الفصل السابع
مناوشات فلسفية
«يمكن للفلسفة الغربية أن تتعلم (من الهند والصين) كيف تعيد استكشاف العلاقة
بالوجود، وتقييم احتمالات أغلقنا الباب دونها حين أصبحنا «غربيين»، ومن ثم ربما
نستطيع فتحها من جديد.»
الفلسفة الغربية والتراث الشرقي
اتسمت الفلسفة الأكاديمية خلال القرن العشرين بالبطء أحيانًا في الاستجابة لإغراء
الشرق. ويتذكر المرء أحيانًا عند بحث تاريخها الصورة التي حدَّثنا عنها شوانغ-تسو،
وهي صورة «الباحث الذي تيبس فكره» وضاق أفق عالمه ضيقًا شديدًا على نحو غير مألوف
وغطت عينيه غمامتان تحجبان الرؤية من حوله، ويصور هذا الوضع كتابٌ صدر حديثًا
يتناول موضوع «الفلسفة العالمية»، ويوضح أن الفلسفة «أصبحت ضيقة محدودة على نحو
مسرف، ومعزولة عن غيرها من المباحث العلمية، وغافلة في مجالات كثيرة عن ثقافتها هي
وثقافة الآخرين» (سولومون وهيغينز ١٩٩٣م، المقدمة). ونلحظ أن بعض التراث الفلسفي
الغربي إما أن يغفل تمامًا أي ذكر للفلسفة الشرقية أو يعرضها على نحو هامشي. مثال
ذلك أن الماركسية والوضعية وما عُرف عنهما من التزام بالميول العَلماوية والمناهضة
للميتافيزيقا كان حتمًا عليهما لهذا السبب أن يضعا بين قوسين مذاهب الفكر الشرقية
أسوة بالمذاهب الميتافيزيقية والدينية المعروفة في الماضي الأوروبي. وبدت الفلسفة
الشرقية من خلال هذا المنظور كأنها فلسفات تعكس اتجاهات غارقة في ظلمة الجهالة
لعصور ما قبل العلم، وتمثل عند الماركسية البنى الفوقية الأيديولوجية لمجتمعات ما
قبل البورجوازية التي، حتى إن ظلت باقية في صورة جيوب ثقافية معينة، تمثل عقليات
تنتمي في جوهرها إلى الماضي.
١ وتمثل عند فلاسفة الوضعية ما يزيد قليلًا على كونها مستودعًا لرؤًى
ملغزة قبل-علمية، ويتعين إسقاطها باعتبارها «غير ذات معنى»، شأنها شأن منتج
الميتافيزيقيات الغربية. وتبنت فلسفة اللغة نظرة أقل من الوضعية في نزعتها
الإقصائية لغيرها، وذلك فيما يتعلق بتحديد الموضوعات الصحيحة ذات الاهتمام الفلسفي.
ولكن بينما نجد المسائل الخاصة بالفهم المتبادل بين الثقافات أضيفت بعض الوقت إلى
الحوارات الفلسفية، وهو السياق الذي استلزم البدء في الانتباه بقدر من الجدية إلى
تراث الفكر الشرقي، إذا بفلاسفة هذه المدرسة يتخذون منحًى آخر يقضي بأن تُجرى
حواراتهم داخل صيغ وأساليب أوروبية خالصة.
٢ وأبدت فلسفة القارة اهتمامًا أرفع مستوًى بحيث قال غراهام باركيس:
«أخيرًا ظهرت البوادر الأولى للتحقق من أن تراث قارة أوروبا استحدث مصطلحات وأساليب
فلسفية تتميز بتناغمها مع كثير من أساليب الفكر الآسيوي، بدرجة تفوق ما هو حادث في
الفلسفة الأنجلو-أمريكية» (١٩٨٧م، ٦)، لكن مع وجود أسماء، مثل ياسبرز وهيدغر، شاهدة
على توافر نظرة أرحب في هذا المجال لا نزال نجد هنا ميلًا إلى التركيز على تراث
الفكر الغربي البحت وترك أمر الشرق للزملاء في الأقسام المتخصصة في الدراسات
الشرقية. ومضى هوسرل بعيدًا إلى حد ادعاء أن «أَوْرَبة كل الأطراف الأجنبية
للبشرية» هو قدر ومصير كوكب الأرض، وأن الفلسفة الغربية تعبير رُوحاني فريد في وسعه
أن يتضمن، لا أن يكون هو ضمن، تفكير الصين والهند (انظر هوسرل، ١٩٧٠م،
٢٧٣–٢٧٥).
وثمة أداة قياس جيدة لقياس مدى رحابة واتساع المواقف الفلسفية الغربية التي نراها
في كتب تاريخ الفلسفة وتاريخ الأفكار. نزعت كتب تاريخ الفلسفة المكتوبة في القرن
التاسع عشر إلى التركيز حصرًا على الفلسفة الأوروبية مقتدية بمنهج هيغل في معالجة
الشرق باعتباره أرض «الشروق» الذي يمثل التاريخ الباكر لرُوح العالم ولكنه ليس
جزءًا من إنجازه الفلسفي، ذلك أن هذا الإنجاز جاء في البداية على أيدي طاليس فقط.
ولكن بول ديوسين في كتابه «التاريخ العلمي للفلسفة» الذي بدأ عام ١٨٩٤م، كان
استثناء واضحًا في هذا الصدد، ذلك لأنه حاول التحلل مما اعتبره المؤلف النظرة
أحادية الجانب إلى الفلسفات الغربية.
٣ بَيْد أن الكثير من كتب التاريخ الصادرة في هذه الفترة اقتدت بهيغل
وأغفلت الفلسفة غير الأوروبية أو سواها. واعتادت تناولها باعتبارها السلف الأول
للتطورات الفلسفية التي بلغت ذروتها في أوروبا. وهكذا مثلًا نجد الفيلسوف الألماني
دبليو فندلباند في كتاب له واسع الانتشار والتأثير عن تاريخ الفلسفة صدر لأول مرة
عام ١٨٩٢م بعنوان «كتاب تعليم تاريخ الفلسفة»
Lehrbuch der
Geschichte der Philosophio يشير إلى الفكر الشرقي تحت عنوان
«ما قبل تاريخ الفلسفة»، واستبعده صراحة من كتابه التعليمي. وكذلك الحال بالنسبة
إلى إدوارد تسيلر في كتابه المهم عن الفلسفة الإغريقية، إذ أسهم به ليؤكد نهائيًّا
على الالتزام بنهج قائم على المحورية الأوروبية المحضة في تناول تاريخ الفلسفة،
وتجلَّى هذا واضحًا من خلال نظرته إلى هذا التاريخ باعتباره تاريخًا خاصًّا مميزًا
وهيلِّينستيًّا على نحو حصري من حيث الطبيعة والنشأة والأصل. ولنا أن نذكر أمثلة
لكتب صدرت في السنوات الأخيرة نذكر منها كتب تاريخ الفلسفة واسعة الانتشار من تأليف
دبليو كي سي غوثري وأنطوني فلو. ويعتبر كلاهما الفكر الشرقي «مختلفًا تمامًا عن
الفلسفة الغربية، ومن ثم لزم استبعاده من دراستيهما». وحري أن نضيف إلى أن نزعة
الاستبعاد هذه غير مقتصرة على الفلسفة وحدها، ذلك لأنه، كما يقول شاكيًا، المؤرخ
رايموند داوسون: «كم هو يسير أن نسجل في كتابات كثيرين من المؤرخين الأوروبيين
التزامهم دائمًا وأبدًا بالزعم القائل أن التاريخ محايث، أو مطابق، من حيث المدى
والنطاق للتراث التاريخي الأوروبي» (١٩٦٧م، ٨٠).
٤
ومع هذا، وعلى الرغم من هذه الصورة السلبية في مجملها، تضمنت الفلسفة الغربية في
القرن العشرين ما يؤكد الإدراك المتنامي للتراثات البديلة وللرغبة في تحقيق نوع ما
من «تلاحم الآفاق» (إذا استخدمنا عبارة غادامر) بين الشرق والغرب، وسنرى أن عددًا
من كبار الفلاسفة شرعوا في الاهتمام الجاد بالأفكار الشرقية، وأن يجري تفلسفهم داخل
منظور أرحب. مثال ذلك أنه ومنذ أوائل العقد الثاني حاول الفيلسوف الروسي ثي
ستشرباتسكي، وهو رائد فريق من الباحثين المستشرقين في روسيا بين عامي ١٩٢٠ و١٩٣٥م،
حاول بناء جسور بين البوذية والفلسفة الغربية. وقدم عملًا رائدًا أراد أن يوضح فيه
حدود المنطق الغربي وقيوده، وذلك أن عكف على إنجاز دراسة مقارنة شاملة وتفصيلية
لتراث المنطق البوذي. وحاول أثناء ذلك تقديم أول دراسة تحليلية كاملة عن البوذية
باعتبارها مذهبًا فلسفيًّا (انظر ستشرباتسكي، ١٨٦٦–١٩٤٢م)، ويُعتبر أول فيلسوف غربي
يأخذ على نحو جاد تفكير الفيلسوف الهندي ناغارجونا الذي صاغه وحلله في عبارات
الكانطية الجديدة.
٥ وثمة فيلسوف ألماني أبدى بالشرق اهتمامًا يتجاوز حدود الاهتمام العابر،
ألا وهو الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز. حاول ياسبرز في دراسة له بعنوان «الفلاسفة
العظام» أن يضع أفكار بوذا وكونفوشيوس ضمن إطار فلسفي كوكبي، مؤكدًا أنهما انبثقا
عن «الجذر المشترك» نفسه، ويتقاسمان بعضًا من «المسائل الخالدة» مع عظماء مفكري
الغرب، وأكد أيضًا «إننا لن نتبين جدارتهم كأصحاب تاريخ، ومن ثم نقرؤهم من خلال
التاريخية الشاملة للإنسانية» (١٩٦٢م، ١٣). وأضحت هذه النظرة الكوكبية عاملًا
مهيمنًا على تفكيره. لذلك نرى ياسبرز في كتابه «نشأة وغاية التاريخ» يؤكد أن «العصر
المحوري» في الألفية الأولى قبل الميلاد شهدت الميلاد المتزامن في كثير من الحضارات
المختلفة، في الشرق وفي الغرب، للتعالي الثقافي — أعني به صيغة للتفكير النقدي
التأملي الذي ارتبط ولأول مرة في تاريخ البشرية بالحقيقة الواقعة في شمولها.
