الفصل الثامن

الحوار الديني

«علينا أن نعيش في خضم التوترات التي خلقتها التعددية وتولَّدت عن التغيير، وأن نستثمر هذه التوترات بشكل إبداعي.»

نينيان سمارت

التحدي الذي يمثله الاستشراق

إذا كان الشرق غنيمة لم تتجاوز حواشي فلسفة القرن العشرين، فإن تأثيره نفذ وتغلغل إلى أعماق أبعد كثيرًا في مجالي الدين وعلم الإلهيات. نعود لنكرر ثانية دور البوذية بشأن أزمة الإيمان في العصر الفيكتوري، الذي تعزز كثيرًا في عصرنا نحن وأثر في الغرب، بحيث قال عنه عالم الإلهيات جيوفري باريندر إنه «من أهم أحداث العصر الحديث» بحيث لا يقل عن وصفه بأنه «إصلاح» آخر (١٩٦٤م، ١٢، ٢٢). وطبيعي أن نوع القضايا الفكرية والقوى الاجتماعية التي كانت تثير قلق علماء الإلهيات والمترددين على الكنائس خلال العصر الفيكتوري لم تكُفَّ عن الاتساع والانتشار خلال القرن العشرين. وشارك الشرق أكثر فأكثر في النزاع الدائر في صورة قوة تمثل في آن واحد مصدر خطر وأداة خلاص. إنهما معًا عامل إثارة ليس موضع ترحيب في نظر جدل مثير للمواجع، ومصدر أمل للتجديد، ونموذج لتطويرات المستقبل. ويقول في هذا الشأن الجيزويتي وليام جونستون: «نحن الآن على وشك الدخول إلى حقبة دينية جديدة، حقبة سيكون أهم حدث فيها اللقاء بين المسيحية وديانات الشرق الكبرى» (١٩٨١م، ٧٠)، وسنبحث في هذا الفصل ذلك «اللقاء» التاريخي، وندرس دور الفكر الشرقي في الحوارات الدينية في زمننا المعاصر، وسنرسم الخطوط العامة للتطور التاريخي لحوار مشهود بدأ يجري بين تراثات دينية كانت لا تزال غريبة، بل ومتحاربة.

ولكي نبدأ فنحن في حاجة إلى أن نتعرف على النطاق الثقافي العام لهذه الظاهرة، وأن نرى إلى أي مدى تغلغل وعي الغرب الديني بفضل الشرق إلى ما وراء حدود الجدل الفكري واللاهوتي. ويفيدنا في هذا عقد مقارنة موجزة مع الفترة السابقة. وسبق أن أشرنا إلى أن نشر كتاب «نور آسيا» تأليف أرنولد، وكذا تأسيس الجمعية الثيوصوفية، إضافة إلى عوامل أخرى، أسهمت جميعًا في تولد اهتمام بالأديان الشرقية، وهو اهتمام تجاوز كثيرًا نطاق الدراسة الأكاديمية للشرق والدراسات اللاهوتية، لكن أعدادًا قليلة هي التي حاولت خلال القرن التاسع عشر أن تعلن صراحة عن تبنِّيها أو تعترف بإيمانها بعقيدة شرقية. ولكن الأمر على العكس في القرن العشرين، إذ مارست الأديان الشرقية نفوذًا كبيرًا متزايدًا باطراد على أعداد متزايدة من الناس في الغرب والتمس كثيرون سبيلًا إما لاستكمال أو لإبدال العقيدتين المسيحية واليهودية بعد أن ذوَى وهَجهما. وبدا للكثيرين أن الغرب يعاني أزمة رُوحية أعمق وأكثر تغلغلًا وانتشارًا من أزمة الإيمان التي اقترنت بالحقبة الفيكتورية. ونعرف أن فقدان العقيدة المسيحية خلال هذه الأزمة كثيرًا ما أفضى إلى حالة من الفراغ الرُّوحي، ليس إلى الإلحاد أو اللاأدرية [أي عدم إنكار الله مع فقدان الدليل على وجوده (المترجم)]. وهنا صادفت ديانات الشرق إضافة إلى الحركات الرُّوحية الأخرى ترحيبًا وهوًى كبيرًا. لقد وهنت أسباب اليقين القديمة وظهرت بدائل جديدة مقترنة بالعلم والرفاهة المادية. وأثبت كل هذا أنه لا يشفي غليلًا. ومن ثم لا غرابة، وليس مفاجئًا في مثل هذه الظروف، أن يبحث كثيرون في طريق الشرق عن سبيل لتجديد وتعميق الحياة الرُّوحية. ورأى سي جي يونغ في هذا جزءًا من مرض عصري أوسع نطاقًا تجلى في الاهتمام المتزايد بالجوانب النفسية للحياة المقابلة للجوانب المادية. وأشار هنا إلى التخييلات التي تفرزها الحياة النفسية وتسقطها على الإنسان الحديث (١٩٦١م، ٥١). لم يكن الأمر مجرد بدعة عابرة بل كان تعبيرًا عن حاجة عميقة «انبثقت من دون شك من الطاقة النفسية التي لم يعد بالإمكان استثمارها في أشكال عتيقة من الدين» (المرجع نفسه، ٢٣٩).

وأيًّا كان رأينا في التشخيص الذي قدمه يونغ تظل الحقيقة كما هي المتمثلة في أن فترة ما بين الحربين، وهي الفترة التي صاغ فيها آراءه هذه، شهدت الديانات الشرقية وقد بدأت تمارس تأثيرها في الحياة الشخصية لأفراد كثيرين في أوروبا وأمريكا. ويحدثنا عالم الإلهيات هارفي كوكس عن «موجة الاهتمام التي سادت بين الأمريكيين بالرُّوحانيات الشرقية التي اتسع نطاقها وتضاعفت شدَّتها على نحو غير مسبوق في تاريخ الدين في أمريكا، وتبدو هذه الموجة أوسع نطاقا وأعمق من أي موجات سبقتها» (١٩٧٧م، ٩). الجدير ذكره أن هذا الحسَّ بأزمة رُوحية، وكذا البحث عن بدائل عن المسيحية بلغ درجة من التصاعد التدريجي خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وهذه هي الفترة التي شهدت انفجارًا مثيرًا للاهتمام بالأديان الشرقية. ويحدثنا جاكوب نيدهام عن رأيه في هذه الظاهرة التي يصفها «بالانفجار الرُّوحي»، ويقول: «الناس منصرفون تمامًا عن كل أشكال اليهودية والمسيحية وشراكهما ليس لأنهم كفُّوا عن البحث عن إجابات ترانسندنتالية عن المسائل الأساسية المتعلقة بالحياة الإنسانية، بل لأن هذا البحث تكثف واشتد على نحو فاق كل التقديرات» (١٩٧٢م، المقدمة). ونلحظ هنا أن الحركات المستمدة من الهندوسية مثل «الجمعية الدولية لوعي كريشنا» اجتذبت الكثير من الشباب بين صفوفها. كذلك نجد أن معلمين رُوحيين هنديين مثل ماهاريشي وباغوان راجنيش استمالا أعدادًا غفيرة من الأتباع المخلصين. وأصبح التأمل الترانسندنتالي ممارسة تجري على نطاق واسع، كما أن كتب مؤلفين من أمثال دي تي سوزوكي وألان واتس أخذت تزوِّد الكثيرين بالدعم الرُّوحي الذي يتوقون إليه. ولكن حدة هذه الظاهرة الاستشراقية وهنت خلال السنوات التالية إلى حدٍّ ما مع انحسار حركة الثقافة المضادة الشعبية. بَيْد أن نطاقها ومداها ما فتئ يتسع مع تأسيس كثير من المراكز الجديدة المخصصة للتأمل والاعتزال للصلاة. واقترن هذا بالتزايد الكبير والمطرد لأعداد الكتب التي تتحدث عن رُوحانية الشرق وتتلقفها سوق لا تشبع.

وألْفَت الكنائسُ المسيحية نفسَها في مواجهةِ، ليس فقط صعود النزعة العلمانية وتحديات العقلانية العلمية والماركسية، بل أيضًا الحضور المتعاظم بين صفوفها بأنماط بديلة من العقائد الدينية والتعبير عنها، وما بدت عليه من جاذبية تستهوي النفوس. وحدث هذا نتيجة لهجرات غير مسبوقة لأعداد كبيرة من الناس في الفترة الأخيرة والتفاعل بين الثقافات عبر وسائل الإعلام على النطاق الكوكبي. ويصف هذا الموقف عالم الإلهيات بول تيليتش بأنه «اللقاء الدرامي بين ديانات العالم» (١٩٦٣م، ١٢)، ونلحظ أن المتطلبات التي فرضتها المنافسة من جانب أديان بديلة وافدة من الشرق كمَّلها وقوَّاها انحسار السلطة الاستعمارية للغرب وتعاظم الوعي الوطني والثقافي على الصعيد العالمي، وأرغم هذا المسيحية في بنيتها الغربية على الاعتراف بوجود كثرة أو تعددية من الإيمان وهذه حقيقة ترتبت عليها نتائج لاهوتية مَهُولة، وطبيعي أن هذه التعددية وما تعنيه ضمنًا من تشوشات ثقافية ستمثل تحديًا خطيرًا لأي ثقافة أو دين، بَيْد أنها قاسية بخاصة على المسيحية نتيجة إحساسها بالتفرُّد منذ زمن طويل، والذي اقترن بعقيدتها عن تفوقها هي ثقافيًّا. ويعبر عن هذا باريندر بقوله: «التحدي شديد الضراوة بالنسبة إلى الأديان السامية أو الغربية. إذ ألِفَت هذه الأديان أن تظن بنفسها أنها الأسمى مرتبة من حيث الدين والثقافة، وأنها تمتلك أعظم الحقائق وأقدم وأفضل فلسفة» (١٩٦٢م، ٢١). ويقول عالم الإلهيات دافيد تراسي في هذا الصدد أيضًا: «نحن في الحقيقة نقترب من اليوم الذي سيستحيل علينا فيه وضع علم إلهيات مسيحي منهجي إلا من خلال التداول الجاد مع المناهج العظمي الأخرى» (١٩٩٠م، المقدمة).١

