارتبطت هذه الصورة بمسألة أولوية الكتاب المقدس. ونعود لنقول إن هيردر كقسيس مسيحي لم يهدف إلى مهاجمة الرؤية الأصولية (الأرثوذكسية)، ولكن إقراره بعصر الحضارات العظيم في الشرق، وإيمانه بأن الأمم الأوروبية انبثقت من آسيا، أدى بالقطع إلى وضع علامات استفهام بشأن الإيمان بأن سفر التكوين في العهد القديم يضم الرواية القاطعة الصادقة عن التاريخ الأول للسلالة البشرية. واتسع نطاق تعاطفه وحبه للفكر الهندي. ورفض عقيدة التقمص (أو تناسخ الأرواح) ورأى أنها عقيدة زائفة، ولكنه اعترف في الوقت نفسه بأنها مصدر التعاطف الأمثل بين جميع المخلوقات، وربط بينها وبين الوحدة الأساسية الجامعة بين كل الكائنات الحية، واستهوته كذلك الأفكار الهندية عن وحدة الوجود وعن الرُّوح العالمي (آتمان). ونعرف أن الرومانسيين الألمان رأوا في الاثنين ما يدعم آراءهم عن الرؤية الكلية المتعالية وعن الجوهر الرُّوحي الأساسي للعالم الطبيعي.

وهناك أيضًا صديق هيردر الذي يضارعه من حيث التأثير في مسار الحركة الرومانسية، ونعني به الشاعر والمسرحي العظيم غوته (١٧٤٩–١٨٣٢م). استلهم غوته شأنه شأن هيردر الحركة الرومانسية الوليدة في سبعينيات القرن الثامن عشر، والمعروفة باسم Sturm und Drang (العاصفة والإجهاد)، ولم يحدث أبدًا أن كان غوته داعمًا صريحًا لحركة الهوس بالهند، بل حرص في الحقيقة على الاحتفاظ لنفسه بمسافة فاصلة بينه وبين الحركة الرومانسية بوجه عام، وآثر الحديث عن نفسه باعتباره أقرب إلى أن يكون بطلًا للحضارة الإغريقية والثقافية الهيلِّينية. ولكن، نظرًا لكونه إنسانًا رحب الصدر في عواطفه ومشاركاته الوجدانية، أبدى اهتمامًا كبيرًا بالأفكار الوافدة من الشرق، سواء من الصين أو من الهند. وثمة شواهد كثيرة تؤكد أثر الشرق في كتاباته. ونشأت علاقات صداقة بينه وبين كبار المستشرقين الألمان في أيامه، من أمثال فريدريتش ماير وسيلفستر دو ساسي، وتحمس للمسرحية الهندية ساكونتالا Sakuntala، فضلًا عن إعجابه بكتابات «جونز الاستثناء الفريد». وقدم إسهامات في مجال النهج الأدبي الاستشراقي، ومنها نَظْم قصيدة على النهج الصيني بعنوان Chinesische-Deutschen jahres-und tageszeiten (1827) «الصين وألمانيا سنوات وأيام» (١٨٢٧م)، ومجموعة أشعار تحت عنوان Westostiliche Diwan الديوان الغربي (١٨١٩م)، والتي أثرت في جيل كامل من الشعراء الألمان من بينهم هاين وروكيرت. وكتب مقدمة لكتاب روكيرت أعرب فيها عن دَينه لهيردر، وذكر أنه تمنى «النفاذ إلى الأصل الأول للجنس البشري وقتما كان البشر لا يزالون في أول عهدهم بتلقي الولاية السماوية من الرب باللغة الأرضية» (الاقتباس من شواب، ١٩٨٤م، ٢١١). وأبدى حماسًا أقل إزاء ما تتمتع به أساطير الهند من ثراء وغزارة. ولكن ميوله الخاصة وهواه نحو وحدة الوجود صادفا، شأنه شأن كثيرين من معاصريه، صدى قويًّا في فلسفة الأوبانيشاد.١٣

ويتمثل سر جاذبية الأوبانيشاد لكل من غوته وهيردر وغيرهما من كبار فلاسفة المرحلة الرومانسية فيما رأوه في هذه المتون من نزعة مثالية توحيدية، أعني الإيمان بأن كل الموجودات تؤلف في التحليل النهائي كلًّا واحدًا جامعًا، وأن هذه الواحدية تنبثق من الطبيعة الرُّوحية الأساسية للواقع، ومن ثم الإيمان بأن كثرة وتعددية الموجودات ما هي إلا خداع وليد حواسنا المحدودة المتناهية. والجدير ذكره أن الحركة الفلسفية المثالية الألمانية بدءًا من فيشته وشلنغ وحتى هيغل وشوبنهاور تقترب كثيرًا جدًّا من هذا النهج في التفكير. ولعل الاستثناء الوحيد هو شوبنهاور الذي أقر دون تحفظ، بل إنه مجَّد صلة النسب هذه، بينما أنكر في الوقت نفسه أن تفكيره تأثر بالشرق. وكان فيشته خبيرًا وعلى دراية جيدة بالأفكار الشرقية الجديدة، وتحمل فلسفته المثالية الكثير من أوجه التشابه التي تغري بالمقارنة بينها وبين التفكير الهندي. ولكن ليس بالإمكان وصفه بالمفكر الرائد للعقيدة الهندية. هذا على عكس حالة إف دبليو جيه شلنغ (١٧٧٥–١٨٥٤م)، وهو شخصية حاسمة ومحورية في تطور المثالية الألمانية والفلسفة الطبيعية، إذ تسود الأفكار الشرقية في ثنايا تفكيره وتصبغه بصبغتها.