وربما في سنوات أقرب كثيرًا يغدو من الممكن أن نرى الفلاسفة وقد تزايد إدراكهم
للحاجة إلى وضع هذا «الآخر» الشرقي موضع الاعتبار، حتى ولو كوسيلة لتوضيح
الاهتمامات الفلسفية المحلية وبناء مفاهيم جديدة عنها. وهكذا يكتب الفيلسوف الوجودي
الفرنسي ميرلو-بونتي ويقول: «يمكن للفلسفة الغربية أن تتعلم (من الهند والصين) كيف
تعيد استكشاف العلاقة بالوجود، وتقييم احتمالات أغلقنا الباب دونها حين أصبحنا
«غربيين»، ومن ثم ربما نستطيع فتحها من جديد» (١٩٦٤م، ١٣٩)، وثمة هدف مماثل خاص
بإعادة التقييم الذاتي عن طريق اتخاذ الفلسفة الشرقية منطلقًا للبحث والتأمل.
واقترح هذا النهج أحد المفسرين الرواد لتراث فلسفي مغاير تمامًا، والذي قال: «إن
تناول ضيق أفق التفكير الفلسفي شأنه شأن تناول كل أنواع ضيق أفق التفكير الأخرى
يفضي بنا إلى معرفة بدائل … وربما تتهيأ هنا سبل لكي يلقي المرء بنفسه، ولو مؤقتًا
على الأقل، في خضم أطر فلسفية مختلفة، من مثل الفكر الشرقي» (نوزيك، ١٩٨١م، ١٩).
وهناك فيلسوف أمريكي آخر من جيل أسبق وهو إي إيه بورت تميز باطلاع واسع غير عادي
على الفكر الهندي. يسأل بورت: «ما الذي يمكن أن تتعلمه الفلسفة الغربية من الهند؟»
ويجيب قائلًا: «يمكن أن تزودنا بمنظور حافز لنا ونتابع في ضوئه تفكيرنا الفلسفي.
ويمكن أن تهيئ لنا توجهًا أكثر شمولًا بحيث نفهم نوعية هذه الفلسفة» (بورت، ١٩٥٥م،
١٩٧ و٢١٠). ويقدم لنا الفيلسوف الإسرائيلي بن-آمي شارفستين مثالًا أقرب عهدًا لنا
لنهج من هذا النوع، إذ نراه ضمن مجموعة من الكتابات عن الفلسفة المقارنة يتهم
فلاسفة الغرب بما يسميه «الحسر الثقافي»
Cultural
Myopia أو ضعف التبصر الثقافي، زاعمًا أن «الفلسفة ليست مقتصرة
على الغرب». واستطرد إلى حد التعبير عن الأمل أن يتخذ هو ورفاقه المشاركون معه
«خطوة تتصف بالأصالة للتحرر من النزعة المحلية الضيقة ومد البصر إلى الأفق العالمي
إلى حيث توجد تراثات فلسفية مختلفة، واعتبارها متكافئة على قدم المساواة معًا وأنها
جميعًا تعبر عن الإنسانية الواحدة الشاملة لهم جميعًا» (شارفستين وآخرون، ١٩٧٨م، ١
و٥)، وطبيعي أن وجود المنطقة التي يتحدث منها تمثل ثقافيًّا وجغرافيًّا نقطة التقاء
بين الشرق والغرب، من شأنه أن يمثل قوة إضافية داعمة لهذا الرأي. وجدير بنا الإشارة
إلى أننا نشهد موجة مماثلة للتحول عن النزعة المحلية القائمة على المحورية الغربية،
وتتجلَّى هذه الموجة واضحة في أستراليشيا. وأُسست هذه الحركة عام ١٩٨٨م في صورة
«جمعية أستراليشيا للفلسفة المقارنة». وجاء تأسيسها نتيجة التنامي القوي للاهتمام
بالفكر الآسيوي بين جماعات فلسفية متمركزة حول أكسفورد ومقيمة في أستراليا ونيوزيلاند.
٦
بَيْد أن مارتن هيدغر هو الفيلسوف الأهم في القرن العشرين ممن لهم ارتباط بالشرق.
وكتب عنه فقيه الإلهيات جون كوب يقول: «لعله أهم مفكر أنجبه الغرب معني بالبوذية»
(١٩٨٠م، ١٩)، لكن اهتمام هيدغر بالفكر الآسيوي، الذي لازمه طوال حياته، ليس واضحًا
في كتاباته المنشورة حيث الإشارة إليه فيها قليلة متناثرة. ويقول غراهام باركيس في
ملاحظة له إن مثل هذا الاهتمام لن يكون مثيرًا للدهشة في ظاهره، إذ نجد تناغمًا
راسخًا بين تفكير هيدغر والفلسفات الشرقية، ثم إن قراءة كتابه «الوجود والزمان»،
وكذا أعماله الأخيرة، توضح لنا لماذا كان عليه أن يكتشف أن الطاويَّة وبوذية زِن
ملائمتان تمامًا (باركيس، ١٩٨٧م، ٩ و١٠٧). وأبدى هيدغر تشككًا متطرفًا إزاء التراث
المسيحي-الإغريقي الميتافيزيقي والقائم على المحورية اللغوية
Logocentric،
٧⋆
ويرى أن هذا التراث بلغ ذروته في أنماط التفكير الحديث العَلموي والتكنولوجي، علاوة
على ما اقترن به من ميول لإضفاء طابع حسابي وموضوعي على الأشياء. ورأى أن هذا
يدعونا إلى المقارنة بأنماط التفكير الشرقية، خصوصًا الصينية واليابانية منها. ومن
ثم لا غرابة إذ وجد هيدغر، شأن كثيرين من النقاد الآخرين للتراث الغربي، علاقة نسب
مع التفكير المغرق في التأمل والحدس في كل من الطاويَّة وبوذية زِن.
وتوجد بينة على أنه ومنذ ١٩٣٠م اطلع على أعمال الفيلسوف الطاوي شوانغ-تسو وأدرك
الصلة الوثيقة بين فلسفة تسو وفلسفته هو. وعندما اطلع في فترة تالية على كتابات
سوزوكي عن بوذية زن صاح في دهشة قائلًا: «إنني إذا كنت فهمت سوزوكي على حقيقته فإن
هذا عين ما كنت أحاول أن أقوله في كل كتاباتي» (الاقتباس من ستشراغ، ١٩٧٠م، ٢٩٥).
وقاده بحثه عن لغة مناسبة «نفكر في الوجود» من خلالها بعيدًا وعلى نحو مرحلي عن طرق
صياغة المفاهيم التي صاغتها لنا الأنماط اللسانية الأوروبية إلى أنماط غير تمثيلية
من النوع الذي تجده في المتون الفلسفية الآسيوية». وقضى حياته كلها في محاولة
لتحريرنا من سجن المقولات الفلسفية الغربية، ومن أجل الكشف عن الوجود في «صفائه
ونقائه». ودفعه هذا إلى التوجه نحو المفكرين التأمليين من أمثال لاوتسو وشوانغ-تسو.
لذلك فإن من الأمور المهمة ذات الدلالة أنه في عام ١٩٤٦م شرع هو وباحث صيني في
ترجمة كتاب طاو تي تشنغ، وعلى الرغم من أن هذا المشروع لم يكتمل إلا إنه مكنه،
حسبما قال تلميذه أوتو بوغيلر، من أن يقابل بين بدايات التفكير الغربي وبدايات تراث
عظيم من تراثات شرق آسيا. وهذا هو الذي حوَّل لغة هيدغر إلى وضع نقدي وأضفى على
تفكيره توجهًا جديدًا. (في باركيس، ١٩٨٧م، ٥٢). وظل موقفه من الحوار بين الشرق
والغرب منطويًا على ثنائية نقيضية لأنه ما فتئ يشدد على الجذور الأوروبية لتفكيره.
ويختلف هنا عن صديقه يومًا ما ياسبرز الذي دعا إلى رُوح واحدة تجمع بين الشرق
والغرب متجاوزة التاريخ. وذهب هيدغر إلى أن الفلسفة في جوهرها ظاهرة غربية وراوده
الشك في شأن إمكان الانخراط في حوار بين الشرق والغرب ما دام نمط التفكير الأوروبي
محتفظًا بدوره في الهيمنة الكوكبية. وأبدى أثناء مناقشة مع فيلسوف ياباني ملاحظة
مفادها أن لغة الحوار بين الشرق والغرب «حولت كل شيء إلى ما هو أوروبي»، وأن هيمنة
الأساليب الغربية على التفكير، كما هو حادث الآن، أدت إلى «أَوْرَبة الكوكب الأرضي
بكامله، وكذلك أَوْرَبة الإنسان» (هيدغر، ١٩٧١م، ٤، ١٥). بَيْد أنه، على الرغم من
هذا، تراه في مرحلة متأخرة من حياته يؤكد أنه «بدا ضروريًّا ضرورة ملحة المرة بعد
الأخرى أن نُجري حوارًا مع مفكري العالم الذين نعتبرهم العالم الشرقي» (من باركيس،
١٩٨٧م، ٧).