الدراسات المقارنة والنظرة الكونية

تباينت استجابة المسيحية إزاء هذا التحدي، فقد رأى البعض في تصاعد الاهتمام بالشرق تهديدًا خطِرًا، ورحَّب آخرون به ورأوا فيه فرصة لتقييم الذات والتجديد. وسعى بعض علماء الإلهيات من أمثال البروتستانتي كارل بارت، في مواجهتهم لخطر تصاعد التعددية والليبرالية اللاهوتية، إلى تعزيز المذاهب التقليدية، وأن يعيدوا ويكرروا المعتقدات التي وُضعت موضع التبجيل منذ قديم الزمان، والتي تؤكد الطبيعة المتفردة للوحي المسيحي والرسالة التاريخية الفريدة ليسوع المسيح. وكرر هذا الموقف أخيرًا البابا الراحل جون-بول الثاني. وسعى آخرون إلى الدخول في حوار والعمل بدرجات مختلفة من أجل الوصول إلى نوع من التلاؤم مع الأديان الشرقية. ونرى عند أحد الطرفين من يسمح بتبادل الأفكار لخير الجوار الحسن، بينما عند الطرف الآخر من يرى فتح الباب لإمكان خلق نوع من التوفيق المذهبي. مثال ذلك أن هارفي كوكس يرى البوذية تحديًا خطِرًا يتهدد العقيدة المسيحية بخاصة، وبينما يعترف بالحاجة إلى الحوار والفهم المتبادل فإنه يرى الموجة الجديدة من الحماس للشرق خطرًا حقيقيًّا على المسيحية. ولكن بول تيليتش، على خلاف زميله عالم الأديان كارل بارت، اتجه إلى التزام موقف أكثر ملاءمةً، مؤكدًا أن اللقاء الحديث مع الشرق ليس جديدًا من نواحٍ كثيرة، إنما يمثل جزءًا من تراث عريق لإعادة التقييم المذهبي من خلال الحوار مع العقائد الأخرى. ومن ثم يراه جزءًا من «إيقاع النقد والنقد المضاد والنقد الذاتي على مدى تاريخ المسيحية» (١٩٦٣م، ٨٩). كذلك الحال بالنسبة إلى فيلسوف الأديان نينيان سمارت إذ نراه داعية قويًّا للحوار. إنه يحدثنا عن ميلاد ثقافة عالمية، وعالم كوكبي يحمل إمكان تهيئة فرص لا مثيل لها من أجل التحدِّي وكذا التخصيب المتبادل. ويتعين حتمًا في هذا المضمار أن تفسح الولاءات الدينية التقليدية مجالًا لما يسميه «التعددية المتفاعلة» وليس للمزج الكوكبي بين الهويات. إنه واحد من بين عدد متنامٍ من المفكرين المسيحيين الذين أقلعوا عن النظر إلى الغزو الشرقي باعتباره خطرًا ينذر بالشؤم، بل يراه فرصة لتجديد حيوية التراث المسيحي. ذلك لأن «علينا أن نعيش في خضم التوترات التي خلقتها التعددية وتولَّدت عن التغيير، وأن نستثمر هذه التوترات بشكل إبداعي» (١٩٨١م، ٢٨٥ و٢٩٤).

ويمثل تنامي دراسات الدين المقارن واحدًا من أول تجليات هذه النظرة التعددية، وكذا المشكلات التي أثارتها. ويمكن أن نتتبع تاريخها من وجهة نظر الديانات الشرقية لترجع بنا إلى الفترة الرومانسية، لكننا نجد موقفًا أكثر واقعية متمثلًا في أعمال فريدريك ماكس موللر. إن محاضراته في المؤسسة الملكية عام ١٨٧٠م التي نشرها بعد ذلك تحت عنوان «مدخل إلى علم الأديان»، وكذا «محاضرات هيبرت» المشهورة عنه وتحمل عنوان «عن أصل نشأة ونمو الدين كما توضحه ديانات الهند» (وهذه الأخيرة ألقاها في «وستمنستر أبي» لجمهور ضم ١٠٠٠ نسمة)، كانت من بين أولى المحاولات المنهجية لتأسيس مبرِّرٍ عقلاني ومنهج بحث لدراسة الدين المقارن. وكان، شأن كثيرين من مفكري هذه الفترة، متأثرًا بمُناخ الوضعية والتطورية، ورأى في هذا المبحث الدراسي الجديد ما يبرر تسميته «علم الأديان» المرتكز على «المقارنة غير المنحازة والعلمية حقًّا، لأهم أديان البشرية» (١٨٩٣م، ٢٦). ويرى كذلك أنه مبحث انبثق بشكل طبيعي عن المجال الراسخ لعلم اللغة المقارن. لذلك رأى موضوع الدراسة موضوعًا محايدًا من الزاوية العقائدية لأن «العلم لا يريد متحزِّبين» (المرجع نفسه، ٢٨)، بَيْد أنه في الوقت نفسه كان شديد الحساسية إزاء حقيقة أن دفاعه عن هذا المبحث العلمي الجديد سوف يثير ضغائن مسيحيين كثيرين، ليس فقط من لا يرغبون تطبيق مناهج البحث العلمي على عقيدة إيمانهم، بل أيضًا من يرون في هذا المبحث تهديدًا خفيًّا للمكانة الفريدة لدينهم. وإن لديهم كل الأسباب التي تبرر قلقهم. ونعرف أن ماكس موللر نفسه ظل مسيحيًّا صحيح الإيمان، لكنه على مدار محاضراته أعرب عن آراء تتحدث عن شمولية الغريزة الدينية وعن الوحي، وأثار هذا ضمنًا الشك في مبادئ أساسية معينة لفقه الإلهيات المسيحي؛ إذ زعم، على سبيل المثال، أن «ثمة ملكة خاصة للإيمان لدى الإنسان مستقلة عن جميع الديانات التاريخية»، وأن «كلمة الرَّب تتجلى في قلب الإنسان» (المرجع نفسه، ١٣، ١٥).

وواصل مجال دراسة الدين المقارن النمو والانتشار في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وظهرت في ألمانيا مؤلفات لعديد من الباحثين من مثل بول ديوسين ورودولف أوتو، وأسهمت هذه الدراسات في خلق اهتمام علمي واسع النطاق معنيًّا بهذا المجال. كذلك بدأ في الهند تراث متميز للدراسات المقارنة عام ۱۸۹۹م استهله نشر كتاب «دراسات مقارنة بين الفيشنوية٢ والمسيحية» تأليف براجندرانات سيل. وفي عام ١٩٠٤م عُيِّن المستشرق العظيم من مواطني ويلز تي دبليو ريس دافيدس أستاذًا للأديان المقارنة بجامعة مانشستر. وأُدمِج المبحث بعد ذلك في العديد من المؤسسات الأكاديمية وفي المقررات الدراسية في كل أنحاء العالم. ورأى أكثر المسيحيين أصوليةً أن الهدف الذي غالبًا ما يعبرون عنه بدرجة أو بأخرى من الصراحة هو تحقيق الانتصار النهائي للمسيحية. هذا بينما شارك أكثر المسيحيين التزامًا بالتفكير الليبرالي في مثل هذه الدراسات متطلعين نحو تحقيق تقارب، بل الجمع بين الأديان العالمية. وقدَّم في مطلع القرن عالم الإلهيات الأمريكي إيه جيه إدموندس دراسة مقارنة بين البوذية والمسيحية. وأعرب في دراسته هذه عن الأمل في أن تؤدي دراسة كهذه أخيرًا إلى جعل كل من العقيدتين الدينيتين تحترم الأخرى، وأن يعجل هذا باليوم الذي تصبح فيه البشرية كيانًا واحدًا (١٩٠٨م، ٩).٣

الجدير ذكره أن الكثير من القضايا والمشكلات المحورية التي وجدت طريقها للبحث والكتابة في هذا المضمار نجدها في مرحلتها الجنينية في أعمال ماكس موللر الرائدة. وأعود لأقول إن واحدة من أبرز هذه الموضوعات هي موضوع النزعة العالمية الكلية. وسبق أن تناولنا هذه الفكرة بالفحص والدراسة في الفصل السابق، ورأينا أنها تعني البحث عن نظرة كوكبية أصيلة يمكن تكوينها من خلال نوع من الجمعية التي توالف بين التراثات الفكرية الشرقية والغربية. وتنبني هذه النظرة على أساس الإيمان أن «الحكمة البشرية في أعمق مستوياتها تشتمل على وحدة في الرؤية جامعة لكل الإنسانية» (وورد ١٩٥٧م، ٧٧). وثمة بحث موازٍ لهذا في مجال العقيدة الدينية يحمل كما هو واضح أوجه تشابه مع الهدف الفلسفي. ولن ندهش إذ نجد أنه يتداخل بدرجة ما معه تاريخيًّا ومفاهيميًّا. بَيْد أنه يمثل بوضوح التشوُّف إلى توحيد البشرية في وقتٍ ما حين يتواصل، من ناحية، التوتر والنزاع بين الشعوب، ولكن من ناحية أخرى تتقارب شعوب الأرض بعضها مع بعض وتكون أكثر توافقًا من نواحٍ كثيرة. وإن ما يضفي على هذا البحث أهمية ملحة بوجه خاص في أوساط فقه الإلهيات هو أنه في الوقت الذي يكون فيه الدين المسيحي معنيًّا بالحقائق المطلقة، يوجد في الوقت نفسه تنوع واضح للآراء الدينية حتى داخل المسيحية ذاتها. وإن «فضيحة التعددية» هذه كما يسميها دبليو إي هوكنغ يمكن أن تكون مقبولة في الفلسفة حيث الحقيقة المطلقة هي ذاتها مسألة فلسفية، لكن مثل هذا التنوع في حالة الدين يمثل معضلة شديدة الحدة: إذ حين تكون هناك دعاوى كثيرة شديدة التباين تزعم أنها صاحبة الحقيقة المطلقة، فإن هذا يجعل من المحتمل ألا أحد على صواب. وأثارت هذه القضية انزعاج المسيحية منذ أن أسفرت حركة الإصلاح الديني عن تشرذم وحدة كنيسة العصر الوسيط. غير أن غزو الديانات الشرقية خلال السنوات الأخيرة أضفى على المشكلة عمقًا وإلحاحًا.