واعتاد شلنغ طوال حياته أن يعرب عن اهتمامه الكبير ودعمه للدراسات الهندية والشرقية بعامة. ونراه في محاضراته عام ١٨٠٢م يُفيض في مديحه «للمتون الهندية المقدسة» زاعمًا أنها أسمى منزلة من الكتاب المقدس. وطرأت على فلسفته تحولات عديدة على مدى حياته الفكرية المديدة. ولكنْ ثمة عنصران نحن بحاجة إلى لفت الأنظار إليهما من منظور استشراقي، وهما؛ أولًا: «فلسفة الطبيعة» عنده في المرحلة الباكرة من حياته، وثانيًا: كتابه الأخير عن «الميثولوجيا»، أو علم الأساطير. نلحظ أن شلنغ خلال التسعينيات من القرن الثامن عشر طور فلسفة يرى من خلالها الطبيعة في ضوء النمو والتطور الدينامي، وباعتبارها منظومة عضوية موحدة في صيرورة تكون ذاتي عن طريق التوافق بين ميول متضادة مع رُوح تنبثق من رحم الطبيعة لتمثل أسمى تجلياتها. وتبلغ الطبيعة أكمل حالات التحقق الذاتي حال توحدها مع المطلق. وإن ما سماه «منظومة الهُوية المطلقة» يعمِد إلى حسم الفوارق والاختلافات داخل الوحدة. ويصف فكرته المحورية عن المطلق بأنها الكمال الأقصى والوحدة النهائية لكل الموجودات في الطبيعة المادية والذهنية على السواء. ويؤمن بالطبيعة الخادعة المتوهمة للعالم المتناهي، وبوحدة الوجود، وكذا بالرُّوح العالمية أو الرُّوح الكلية، وبالنزعة الحدسية النافذة. وساد الاعتقاد في أيامه أن كل ما ذهب إليه نابع من المصدر الفكري نفسه، وهو فلسفة الأوبانيشاد. وأكد شلنغ نفسه على صلة النسب، وذلك في حديثه عن أن الفلسفة الهندية «ليست سوى المثالية في أسمى وأنقى صورها» (الاقتباس من هالبفاس، ١٩٨٨م، ١٠٢). هذا على الرغم من أنه أعرب عن أسفه لافتقاد الأوبانيشاد التوضيح النظري لفلسفتها.

وتميزت علاقته بالميثولوجيا الهندية بأنها أكثر نموًّا وتطورًا، وخص الهند بمائة صفحة في كتابه «فلسفة الميثولوجيا»، الذي جمع فيه على نحو منهجي التواريخ الدينية للشرق والغرب. وابتعد شلنغ في النصف الثاني من حياته عن الواحدية المثالية التي عُرفت عنه في أيامه الباكرة، وعاد إلى موقف توحيدي مسيحي أكثر أصولية «أرثوذكسي». ومن هنا نراه مختلفًا عن كثيرين من معاصريه، إذ لم يجعل همه الأول استخدام الهند سلاحًا يشدد به النكير ضد الأصولية. ومع هذا فإنه في أثناء دراسته للميثولوجيا وجد في أشعار الفيدا مصدرًا للأسطورة وأنه مصدر أقدم من الكتاب المقدس، وأنه أيضًا ليس من نتاج عالم البحر المتوسط. ونعرف أنه في باكر أيامه أعرب عن اهتمامه بالفكرة الرومانسية المميزة بشأن «رب واحد للبشرية جمعاء»، ولكنه في كتابه الأخير عن الميثولوجيا طور هذه الفكرة وصاغ منها فرضية تقول: لا توجد سوى ميثولوجيا واحدة في العالم مشتركة بين جميع التراثات. وحاول ابتكار صورة تصهر في وحدة واحدة كل التراثات الميثولوجية لكل البشرية (الاقتباس من شواب، ١٩٨٤م، ٢١٧). ويلاحَظ أن الشيء الذي أكدته الفيدا لشلنغ هو أن الجنس البشري تجمع بينه وحدة بدائية واحدة. لهذا فإن علينا النظر إلى جهده في هذا الصدد باعتباره محاولة من أعظم المحاولات البنائية التي تسعى لترى التاريخ الرُّوحي الكلي للبشرية كلًّا واحدًا. وتمثل هذه المحاولة المثل الأعلى لإنسانية عالمية كلية تتعالى على جميع الفوارق والاختلافات التاريخية والمحلية السطحية. وأحدثت هذه المحاولة، كما سوف نرى فيما بعد، أصداء مهمة داخل الاستشراق في القرن العشرين.