٨
الاستشراق في أمريكا
لكن أمريكا هي التي بلغ فيها تأثير الفكر الشرقي على الفلسفة الغربية أعظم درجاته،
٩ وازدهر هناك تراث من البحوث والدراسات والاهتمامات المعنية بالشرق،
وذلك داخل مدارس للفلسفة منذ أواخر القرن التاسع عشر وقتما ضمنت جامعة هارفارد لأول
مرة الفكر الهندي ضمن المقررات الدراسية الفلسفية، ولعل التأثير القوي للحركة
الترانسندنتالية، التي نشأت وتطورت محليًّا، على المُناخ الثقافي الأمريكي خلال هذه
الفترة يمكن أن يفسر لنا ذلك التأثير القوي. هذا فضلًا على ما بدا طبيعيًّا بالنسبة
إلى الفلسفة الأمريكية في جهودها من أجل تحرير نفسها من ماضيها الأوروبي، ومن ثم
حاجتها إلى تحويل أنظارها إلى التراثات غير الأوروبية. وها هو دالي رييب يحدثنا عن
تأثير الفلسفة الهندية في أمريكا، فيؤكد أنه منذ القرن التاسع عشر سادت أمريكا نزعة
التعددية الفكرية التي شجعت على الالتزام بنهج مقارن في الفلسفة. ومن ثم ساعد هذا
على مفارقة التراث الأوروبي المحض في التفكير (انظر رييب، ١٩٧٠م، المقدمة). وإن هذا
الاتجاه المتطلع أكثر إلى الخارج يتجلى واضحًا في كتب تاريخ الفلسفة الصادرة في
أمريكا. ونراه أكثر وضوحًا في كتاب ويل ديورانت، وهو من أكثر الكتب مبيعًا، وعنوانه
«قصة الفلسفة»، وصدرت طبعته الأولى عام ١٩٢٦م، وكذلك في كتاب «التاريخ العالمي
للفلسفة» تأليف جيه سي بلوت، وأيضًا في أعمال من مثل كتاب بول إدواردز
«إنسيكلوبيديا الفلسفة» و«قاموس تاريخ الأفكار». وخصصت هذه الأعمال مساحة أكبر من
أن توصف بالرمزية لعرض الفلسفات والأفكار الشرقية. علاوة على هذا صدرت في أمريكا
خلال هذا القرن العديد من كتب التاريخ المخصصة للفلسفة الشرقية نذكر منها «الفلسفة
الشرقية» تأليف إي غرانت الصادر عام ١٩٣٦م، و«قصة الفلسفة الشرقية» تأليف إل إيه
بيك الصادر قبل كتاب غرانت بثماني سنوات. ويشير بيك إلى أن «قيمة فكر آسيا تتأكد
أكثر فأكثر يومًا بعد يوم عند مفكري الغرب» (١٩٢٨م، المقدمة). ويستطرد ليؤكد ألا
تصادم بين قيم الشرق والغرب، بل إنها تتكامل، كما يؤكد أن التفاهم بين الأمم «هو
المطلب الأكثر حيوية في الوقت الحاضر»، إذ بفضله يمكن للبشر أن يحققوا الأخوة فيما
بينهم، وهي الهدف الذي نذر له كل معلمي الشرق والغرب حياتهم عن رغبة وطواعية
(المرجع نفسه، المقدمة). وطبيعي أن هذه المشاعر، وكما رأينا سابقًا، تمثل طابعًا
عامًّا لهذا النوع من الكتابة في القرن العشرين.
والحقيقة أن القصة تبدأ قبل ذلك بكثير. إذ كان جوزايا رويس (١٨٥٥–١٩١٦م) أول
فيلسوف أمريكي ذا قيمة بارزة أخذ الفلسفة الهندية على نحو جاد وأصبح قوة تنبيه مهمة
أثارت اهتمام الفلاسفة الأمريكيين بالفكر الآسيوي. واكتشف أن الفيدانتا تمثل دعمًا
مفيدًا لرؤية عن المثالية الواحدية. واستخدم الميتافيزيقا الهندية سلاحًا للهجوم ضد
الآراء الواقعية والإثنينية السائدة. هذا على الرغم من أنه بعد أن قرأ شوبنهاور
تحول اهتمامه إلى التعاليم البوذية عن الأخلاق. والجدير ذكره أيضًا أن وليام جيمس
(١٨٤٢–١٩١٠م) وهو زميل رويس في هارفارد، لم يكن مناصرًا بخاصة للفكر الهندي، لكنه
مع هذا قرأ الكثير من كتابات هذا الفكر وأشار مرارًا إليه في محاضراته وكتاباته.
ويقول رييب معلقًا على هذا: «يمكن القول عن جيمس إنه كان منجذبًا إلى الفكر الهندي
وصادًّا عنه في آن واحد» (١٩٧٠م، ٨١). وواضح أن تأكيده على التعددية وضعه في تناقض
مع الواحدية الميتافزيقية الهندية. كذلك فإن نظرته البراغماتية لم تهيئه مزاجيًّا
لقبول نزعة السكينة المفترضة في البوذية. بَيْد أن محاضراته الشهيرة في غيفورد
بعنوان «تنوع الخبرة الدينية» تكشف عن أن معرفته بالتراث الصوفي الشرقي مكنته من أن
يضع التراث الصوفي الغربي ضمن سياق كوكبي. وتمثل القصة التالية مؤشرًا ذا دلالة على
موقف جيمس وعقله المتفتح. وهذه قصة حضور فيلسوف بوذي من سِيلان يدعى أناغاريكا
دهارمابالا للاستماع إلى إحدى محاضراته في جامعة هارفارد عام ١٩٠٣م، إذ قال
البروفيسور جيمس للفيلسوف حين أبصره جالسًا في القاعة:
«خذ مكاني، فأنت أكثر مني استعدادًا وأهلية لكي تحاضر عن علم النفس».
وتحدث دهارمابالا عارضًا الملامح العامة للمذاهب البوذية الكبرى. وبعد أن
ختم كلمته توجه جيمس إلى قاعة الدرس وأعلن قائلًا: «هذا هو علم النفس الذي
سيدرسه كل امرئ على مدى خمسة وعشرين عامًا من الآن.»
وزار الهند أيضًا مرتين جيمس هوغتون وودز (١٨٦٤–١٩٣٥م)، تلميذ رويس الذي درس
الدين المقارن في أوروبا تحت إشراف ديوسن وماكس موللر. وألقى هوغتون محاضرات عن
الفلسفة الهندية عام ١٩١٤م، وقدم أول عمل أكاديمي مفصل وشامل في أمريكا عن الفلسفة
الهندية بعنوان «نظام اليوغا في بتانجالي». وثمة فيلسوف آخر من هارفارد ألقى
محاضرات عن الفلسفة الهندية، ونعني به دبليو إي هوكنغ (١٨٧٣–١٩٦٦م). والمعروف أن
هوكنغ في شبابه شارك في البرلمان الدولي للأديان المنعقد في شيكاغو. وعلى الرغم من
أنه اتخذ موقفًا ليس بعيدًا عن النقد للفيدانتا والبوذية، فإنه استخدم الفلسفة
والأفكار الدينية الشرقية وسيلة لإثبات نظراته ذات البصيرة النافذة. وكان داعية
شديد المراس من أجل توسيع نطاق وأفق الفلسفة الغربية عن طريق الدراسات المقارنة.
ونراه في خطابه الرئيسي الموجه إلى أول مؤتمر لفلاسفة الشرق والغرب المنعقد في
هاواي عام ١٩٣٩م يؤكد أن مثل هذه الدراسات من شأنها أن تثبت لنا «إلى أي حد عقول
البشر متماثلة في ظل جميع الظروف»، و«أن فيض المعارف الجديدة عن الفلسفة الشرقية
حري به أن يكون وسيلة قوية وفاعلة لكي نملك بقوة زمام مبادئ كونية وفاء لخيرنا» (من
مور، ١٩٤٦م، ٢ و٤).
ويُعتبر جورج سانتايانا (١٨٦٣–١٩٥٢م) الفيلسوف الأمريكي الذي أولى الفلسفة
الهندية خلال هذه الفترة أوثق وأشد اهتمام مباشر، ومن ثم كان «أهم متلقٍّ أصيلٍ
لجماع الفلسفة الهندية» (رييب، ١٩٧٠م، ١٠٧). ونعرف أنه درس الفلسفة في جامعة
هارفارد حيث كان على اتصال بكل من رويس وجيمس، وهنا ومع هؤلاء تجلَّى اهتمامه
بالفلسفة الهندية وبالبوذية. وتتمثل أهمية فلسفة فيدانتا الهندية في أنها هيأت له
الفرصة ليؤسس نقطة ارتكاز مرجعية خارج الفلسفة الغربية، والتي يستعين بها ليوضح
آراءه هو في الميتافيزيقا. وبدت البوذية واضحة بخاصة في كتاباته عن الأخلاق حيث
أراد أن ينشئ أخلاقًا بديلة عن المادية والعقلانية السائدتين في عصره، وصاغ ما سماه
«أخلاق ما بعد العقلانية التي كشفت نواقص النزعة الأنانية وأكدت بدلًا من ذلك على
قيم التوازن الباطني والتعاطف مع الآخرين». واعتقد أن البوذية من حيث هي مذهب قائم
على الفداء والخلاص تُعَد أسمى من المسيحية نظرًا إلى أنها تعمل على تهدئة
الانفعالات والإرادة بدلًا من إثارتهما، وتولِّد حالة من السلم والتحرر الباطنيين،
١٠ وحري أن نذكر أيضًا إرفينغ بابيت (١٨٦٥–١٩٣٣م)، وإن لم يكن فيلسوفًا
بالمعنى الدقيق للكلمة. إلا إنه أثر تأثيرًا واضحًا في المُناخ الفكري الأمريكي في
زمانه. ويذكره الباحثون خصوصًا بسبب حربه ضد نفوذ روسو والرومانسية. ولكن الشيء
الذي ينساه هؤلاء غالبًا أنه درس السنسكريتية في جامعة هارفارد، ثم نذر زمنًا
طويلًا من حياته لدراسة البوذية، وترجم نصًّا بوذيًّا من لغة بالي بعنوان الدهامابادا،
١١⋆
واعتمد اعتمادًا كبيرًا على التعاليم الهندية بُغْية إحكام صياغة مذهبه المسمى
«المذهب الإنساني الجديد»، وهو عبارة عن نظرة أخلاقية هدفها يماثل هدف سانتايانا،
وهو محاربة القيم الصناعية والنفعية في أيامه.