وظهر عدد من المفكرين الغربيين من خارج نطاق فقه الإلهيات الرسمي وعرضوا موضوع النظرة الكلية العالمية. ويُعتبر ألدوس هكسلي (١٨٩٤–١٩٦٣م) واحدًا من أشهر هؤلاء، والذي، كما أسلفنا، تحرر من وهم المسيحية وصدف عن مادية الحضارة الغربية، وتحوَّل إلى دراسة البوذية وفلسفة فيدانتا، وكذا إلى دراسة التراثات الصوفية العالمية، وعاش زمنًا طويلًا عاكفًا على الأديان الشرقية، وقرأ منذ فترة باكرة من عمره قراءات مستفيضة عن المتون الدينية العالمية، ثم اطلع بعد ذلك على كتابات المستشرقين من أمثال كونزي، وسوزوكي وهينريتش زيمر. وبعد أن استقر به المُقام في الولايات المتحدة عام ١٩٣٧م أصبح ملازمًا لمركز الفيدانتا في كاليفورنيا حيث أشرف هو وكريستوفر إيشروود وجيرالد هيرد على تحرير مجلة «فيدانتا والغرب».٤ ولنا أن نعتبر أكثر ما كتبه هكسلي دليلًا شاهدًا على عقيدته وإيمانه أن الكثير من الحلول الناجعة لأمراض العصر التي أصابت الغرب كامنة في الفكر الديني للهند. ويعني بهذا الأمر نزوع الغرب إلى العدوان، والغلو في العقلانية، والتشوش الأخلاقي. كذلك فإن اطلاعه الواسع على الصوفية قاده إلى الاعتقاد أنه تحت سطح التباين الظاهر بين أديان العالم يكمن لب الحقيقة، وأن هذا اللب يمكن تحديده على أقرب وجه في فلسفة فيدانتا الهندية. وجمع في كتابه الشهير «الفلسفة الدائمة» المنشور عام ١٩٤٦م أقوال كثير من الصوفيين والفلاسفة على مدى العصور. وانتقى من مجموعة من التراثات المتباينة ما يوضح إيمانه بالوحدة المطلقة والنهائية بين الإنسان والحقيقة الإلهية. وسعى من هذا المنطلق إلى البرهنة على التوافق الأساسي والوحدة الجوهرية بين جميع الديانات العظمى في العالم. وغني عن البيان أن البحث عما يسمى الحكمة الكونية الدائمة التي تتعالى على الخصوصيات الجزئية للمعتقدات والطوائف غالبًا ما يقترن بما يسمى التراثات «السرية» المضنون بها على غير أهلها. ويُستخدم هذا المصطلح عادة للتعبير عن أنماط من المعارف والممارسات الرُّوحية السرية التي تمثل أساسًا للأصوليات الدينية المؤسسية. ويرى الناس عادة أن مصادر مثل هذه التراثات «السرية» تعود بنا إلى العالم القديم، وغالبًا ما يكون ذلك إلى الشرق. وأثبتت هذه الخصوصيات السرية في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين أنها قوة جذب كبيرة ومؤثرة إذ جذبت كثيرين من الباحثين عن بديل يحل محل الأصوليات السائدة، خاصة المسيحية والعقلانية العلمية. وتأخذ في آنٍ واحدٍ شكل اهتمام متجدد بالسحر والعِرافة، وكذا بالتراث الصوفي للشرق. وجدير بنا أن نذكر اسم اثنين متميزين من مفكري القرن العشرين، وإن بات ذكرهما مغفَلًا إلى حدٍّ ما الآن، واقترن اسماهما على نحو وثيق بدراسة التعاليم السرية. هذان هما رينيه غوينون (١٨٨٦–١٩٥١م) وفريتجوف سكيون (١٩٠٧–١٩٩٨م). اطلع كلاهما بشكل وافٍ ومستفيض على الديانات الشرقية، ودعَوَا إلى نظرة دينية كوكبية تنبني بشكل أساسي على التعاليم التقليدية للهندوسية والبوذية. وتميز غوينون بنقده الحاد للعديد من الآراء والتصورات المعاصرة السائدة عن الشرق. ورفض «قصر النظر» الفكري للاستشراق الأكاديمي الذي يرى الشرق فضولًا ذابلًا، إذ يراه هو على العكس مكونًا جوهريًّا من مكونات التاريخ الفكري والثقافي للغرب. ويراه ثانيًا قوة رُوحية دائمة الحيوية. ورفض أيضًا التفسيرات الوضعية التي يلقيها علماء من أمثال ماكس موللر. وانتقد بضراوة «الفيدانتا المتغربة» التي قدمها هكسلي وآخرون وشاعت في الغرب. وانتقد كذلك «التشويهات» و«التخييلات التافهة» لدعاة الحكمة الإشراقية «الثيوصوفية» (غوينون، ١٩٤٥م، ٣١٧). وألحَّ في الدعوة، بدلًا من ذلك، إلى العودة إلى التعاليم الأصلية النقية للفيدانتا. وقال إن هذه التعاليم لا سبيل إلى تحصيلها إلا عن طريق «تمثل واستيعاب الأنماط الجوهرية للفكر الشرقي» وذلك عن طريق إعادة اكتشاف هذه المبادئ القديمة التي تمثلها الآن على أوضح وجه الهندوسية، على الرغم من أنها كانت يومًا ما ملكية مشتركة للإنسانية (انظر غوينون، ١٩٤٥م، ٣٣٤–٣٣٧). ويُعتبر سكيون من أتباع غوينون، وهو «أصولي» مثله في نظرته. ويدفع في كتابه «الوحدة المتعالية للأديان» بأن جميع الأديان، من حيث مستوى تعاليمها السرية، متطابقة، وتقرِّر جميع العقائد عند هذا المستوى أن المشاركة المباشرة في الحقيقة الإلهية القدسية أمر ممكن. ونلحظ أن الهدف الأهم عنده على الإطلاق، شأنه شأن غوينون، هو محاربة ما اعتبره علمانية واهنة ومادية العالم الحديث، واستعادة الرُّوحانية الدائمة التي فقدها الغرب، ولكن احتفظ بها، حسب رأيه، التراث الصوفي الهندي. وثمة شخصية أخرى أوسع نفوذًا واقترن اسمها بالنزعة السرية وهو رودولف شتاينر. وكان شتاينر يومًا ما عضوًا في الجمعية الثيوصوفية، ولكنه انفصل عنها عام ۱۹۱۲م ليشكِّل حركته الخاصة التي سماها الجمعية الأنثروبوصوفية.٥ وتميز شتاينر بأنه إنسان يتمتع بتعاطفات فلسفية واسعة النطاق، ومن ثم التمس سبيلًا لخلق روابط وثيقة بين الرُّوحانية البوذية والرُّوحانية المسيحية مؤكدًا أنه:
بالنسبة إلى دراسة الحكمة الشرقية لا يسع المرء إلا أن يؤمن بأن هذه الدراسة قيمتها هي أسمى القيم. ذلك لأن شعوب الغرب فقدت الحس بما هو سري، بينما حافظت عليه شعوب الشرق، إنه من خلال هذه النزعة السرية الخاصة وحدها يمكن أن يزدهر التناغم بين العلم والدين.٦