وتكشف كتابات فريدريتش شليغل (١٧٧٢–١٨٢٩م) بوضوح أكبر عن الرغبة في تتبع كل شيء بالرجوع إلى الهند. وكتب شليغل في رسالة منه إلى تييك يقول: «كل شيء، نعم كل شيء، تعود أصوله الأولى إلى الهند» (الاقتباس من شواب، ١٩٨٤م، ٧١). لقد كان روائيًّا ومؤرخًا ودبلوماسيًّا، وكان بين جميع رواد الرومانسية الأكثر معرفة ودراية بالسَّنسِكريتية. وأصدر في عام ١٨٠٨م دراسة بعنوان «مقال عن اللغة والحكمة عند الهنود»، استهلها بإزجاء المديح لجمال وعراقة هذه اللغة المقدسة، وأهليتها للتعبير عن الأفكار الفلسفية. واستطرد ليصوغ أطروحة لغوية وأنثروبولوجية. ويذكرنا هنا بكل من جونز ودوبيرون. وتفيد أطروحته بأن أصول شعوب شمال أوروبا يمكن تتبعها عودًا إلى الهند. وتخيل أن شعبًا جديدًا يتصف بالدينامية شكل نفسه في شمال الهند، واتجه بفعل حافز ما أقوى من قوة دفع الضرورة إلى النزوح جماعيًّا تجاه الغرب. وبلغ به الأمر حد الزعم بأن مصر القديمة سبق أن استعمرها الهنود (الاقتباس من بولياكوف، ١٩٧١م، ١٩١).

ويضع هذا النهج شليغل في مصاف أكثر النقاد حدة لحالة الثقافة الأوروبية المعاصرة المثيرة للشجن، بينما يسمو بمكانة الشرق كنموذج للنقاء الأخلاقي والديني. ويعرب بموقفه عن أساه للنظرة المفتقدة التي تنظر إلى الوجود البشري الأصلي نظرة كلية واحدة. ونلمس في كتابات شليغل نغمة الحنين إلى الحياة الرعوية التي ميزت الثقافة الهندية القديمة، وقتما كان الناس يعيشون سعداء في رحاب الطبيعة، تجمع بينهم والطبيعة علاقةٌ جمعية وثيقة. ونلمس كذلك توقًا إلى تناغم الفنون والعلوم على النحو الذي كنا ندركه به في تلك الثقافة. وأعرب عن شكواه لأن «الإنسان لا يسعه الغوص إلى أعماق أبعد. إذ هذا أمر مستحيل. لقد أصبح الإنسان بعيدًا جدًّا في التقسيم التعسفي أو في النظرة الميكانيكية التي تصل بنا إلى الشيء ذاته، وهكذا أصبح الإنسان نفسه شبه آلة. ومن هنا دعا إلى العودة إلى مهد الحضارة، إلى الشرق الذي ظل ولا يزال حتى الآن منبع الدين والميثولوجيا» (الاقتباس من هالبفاس، ١٩٨٨م، ٧٥).

وذهب شليغل إلى أن الهند كانت «المصدر الحقيقي الأول لجميع الألسنة»، بل إنها «المصدر الأول لجميع الأفكار» (الاقتباس من آير، ١٩٦٥م، ٢٠٠). واتخذ موقفًا يعبر عن رد فعل حادٍّ ضد النزعة الكلاسيكية التي أضحت مقترنة بفرنسا على نحو يتعذر محوه. وحاول في موقفه هذا أن يتتبع مصدر الثقافة الألمانية، وذلك بالعودة بها إلى الهند القديمة. ونجد عند شليغل، وفي وضوح تام، الجهد الرومانسي بحثًا عن الإنسانية Humanitat، وهي حالة مثالية النقاء، حيث يمكن للإنسانية فيها أن تتعالى على وضعها الممزق. وأحيا حوارُه مع الهند مثلًا أعلى سبق أن عبر عنه ليبنتس حدسًا وبأرق وأدق نغمات عصر العقل، حيث تحدث عن أن الآسيويين والأوروبيين يؤلفون معًا «عائلة واحدة عظمى، وأنهم كلٌّ واحد غير قابل للانقسام». لذلك تبدو الفكرة القائلة: إن الهند تمثل بشكل ما النبع الأول وأصل جميع الحضارات مجرد استعارة تشبيهية شعرية. وتحدث شليغل إلى جيله حين قال: «يكمن في الهند المصدر الحقيقي لجميع ألسنة البشر، وجميع الأفكار والقدرات التعبيرية عن العقل البشري. كل شيء — نعم كل شيء ودون استثناء — أصله في الهند» وقال «لا جدال في أننا نجد في تراثات الشرق المصدر الأول لكل تطور فكري، أو بعبارة واحدة: كل الثقافات البشرية» (الاقتباس من آير، ١٩٦٥م، ١٩٤ و٢٠٠). ويحمل هذا الرأي جذر الاعتقاد أن ثمة «رؤية وتجليًا كونيًّا» يمثلان الأساس الذي تنبني عليه الديانات الكبرى للبشرية. وعبر عن هذا شواب بقوله: «كان الظن أن الأساطير والأسرار العالمية تتضمن أسرارًا مشتركة بين المؤمنين في كل الأمم، وأن ثمة حقيقة واحدة وراء قناع تحت سطح الأساطير والعقائد المحلية، «إله واحد لجميع البشر»» (١٩٨٤م، ٢١٦-٢١٧).