ويتجلَّى تميز الفلسفة الأمريكية مقابل التراث الشرقي واضحًا، خصوصًا فيما شهدته
أمريكا من ميلاد وحتى نضج ما يسمى «فكر السيرورة»، وهذه مدرسة فكرية قدمت فيها
الأفكار الشرقية، خصوصًا الأفكار البوذية دورًا مهمًّا. وتمثل فلسفة السيرورة
تحديًا مباشرًا لتراث محوري للفلسفة الغربية يعود بنا إلى أرسطو. والمعروف أن تراث
أرسطو ينبني على الاعتقاد بأن العالم المادي مكون من كيانات أساسية هي جواهر قائمة
أبدًا بمعنى أنها كيانات متمايزة ووجودها ممتدٌّ مع الزمان، ونرد إليها في نهاية
المطاف جميع الظواهر المعقدة. أما فلسفة السيرورة فهي على النقيض، إذ ترى أن
المكونات الأساسية التي يتألف منها الواقع هي أحداث أو عمليات/سيرورات. ومن ثم ننظر
إلى الواقع باعتباره أشبه بنهر دافق أبدًا، دينامي وفي حركة دءوبة، وبالتالي فإن
التغيرات التي ندركها ليست مجرد إعادة خلط وترتيب جسيمات هي جواهر ثابتة لا تتغير،
بل هي على نحو من الأنحاء خلاقة لما هو جديد جذريًّا، واستلهم هذا الفكر رؤيته من
هيراقليتس ومن الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، ويمثل أسلوبًا في التفكير ازدهر
أساسًا في أمريكا واقترن بأسماء مثل بيرس وجيمس وديوي، لكنه ارتبط بشكل جوهري بفكر
إيه إن وايتهيد وتشارلز هارتشورن. والجدير الإشارة إليه أن وايتهيد لم يدرس الفكر
الشرقي دراسة عميقة، بل ولم يتأثر به تأثرًا واضحًا ومهمًّا، لكنه اكتشف مصادفة وجه
القرابة بين تفكيره هو الميتافيزيقي وبين أشكال معينة من الفلسفة الشرقية، خاصة
البوذية ورؤيتها عن الوحدة العضوية واهتمامها البالغ بالتغير دون الجوهر الثابت.
١٢ هذا على عكس الحال بالنسبة إلى تشارلز هارتشورن الذي يُعتبر الشارح
الرئيسي لفلسفة السيرورة، إذ توافرت له فرصة الاطلاع الواسع على البوذية وكان
معنيًّا أكثر من وايتهيد بتحقيق تكامل بينها وبين تأملاته الخاصة. إذ اكتشف في
البوذية أسلوبًا في التفكير عن العالمَين المادي والذهني استبقت به من نواحٍ كثيرة
نهج فلسفة السيرورة. ومن ثم دعا إلى دراسة البوذية لتكون أداة تصحيح لأخطاء متوطنة
في الفلسفة الغربية الناجمة عن آرائها منذ البدء عن الجوهر. وكتب في هذا يقول:
«تؤلف الجواهر الثابتة في عالم حي حالة من الفوضى الأولية على نقيض كل من المنطق
والحياة. وهذه حقيقة يضعها في الاعتبار آلاف لا حصر لهم من البوذيين على مدى ألفي
عام. وحري بنا بعد طول المسيرة أن ننضم إلى ركب البوذيين من حيث إدراك أن الفرد
الثابت إنما هو مجتمع أو متتالية من المناسبات (المصطلح عن وايتهيد) وليس
جوهر-رُوح» (هارتشورن، ١٩٧٠م، ٨٧، ٨٨). وأعاد إن بي جاكوبسون صقل وتطوير الكثير من
هذه الأفكار. ويُعتبر جاكوبسون أحد الشارحين حديثي العهد لفلسفة السيرورة، إذ يرى
أن البوذية استبقت بأكثر من ألفي عام جهود سلسلة كاملة من فلاسفة الغرب — برغسون
وديوي وداروين وفاخنر وجيمس وهارتشورن ووايتهيد وبيرس، ذلك أنها سابقة عليهم في
تفسير وتحليل العالم في صورة أحداث من حيث الأشكال المتجانسة معًا الوليدة
والمبتكرة (جاكوبسون، ١٩٨١م، ٤٨).
١٣
النزعة العالمية
من المفيد، ونحن نناقش تطور الاتصالات الفلسفية مع الشرق خلال هذا القرن، أن نفكر
في سلسلة متوالية من ثلاث مراحل. ولنا أن نسمي هذه المراحل الثلاث «العالمية
والمقارنة والتأويلية» على التوالي. ولا تمثل هذه مراحل متمايزة ومنفصلة، ذلك لأنها
تتداخل إلى حدٍّ ما زمانيًّا ومفاهيميًّا. بَيْد أنها مع هذا تغدو تقسيمات ملائمة
توخيًا للتبسيط وفهم تطورات معقدة طرأت على الفكر الفلسفي خلال الفترة
الأخيرة.
ويمكن تعريف «العالمية» بأنها البحث عن فلسفة عالمية واحدة تجمع معًا وتؤلف ما
بين التراثات الفلسفية المختلفة للشرق والغرب. وهذا نهج له سلسلة نسب سابقة تمتد
حتى ليبنتس، وكثيرًا ما يرتبط بالبحث عما سماه ليبنتس نفسه «الفلسفة الدائمة»،
ويهدف إلى اكتشاف بعض الفروض الأساسية المشتركة بين التراثات المختلفة، ومن ثم نبني
عليها مذهبًا كوكبيًّا للفكر الذي من شأنه ليس فقط الجمع بين الفلاسفة والتوفيق
بينهم، بل وربما يسهم أيضًا في عقد نوع من المصالحة والتوفيق الثقافي والسياسي بين
الأمم. وهناك حتمًا صور مختلفة لهذه الرؤية تتراوح ما بين البحث عن مذهب فلسفي
كوكبي واحد ووحيد، وحتى صياغة منهج بحث من شأنه أن يمكن الفلسفات المختلفة من
التواصل معًا على نحو مثمر. بَيْد أنها جميعًا تشارك في الاعتقاد أن الفلسفة
الغربية ظلت طوال حياتها وحتى الآن محصورة في نطاق ضيق محدود داخل الحدود الأمريكية
الأوروبية. وتؤمن معًا كذلك بأن ثمة حاجة ملحة للخروج من هذا الحصار. ونلحظ أن هذه
الضرورة الملحة لم تنبثق وتصدر من داخل الفلسفة وحدها التي ترى أن مصلحتها ووضعها
الصحي يقتضيان الانطلاق إلى نطاق أوسع بكثير، بل إنها انبثقت أيضًا من خلال
المطالبات بنظام عالمي جديد، تحولت خلاله مواقع الحدود الثقافية القديمة؛ وأصبحت
الشعوب والأفكار تتداخل فيما بينها بشكل جديد وعلى جميع الأصعدة. ويرى البعض أن
المثل الأعلى لمجتمع عالمي يتجاوز كثيرًا حدود الضرورة الفلسفية. لذلك فإنه ضرورة
تاريخية ونتيجة حتمية للتقارب السياسي والاقتصادي والثقافي. ويقول أحد الفلاسفة في
هذا الصدد: «البشرية على أعتاب الدخول إلى مرحلة جديدة من التطور، مرحلة ذات بعد
أسمى وأرقى من الوعي حيث التمايز بين فلسفة شرقية وغربية، أمريكية وصينية سرعان ما
يصبح إرثًا من تراث الماضي» (ساهر، ١٩٦٩م، ٢٦١).
وإذا نظرنا من الناحية التاريخية والجغرافية إلى النزوع العالمي داخل إطار
الفلسفة نجد أن له مركزًا محددًا تمامًا يقع في مركز الشرق-الغرب بجهوده
الاستثنائية داخل جامعة هاواي. وتتمثل لحظة البداية الحقيقية في مؤتمر فلاسفة
الشرق-الغرب المنعقد في هونولولو عام ١٩٣٩م، ويُعتبر تشارلز مور القوة الدافعة وراء
هذا المشروع. وإذا كانت هذه النظرة العالمية قد اتسع نطاقها وانتشرت بوسائل عديدة
على مدى السنوات إلا إن الدافع الأولي انبثق عن إيمان مور الحماسي بالحاجة الماسة
إلى أن ينخرط فلاسفة من الشرق والغرب في حوار معًا، ومن ثم العمل على صياغة مركب أو
صيغة مشتركة من الشرق والغرب، بل وصياغة فلسفة عالمية. ونراه في تصديره لوقائع
المؤتمر الأول يتحدث بجرأة عن «بعث جديد». وقرر بوضوح لا مزيد عليه أن الهدف
الأساسي من المؤتمر هو «تحديد» إمكانية وضع فلسفة عالمية من خلال صيغة مشتركة تجمع
المثل العليا وأفكار الشرق والغرب. وأوضح أن الدافع وراء هذا الهدف هو حاجة الغرب
للالتزام ﺑ «منظور أوسع، منظور يمثل الشرق في داخله مصدر إلهام» (مور، ١٩٤٦م،
التصدير). وهنا، كما هي الحال في مواضع أخرى، نلحظ أن دوافع مور ليست أكاديمية
خالصة، بل يدفعه بوضوح التزام شخصي عميق إزاء ما سماه «نظام عالمي دولي وكوكبي
الثقافة حقًّا، حيث تلتئم فيه المفاهيم الأساسية المتباينة والقيم الناتجة عن
الثقافتين وقد اتحدتا في حضارة عالمية واحدة» (المرجع نفسه، ٢٣٤).