الصوفية والنزعة الكونية

إن كلًّا من النزعة الكونية والنزعة السرية المضنون بها على غير أهلها غالبًا ما ارتبطا بدورهما بالصوفية التي أثبتت أنها فكرة جذابة لدى المفكرين الغربيين الذين بحثوا عن رابطة كونية تشكِّل أساسًا وراء الاختلافات الظاهرة على السطح بين أديان الشرق والغرب. مثال ذلك أن الفيلسوف دبليو تي ستاس دفع بأن الصوفية تمثل القلب المركزي لجميع الأديان، ومن ثم فهي التي تربط بوثاق قوي المسيحية بأديان الشرق. وقدم وليام جيمس تحليلًا مشهورًا للخبرة الدينية خلَص منه إلى أننا نجد في الهندوسية والأفلاطونية الجديدة وفي الصوفية وفي الصوفية المسيحية وفي الوَيتْمانية٧ النغمة ذاتها متكررة بحيث تتضمن الأقوال الصوفية إجماعًا خالدًا (١٩٠٢م، ٤١٠).
وعرض عديد من كبار المفكرين بعد ذلك هذه القضية بصورة أو بأخرى. وأول وأشهر هؤلاء عالم الإلهيات الألماني البروتستانتي ومؤرخ الأديان المقارنة رودولف أوتو (١٨٦٩–١٩٣٧م) الذي ظل على مدى الحياة شديد الاهتمام بالهندوسية والبوذية، كما درس اللغة السَّنسِكريتية وزار الهند مرتين زيارتين طويلتين. وأصدر كتابًا بعنوان «فكرة المقدس»، وحقَّق رواجًا كبيرًا حتى إنه طغى على دراسة له عن التراث الديني الهندي. وأكد في دراسته هذه أن الحسَّ بما هو رُوحي خارق مقدس يمثل الأساس الكوني للعقيدة الدينية. ولكنه أسهب أيضًا في الكتابة عن الدين المقارن وناقش الرُّوحانية الهندوسية مناقشة عميقة. وقدَّم أوتو عرضًا وافيًا لقضية الطور الكوني للخبرة الصوفية التي تتعالى على الحدود الثقافية، وذلك في كتابه «الصوفية في الشرق والغرب» (١٩٢٦م). وعرض في هذا الكتاب مقارنة تفصيلية بين اثنين من الصوفيين، شانكارا الهندوسي وإيكهارت المسيحي. وإذ قَبِل الرأي القائل إن الصوفية تتضمن ضروب تعبير كثيرة، فقد حاول أن يبرهن على أن «الصوفية تتضمن في الحقيقة دوافع أولية قوية تعمل نشطة في الرُّوح الإنساني التي هي في ذاتها لا تتأثر تمامًا بفوارق المُناخ واختلافات الوضع الجغرافي أو العنصري». وخلَص إلى نتيجة عامة مفادها أن ثمة صلة ضاربة بجذور عميقة وموجودة يقينًا بين أرواح الشرق والغرب (١٩٥٧م، المقدمة).٨
وثمة مفكران آخران مهمَّان، وإن كانا متباينين في نواحٍ كثيرة، وجَدا في الصوفية جانبًا مهمًّا ذا دلالة للمقارنة بين الرُّوحانية الشرقية والغربية. هذان المفكران هما مارتن بوبر (١٨٧٨–١٩٦٥م) وبيير تيلار دو شاردان (١٨٨١–١٩٥٥م). وكان بوبر صديقًا للشاعر والصوفي الهندي رابندرانات طاغور، وهو من أول الدعاة لفكرة الحوار بين أديان الشرق والغرب، خاصة فيما يتعلق بالدراسة المقارنة للصوفية. ويمثل اهتمامه بالشرق في الأساس، شأن الكثيرين جدًّا من معاصريه، استجابة لما تصوره هؤلاء الأزمة الرُّوحية التي يعانيها العصر. ونلحظ أن مدى مساهمة الفكر الشرقي في تكوين وصياغة أهم الأفكار المميزة لفكر بوبر لم تحظ بالتقدير دائمًا. وهكذا نراه في مقارنته الشهيرة بين علاقات «أنا-أنت» و«أنا-هو غير العاقل» اعتمد على الفكرة الطاويَّة «وو-وي» بمعنى دعه يعمل، وذلك لكي يوضح العلاقة التي تدع الآخر يعمل. ويرى أحد المعلِّقين «أن الحوار مع الطاويَّة ظلَّت له في نظره أهمية محورية طوال حياته» (فريدمان، ١٩٧٦م، ٤١٥). علاوة على هذا عُني أيضًا بربط كل من اهتمام بوذية زِن بالخبرة الحية المباشرة والتراث الرُّوحي الهندي مع الطائفة الصوفية اليهودية الهاسيد. ولكن اهتمام تيلار دو شاردان بالصوفية الشرقية ليس أمرًا معروفًا أو مشهورًا على الرغم من واقع أنه قضى سنوات طويلة في الصين. وحاول عالم الإلهيات أورسولا كنغ أن يصحح هذا الفهم الخاطئ. ويرى كنغ أن تيلار وإن كان صاحب نظرة نقدية لجوانب الدين الشرقي إلا إنه تطلَّع لعله يجد في الشرق «بذورًا للتجديد والإلهام»، وصرح قائلًا بأن «إيماني الفردي الخاص بدا بالقطع شديد الحساسية إزاء التأثير الشرقي» (كنغ، ١٩٨٠م، ١٣، ١٤). وعلى الرغم من إيمانه بأن المسيحية الأوروبية تمثل المحور المبدئي والأساسي لبحث أصل الإنسان وتطوره إلا إنه نادى «بالتعاون الرُّوحي» بين المسيحية والصين، مؤكدًا حاجة المسيحيين إلى «تجديد فكرهم بشأن عقيدتهم الدينية في ضوء خبرة الأديان العالمية». وأعرب عن أمله في أن يكتشف في الصين «ذخيرة من الفكر والصوفية من شأنها أن تجدد شباب الغرب» (كنغ، ١٩٨٠م، ١٢٣). وتزايدت باطراد منذ مطلع ثلاثينيات القرن العشرين مشاركته في الدراسات المقارنة بين صوفية الشرق وصوفية الغرب. وبعد أن عاد إلى فرنسا عام ١٩٤٦م نذر نفسه لدراسة التراث الصوفي الشرقي. ونجد إحدى ثمار هذا البحث مقالًا له بعنوان «الإسهامات الرُّوحية للشرق الأقصى». وأوضح هنا بجلاء دَينه للتراث الديني الشرقي. وإذا كان قد رفض ما اعتبره عقيدة وحدة الوجود الواحدية للشرق لمصلحة عقيدة الألوهية المسيحية، إلا إنه مع هذا استبق مركَّبًا أو جميعة فكرية مستقبلية مقدرًا لها أن تمضي قدمًا وتتجاوز كلًّا من «طريق الشرق» و«طريق الغرب». ويوجه كنغ انتباهنا بخاصة إلى تأثير النظرة الكونية الكلية للشرق على فكر تيلار الذي ما كان له، لولا خبرة الشرق، «أن يطور … أطر الفكر نفسها عن الوحدة والكلية الكونية والبحث الجَسور عن رُوح لكوكب الأرض الواحد الذي يتعالى في نهاية المطاف على كل من الشرق والغرب» (المرجع نفسه، ٨٨).٩

وأثيرت تساؤلات كثيرة من أُطر فكرية متباينة عن هذا النوع من أسلوب التناول. وطبيعي أن مصطلح الصوفية ذاته مشهور عنه أنه مصطلح مراوغ، ولذلك فإن فلاسفة من أمثال إس تي كاتز تشكَّكوا في فكرة استخدامه وسيلة للمقارنة فيما بين الثقافات. وسبق أن رفض كاتز الجدل الدائر بشأن الصوفيين والقول بأن الصوفيين من مشارب تراثية مختلفة يعيشون من حيث المعنى العميق «خبرة» واحدة، ذلك لأنه يرى أن الخبرة الصوفية يحددها في الأساس الوسط الديني الاجتماعي الذي تنشأ فيه (١٩٧٨م، ٤٦). علاوة على هذا فقد سبق أن دفع البعض من منظور أيديولوجي بأن استخدام مصطلح «الصوفية» في هذا الدور الحاسم إنما يدعم الدور الغربي للهيمنة إزاء الشرق ما دام أنه مصطلح يمجد الاعتقاد أن ثمة شيئًا سريًّا أصيلًا في الفكر الشرقي مقابل ونقيض الجوهر العقلاني المميز للفكر الغربي، وهو ما يعني إضفاء ميزة على الثاني من دون الأول. ونلحظ أن أسلوب التناول الكلي، المتطلع إلى نظرة كونية، انحسر بأكمله خلال السنوات الأخيرة، وذلك لأسباب عديدة متباينة، بعضها رَجْع صدًى للرأي سالف الذكر. ونجد من ناحيةٍ مَن طعن فيه بشراسة، وهؤلاء هم المدافعون عن الرؤية الدينية، ويرون فيه خطرًا يتهدد سلامة ووحدة الإيمان المسيحي. مثال ذلك: آر سي زاينر الذي يقرُّ بحاجتنا إلى تفاهم متبادل وإلى حوار مشترك بين الأديان، إلا إنه أكد الفوارق بين الصوفية في الشرق والصوفية في الغرب. ورفض بقوة وحماس أي فكرة عن ابتكار دين عالمي جامع بين الأسس المختلفة (١٩٧٠م، ١٦). وهناك على الجانب الآخر من يرفضون هذا الشكل للنزعة الكونية، ولكن ليس بسبب التزام عقيدي وإنما اقتناعًا منهم بأن السبيل لتحقيق تفاهم وتناغم عالمي هو أساسًا عبر الاختلاف مثلما هو عبر التطابق. ولهذا يزعم، كمثال، إف جيه هوفمان أن «الاختلافات بين الأديان مهمة قدر أهمية التشابهات»، وأن التنوع ليس ضعفًا بل علامة حيوية إنسانية عظمى، وليست شيئًا يتعين أن نضفي عليه تجانسًا (١٩٨٧م، ٣). وهناك أيضا أصحاب موقف تغلب عليه الصبغة الفلسفية. ويؤكدون أن النزعة الكلية الكونية تتحقق بوجه عام من تفسير الاختلافات التاريخية، وكذا تفسير العامل النسبويِّ للسياق الثقافي والتاريخي، وأن الخبرة الدينية بخاصة هي دائمًا وأبدًا خبرة ثقافية نسبية. وإذا تأملنا النزعة الكونية من منظور أعم نجد أنها أصبحت في رأي الكثيرين جزءًا من الخطاب «الشمولي» للإمبريالية الثقافية الغربية، ومن ثم ينزع إلى قمع الاختلافات الثقافية. وعلى الرغم من أن الميول المتجهة إلى إنجاز نظرة كونية داخل الحوار الديني بين الشرق والغرب قد وجهت الأنظار على نحو مثمر إلى كثرة صور العقيدة الدينية فإنَّ البعض اعتاد النظر إليها كأنها تنشد التعالي عن هذه التعددية ودمجها تحت اسم (لم يذكر) عقيدة واحدة من العقائد المعنية. وسوف نعود إلى هذه القضايا في القسم الختامي من هذا الكتاب.