ونجد بعضًا من هذا الاتجاه، وهو حاجة الرومانسيين إلى مفهوم كوكبي للرُّوح الإنسانية وللتاريخ الإنساني، يتغلغل في كتابات أعظم فلاسفة هذه الفترة؛ وأعني به جي دبليو في هيغل (١٧٧٠–١٨٣١م). وتميز هيغل بأنه التزم في نواحٍ كثيرة رؤية نقدية في مجموعها. ولم يشارك، يقينًا، حماس الرومانسيين الجامح في موقفهم من الشرق. وأبدى مقتًا لمظاهر الغلو المفرط في التخييل، وللسعار الجامح وفوضى الأساطير والأيقونات التي وجدها في الثقافة الهندية. واعتاد كقاعدة عامة النظر إلى الشرق باعتباره كيانًا راكدًا، مجمدًا في ماضيه، وعاجزًا عن بعث جديد. بَيْد أنه على الرغم من هذا درس ثقافات الشرق بقدر من العمق وصاغ نظرة شاملة واعية إليها بقدر ما هو متاح في أيامه. واستنبط الكثير من فهمه عن الفلسفة الهندية من بحوث كوليبروك، ومن بحوث صديقه الباحث في الدراسات الهندية، فرانز بوب. ويظهر في كتابه الأخير كثير من المراجع التي رجع إليها في حديثه عن ثقافات وفلسفات الهند والصين. ونذر قدرًا كبيرًا من وقته في محاضراته للحديث عن تاريخ الفلسفة وفلسفة التاريخ وتاريخ الأديان، ولعرض وتوضيح آرائه بشأن مكانة الصين والهند في التاريخ العالمي للرُّوح الإنسانية. ولم يكن في الحقيقة هو أول من أدرج الفكر الشرقي ضمن تاريخ الفلسفة. ذلك أن جوهان غوتليب بوهل أدرج فصولًا عن الفلسفة الصينية والهندية ضمن كتابه «تاريخ الفلسفة» الصادر بالألمانية عام ١٧٩٦م. ولكنه هو أول من أخضعها لمعالجة مذهبية منهجية، وحاول أن يراها ضمن إطار تطور الإنسانية ككلٍّ واحد، وباعتبارها جزءًا من الرُّوح العالمي في طور تجليه وكماله. وتمثل دراسته من نواحٍ كثيرة مشروعًا تأويليًّا «هِرمنيوطيقيًّا» فريدًا في تاريخ الأفكار. ورأى البعض أن تأويله كان بمنزلة تبرير لإسقاط الهند جملة من التأريخ الفلسفي. إلا إنه مع هذا، وكما يلحظ هالبفاس، يمثل «مرة واحدة وإلى الأبد إمكانية أساسية لمعالجة تراث أجنبي» (١٩٨٨م، ٩٨). ويذهب الفيلسوف الهندي جيه إل مهتا في حكمه على هذا إلى أن «هيغل كان الفيلسوف الغربي الوحيد ذا المكانة الرفيعة الذي أولى اهتمامًا جادًّا بالأفكار الدينية والفلسفية الهندية». وهو كذلك الوحيد الذي أكد «قوة وضوح الغرض عند هيغل من حيث إدراكه لصعوبات فهم الأفكار الهندية في ضوء المفاهيم الفلسفية الغربية» (مهتا، ١٩٨٥م، ١٩٧).

ويبدو أن الثقة التي استشعرها هيغل في تصنيفه لثقافات آسيا تحت مقولات تضمنها مذهبه عمل باهر ومثير حقًّا. ونراه يعكس بوسائل عديدة الوضع التاريخي لأوروبا خلال هذه الفترة باعتبارها القوة العالمية البازغة. وأدى ذلك أيضًا إلى أن كثيرين من النقاد عمدوا إلى رفض أفكاره في هذا المجال باعتبارها شديدة التجريد ومغرقة في التأمل النظري، وتفتقر إلى أي حساسية تأويلية «هرمنيوطيقية» حقيقية تجاه الثقافة الأجنبية. وذهبوا إلى أن «أُفُقه» الأوروبي لا يندمج كثيرًا مع الأفق الشرقي، حتى إنه يتعالى عليه ويطمسه. وإن هذا العائق الذي حال دون توفر استجابة مواتية إزاء نظرية هيغل يتجلى أكثر ما يتجلى بوضوح في حديثه عن أن حركة التاريخ تسير في اتجاه حتمي لا سبيل إلى الرجوع عنه، وأنه اتجاه يمضي في صرامة وعناد من الشرق إلى الغرب. ولم يشأ أن يمجد الماضي مثلما فعل الرومانسيون. ومن ثم فإن قِدم وعراقة الصين لا تستثيران حماسه أسوة بالحماسة المفرطة السائدة في زمانه. ولكنه على العكس رأى أن حضارات الشرق تشغل مرحلة باكرة أولى في مسيرة تطور الرُّوح الإنساني. وأن التاريخ العالمي هو في جوهره تاريخ تطور الوعي بالحرية فيما يخص الرُّوح، وما يترتب على هذا من تحقق الحرية (هيكل، ١٩٥٦م، ص٦٣). وبدا واضحًا له في داخل هذا الإطار أن التقدم على طريق الحرية يتجلى في حركة تاريخية للرُّوح، والتي بلغت ذروتها في صورة الحضارة المسيحية الحديثة لأوروبا. ولخص هذه النظرة في عبارته الشهيرة التي تقول: «عرَفت أمم الشرق فقط أن الواحد حر، وعرَف العالم الإغريقي والروماني فقط أن البعض حر، بينما نعرف نحن أن جميع الناس في المطلق (الإنسان من حيث هو إنسان) أحرار» (المرجع نفسه ص١٩). وليس معنى هذا القضاء الكامل على الرؤى النافذة التي عرفتها الفترة الباكرة، وإنما يعني أنه تم الحفاظ عليها والتحرك بها قدمًا إلى أمام (aufgehoben) إلى مركب أسمى وضعًا في الأزمنة التالية. لذلك فإن الشرق ذاته بات ثقافة متحجرة، راكدة، مقيدة بالماضي الذي لا تستطيع الانتصار عليه. علاوة على هذا فإنه لا سبيل إلى فهمه فهمًا وافيًا إلا في ضوء موقفنا الأوروبي الراهن والأسمى. وطبيعي أن مثل هذه النظرة أجازت للمستشرقين الأوروبيين أن ينهضوا بدورهم ويفهموا الشرق في ضوء الاستعلاء الأوروبي. وتقضي هذه النظرة بأن الغرب ينهض بمهمة يعجز الشرق عن أدائها لنفسه.