والتقط إف إس سي نورثروب بعضًا من رؤية مور الباكرة. ويُعتبر نورثروب أكثر فلاسفة
أمريكا تميزًا وتأثيرًا خلال فترة منتصف القرن، ومن ثم الأقدر على صياغة إطار نظري
للمقارنة بين الفكر الشرقي والفكر الغربي. وبدا له أن التفاهم العالمي الذي لم يكن
للأسف متوافرًا وقت انعقاد مؤتمر هاواي الأول، يستلزم فلسفة موحدة تحتوي على جميع
الفلسفات القائمة. وقدم في كتابه «لقاء الشرق والغرب» رؤية تفيد بأن ثمة فوارق
أساسية بين الشرق والغرب من حيث أساليب التفكير وهي مع ذلك يكمل بعضها بعضًا، ويمكن
التوفيق بينها عن طريق التحليل الفلسفي. ونظرًا لما يتميز به من حدة فلسفية أكثر من
مور، فقد أدرك حقيقة العثرات المنهجية التي تعيق محاولات الجمع بين الشرق والغرب
معًا. وأدركها على الأقل إلى الحد الذي أوضح له ضرورة صياغة إطار فلسفي يمكن أن
تبدأ من خلاله وفي ضوئه الدراسات المقارنة بين الشرق والغرب. وفي سعيه من أجل إنجاز
هدفه ميز بين مفهوم «الحدس» ومفهوم «الافتراض الأولي» أو «المسَلَّمة»، وطبقهما على
التفكير الشرقي والغربي على التوالي، مؤكدًا أن كل مفهوم يمثل وجهًا متكاملًا
ومكملًا لنظرة فلسفية جامعة. ويرتكز هذا النهج الجامع على فكرة أن وضع الفوارق في
وضع الأقطاب المتناقضة لن يصادف قبولًا كثيرًا اليوم. ويمثل تحليله للفوارق الشاملة
بين العقليات الشرقية والغربية وبأي المعايير نوعًا من التبسيط المخل الذي يحدث
تشوشًا لا مزيد عليه. وحظيت أفكاره بنقاش واسع النطاق وأسهمت كحافز قوي من أجل حوار
الشرق-الغرب. وينبني فكره على الاقتناع بأن تعزيز التفاهم العالمي يستلزم فلسفة
موحدة. واختتم مساهمته في مؤتمر ١٩٣٩م بإعلان مدوٍّ عن إيمانه، إذ يقول:
يبدو لي أنه مع التطورات المستقلة التي تجري في الشرق والغرب ستبدأ في
الظهور والتحدد فلسفة جديدة وأكثر شمولًا، وهذه الفلسفة الجديدة إذا ما
وسَّعت من آفاق نظرة وقيم كل طرف من أطراف العالم بحيث تتسع لنظرات وقيم
الطرف الآخر يمكن أن تصبح معيارًا موثوقًا به لتحديد الجيد الملائم لنظام
عالمي شامل حقًّا لدول العالم والرؤى العالمية، بحيث تتحد فيه المفاهيم
الأساسية المتباينة والقيم المترتبة عليها في كل من الثقافتين العظيمتين
وتؤلف جميعها حضارة عالمية واحدة ووحيدة.
وانعقد مؤتمر ثان لفلاسفة الشرق والغرب في هاواي عام ١٩٤٩م تحت عنوان «محاولة
للوصول إلى مركَّب أو جميعة فلسفية عالمية». ويعود مور ليؤكد ثانية في تقريره أن
«المشكلة العامة التي تواجه المؤتمر هي دراسة إمكان بناء فلسفة عالمية عن طريق
جميعة تضم الأفكار والمثل العليا عن الشرق والغرب. وأن هذه الجميعة مؤهلة، مع هذا،
لاستبعاد فكرة «فلسفة واحدة متجانسة على نحو صارم»، وذلك لمصلحة ما وصفه «وحدة
متناغمة» بحيث يمكن تحقيق التجانس بين مواضع الاهتمام والأطر المختلفة «في صورة
وجهات نظر متكاملة»» (مور، ١٩٤٩م، ٧٢٤)، لكن يبدو أن مزاج المؤتمر الثاني، وعلى
الرغم من عنوانه، تحوَّل بعيدًا عن فكرة بناء جميعة فلسفية عالمية شاملة واتجه إلى
تشجيع حوار مفتوح. وثمة ما يؤكد تنامي إدراك وجود مشكلات منهجية تحول دون إنجاز مثل
هذا المشروع القائم على نظرة عالمية.
وما فتئ موضوع النظرة العالمية والمثل الأعلى لنوع ما من الجمعية التي تؤالف بين
الشرق والغرب تجد من ينادي بها ويعبر عنها في مؤتمرات هاواي وفي صحيفة «فلسفة الشرق
والغرب» التي انبثقت عن هذه المؤتمرات. ظل المثل الأعلى قائمًا حيًّا، وإن اختلف
منهجيًّا إلى حد ما، ونجده يتردد في تفكير فلاسفة من أمثال دافيد ديلوورث الذي نادى
من أجل «خبرة تأويلية (هرمنيوطيقية) مقارنة جديدة لكي نتمكن من فهم وتقييم المتون
الرئيسية للفلسفة العالمية» (ديلوورث، ١٩٨٩م، ٦)، وحدد لنفسه هدفًا يتمثل في صوغ
«بنية تصنيفية عالمية» تكون شراكة بين المتون الفلسفية لمختلف الثقافات والتي
يمكنها أن توفر لنا «صورة واحدة مشتركة جامعة للنصوص» بحيث يتسنَّى لنا أن نجمع
النصوص الفلسفية العالمية الكبرى في «أفق رؤية واحدة» (المرجع نفسه، ٦، ٧)، ومع هذا
حدث تحوُّل تدريجي عن محور التأكيد والاهتمام، وذلك خلال السنوات التالية للحرب،
وانصرف الاهتمام عن بناء فلسفة كوكبية إلى أهداف أكثر تحديدًا تتمثل في عقد فلسفة
مقارنة. وتميز هذا التحوُّل خلال السنوات الأخيرة بتعاظم مشاعر النفور تجاه
«السرديات الكبرى» ونقد الأهداف «التأسيسية» التي أصبحت مقترنة بالمسلمات الكلية
لفلسفة التنوير الأوروبية. وتبدو النظرة الكلية، بغض النظر عن الاعتبارات الفلسفية
المحضة، وكأنها تحمل وصمة المحورية الأوروبية، التي تزداد وضوحًا أكثر فأكثر ونحن
نعيش عصر التأمل الأيديولوجي لمراجعة الذات. وتبدو كذلك استطرادًا لسلطة الفكر
الغربي حتى بعد أن فقدت هذه السلطة المساندة الإمبريالية لها. ووصل الأمر إلى حدِّ
أن مور غير موقفه هو نفسه منذ انعقاد مؤتمر فلاسفة الشرق والغرب لعام ١٩٦٤م، حيث
حدد أهداف المؤتمر أنها دراسة ومحاولة التغلب على سوء الفهم والتناقضات وثيقة الصلة
والمشتركة بين الشرق والغرب. وتحدث في ملاحظاته الختامية بعبارات شديدة التواضع عن
الحاجة إلى «فهم متبادل أفضل» وإلى نظرة فلسفية تنأى بنفسها عن الفكر المحلي ضيق
الأفق وعن النزعات القومية (مور، ١٩٦٨م، ٦ و٥٤٨).
١٥
الفلسفة المقارنة
على الرغم من أن فكرة تأسيس مقارنات بين الفكرين الشرقي والغربي كانت قوة دافعة
فعالة حافزة للدراسات الاستشراقية منذ القرن السابع عشر فإن مبحث دراسة الفلسفة
المقارنة لم تكتمل صياغته صراحة إلا في عشرينيات القرن العشرين على يد الفيلسوف
الفرنسي بول ماسون-أورسل (١٨٨٢–١٩٥٦م).
١٦ ونراه في كتابه «الفلسفة المقارنة»، الذي أصبح نصًّا مؤثرًا في فرنسا
خلال فترة ما بين الحربين، يتتبع من كثَب أهداف وضعية كونت، زاعمًا أن المنهج
المقارن سيصبح الشرط الذي لا غنى عنه لتطوير فلسفة علمية حقيقية. ويعني هذا في
المحل الأول التعامل مع التراثات الفلسفية للحضارات باعتبارها جميعًا على قدم
المساواة. ويبرر هذا بقوله: «ليس لأي فلسفة الحق وحدها أن تتصدر ما عداها باعتبارها
محايِثة للعقل البشري، ومن ثم شاملة لكل قضاياه، لذلك فإن الفلسفة لن تبلغ درجة
الإيجابية الموضوعية ما دامت بحوثها مقتصرة على فكر حضارتنا نحن» (ماسون-أورسل،
١٩٢٦م، ٣٥ و٣٣). ويعني أيضًا الإقرار بأن فلسفات الحضارات المختلفة عبرت عن عقليات
مختلفة، ومن ثم لا يمكن فهمها على نحو نقي لا تشوبه شائبة تأسيسًا على المقولات
الأوروبية. والجدير ذكره أنه استقى هذه النظرة من معلمه لوسيان ليفي-بريل، وهي
النظرة التي قادته إلى الاعتقاد بأن المقارنات تكون أهم قيمةً كلما تعاظمت الفوارق
بين التراثات موضوع البحث. ودعا إلى الكشف عن مظانِّ التناظر والتباين وعقد مقارنات
بين الرؤى الفلسفية النافذة والتقنيات المميزة للتراثات العظمى لكل من أوروبا
والصين والهند. وعقد الأمل على أن يفضي بنا هذا إلى بيان أن الفلسفة المقارنة لا بد
أن تقودنا في النهاية إلى فهم «لوحدة العقل البشري مع كثرة أوجه هذه الوحدة». وذهب
ماسون-أورسل إلى أن هذا المشروع «كفيل بأن يحقق تقدمًا لا حدود له» (المرجع نفسه،
٢٠٠ و٢٠٣).