الحوار بين الأديان

لكن انحسار مخططات النظرة الكلية الطموحة لا يمثل مؤشرًا على انحسار الدراسات الدينية المقارنة بين الشرق والغرب، بل على العكس، إذ أفضى إلى مرحلة جديدة يمكن إيجازها في كلمة واحدة: «حوار». وسبق أن أشرنا في الفصل السادس إلى أن هذا المفهوم حقق لنفسه أخيرًا ما يشبه مكانة العقيدة. وإذا كانت الغطرسة والعقيدة الجامدة والوعظ التبشيري سادت في السابق، فإن المزاج تغير الآن وأصبحت الكنائس المسيحية خلال السنوات الأخيرة أكثر التزامًا بقيمة الحوار، الحوار أولًا بين الطوائف المسيحية المختلفة، والحوار ثانيًا مع أديان الشرق.

وسيَبِين لنا أن مصطلح «حوار» يمكن أن يعني أي معنًى من بين عدد من الأمور المختلفة، لكن من المفيد أولًا وقبل كل شيء البحث عن الأصول التاريخية لهذه المرحلة. إن فكرة تبادل الآراء وجهًا لوجه بين أصحاب الأديان من طرفي الكرة الأرضية يمكن تتبع تاريخها بالرجوع إلى مؤتمر الأديان العالمي المنعقد عام ١٨٩٣م. إذ الْتأم شمل ممثلي أغلب الأديان العالمية الكبرى واجتمعوا لأول مرة في مكان واحد. ويرى منظم المؤتمر أن المؤتمر نجح في العزف على الوتر النبيل للأخوة الإنسانية العالمية (باروس، ١٨٩٣م، المقدمة). وتجلى مزاج البرلمان في عدد من الكتابات التي صدرت بعد ذلك، ومن بينها كتاب عنوانه «الإنجيلان البوذي والمسيحي»، تأليف عالم الإلهيات إيه جيه إدموندس. وسبق أن أشرنا إلى أن إدموندس سعى من أجل خلق مُناخ ملائم للتفاهم المتبادل تكون فيه «الإنسانية كيانًا واحدًا» (١٩٠٨م، ٩). بَيْد أن هذا النهج القائم على التصالح جاء مبكرًا قبل الأوان إلى حد ما، ولذلك بدا بعد فترة من هذه النَّشوة الطاغية التي شملت البرلمان أن المسيحيين معنيون في الغالب الأعم بتبادل الحوارات، ولكن فقط من أجل تعزيز أهداف التبشير. ووضح خلال العقود الأولى من القرن العشرين أن ثمة اهتمامًا كبيرًا بنظرة الهِيغِيلية الجديدة التي ترى أن الديانات الشرقية ليست زائفة تحديدًا، بل يتعين النظر إليها باعتبارها تمهيدًا للمسيح الآتي، ومن ثم ساد ميل إلى جعل كل البحوث الخاصة بديانات الشرق ترى موضوعها في هذا الضوء. مثال ذلك أن المبعوث التبشيري البروتستانتي جون فاركار أصدر كتابًا عام ۱۹۱۳م يحثُّ فيه المسيحيين على محاولة فهم الديانات الشرقية، ولكنه في الوقت نفسه يدفع بأن «الهندوسية تحقق كمالها في المسيح على نحو يطابق تمامًا ما فعله المسيح بأن أكمل شريعة وأنبياء اليهودية: فإن المسيح تاج وذروة الإيمان الهندوسي» (١٩٣٠م، ٤٥٣).١٠
وشهدت سنوات ما بين الحربين العالميتين نموًّا سريعًا للحوار بين الأديان، سواء بين أديان الشرق والغرب أو داخل المسيحية، علاوة على المؤتمرات والمحافل المشتركة التي انتشرت في أوروبا وأمريكا. وأسَّس رودولف أوتو عام ۱۹۲۱م عصبة الأديان العالمية التي استهدفت تيسير التفاهم بين الأديان. وأُسِّس خلال هذه الفترة نفسها وللهدف ذاته المؤتمر الدولي للزمالة العالمية بين الأديان، وكذا المؤتمر العالمي للأديان. وتحقق هذا الأخير بإلهام المستكشف والصوفي سير فرانسيس يانغهاسباند، ولا يزال نشطًا حتى اليوم في سبيل تطوير الحوار بين الأديان. وأدرك فيلسوف الأديان الأمريكي جيه بي برات آنذاك الرُّوح المثالية لهذه المبادرات، وهاجم صراحة أحد جانبي المسألة الخاص بصدق أو زيف دعاوى كل من المسيحية والبوذية، مؤكدًا بدلًا من ذلك أن «الاثنين يمتلكان قدرًا كبيرًا من الحقيقة، وأن أيًّا منهما ليس بمنأى — جملة — عن الوهم» (١٩٢٨م، ٧٤٦). وتنبأ أن الاثنين سيتقاربان جدًّا من خلال الحوار من دون أن يتحدا. ونلمس هذه الرُّوح نفسها واضحة في كتيب بعنوان «حلم الزمالة المسيحية والبوذية بحثًا عن النور والحقيقة»، من تأليف المبشر البروتستانتي دوايت غودارد. وعاد فيها إلى عقد حوار في شأن أفكار عن المذهب والعبادة. وأكد أن العالم المعاصر في أشد الحاجة إلى مزيج من الوعي الاجتماعي المسيحي والتقوى الشخصية البوذية.١١
وإن هذا الانفتاح الجديد على الحوار والاعتراف بالتعددية لا نجده منعكسًا في أي مكان آخر خيرًا مما هو في سلسلة من اللقاءات المعروفة باسم حلقات نقاش إيرانوس،١٢ والتي ظلَّت تعقد صيف كل عام في فيللا مطلَّة على بحيرة ماجيور منذ عام ١٩٣٣م وحتى ١٩٦٩م، والمعروف أن هذه الاجتماعات هي لقاءات دولية، غرضها الأول البحث عن أرضية مشتركة بين الفكر الديني الشرقي والغربي. هذا على الرغم من أنهم توسعوا بعد ذلك بحيث يشتمل النقاش على كل الموضوعات التي لها علاقة بتاريخ وسيكولوجيا الخبرة الدينية. وحققت دافعًا مهمًّا لدراسة الأديان المقارنة. وكان سي جي يونغ شخصية رئيسية في تحديد جدول الأعمال والمستوى. لكن هذا لا يعني أنها كانت تمثل تجمعًا خاصًّا بفكر يونغ. واعتادت أن تشارك في هذه الحلقات مجموعة من العلماء والباحثين من مشارب مختلفة، من بينهم عالم الفيزياء إروين شرودنغر، وعالم الأنثروبولوجيا بول رادين، وعالما الإلهيات مارتن بوبر وبول تيليتش، والمستشرقان كارولين ريس دافيدس ودي تي سوزوكي، ومؤرخ الأديان المقارنة ميرسيا إلياد. ويُعتبر هذا الأخير شخصيةً مهمةً بوجه خاص في الحث على الحوار بين الشرق والغرب، وهو من مواليد رومانيا عام ١٩٠٧م، وقضى أربع سنوات وهو لا يزال شابًّا في دراسة الفلسفة واليوغا في الهند، وكتب رسالته لنيل درجة الدكتوراه عن موضوع فلسفة اليوغا. ويقدم كتابه الأخير عرضًا مسهبًا وشاملًا لأديان وأساطير العالم. ويمكن أن نلمس في كتاباته نقدًا أساسيًّا للثقافة الغربية الحديثة مماثلًا للنقد الذي نجده في كتابات عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي ليفي شتراوس. ونلمس كذلك اهتمامًا عميقًا للتغلب على ما اعتبره ضيق أفق تتسم به النظرة الأوروبية. ونراه في هذا الاتجاه يحذرنا من أن:

الثقافة الغربية ستواجه خطر الانحسار وتتحول إلى نظرة محلية محدودة وعقيمٍ إذا ما دأبت على احتقار أو إنكار الحوار مع الثقافات الأخرى، وتمثل الهرمنيوطيقا استجابة الإنسان الغربي — والاستجابة العقلانية الوحيدة والممكنة — إزاء متطلبات التاريخ المعاصر، وإزاء واقع أن الغرب متجه قسرًا … إلى هذا اللقاء والمواجهة مع القيم الثقافية عند الآخرين.

(إلياد، ١٩٦٠م، ١٠)١٣

وبات واضحًا أن هذه الحاجة إلى مواجهة القيم الثقافية للآخرين أصبحت مسألة ملحة إلى حدٍّ ما خلال النصف الثاني من القرن العشرين، ويسوق تيليتش ملاحظة تبين أنه أدرك بعضًا من مزاجية هذه النظرة الحديثة وما تمثله من أهمية تاريخية، وذلك حين يقول: «ليس تحولًا عن عقيدة بل حوارًا. وسيمثل هذا خطوة هائلة إلى الأمام إذا ما قبلت المسيحية هذا» (١٩٦٣م، ٩٥). كذلك الحال في زعم ليروي رونر من أن الحوار بين الأديان يمثل اليوم عامل بناء وتكوين لفقه الإلهيات البروتستانتي، مثلما كان الصراع مع الداروينية قبل جيل مضى (من كونغ ومولتمان، ١٩٨٦م، ١١٤). وأصبحت سلطة الكنيسة تواجه خطرًا يتمثل، كما أشرنا سابقًا، في تنامي الوعي بالتعددية الدينية منذ منتصف القرن، وكذا التحقق من أن العالم لم يعد يعترف من دون شك أو تساؤل بتفرُّد المسيحية بالتفويض الإلهي. ويثير هذا ضمنًا تساؤلات مهمة في ما يتعلق بفقه الإلهيات من مثل هل هناك خلاصٌ خارج الكنيسة المسيحية، وهل العقيدة المسيحية قابلةٌ للتطور. وأثارت كذلك تساؤلات تتعلق بالممارسة العملية من مثل ملاءمة استخدام تقنيات التأمل البوذي في الصلاة أو تلاوة متون هندوسية أثناء القداس، ومكان الديانات الشرقية في مقررات التعليم الغربية والعبادات الطائفية في المدارس. وذهب فكر البعض إلى أن الحاجة إلى الحوار أضحت أكثر إلحاحًا وضرورة بسبب تنامي إدراك أن الاعتبارات السياسية والإلهية ليست منفصلة عن بعضها تمامًا، وأن المسيحيين من خلال نزعتهم الإقصائية المذهبية وحماستهم التبشيرية أصبحوا، كما يرى رونر، مسئولين عن استعمار بل واستعباد شعوب العالم الثالث (من كونغ ومولتمان، ١٩٨٦م، ١٠٩).