وثمة حقيقة وهي أن هيغل التزم نظرة نقدية ثابتة إزاء معاصريه. ونذكر من هؤلاء فريدريتش شليغل، الذي قاده افتتانه بالهند، حسب رأي هيغل، إلى خيانة الحاضر وتشويه التاريخ. ولكن على الرغم من هذا اعتقد هيغل بوضوح أن فهم الشرق له فوائده، وأنه يتجاوز كثيرًا حدود الاهتمام المحض بدراسة الآثار. إذ إنه أولًا يزودنا بالمادة اللازمة لصوغ تاريخ كوكبي شامل للثقافة البشرية، وهو ما مكن هيغل من وضع نموذج تاريخي لتطور الرُّوح البشري في حد ذاته. وإذا كانت قيم وأفكار حضارات الشرق القديمة باتت قاصرة عن أن تفيدنا بجديد إلا إنها، مع هذا، أسهمت في معرفة الذات على نحو ما نفهم الطفولة بالتفكير في ماضيها (أي على نحو ما يفعل التحليل النفسي كمثال) مما يهيئ للكبير فهمًا وافيًا ووافرًا عن حالته الراهنة. ثانيًا: فإن معرفة الشرق شأن معرفة جميع الثقافات الأجنبية في الحقيقة يمكن أن تزودنا بعامل تصحيح وترياق لعلاج مظاهر الإفراط المعاصرة والميول أحادية الاتجاه من مثل الرومانسية ذاتها، وتزودنا بترياق أيضًا لعلاج الفردية المفرطة في الفكر الأوروبي عند مقابلتها بما يكشف عنه التفكير الشرقي من «وحدة صُلبة». ويوضح هالبفاس ذلك بقوله: إن اهتمام هيغل بالهند لا ينفصل عن موقفه المناهض للرومانسية، كما لا ينفصل عن تحفظاته بشأن «الذاتية المسرفة ونزعة المحورية البشرية السائدة في الفكر الغربي الحديث» (١٩٨٨م، ٩٤، ٩٥).

من الهندوسية إلى البوذية

إذا كان هيغل ذهب إلى أن فلسفة الهند تنتمي على نحو لا رجعة فيه إلى الماضي، فإن آرثر شوبنهاور (١٧٨٨–١٨٦٠م) رأى أنها تمثل لحظة حاسمة في الحياة الفلسفية لأوروبا المعاصرة، وتَميز موقفه نحوها بالإعجاب المطلق من دون تحفظ. ويمثل في تاريخ الفكر، من بعض النواحي، شخصية انتقالية، إذ يمكن أولًا النظر إليه باعتباره ممثلًا لرُوح الفلسفة الرومانسية ونظرتها المثالية وموقفها المناهض للعقلانية. ولكن نجد في الوقت نفسه أن دراساته النفسية العميقة للوضع البشري ونزعته التشاؤمية تتطلع إلى تطورات مستقبلية من مثل التحليل النفسي والوجودية. ثانيًا: أنه يجمع ما بين الاهتمام الأوروبي بالهندوسية والبوذية. إذ إنه قضى فترة في سنواته الباكرة عاكفًا وبعمق على فلسفة الأوبانيشاد، ثم ارتبط بعد ذلك بالبوذية، وأصبح من أوائل مفكري الغرب الذين عُنوا ببحث دلالاتها الفلسفية. وغير خافٍ أن شهرته في نطاق فلسفة القرن العشرين وحتى عهد قريب بدت مزيجًا على نحو يقيني. ولكن حري ألا يقودنا هذا إلى غض الطرف عن حقيقة أنه خلال الشطر الأخير من القرن السابق كان من أكثر مفكري أوروبا تأثيرًا وكتاباته مقروءة على أوسع نطاق.