لكن، وكما هي الحال في بحث سي إيه مور عن فلسفة عالمية شاملة، فإن مثل هذه المهام
الطموحة التماسًا للفلسفة المقارنة أصبحت بمرور السنين وعلى نحو مرحلي أكثر
اعتدالًا وانتشارًا. ومثلما أن الفلسفة بعامة تراجعت أكثر فأكثر عن ادعاءاتها من
أجل هيمنة فكرية كوكبية، والتزمت دورًا أكثر نقديةً وتكميليًّا، كذلك كانت حالها
بالنسبة إلى علاقتها مع الفكر الشرقي، إذ طامنت من خططها الكبرى السابقة وقنعت
بتبني موقف أكثر تواضعًا بكثير. واكتفت هنا بالتعامل مع المفاهيم المفردة أو مع
المفكرين كلٍّ على حدة، وبذل الجهد ابتغاء إنجاز أهداف محددة بدقة وإحكام. ويعني
هذا التأكيد على أنشطة من مثل المقارنة بين فلاسفة أفراد، كأن تعقد مقارنة بين
كونفوشيوس وأرسطو، أو منشيوس وتوما الأكويني، أو شانكارا وسبينوزا أو كانط أو
برادلي، وكذا بين ناغارجونا ونيتشه أو هيدغر أو دريدا أو دوغين وهيدغر، ويعني كذلك
عقد مقارنات بين المذاهب الفكرية الشرقية والغربية من مثل أدفَيتا فيدانتا مع
المثالية المتعالية «الترانسندنتالية»، وسبينوزا مع بوذية الماهايانا، والأفلوطينية
والوجودية. واتجهت الدراسات من هذا النوع إلى التركيز أكثر فأكثر على مفاهيم وأفكار
محددة من مثل الذات والسببية والشك، وعلى قضايا مرتبطة بنظرية المعرفة وفلسفة العقل
والأخلاق. ومع هذا لا يزال هناك ميل بين المشاركين في هذا المضمار من أجل تصور أن
هذه الأهداف المحدودة لها أهمية اجتماعية وتاريخية أوسع نطاقًا بكثير. ويؤمن كثيرون
من المشاركين في هذا الجهد بالرأي القائل إن الفلسفة المقارنة في وسعها أن تهيئ
لفلاسفة الغرب إمكان إعادة التفكير في مسلَّماتهم حين يضعونها ضمن سياق أوسع. مثال
ذلك أن ستيفن كولينز في دراسته عن مذهب اللانفس البوذي
self-no يقترح أن ندرس القضايا الفلسفية الخاصة
بالذاتية الفردية من منظور متداخل الثقافات، إذ بذلك يصبح بالإمكان أن نوسع قليلًا
من آفاقنا الثقافية التي حدد في ضوئها كل من حسنا المشترك وفلسفاتنا أفكارهم عن
الشخص وعن الذاتية الفردية (١٩٨٢م، ٣). ويمضي آخرون شوطًا أبعد من ذلك. مثال ذلك
بن-آمي شارفستين يؤكد، كما رأينا سابقًا، أن الفلسفة من خلال الدراسات المقارنة
يمكنها التحرر من النظرة المحلية الضيقة، وتهيئ إمكان التعبير عن المثل الأعلى
«لإنسانية واحدة» (١٩٧٥م، ٥). وها هو تروي ويلسون أورغان يحدِّثنا بعبارة تنطوي على
قدر من التشاؤم ويقول: إذا كان الحافز الأصلي للفلسفة المقارنة هو الفضول الفكري
فإن حافزنا الآن هو البقاء، وأننا «بحاجة إلى النظر فيما وراء الغرب من أجل العلاج»
(١٩٧٥م، ٧).
١٧
وقد يكون من المفيد، لكي نوضح نهج المقارنة، أن نلقي نظرة عجلى على فيض الأمثلة.
أولًا: المقارنة التي عقدها كريس غودمونسين بين البوذية وفتغنشتين. إنه كفيلسوف
يؤمن بالمنهج التحليلي، وبحكم تمرسه ومهنته اتجه بدافع من اهتمام شخصي إلى البوذية
إيمانًا منه بأن بناء مركَّبٍ أو جميعةٍ من الاثنين يهيئ إمكانات فلسفية مهمة. ورأى
أن هذه الإمكانات ستكون عن يقين مصدر تنويرٍ لطرفي المعادلة على الرغم من الفوارق
التاريخية بين الاثنين. واستهل دراسته بأنه أنكر إمكان أي تأثير تاريخي للبوذية على
فتغنشتين. وهذا رأي خاضع للبحث والتدقيق عدة مرات بسبب إعجاب فتغنشتين بشوبنهاور،
لكنه رفض في الوقت نفسه رأي إدوارد كونز، وهو رأي غير توفيقي ويرى أن التوازيات بين
الفكر الشرقي والغربي مسألة زائفة. ونراه في اتساق مع ماسون-أورسل يؤكد أن فارق
السياق والخلفية هو ذاته «الذي يجعل الأمر كله شديد الأهمية» (غودمونسين، ١٩٧٧م،
المقدمة). وتحتل بؤرة اهتمامه بخاصة فلسفة مادهياماكا
١٨⋆ أو
فلسفة الطريق الوسطي للفيلسوف ناغارجونا. ويعتقد أن هذه الفلسفة استبقت بحوالي ١٨٥٠
عامًا «الكثير جدًّا» مما قاله فتغنشتين (١٩٧٧م، ١١٣). وهكذا يرى غودمونسين أن
فلسفة مادهياماكا معنية في الجوهر باللغة، وتبحث، مثلما هي حال تفكير فتغنشتين، عن
سبل تحريرنا من الخيالات النحوية التي نقع في شَرَكها. ويذهب الاثنان إلى أن
المعاني التي تنقلها اللغة لا تقودنا إلى جوهر الأشياء بل هي فقط مواضعات واتفاقات،
ألعاب لغوية بُنيت اجتماعيًّا نخلقها نحن وتضللنا بدفعنا إلى خيالات، كأن نتخيل على
سبيل المثال أن العقل أو الذات كيان واقعي ثابت أبدًا. لذلك فإن هدف الاثنين ليس
نقل الحقائق عن العالم بل تحريرنا من حالات الاستحواذ المرضية التي نثبت معها من
دون تغيير، ومن ثم تهيئ لنا نوعًا من العلاج للشفاء من أمراض اللغة. وإن الشيء
المهم بخاصة فيما يتعلق بمجمل نهج غودمونسين أنه يوضح لنا السبيل الذي يمكن من
خلاله «للهرمنيوطيقا»، أو التأويل البوذي، أن يحل محل فيلسوف غربي حديث من خلال
منظور جديد متطور. ثم إنه، علاوة على هذا، يلقي ضوءًا على طريقة بناء وتجديد
البوذية ذاتها أثناء مرورها عبر صمام الاختزال المعني بتغيير الاهتمامات الفلسفية
الغربية. وذلك لأن القضية التي يؤكدها هي أن الإنجاز الذي حققه فتغنشتين في تحول
مسار فلسفة اللغة يهيئ الأساس لتأويل جديد للبوذية. وإن هذا التأويل سيحل محل
أساليب التناول الكانطية والمثالية التي هيمنت على التفكير الغربي بشأن الفلسفة
الهندية في مجملها منذ العصر الرومانسي.
١٩
ويتردد صدى نهج غودمونسين خلال السنوات الأخيرة في عدد من الدراسات المقارنة
الأخرى، خاصة ما يتعلق منها بفلسفة نيتشه الذي لا يزال هو المفكر الغربي الآخر الذي
انعقدت مقارنات بين فكره والبوذية. وتوضح الحالة السابقة أن الفيلسوف ناغارجونا هو
الشريك المفضل. إنه في الحقيقة مفكر انعقدت حوله مرات ومرات خلال السنوات الأخيرة
دراسات مقارنة. ويرى أعضاء شبكة الخطاب التفكيكي أن نيتشه نفسه هو السلف الأول. وأن
الشيء الذي ثبت أنه في حاجة إلى اهتمام خاص فيما يتعلق بهذا المفكر الهندي، فيلسوف
القرنين الثاني والثالث، هو طريقة النظر إليه باعتبار أنه يركز على عوامل الالتباس
والغموض المتأصلة في اللغة واستخدمها ليؤكد منظورًا نقديًّا عامًّا. وغنيٌّ عن
البيان أن هذا مشروع يحمل ما هو أكثر من مجرد تشابه عابر مع نقد نيتشه لأساليب
التفكير الغربي التقليدية. ولهذا يدفع غلين تي مارتن على سبيل المثال إلى
أن:
التحليل الجدلي عند ناغارجونا للمقولات المشتركة التي يفهم الناس من
خلالها الوجود يحمل دلالات راديكالية. ونلحظ أنها تناظر إلى حد ما تحليلات
فلسفة نيتشه التي تفضي فيها العملية التفكيكية في نهاية المطاف إلى التحقق
من أن كلًّا من الوجود اليومي والمقولات التي نفهم بها هذا الوجود تنطوي
على تناقض ذاتي وعدم اتساق.
وسرعان ما أوضح مارتن أن كتابات ناغارجونا صادرة عن خلفية تاريخية مختلفة تمامًا،
وتحمل في ظاهرها أغراضًا مختلفة للغاية. إذ بينما هدف نيتشه التأمل والحث على تحويل
الثقافة الأوروبية في عصر العدمية الوليدة، فإن هدف ناغارجونا هو الانعتاق من أسر
المعاناة الناجمة عن تشوه فهمنا. ومع هذا فإن منهج ناغارجونا معني بالمثل بما وصفه
مارتن بالتفكيك الجدلي للمقولات المحورية التي تغوينا من خلال اللغة لقبول ما تقدمه
لنا من «بِنى الفكر» في صورة حقائق (المرجع نفسه، ص٩٩-١٠٠). ويلتقي المؤلفان من حيث
موضوع الاهتمام العميق بالإنسانية. ذلك أن ناغارجونا ونيتشه، كما يوضح مارتن،
كلاهما متورط في مشكلة التحرر من العبودية. علاوة على هذا فإن القوة الحافزة للنهج
النقدي عند كل من ناغارجونا ونيتشه ليست نوعًا من الشك المناهض للدين، بل «فتح
الأبواب على مصراعيها لإمكانات إبداعية لم نسمع عنها من قبل، ولكنها كامنة داخل
الموقف الإنساني» (المرجع نفسه، ١٠٩). وهذه فكرة سوف نعود إليها في الفصل الأخير.
وثمة اعتبارات مماثلة نلحظها تظاهر مقارنات أبعد احتمالًا بين نيتشه والطاويَّة.