وطبيعي أن تنامي الوعي بالأديان الشرقية بين المسيحيين يمثل جزءًا من حركة أوسع خلال فترة ما بعد الحرب التماسًا لرؤية عالمية شاملة. ويتجلَّى هذا على أوضح وجه فيما يتعلق بالكنائس البروتستانتية، في مجلس الكنائس العالمي الذي أُسِّس عام ۱۹٤٨م، إذ رصد جهده لتجديد وإعادة توحيد الكنائس المسيحية تحديدًا. بَيْد أنه في اجتماع الجمعية العمومية الرابع المنعقد في عام ١٩٦٨م، التزم بتوسيع نطاق الموضوعات المحالة إليه بحيث تشمل الحوار مع الأديان غير المسيحية. وفي عام ۱۹۷۰م انعقد في بيروت أول لقاء متعدد الأطراف بشأن التعددية الدينية، وذلك تحت رعاية مجلس الكنائس العالمي. وبعد ذلك بعام تشكلت وحدة فرعية جديدة «الحوار مع أصحاب الديانات والأيديولوجيات الحية». وأدت إلى إقامة حوار متصل بشأن العلاقة بين المسيحية والأديان الأخرى، مع ممارسة الحوار على مستويات مختلفة داخل الكنائس. وجدير بالذكر أنه في هذا الوقت نفسه طرأ على الكنيسة الكاثوليكية الرُّومانية تحوُّل مماثل في موقفها من الأديان غير المسيحية. والمعروف أنه منذ مجلس فلورنسا (١٤٣٨–١٤٤٥م) حافظت كنيسة روما على مبدأ محدَّد يقضي بأن «الرَّب يرغب في خلاص البشرية جمعاء». وأعلن المجلس أنه إذا كانت الكنيسة لها دور فريد كأداة لخلاص البشرية، فإن الرَّب يعمل من أجل الخلاص داخل ومن خلال جميع التُّراثات الدينية، على الرغم من أن هذا يحدث بطريقة ضمنية ومجهولة لنا في حالة الأديان غير المسيحية. ومضى المجلس إلى أبعد من ذلك حيث أعلن أن الرَّب تجلَّى بوسائل كثيرة، وأن الديانات الأخرى غالبًا ما تعكس شعاعًا من أشعة هذه الحقيقة التي هي مصدر استنارة البشر أجمعين. وطبيعي أن هذه الرؤية شجعت الكاثوليك وخوَّلت لهم حق المشاركة في الحوار مع غير المسيحيين.

الموقف الإقصائي والاحتوائي والتعددي

نريد الآن أن ندرس من كثَب أكثر حصاد هذه المبادرات الباكرة. ويجري عادة تقسيم مجموعة المواقف من الحوار إلى ثلاث فئات أو ثلاثة أطر؛١٤ الأول: وهو الموقف الإقصائي، وتميزه العقيدة التقليدية وهي أن المسيح أو المسيحية هي وحدها التي تهدي إلى الطريق الصواب من أجل الخلاص، وأن الديانات الأخرى، ولهذا السبب تحديدًا، تُعتبر زائفة أو خاطئة. والإطار الثاني: هو الموقف الاحتوائي الذي يقول عنه غافين دي كوستا «إنه يؤكد حضور التوجه الخلاصي للرَّب في الديانات غير المسيحية، وإن ظلَّ يؤكد أن المسيح هو التجلِّي المجسد للرَّب على نحو محدد وموثوق به» (١٩٨٦م، ٨٠). وأخيرًا الموقف التعددي، ويمثل توجهًا محايدًا إزاء دعاوى كل دين، مؤكدًا أن المسيحية ليس لها حق احتكار الحقيقة بأفضل من الديانات غير المسيحية. وطبيعي أن هذه الفئات الثلاث لا ينفي بعضها بعضًا بل تتداخل بوسائل متباينة، وتجد في داخلها أيضًا سلسلة من الآراء المختلفة والمتنافسة التي يمكن تمييزها عن بعضها. وإذا نظرنا إليها إجمالًا نلحظ أن الجدل عملية نشطة ومستمرة وتستطيع بالتالي أن تعرض ما هو أكثر قليلًا من مجرد ملاحظة عابرة عن سجال في حركة متصلة لا تهدأ أبدًا.
تُظاهر الموقف الإقصائي الشخصية المهيمنة التي يمثلها كارل بارت (١٨٨٦–١٩٦٩م). وسبق له أن هاجم التراث الليبرالي لفقه الإلهيات البروتستانتي، الذي نشأ وتطوَّر خلال القرن التاسع عشر. وأفضى هجومه هذا إلى ما أصبح يُعرف باسم «الأرثوذكسية الجديدة»، وتضمن تأكيدًا جديدًا على تفرد الوحي المسيحي. وفاضَل بارث بين ما اعتبره «دينًا» نتاجًا بشريًّا يتمثل بصور كثيرة مختلفة مسيحية وغير مسيحية، وبين «الوحي» الذي يرى أنه ماثلٌ فقط ومن دون استثناء في شخص يسوع المسيح ولا يشاركه في هذا أي تراث ديني آخر. وتترتب على هذه النظرة نتيجة محددة هي إدانة الأديان الأخرى فضلًا على تهميشها، ومن ثم نجعل الحوار غير ذي موضوع من حيث الأغراض المتعلقة بمبحث الإلهيات. وتبنَّى البروتستانتي الألماني البارز هندريك كرايمر (١٨٨٨–١٩٦٥م) نظرة بارث بشأن الإلهيات، وإن لم يتفق معه على ضرورة تطوير فهمٍ لفكر وثقافة الشرق. والمعروف أن كرايمر تمرس في الواقع كباحث استشراقي، وقضى اثني عشر عامًا مبشرًا في إندونيسيا قبل أن يشغل منصب أستاذ تاريخ و«فينومينولوجيا»١٥ أو ظاهراتية الأديان في جامعة ليدن. وأكد تفرُّد وكفاية تجسُّد المسيح، ورفض بشدة وحماس جميع صور النزعة النسبوية، لكنه رأى أن ثمة ضرورة عملية للنهوض بفهم ديني للشرق، معتقدًا أن لقاء الشرق والغرب يمثل «أحد الأحداث الأساسية في عصرنا»، وأنه حدث له أهمية ودلالة عظمى بالنسبة إلى المستقبل. وتنبأ قائلًا: «المسرحية الحقيقية لم تبدأ بعد، إنها لا تزال في مرحلة الإعداد على خشبة المسرح» (١٩٦٠م، ١٢، ١٣). ومن ثم لا غرابة إذ يرفض النزعة العالمية وإن رأى أن من الضروري تعزيز التفاهم بين الشرق والغرب، وبين المسيحيين وغير المسيحيين اعتقادًا منه أن الحوار يمكن أن يسفر ليس فقط عن تفاهم وتسامح متبادلين، بل أيضًا عن قدر أعظم من الفهم والوضوح الذاتيين من جانب فقه الإلهيات المسيحي. معنى هذا أن نهج كرايمر إزاء الحوار نهج مقيَّد ومشروط وقائم على أساس محافظ من حيث مبحث الإلهيات. ولكنه أوضح على الأقل الحاجة إلى المشاركة النشطة بين الشرق والغرب، وذهب إلى أن هذه المشاركة ستعود بالفائدة على المسيحيين إذ تساعدهم على التخلص من أسوأ البقايا الأثرية المتخلفة عن التعصب الاستعماري والغطرسة الاستعمارية، علاوة على أنها ستمثل من بعض النواحي الخطوات الأولى على الطريق في اتجاه صياغة فلسفة الحوار بين الأديان.