أنكر شوبنهاور أن مذهبه الفلسفي تأثر بالشرق من حيث الهياكل الأساسية. وصدَّق على هذا الحكم بريان ماغي الذي يوضح حقيقة أنه أكمل بالفعل كتابه «الجذر الرباعي لمبدأ العقل الكافي» قبل تعرفه على الفلسفة الهندية. ويشدد على أن كانط هو المصدر الرئيسي لتفكيره (انظر ماغي، ١٩٨٧م، ١٥ و٣١٦). ولكن يجب أن نوضح أن شوبنهاور كان على اطلاع واسع أيضًا على أفكار الأوبانيشاد قبل عدة سنوات من نشر كتابه المهم عام ١٨١٨م «العالم من حيث هو إرادة وتصور». وحقيقة الأمر أنه في عام ١٨١٤م التقى المستشرق فريدريتش ماير الذي أحيا في نفسه الاهتمام بالفلسفة الهندية وقدم له ترجمة دوبيرون للأوبانيشاد. وكان لهذا العمل بخاصة أثره القوي عليه والذي كتب عنه في سعادة بالغة أنه «القراءة الأكثر فائدة وتطويرًا للفكر … بل ولعله كذلك في العالم؛ لقد كان سلوى حياتي وسيكون سلوى مماتي» (شوبنهاور، ١٩٧٤م، ٢ و١٨٥). وسواء تأثر شوبنهاور أم لا فإن ثمة توازيات كثيرة وقوية بين فلسفته الخاصة والفلسفة الهندوسية ثم الفلسفة البوذية بعد ذلك، وأكد أن فهم الأوبانيشاد لن يساعد فقط على فهم فلسفته، بل سوف يُحدث تغييرًا أساسيًّا في الفكر الأوروبي. وبينما اعتقد هيغل أن التاريخ له اتجاه محدد ومحتوم ويتعين فهمه في ضوء غائي، فإن شوبنهاور على النقيض رأى التاريخ نوعًا من المسرحية الهزلية ونتاج إرادة كونية عمياء، من دون وجهة أو غرض. ومكنه هذا من أن يرى فلسفة الشرق ليس باعتبارها مقدمة فَتيَّة مفعمة بالحياة سابقة على فترة النضج والبلوغ للمسيحية الغربية، بل حكمة كونية دائمة الحياة ووثيقة الصلة أبدًا. وهكذا نراه يُقر بالفوارق التاريخية بين الشرق والغرب، ويؤكد في الوقت نفسه على إمكان أن تكون الاستبصارات الفلسفية مهمة وذات شأن داخل السياقات التاريخية المتباينة. وسمحت له وجهة النظر هذه بادعاء أن تعليماته هو متطابقة جوهريًّا مع تعليمات كلٍّ من بوذا وإيكهارت. وليس معنى هذا أنه رأى أن تفكيره ليس سوى ترديد لفلسفة الأوبانيشاد، بل — وهو الأصح — إن جوهر الفكر الهندي الموجود في فلسفته هو الاكتمال المنظومي والتحقق المذهبي، والكشف عن معناه الحقيقي. وكان مفهوم الخداع أو المايا الهندي من الأهمية بمكان بالنسبة إلى شوبنهاور لأنه كشف عن الطبيعة الخادعة لعالم الظواهر وما عليه من كثرة. كذلك فإن تعاليم الأوبانيشاد التي تقرر أن الكائنات على تعددها واحدة في النهاية، استهوته ورأى فيها المعادل الدقيق لفكرته عن أن ظاهر الانفصالية والفردية المتمثلة في الكائنات إنما هي خداع من صنع عقل الإنسان. وتكشف فلسفته الأخلاقية أيضًا عن رابطة وثيقة في عقله بينها وبين بعض التعاليم الشرقية المحورية. وتتمثل هذه الرابطة مع كل من المذهب الهندوسي عن هوية الرُّوح «آتمان» و«الرُّوح الكلي» أو البراهمان؛ أعني الإيمان بأن الرُّوح الفردي هو في حقيقته مظهر لتجلي حقيقة أكبر وأشمل. وتتمثل الرابطة ثانيًا مع التعاليم البوذية عن التراحم مع وبين جميع الكائنات الواعية. ونلحظ أيضًا أن شوبنهاور اختلف عن كانط الذي أسس فلسفته الأخلاقية على فكرة «الآمر المطلق»، إذ أكد شوبنهاور على أن «جذر الأخلاق تجده بالضرورة في التراحم، أي في التعاطف والشعور الرفقي إزاء الكائنات الحية الأخرى، وأن هذا الشعور بدوره ينبني على إدراك حدسي — لا يصادق عليه العقل — بأننا جميعًا في سُويداءِ طبيعتنا واحدٌ بعضنا مع بعض، وليس بالإمكان اختلاف بعضنا عن بعض. لذلك فأنا لست مجرد سَمِيٍّ مماثل للكائنات البشرية الأخرى، بل إنه في أعمق الأعماق نجد أنهم و«أنا» واحدٌ حرفيًّا ولا فرق» (ماغي، ١٩٨٧م، ١٩٩).

ورأى شوبنهاور، في اتساق مع الرومانسية، أن الهند «مَهْدُ أقدم أنواع الحكمة وأكثرها صفاء، والموطن الذي يمكن للأوروبيين أن يتتبعوا فيه جذورهم التي انحدروا منها والتراث الذي تأثروا به بوسائل جمة وحاسمة» (هالبفاس، ١٩٨٨م، ١٨٧)، وأن التعاليم الأخلاقية للعهد الجديد جذورها التاريخية هناك في آسيا وليس في إسرائيل. «علمتنا المسيحية فقط ما كانت تعرفه كل آسيا في السابق وعرَفته أفضل منا» (١٩٦٩م، ٦٢٧). ولعل ما يثير أكثر أنه استخدم حجته هذه لدق إسفين بين اليهودية والمسيحية؛ إذ أكد أن: «ليست اليهودية … بل البراهمانية والبوذية التي تشبه المسيحية من حيث الرُّوح والنزوع الأخلاقي. واستطرد ليقترح أن «الحقائق السامية» المقدسة في ديانات الشرق والغرب العظمى عبرت عن حكمة كونية تمثل الأساس لها» (المرجع نفسه، ٦٢٣). وإذا تأملنا هذه الأفكار مجتمعة فإنها توضح أن شوبنهاور يؤمن بأن تدفق سيل الأفكار الهندية إلى أوروبا يمثل نهضة جديدة سوف تُفضي حتمًا إلى تحول أساسي في الفكر الأوروبي، وسوف يكون لهذا التحول أثر أعظم من أثر أوروبا على آسيا. وأبدى اقتناعًا بأن المسيحية لن تتأصل في الهند، وأن «الحكمة القديمة للجنس البشري» لن تقتلعها وتبدلها أحداثٌ تقع في الجليل. وإنما على العكس، «فإن الحكمة الهندية تفيض إلى أوروبا. وتُحدث تغيرات أساسية في معارفنا وفكرنا» (شوبنهاور، ١٩٦٩م، ٣٥٧).