تبدو الطاويَّة للوهلة الأولى شديدة الإلغاز والغرابة بحيث لا يمكن تصور أي علاقة
ذات فائدة يمكن أن تنشأ بينها وبين نيتشه، لكن الطاويَّة، مع هذا، تؤكد ما هو
تقليدي ومتواضَع عليه، ومن ثم مضلل، فيما يتعلق بطبيعة اللغة. وتؤكد كذلك ضرورة
العودة إلى علاقة أوثق وأكثر مباشرة مع الطبيعة. ونجد لهذا كله أصداءه في تفكير
نيتشه. ويقول في هذا الصدد الفيلسوف الصيني تشن غوينغ: «نجد عند كل من نيتشه
والفيلسوف الطاوي شوانغ-تسو شذوذًا عميقًا وفردية صارمة يقودان كلًّا منهما إلى أن
يكونا ناقدَين شديدَي القسوة للتراث التاريخي عند كل منهما والقيم التي ورِثاها»
(انظر باركيس، ١٩٩١م، ١١٥، ٢٩). ويمثل مفهوم الفردية المحور أيضًا في مقارنة عقدها
روجر أميس. يقول: «ليس عسيرًا ملاحظة تناغم بين إرادة القوة عند نيتشه … والفكرة
الكلاسيكية الصينية عن الواقع العملي أو «دو»» (المرجع نفسه، ١٤٦). إن الأرضية
المشتركة هي فكرة التحوُّل الذاتي مع كل من إرادة القوة و«دو»، كلاهما يشير إلى مثل
أعلى أسمى للتثقيف الذاتي والانتصار على التراث.
وطبيعي أن الدراسات المقارنة من هذا النوع تصدر بدافع حوافز متباينة، وتجد لها
مكانًا في خطط فلسفية متنوعة، لكن الشيء الجدير بالملاحظة في الكثير من مثل هذه
الحالات أن معالجة الفكر الشرقي لم تكن مجرد معالجة لاكتشاف جديد مهم مثل اكتشاف
مفكر غربي غير مشهور، بل جاءت المعالجة كأنها تأمل في التراث الغربي ذاته. ويوضح
هذا غراهام باركيس في معرض الحديث عن نيتشه، إذ يقول: «تركز مثل هذه الدراسات
تحديدًا على قضية تتعلق بنهاية التراث الميتافيزيقي الغربي. وهذه قضية ارتبط بها كل
من فتغنشتين وهيدغر وكذا نيتشه. وإن مسألة محاولة نيتشه تحرير نفسه من التراث
الميتافيزيقي الغربي كان يمكن أن تحظى بتركيز أكبر لو أوضحنا أن فكره متطابق مع طرق
تفكير … منبثقة عن تراث غريب تمامًا» (١٩٩١م، ١٥).
النهج «الهرمنيوطيقي» التأويلي
النهج التأويلي «الهرمنيوطيقي» الذي سميته المرحلة الثالثة في الحوار الفلسفي بين
الشرق-الغرب، انبثق عن النهج المقارن ويرتبط به من نواحٍ كثيرة ارتباطًا وثيقًا.
إنه مثل النهج الآخر يحاول تأسيس علاقة بين الأفكار والحركات الشرقية والغربية،
بَيْد أنه يتجاوز الأهداف الباكرة للدراسات المقارنة وذلك بالبحث بصراحة أكبر عن
وسيلة لجذب الشرق في مضمار الدراسة الفلسفية، وتطوير موقف أكثر انعكاسًا على الذات
وأكثر نقدًا لها. ومن ثم عمل على دفع هذه الدراسات للمشاركة في الحوارات المعاصرة
بشأن اللغة وحدود الخطاب الفلسفي. وهكذا بينما تراه من ناحية يستلزم الوعي بالفوارق
الثقافية والتاريخية، يشجع في الآن نفسه على احتواء الفكر الشرقي داخل فلك الجدل
الفلسفي الراهن سعيًا قدر المستطاع لمعالجته باعتباره جزءًا مما سماه ريتشارد رورتي
«مداولات البشرية»، بدلًا من اعتباره «الآخر» الغريب. إذ إن هذا الأخير يستلزم قفزة
فكرية تتسم بقوة خاصة للتلاقي.
وتكشف الملاحظة التالية التي قالها إليوت ديوتش عن بعض قوة هذا النهج
الهرمنيوطيقي:
نحن على استعداد للسعي من أجل أهداف جديدة في مجال الفلسفة المقارنة، وأن
نضع الفلسفة المقارنة في خضم التيار الرئيسي للفكر الإبداعي — الشرق والغرب
… حري بالطلاب الدارسين أن تتهيأ لهم القدرة على دراسة الفكر الآسيوي لغرض
محدد وهو إثراء خلفياتهم الفلسفية وتمكينهم من التعامل على نحو أفضل مع
المشكلات التي تهمهم.
وكان حتمًا أن تثير الدراسات المقارنة قضايا صعبة ومثيرة للاهتمام عن طبيعة وصواب
عملية المقارنة ذاتها. ونجد في السنوات الأخيرة أن هذا النوع من التفكير الانعكاسي
على الذات وفق نهج تأويلي «هرمنيوطيقي» أصبح مَعلمًا مميزًا للدراسات الجامعة بين
الشرق والغرب، مما دعانا، عن يقين، إلى أن نعزوها إلى مرحلة جديدة متمايزة. وإذا
كان المنهج المقارن تميز بأنه يفترض مقدمًا متوازيات ويصوغ تناظرات بين تراثات
متباينة فإن النهج الهرمنيوطيقي يتجاوز حدود مثل هذه المقارنات، وذلك بأن يتناولها
بأسلوب النقد الذاتي باعتبار هذا مكملًا ومتحدًا مع المهمة الأصلية للفلسفة ثم
يتأمل في الآن نفسه النسبية التاريخية لمثل هذه العملية. ويتضمن هذا أحيانًا توسط
المفاهيم الفلسفية الغربية في ثنايا الأفكار الشرقية وليس العكس كما هي الحال تقليديًّا.
٢٠ ويتضمن كذلك الإقرار بالتنوع والآخَرية والاختلاف، ولكن دون فصل الشرق
والغرب والتمييز بينهما كلٌّ داخل نطاق خاص به موضوعيًّا وغير قياسي. ولهذا فإن
تروي ويلسون أورغان بعد أن نبذ النهج الكلي باعتباره «وليمة فكرية متنوعة»
و«تلفيقية مرضية» (١٩٨٧م، ٧)، نراه يزعم أن ما نحن بحاجة إليه:
ليس عالم فلسفة واحدة، بل عالم يقدر التنوع، عالم نجد فيه الفلاسفة من
أبناء كل ثقافة عارفين ومقدرين للفلسفات الأخرى. عالم تحدوه الرغبة
والإرادة لاحترام وفهم، وأحيانًا استيعاب، أساليب التفكير والعمل عند
الشعوب الأخرى.
وإذا عرضنا للموضوع من زاوية الطرف الشرقي، فإن جانغ لونغشي في كتابه «الطاو
واللوغوس» يرى أن تبرير الحوار بين الثقافات «يتمثل في عالمية الظاهرة
الهرمنيوطيقية»، ويستطرد ليؤكد أن:
«حين تعرض لي نصوص وأفكار ليس بينها علاقة تاريخية أحاول الكشف عن أرضية
مشتركة يمكن أن نفهم على هديها الآداب الصينية والغربية باعتبارها متكافئة
ومتساوقة. هذا على الرغم من اختلاف السياق الثقافي والتاريخي لكلٍّ. وإن
الهدف الأخير لمثل هذه المقارنات هو التعالي على الحدود والقيود التي
يفرضها منظور ضيق الأفق، ومن ثم توسيع أفق رؤيتنا باستيعاب كل ما يمكن مما
يبدو لنا غريبًا ينتمي إلى الآخر.»
ومهمة النهج الهرمنيوطيقي الجديد إزاء التفلسف المقارن، كما يراها جيرالد لارسون،
هي «التخلي عن التحدث إلى طرف … من أجل التحدث مع الطرف الآخر» (لارسون وديوتش،
١٩٨٨م، ١٨). معنى هذا عند أحد المستويات زيادة انخراط ومشاركة العلماء الآسيويين في
هذا المشروع، وزيادة عدد فرص المواجهة والاطلاع الواسع التي يعمل خلالها فلاسفة من
الشرق والغرب في تعاون مشترك. ويعني على مستوى آخر انتشار الدراسات الفلسفية التي
يشارك فيها الفلاسفة الغربيون مباشرة مع المفكرين والحركات في الشرق. وانطلاقًا من
هذه الرُّوح، يدرس الفيلسوف البريطاني راي بيلينغتون عددًا معينًا من المسائل
الوجودية الأساسية التي أمكن خلالها إلقاء الضوء على القضايا موضوع البحث عند نقط
اتصال مختلفة بالرجوع إلى الفلسفات الشرقية. ولكنه يتجنب أي محاولة لعمل مقارنات
مذهبية. ويعتقد، شأن مفكرين آخرين عرضنا لهم في هذا الفصل، أن «الفلسفة الغربية غير
مكتملة من دون نظيرتها الشرقية». ويدفع بأن إنجاز «منظور أُنطولوجي شامل» يستلزم
مشاركة أفكار شرقية من مثل أفكار البوذية والطاويَّة لتكون على علاقة وثيقة بلغة
الوجودية الأكثر ألفة (بيلينغتون، ١٩٩٠م، المقدمة و٢١٠).
٢١
ويثير نهج بيلينغتون ضمنًا تساؤلًا بشأن التمييز بين الفلسفة الشرقية والغربية.