ويتجلَّى واضحًا التحوُّل تجاه الموقف الاحتوائي في كتابات الباحث الكاثوليكي الشرقي آر سي زاينر. نراه في أول أعماله يقف راسخ القدمين معارضًا الرأي القائل إن ثمة وحدة مذهبية أساسية تمثل الأساس لجميع الديانات الكبرى (كان هنا معنيًّا بوجه خاص بدحض رأي سكيون). وتشبث باعتقاده أن «يسوع المسيح لا يتمم فقط شريعة وأنبياء إسرائيل بل وأيضًا أنبياء إيران وحكماء الهند» (١٩٥٨م، ١٨٤). بَيْد أنه اقتداءً بمجلس الفاتيكان الثاني يتَّخذ موقفًا أكثر ليبرالية، مؤكدًا أن في وسع الأديان المختلفة، توخيًا للفائدة، أن تنصت ويتعلم بعضها من بعض. ورأى أيضًا أن «الأديان الهندية لديها ما تُعلِّمه لنا، والذي يمكن أن يساعدنا على تعميق إيماننا، ويفتح آفاق حكمة جديدة لم نكن نفهمها بوضوح في السابق.» ومضى إلى أبعد من ذلك وقال: «تتضمن ديانات الشرق الكثير جدًّا مما هو على صواب» (١٩٧٠م، ١٩، ٢٠). بَيْد أن نظرة موقف الاحتواء بمعناها الصحيح تمضي إلى أبعد من ذلك، مؤكدة أنه مع التسليم بأن الدعاوى المحورية للدين المسيحي صحيحة ولا مجال للطعن فيها إلا إن الحقيقة القدسية يمكن أن نجدها أيضًا في الديانات الأخرى. مثال ذلك أن عالم الإلهيات الكاثوليكي وليام جونستون يتساءل عما «إذا كانت الأديان غير المسيحية يمكن أن تملك بعض جوانب الحق التي لم نتبنَّها نحن.» ويتساءل أيضًا عما إذا كان في وسعها أن تلقي ضوءًا على سر الرب والمسيح. ويختتم تساؤلاته قائلًا: «إذا أردنا أن نستزيد بمعرفة الحقيقة فإن علينا أن ننصت للآخرين». ويُعتبر كارل راهنر (١٩٠٤–١٩٨٤م) أحد الأعضاء الرواد في هذه الزمرة، ولعله أعظم علماء الإلهيات الكاثوليك نفوذًا في هذا القرن. ويُعتبر في الحقيقة من وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية الرومانية المهندس الرئيسي للإطار الفكري للموقف الاحتوائي. ويتميز موقفه بالوضوح وأنه أكثر راديكالية من موقف كرايمر أو زاينر؛ إذ يرى أن الرَّب يعمل لخلاص البشر في كل مكان، بَيْد أنه يولي الرؤية الإلهية المسيحية دورًا خاصًّا مميزًا من حيث التدبير الإلهي، مؤكدًا أنه على الرغم من أن الديانات غير المسيحية تجد تمامها في المسيح لكنها تحتل موقعًا وسطًا بين الكلمة وبركة الخلاص التي يمنحها المسيح لغير المؤمنين من ذوي النوايا الحسنة. والجدير ذكره أنه، على خلاف وضع كرايمر، لم يكن استشراقيًّا بأي معنًى من المعاني، ولكن موقفه اللاهوتي الليبرالي أثر تأثيرًا قويًّا في مداولات مجلس الفاتيكان الثاني وسَورة الاهتمام بالحوار مع الأديان غير المسيحية التي اعتملت في ختام اجتماعات المجلس.

وثمة عالم إلهيات آخر له مكانة عالمية، وتصدى صراحة لتحديات الأديان الشرقية، والتزم موقفًا أكثر غلوًّا من مواقف المفكرين السابقين فيما يتعلق بمسألة حوار الشرق-الغرب. ونعني به بول تيليتش (١٨٨٦–١٩٦٥م). إذ بعد زيارته لليابان عام ١٩٦٠م أصبح معنيًّا أشد العناية بفكرة ساتوري «الاستنارة»١٦ والتمس في التدرب الذي تقضي به بوذية زِن مناهج يمكن تجسيدها في الرُّوحانية المسيحية. وحيث إنه يؤمن بفكرة أن الرب هو «المقصد المطلق والأسمى» وليس شخصًا يشبه الإنسان، فقد صاغ حلقة ربط تربطه بالأديان الشرقية. ورأى في بوذا وكذا في المسيح شخصية المناهض الديني الذي لا يمثل مؤسِّسًا، بل متحديًا للمؤسسات الدينية. وخلَص إلى نتيجة محددة مؤداها أن الوحي ليس قاصرًا على المسيحية بل هو ظاهرة إنسانية عالمية، وأن كل دين يجسد إجابة ما، ومهما كانت جزئية، على مشكلة الوجود البشرية. وبناء على هذا رفض الدور التبشيري للكنيسة لمصلحة الدعوة إلى الحوار، والذي من خلاله تكون الانحيازات والتشوهات التاريخية التي لحقت بالدين المسيحي موضوعًا للنقد الذاتي.١٧

ويثير الموقف الإقصائي عددًا من قضايا فقه الإلهيات الشائكة، وهذه قضايا ناجمة عن الإقرار بوجود تعدد للأديان، ورفض إدانة الأديان غير المسيحية بحجة وصمها بالزيف، وأنها غير مقبولة عقلًا بشكل نهائي. ويفضي بنا الموقف أيضًا إلى مسائل تتعلق بتفرُّد المسيحية برسالة دينية. وتثير، فضلًا على هذا، مسائل فلسفية عويصة تتعلق بذات طبيعة المعرفة والحقيقة. وهذا ما عبر عنه عالم الإلهيات ليونارد سويدلر خلال مناقشته للحوار بين الأديان إذ قال: «إن فهمنا للحقيقة وللواقع يتعرض لتحوُّل في الإطار الفكري. وهذا التحول ينتقل بنا من موقف مطلق إلى موقف تأويلي «هرمنيوطيقي»، حيث نرى جميع القضايا المتعلقة بالحقيقة قضايا تاريخية أو عملية أو قصدية أو إطارية أو مقيدة لغويًّا أو جزئية وتفسيرية وحوارية (من سويدلر وآخرين، ١٩٩٠م، ٥٩). وأمكن الالتفاف حول بعض هذه القضايا الشائكة بفضل موقف معروف باسم التعددية. ويقضي هذا الموقف أن ليس لنا أن نعتبر أي دين وحده معياريًّا أو أسمى من الأديان الأخرى. إذ إن جميع الأديان — كل حسب طريقته — مركب معقد تاريخيًّا، وهي استجابات إنسانية مشروطة ثقافيًّا إزاء الحقيقة الإلهية الواحدة (نيتلاند، ١٩٩١م، ٢٦). الجدير ذكره أن هذا الرأي استهوى خلال السنوات الأخيرة أعدادًا متزايدة من المؤيدين، من بينهم علماء إلهيات بارزون من الكاثوليك والبروتستانت على السواء. ونذكر من بين هؤلاء: جون كوب ودون كوبيت وجون هيك وبول نيتار وهانز كونغ ورايموندو بانيكار وولفهارت بانينبرغ، وجيوفري باريندر ونينيان سمارت وويلفريد كانتويل سميث ودافيد تراسي. واحتج هؤلاء وكثيرون مثلهم ضد الغطرسة المتصلة في عناد، حسب رأيهم، للموقف الإقصائي وأحادية الجانب في كل ما حدث من تبادل للآراء حتى الآن، ويؤمنون مع تراسي بأن التعددية الدينية لم تعد واقعًا غريبًا مثيرًا للجدل، وإنما «هي الآن واقعنا نحن الحقيقي» (تراسي، ١٩٩٠م، ٣٩). واتجهوا إلى الاعتقاد بأن تعاظم التعددية في الوقت الراهن يمثل تحوُّلًا جذريًّا في فقه الإلهيات المسيحي. ويحدثنا بول نيتار عن «تحول الإطار الفكري» في المواقف المسيحية فيما يتعلق بالمكانة الفريدة للمسيحية. ويحدثنا جون هيك عن «ثورة التعاون» التي سوف تزحزح التعاليم المسيحية عن موقفها الذي اعتدنا أن نراه موقفًا محوريًّا في علاقتها بالأديان الأخرى. وواضح أننا في خضم هذا الجدل الحي والمباشر ليس لنا أن نتوقع إجماعًا في الآراء بين مفكرين من هؤلاء، ذلك لأن قضية التعددية تحتل قلب الأصولية «الأرثوذكسية» التقليدية ذاته، ومن ثم تثير بعض القضايا التي هي من أكثر القضايا إزعاجًا ومدعاة للانقسام، والتي يتعين على علم الإلهيات المعاصر أن يتصدى لها.