ويكشف انشغال شوبنهاور بالفلسفة الهندية عن عدد من مظاهر القصور؛ أكثرها مشترك بينه وبين غيره من المتحمسين الرومانسيين. وسبق أن أشرنا إلى أن التعاليم الهندية التي استندوا إليها منتزعة من دون رابط يربطها من محيطها الثقافي، وأعيد بناؤها على أساس من شذرات نصية انتقائية، وتم تناولها من خلال ترجمات ومناهج بحث لغوية تبدو لنا الآن، وفي ضوء المعايير الحديثة، معيبة إلى أقصى حدٍّ. فضلًا على هذا يوضح نقاشُنا حتى الآن أن هذه التعليمات تم تصورها وفهمها أولًا وأساسًا خلال إطار المصالح والاهتمامات الفلسفية الغربية. ويذهب أحد النقاد شوطًا أبعد إلى حد الزعم بأن الرومانسيين «ابتدعوا هندوسية من نسج خيالهم» ليؤكدوا بها معتقداتهم، وأن «الهندوسية المنبثقة عن جهودهم تشايع البروتستانتية المتحررة من الجمود العقائدي» (مارشال، ١٩٧٠م، ٤٣). وخير مثال على هذا محاولة شوبنهاور مطابقة بعضٍ من أفكاره المحورية الخاصة مع المفاهيم الهندية من مثل مطابقة «الإرادة» مع «براهمان». كذلك إعلاء شليغل من قدر الهند، باعتبارها نبع كل الحكمة التي على أوروبا أن تنهل منها، وكما أوضح هالبفاس أن «اهتمام الرومانسيين بالهند لا ينفصل أبدًا عن النقد الراديكالي لأوروبا الحاضر» (١٩٨٨م، ٨٣). لكن وعلى الرغم من مظاهر القصور الواضحة، فمن العسير أن نحجب مشاعر الإعجاب بمحاولات شوبنهاور والرومانسيين من أجل دمج هذه الأفكار البعيدة والأجنبية ضمن أفق التفكير الغربي. وغني عن البيان أن العمل على نشر الفكر الهندي باعتباره نقدًا لنوع بعينه من أساليب التفكير الكمي والميكانيكي، وضد أشكال الفلسفة العقلانية والمادية التي أخذت طريقها لتصبح النماذج السائدة في الفكر الغربي الحديث إنما هو عمل يتجاوز حدود الأهمية التاريخية. بَيْد أن فهم شوبنهاور الخاص للفلسفة الهندية، ومهما بدا قاصرًا يعتبر تمثيلًا بارزًا للتطلع الاستشراقي نحو استخدام الفكر الشرقي بغية إحداث تجديد أساسي ومراجعة للتراث الفكري الغربي. علاوة على هذا، فقد كان للمستشرقين الرومانسيين أثر هائل على تطور الدراسات المقارنة، وكذلك على تشكيل الدراسات اللسانية والفيلولوجية. وأرست هذه دعائم مهمة أساسًا لتطوير البحوث الاستشراقية خلال فترة تالية من القرن.