وإذ يحدث هذا يواجه مواقف أساسية مألوفة دائمًا في تراثات فلسفة الغرب. حقًّا إن
أعدادًا متزايدة من الكتَّاب في هذا المضمار يصورون الدراسات المقارنة بين
الشرق-الغرب على أنها تحدٍّ للدعاوى الأساسية المألوفة في الفلسفة، وأنها جزء من
عملية تغير واسعة حيث تتوارى البرامج المحدودة للفلسفة التحليلية وتفسح مجالًا
لموقف أكثر شمولًا يتضمن، من بين أمور أخرى، فلسفة القارة الأوروبية والحركة
النسوية، ونقد ما بعد المودرنزم. ويتجلى هذا الاتجاه واضحًا في كتاب مهم صدر حديثًا
بعنوان «التفكير من خلال كونفوشيوس»، تأليف دافيد هول وروجر أميس. يحاول الكاتبان
هنا صياغة فكرة «مجتمع هرمنيوطيقي واحد يفيد كسياق لحوار فلسفي دائم» (١٩٨٧م، ٥).
ويتجاوز هدفهما مجرد إعادة صياغة فهم طبيعة التفكير: «نحن نؤمن بأننا حين نفكر من
خلال كونفوشيوس سيكون بمقدورنا تقديم إسهام للحوار الدائر الآن بشأن تحديد محور
التفكير الفلسفي» (المرجع نفسه، ٩). ويوضحان أنهما خلال سعيهما لتقديم رؤية «أصدق»
عن كونفوشيوس فإنهما تخليا عن بعض التشوهات الغربية النمطية، وأن هدفهما الرئيسي هو
تأكيد الرؤية وثيقة الصلة التي ترى كونفوشيوس مشاركًا محتملًا في المحادثات
الفلسفية الراهنة (المرجع نفسه، ٦). ويحرصان على تأكيد الفوارق قدر حرصهما على
تأكيد أوجه التشابه في دراستهما. والحقيقة أن هذه الاختلافات هي ذاتها التي تيسر،
حسب رأيهما، المشاركة الهرمنيوطيقية.
٢٢
وفيما يتعلق بمسائل أكثر تحديدًا، دارت مناقشات بشأن قضايا النفس والعقل والوعي
وإثنينية العقل-الجسد والانفعالات. وتقدم هذه المناقشات أمثلة جيدة عن هذا النهج
الهرمنيوطيقي. ونلحظ أن الحوارات الفلسفية الغربية المتعلقة بهذه القضايا تعتمد
أكثر فأكثر باطراد على التراث الشرقي من دون الاشتراك بالضرورة في مقارنات منهجية
منظمة، ومن دون التسليم مقدمًا بأي اختلافات جوهرية — أو تطابقات في الحقيقة — بين
التراثات المختلفة. وخير مثال على هذا مسألة المكانة الأنطولوجية للنفس أو الذات.
وهذه قضية شغلت بطبيعة الحال محور اهتمام الفلاسفة في الغرب منذ ديكارت. ونجد عددًا
من المفكرين استهواه مذهب اللانفس البوذي عند محاولة إلقاء الضوء على القضية.
وحقيقة الأمر أن جاكوبسون كما سبق أن أشرنا في الفصل الثالث من هذا الكتاب حاول
إثبات أن نظرية دافيد هيوم عن الهوية الشخصية — بمعنى أن ليس هناك نفس موجودة
موضوعيًّا، وإنما «حزمة» من الأفكار والانطباعات العابرة لا تتشابه فقط، وبشكل
واضح، مع الفكرة البوذية عن الوعي (سيتا)، بل ثمة دليل مادي يدعو إلى افتراض أنه
تأثر فعليًّا بالفكر البوذي في هذا الصدد وفي نواحٍ أخرى في مجال الفلسفة. وأيًّا
كانت مصداقية حجة جاكوبسون، فإن أهمية المفهوم البوذي عن النفس أصبحت أمرًا واضحًا
أكثر فأكثر خلال الحوارات الفلسفية الغربية المعاصرة، وكثيرًا ما كانت عنصرًا ضمن
المحاولات التي استهدفت نقد الأفكار الغربية التقليدية عن الذات البشرية، وكذلك
لوضع تصورات عن أساليب تناول جديدة. وجدير بالذكر أنه في موازاة ذلك بدأت مناقشات
قضية إثنينية العقل-الجسد، تعتمد على كل من الفكر البوذي وعلى فلسفة أدفَيتا
فيدانتا للفيلسوف شانكارا. مثال ذلك: يدفع بول غريفيث بأن المفهوم البوذي عن بلوغ
حالة من التوقف (الذهني) له تأثيرات مهمة على الموضوعات التي تشغل الفكر الغربي
تقليديًّا، والخاصة بالعلاقة بين العقل والجسد. ويقدم هذا كمثال للفلسفة من حيث هي
نشاط بشري عبر ثقافي والذي له بدوره تأثيراته على مسائل خاصة بالعقلانية والنسبوية
الثقافية (۱۹۸٦م، المقدمة). وعلى الرغم من أن دافيد لوي حرص على تجنب أي استقطاب
تبسيطي للشرق-الغرب، إلا إنه يرى أن نظرية شانكارا عن اللاإثنينية تمثل تحديًا
مهمًّا … للمقولات الإثنينية التي حدَّدت بشكل أساسي تطور الحضارة الغربية منذ
أرسطو (۱۹۸۸م، ١٣). وظهرت مشاركات هرمنيوطيقية مماثلة تجمع بين الفكر الشرقي والغربي
في ارتباط بالمسلمات الفلسفية الغربية التقليدية عن الانفعالات. وتشتمل على قضايا
من مثل العلاقة بين العقل والعاطفة والبناء الاجتماعي للانفعالات (انظر ماركس
وأميس، ١٩٩٥م).
٢٣
وطبيعي أن لا تزال هناك مسائل مهمة تتعلق بالمدى الذي يمكن لهذا المشروع
الهرمنيوطيقي الجديد أن يستمر فيه تأسيسًا على قواعد غربية، ومن ثم إلى أي درجة
يمكن أن يؤثر الفكر الشرقي في مساره، وتحدث لهذا الفكر انكسارات خلال مروره، عبر
عدسات المقولات الفلسفية الغربية. إن النقطة الأولى التي يتعين بيانها أن مثل هذا
التساؤل المنهجي أصبح هو ذاته القَسَمة المميزة لهذه المرحلة الجديدة. كذلك فإن
الانعكاسية الهرمنيوطيقية على الذات للقسط الأكبر من العمل المقارن الحديث بين
الشرق والغرب بشأن قضايا مثل التأويل فيما بين الثقافات، والتشوه الأيديولوجي،
اندرج صراحة ضمن العوامل موضوع الجدل الذي يمثل محور الفلسفة المعاصرة. وخير مثال
نذكره هنا «مؤتمر الفلاسفة الستة من الشرق والغرب» المنعقد في هونولولو عام ۱۹۸۹م
حول موضوع «الثقافة والحداثة». وقضى المؤتمر وقتًا طويلًا بحثًا عن جمعية كبرى
أساسية، لكن بدلًا من هذا، وحسبما قال إليوت ديوتش راعي المؤتمر، احتفى المؤتمر
بالاختلاف وبالآخَرية مع إدراك حادٍّ لأخطار الإمبريالية الثقافية. وكان من بين
القضايا الرئيسية التي تناولها المؤتمر قضية التواصل المتبادل بين الثقافات،
والقضايا ذات الصلة مثل العقلانية والنسبوية واللاقياسية. وأصبحت هذه القضايا هي
محور اهتمام الحوارات الثقافية المعاصرة. وبدا واضحًا، كما تأكد في هونولولو، أن
مسألة تواصل الأفكار بين الشرق-الغرب وثيقة الصلة بشكل مباشر. وأوضح المؤتمر أنها
وثيقة الصلة على قدم المساواة بقضية الحداثة التي ناقشها المؤتمر. ذلك لأن الاهتمام
الفلسفي الجاد — مقابل الاهتمام التاريخي — بالفكر الشرقي يفيد أيضًا في مواجهة
إحدى الدعاوى الأساسية للفلسفة الغربية، وأعني بها مفاهيم التنوير الغربي عن
العقلانية والتقدم، وأن صوابها كلي عالمي النطاق. وكان هذا التحدي، كما أكدنا،
واردًا ضمنًا في ثنايا الاستشراق منذ بداياته الأولى. وعلى الرغم من أن أبحاثًا
كثيرة ظلت متشبثة في عناد بالتراث الفلسفي الغربي، إلا إن المؤتمر أكد أن الدراسات
الجامعة بين الشرق والغرب لم يعد الباحثون يعتبرونها زاوية متخصصة وغربية إلى درجةٍ
ما عند حافة الفضاء الفلسفي، بل مهمة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة على جميع
المستويات.
وبدا واضحًا أن الشهية ضعيفة سواء في هذا المؤتمر أو في غالبية الدراسات المعاصرة
في هذا المجال، من أجل تجديد البحث عن فلسفة كوكبية أو دائمة. ومع هذا يمكن القول
بمعنًى ما إن المُثل العليا الداعية للتوفيق بين المذاهب المختلفة التي نادى بها
ليبنتس ودعا إليها سلفه من مفكري النهضة عادت معنا ثانية، ولكن بعد أن أضفى عليها
التاريخ بعض التحولات وصقلها الحوار الفلسفي. وإذا كان البحث عن جمعية كبرى أساسية
للشرق والغرب معًا؛ أي عن فلسفة عالمية جامعة لعناصر الفكر العالمي
(كوزموبوليتانية) أصبحت يقينًا من آثار الماضي، إلا إن الكثير من الحدود الثقافية
والمفاهيمية التي بدت يومًا محظورة تمامًا أصبحنا ننظر إليها باعتبارها سُبُلًا،
وليست حواجز، تيسر الاتصال. وساد الرأي أن الإقرار بالاختلاف والتعددية شرط جوهري
مسبق لتكوين مجتمع فلسفي كوكبي. نعم قد يخيَّل إلينا أن تحقق هذا المثل الأعلى،
بيننا وبينه طريق طويل، غير أن الاستشراق قدم إسهامات جادة بالنسبة إلى قضايا تتعلق
بنطاق وحدود الفلسفة الأوروبية. وساعد بذلك على تهيئة الإمكانات للتراث الفلسفي
الغربي لكي يتحرك متجاوزًا حدوده التقليدية.
٢٤