ولعل اكتشاف البوذية يمثل واحدة من أهم النتائج ذات الدلالة لمظاهر التقدم الثقافي. ونرى في حالة شوبنهاور أن مفاهيم بوذية بعينها، مثل النيرفانا، وجدت طريقها إلى دراساته الباكرة. ولكن مع التوسع السريع في فهم البوذية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر أصبح شوبنهاور قادرًا على الإفاضة أكثر وأكثر في كتاباته التالية ويوسع من نطاق روابطه التأويلية (الهرمنيوطيقية) مع الفكر الشرقي. وسوف نبحث هذه الروابط في اتساق مع بحث تأثير البوذية على الفكر الأوروبي في القرن التاسع عشر إجمالًا في الفصل التالي.١٤
١  أول بعثة بريطانية دبلوماسية إلى بلاد الصين ١٧٩٢م لفتح طرق التجارة وتوثيق العلاقات، على رأسها لورد أمهيرست والفيسكونت لورد جورج مكارتني. (المترجم)
٢  للاطلاع على تفسير للمواقف الغربية تجاه الصين في القرن ١٩ انظر ماكيراس، ١٩٨٩م، الفصل ٤.
٣  طقس هندوسي قديم يقضي بدفن الزوجة أو حرق جثتها مع زوجها المتوفَّى علامة على الوفاء، وأن حياتها انتهت بنهايته. (المترجم)
٤  البعث الشرقي Oriental Renaissance: اقترنت الحضارة الغربية الصناعية الوليدة بكثير من مظاهر السخط والقلق والإحباط وخيبة الآمال والوعود وانهيار القيم التقليدية مع العديد من المظالم الاجتماعية. وتحرَّر كثير من مفكري القرن الثامن عشر من وهم الحرية والإخاء والرخاء. وبدأت تَرُوج ثقافات الشرق مع بحوث علماء الغرب ورحلاتهم إلى مختلف بلدان الشرق أقصاه وأدناه ممثَّلًا في حركة الاستشراق. وأُولى الفلسفات التي راجت فلسفة وحكمة الصين وفنونها وغير ذلك، ثم الهند والشرق الأدنى وبالي ونيبال … إلخ. وبلغ الافتتان بالشرق أوجه في العصر الرومانسي (١٧٩٠–١٨١٥م). وعكف الغرب على دراسة لغات الشرق وفنونه المقدسة وفك ألغاز اللغات القديمة وحضاراتها. وأدى هذا الاطلاع الواسع والدراسات المكثفة إلى ما يسمى البعث الشرقي، بمعنى إحياء فكر وفلسفات الشرق حسبما وردت في المخطوطات والمتون المقدسة المهددة بالنسيان والضياع وإخضاعها للدراسة العلمية. وأحدث ذلك أثره العميق الثقافي والفكري والاجتماعي والفني في كثيرين من مفكري الغرب، مثل شوبنهاور ونيتشه وغوته وإميرسون وغيرهم. (المترجم)
٥  للاطلاع على نقد لفكرة «البعث الشرقي» انظر برنال ١٩٨٧م، وسعيد في مقدمته لكتاب شواب ١٩٨٤م.
٦  مذهب فلسفي هندوسي يرى الواقع مبدأ واحدًا هو براهمان، والذي يعلِّم المؤمن أن هدفه هو تخطي حدود معرفة الذات والاتحاد مع براهمان، ويرتكز على الفيدا وهي الكتب الأربعة المقدسة. (المترجم)
٧  أدرك الرومانسيون كثرة الديانات والأساطير في الهند، ولكنهم لم يميزوا دائمًا بينها بوضوح. وعلى الرغم من ظهور إشارات كثيرة في الأدب تفيد الرجوع إلى الفيدا خلال هذه الفترة، إلا إن الاهتمام الرئيسي للفلاسفة انصب على تعاليم الأوبانيشاد، وبخاصة مدرسة الأدفَيتا فيدانتا عن الإثنينية في شانكارا.
٨  للاطلاع على رؤية كاملة عن إسهامات هولويل وداو، انظر مارشال ١٩٧٠م، ٤–٨، وشواب ١٩٨٤م، ١٤٩–١٥١.
٩  جماعة من الشعراء الإنجليز في مطلع القرن التاسع عشر اتخذوا لأنفسهم مكانًا في منطقة حول بحيرة أو ليك هي Lake district، لم يتبعوا مدرسة فكرية واحدة أو ممارسة واحدة، ولكنهم معًا يمثلون جزءًا من الحركة الرومانسية، ومن أشهرهم وليام وردزورث، وصمويل تايلور كولريدج. (المترجم)
١٠  أدونيس Adonais: مرثية للشاعر شيلي رثى فيها الشاعر جوني كيتس عام ١٨٢١م، وراجت باعتبارها أعظم أعمال شيلي، وهي مؤلفة من ٤٩٥ سطرًا. (المترجم)
١١  للاطلاع على مناقشة العلاقة بين البعث الشرقي والأدب الرومانسي الإنجليزي، انظر بيرس ١٩٦١م، ودرو ١٩٨٧م، وليسك ١٩٩٢م، وشواب ١٩٨٤م، ووينكس ورش ١٩٩٠م.
١٢  تنزع رؤية المحورية الغربية في تفسير الاجتماع البشري إلى اتخاذ التوراة — الكتاب المقدس — مرجعًا لتاريخ نشأة الأرض ونشأة البشر والاجتماع البشري ونشأة اللغة، اتساقًا مع ما تشير إليه قصة آدم وحواء في المصدر الأول لها وهو التوراة. وهذا ما لا نجده في ثقافات آسيا أو أمريكا الجنوبية كمثال. ولهذا يرد اسم إسرائيل هنا بمعنى المجتمع البشري الأقدم، وباعتبارها موطن النشأة الأولى للبشر واللغة. ويصدق الشيء نفسه، ولكن مع فارق القدسية والزمن، في الزعم بأن الإغريق هم أصل الجنس البشري المتميز بالعبقرية والقدرة الإبداعية وبناء الحضارة، وهم أصل نشأة الإنسان الأبيض — الجنس الأنجلوساكسوني. وحري ألا يغيب عن القارئ الانحياز العرقي الواضح في البناء اللغوي، أو الذي تفرضه اللغة تاريخيًّا على الرغم من أنه انحياز غير علمي لا يؤمن به المؤلف. (المترجم)
١٣  عن نزعة الاستشراق عند غوته انظر فريدينتال ١٩٦٥م، ٤٣٢–٤٤٥ و٥١٥.
١٤  للاطلاع على رؤية تفصيلية أكثر عن الاهتمامات الاستشراقية بين الفلاسفة الرومانسيين الألمان، انظر دومولين ١٩٨١م، هالبفاس ١٩٨٨م، هولان ١٩٧٩م، آير ١٩٦٥م، مارشال ١٩٧٠م، شواب ١٩٨٤م، ويلسون ١٩٦٤م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