ويُعتبر جون هيك مثالًا جيدًا لمفكر تعدُّدي انخرط في حوار مع الأديان الشرقية بُغية إعادة دراسة وتفحص مقدماته هو الخاصة بالإلهيات. واتخذ موقفًا تعدديًّا صريحًا عام ۱۹۷۳م مع إصداره كتاب «الرب وعالم الأديان». وخلَص في كتابه هذا إلى أنه ليس هناك موقف متميز يمكن الاستناد إليه للحكم على الدعاوى المختلفة لأديان العالم؛ وذلك لأن كل الخبرة البشرية هي في أساسها خبرة تأويلية. ودفع بأن جميع الأديان صادقة ما دامت تمثل قنوات أصيلة للخلاص. ويرى، شأن كثيرين من مفكري عصره، أن التعددية لم تعد لكل هذه الأسباب تبدو وكأنها وصمة عار يتعين التغلب عليها، ذلك لأن وصمة العار تتمثل في التعاليم التقليدية للكنيسة التي ترى ألا خلاص خارج الكنيسة. وإن الصواب هو أن التعددية وضع حري أن نحتفي به، ذلك لأن الإنسان يمكنه من خلال الاختلافات أن يوسِّع من منظوره الفكري الخاص ويثريه كثيرًا، وكذلك يمكن التخلص من البقايا الأثرية الموروثة عن إمبريالية الغرب المسيحي.١٨ ويلتزم نهجًا مماثلًا فيلسوف الأديان نينيان سمارت الذي ألف وأفاض عن الأديان الشرقية وعلاقتها بالمسيحية. ويؤكد أن دراسة البوذية يجب أن تكون إلزامًا على جميع الطلاب دارسي الدين، ذلك لأنها تتحدى مسلَّمات الدين المسيحي وتحث على ضرورة توافر وعي نقدي ذاتي لدى المؤمنين بالدين المسيحي. إنها تطعن من بين أمور أخرى، في عقيدة الإيمان بآلهة كأساس ضروري للدين، وفي ضرورة العبادة والإحساس بالرُّوحي، وفي النزعة الأبوية «البطريركية» للتعاليم المسيحية-اليهودية، وفي فكرة المشرع كضرورة أخلاقية، وكذا في فكرة جوهر الرُّوح الدائم كشرط ضروري للخلاص الشخصي (انظر سمارت، ٣). كذلك الحال بالنسبة إلى عالم الإلهيات الكاثوليكي المتطرف هانز كونغ، الذي نشط أيضًا خلال السنوات الأخيرة في مجال الحوار بين الأديان، وشدَّد في دعوته، شأن سمارت، إلى «نقد ذاتي مسيحي في ضوء الأديان الأخرى» (١٩٨٧م، المقدمة). وإذا كان لم يمض إلى نهاية الشوط الذي انتهى إليه هيغ في القول بالمساواة بين الجميع، إلا إنه خلَص إلى نتيجة مؤداها أن المسيحي لا يحتكر الحقيقة، وأن الانفتاح على الأديان الأخرى إذا لم يكن من شأنه أن يفضي إلى التخلِّي عن الالتزام المسيحي أو إلى اتخاذ موقف نسبوي خالص، فإنه يتضمن «استعدادًا دائمًا للتعلم، وهذا لا يهدم الإيمان القديم بل يثريه» (كونغ ومولتمان، ١٩٨٦م، ١٢١ و١٢٥). وهناك عالم إلهيات آخر معاصر ومهم ويمكن اعتباره من المؤمنين بالتعددية وهو جون بي كوب الذي مضى إلى أبعد مما ذهب إليه الغالبية في دراسة وتفحص الأساس النظري للحوار، وكان شأن سمارت وكونغ، مقتنعًا بمنافع الحوار بين الشرق والغرب وما يسفر عنه من تحولات. والجدير ذكره أن دعوته إلى ما يسمى فقه إلهيات السيرورة قاده إلى الإيمان بكلمات بول إنغرام الذي يقول: «المسيحية بحاجة إلى أن تهيئ نفسها دائمًا وأبدًا لإجراء تحوُّل خلَّاق من خلال الحوار مع الأساليب الأخرى غير المسيحية» (إنغرام وسترنغ، ١٩٨٦م، ٨٥). ويرى كوب أن الاعتراف بأن «دعوى المسيحية لا تتعارض مع التأكيدات الجوهرية للتراثات الأخرى» من شأنه أن يفتح السبيل لإمكان أن «نتطهر ونُثرى جميعًا» (سويندلر وآخرون، ١٩٩٠م، ١٣، ١٨).١٩
وليس لنا أن ندهش إذ نجد أن هذه الاعتبارات قادت كونغ وكوب وآخرين إلى متاهة فلسفية تتعلق بمسألة النسبوية. لقد رفض كلاهما بإصرار أي تأثيرات نسبوية يمكن أن تفضي إليها نظرتهما التعددية. وهكذا رفض كونغ ما سماه «التسامح الرخيص» الذي يرى كل شيء مباحًا، وكذا الإقرار بألا فرق بين الأديان على نحو لا يمكن الدفاع عنه (١٩٨٧م، المقدمة). إن الاعتراف بأن المسيحية لا تحتكر الحقيقة لا يعني ضمنًا، في نظره، أن جميع الأديان صادقة على قدم المساواة، والذي يعني — إذا شئنا الدقة — أن أيًّا منها ليس كذلك. ويرفض كوب أيضًا ما يسميه النسبوية ذات الحمض الأكال (سويدلر وآخرون، ١٩٩٠م، ٤). ويسلم أن ثمة خطرًا محتملًا يتهدد سلام عقل المؤمن ينطوي عليه ما يدعو إليه باسم الحوار المفتوح النهاية. ولكن يؤمن في الوقت نفسه أن كل دين في وسعه أن يؤكد الحقيقة الخاصة بموقفه هو. ويعترف في الوقت نفسه أيضًا بالحقيقة التي لدى الأديان الأخرى، وبذلك يحافظ على فكرة الحقيقة مع تجنبه لأي مواجهة غير مثمرة مع المذاهب البديلة. وإذا تأملنا على سبيل المثال مسألة المقارنات بين المفهوم المسيحي عن الرَّب ومفهوم بوذية زِن عن الفراغ٢٠ نجد كوب يأخذ بوجهة النظر القائلة إنه في حال التعقد التام للحقيقة الواقعة التي تتجاوز كل ما نعرفه أو نفكر فيه، فإن التفريغ أو الوصف بالفراغ إنما يحدد هوية وجه مهم حقيقي، بينما «الرب» يحدد وجهًا آخر. ثم يتساءل: هل الاعتراف بهذه الإمكانية يناقض على نحو أساسي الأمر الأهم الذي يتعين على أي من بوذيي الزن والمسيحيين أن يؤكدوه؟ أحسب أن لا. بَيْد أن الوصول إلى هذه النتيجة لا يستلزم من المرء أن يعيد التفكير في حكمة كل من الجانبين (المرجع نفسه، ٦). ولكن اختلفت الآراء بشأن نجاح مثل هذه المحاولات في الحفاظ على فكرةٍ ما عن الحقيقة الموضوعية مع الاعتراف بالتنوع الديني والثقافي. ويبدو واضحًا أن حوار الشرق-الغرب أثار جدلًا في شأن تأثرات فلسفية ولاهوتية عويصة والتي من المقدر لها أن تشغل المفكرين سواء مسيحيين أو بوذيين، فضلًا على غير ذلك من قضايا. وسوف يستمر هذا لوقت طويل مستقبلًا، ومن ثم فمن المتوقع خلال هذه العملية أن تتغير مواقف كثيرة راسخة منذ زمن تغيرًا جذريًّا.٢١
والملاحظ أن مسألة النسبوية بكل دلالاتها في فكر ما بعد المودرنزم وما تثيره من تشوش، تضع حوار الأديان بين الشرق والغرب وبشكل حاد وحاسم في بؤرة الاهتمام المعاصر. فما هو إذن الموقف الراهن؟ الأمر هنا شأنه شأن الحوار الفلسفي الذي درسناه في الفصل السابق، إذ توجد دلائل على أن الحوار يقودنا إلى ما بعد الحوار، أي إلى أرضية «هرمنيوطيقية» تأويلية صحيحة، حيث الاتساق والتناغم على أساس وعي ذاتي للشرق وللغرب، مسيحي وبوذي، بل أصبح انخراطًا في قضايا أساسية موحِّدًا معًا قضايا من مصادر شرقية وغربية، بعيدًا عن الاستقطابات المصطنعة التي اتصفت بها المراحل الأولى من هذه العملية. ونلمس نزوعًا نحو هذا التطوير في أعمال عديدة من مثل كتاب «فقه الإلهيات بعد الفيدانتا» تأليف فرنسيس كلوني. هنا يسعى المؤلف إلى فتح سبل نحو نوع جديد من فقه الإلهيات عن طريق تجنب أي محاولة للدخول في حوار عام بين فيدانتا والمسيحية، بل من خلال الاشتباك في قراءة انتقائية لعدد معين من متون أدفيتا، ثم إعادة التفكير في عدد معين من متون فقه الإلهيات المسيحي (من توما الأكويني) (كلوني، ١٩٩٣م، ٣). ويؤكد لنا أن مثل هذا النهج يقاوم اتخاذ أي تعميمات عن الدين أو استخدام دراسة المتون بغية الوصول إلى نتائج أوسع أو «تعاليم جديدة مثيرة». ولكنه بدلًا عن هذا يركز على المنافع المباشرة التي يتعين الوصول إليها من خلال قراءة متون فقه الإلهيات من أي تراث جاءت. ونستطيع أن نلمس هذا النهج الجديد «الهرمنيوطيقي» في كتابات أخرى معاصرة، من مثل الندوة التي انعقدت حول موضوع «المسيح وبودهيساتفا»،٢٢ وهنا نلحظ أن الأهداف الطموحة لجهود الحوارات السابقة قد انخفضت، وكذلك القضايا الفلسفية المثيرة للانزعاج بشأن الحقيقة والنسبوية وقد حلت محلها الرغبة في تبادل الأفكار على قدم المساواة بين التراثات المختلفة وفي إطار بوصلة متواضعة مع أهداف وتوقعات محدودة أكبر كثيرًا من السابق، ونلمس بوضوح وعيًا تاريخيًّا قويًّا في كل هذه الأعمال، كما نلمس اعترافًا باختلافات لا سبيل إلى استئصالها. وتعبر عن هذا مقدمة الكتاب الأخير، إذ تقول:

القول إن جميع الأديان تعلم في التحليل النهائي حقيقة واحدة قول فيه مخاطرة تجاهل تعقد وثراء مذاهب الأديان، وكذا إغفال دلالة سياقيها التاريخي والثقافي.

(لوبيز وروكفلر، ١٩٨٧م، ٣٢، ٣٣)

وساد بعض الأوساط أيضًا اعتراف بأن الحوار ذاته موضع شك لأنه يحمل صبغة سلفه الاستعماري، ومن ثم يتعين إخضاعه لعملية فحص وتدقيق أيديولوجية. ويبدو في النهاية أن حافزه وقوة الدافع إليه هي في الأساس غربية المنشأ والطبيعة، وهكذا اضطر بعض علماء الإلهيات من مثل جوزيف كيتاغاوا إلى السؤال عما إذا كانت فكرة الحوار مستخدمة فقط «حيلة خادعة لإخفاء إفلاس النهج التبشيري التاريخي للكنائس الغربية» (١٩٩٠م، ١١).

ليس معنى هذا أن الحوار يوشك على النهاية. إن كثيرين يرون أنه لم يبدأ بعد، وسيظل يعمل بأسلوب مقارن أكثر تقليدية. مثال ذلك أن الحوار الكونفوشي-المسيحي لم يبدأ إلا منذ عهد قريب جدًّا.٢٣ ونجد عند مستوى القاعدة مسيحيين كثيرين لا يزالون يرون التعامل مع المفاهيم والممارسات الدينية للبوذية والهندوسية أمرًا غريبًا جدًّا ومصدر خطر شديد. بَيْد أن التحول في اتجاه إلى ما بعد الحوار، والذي تحدثت عنه في هذا الفصل، يمكن، وعلى الرغم من صعود النزعات الأصولية في الفترة الأخيرة، أن يمثل مؤشرًا في اتجاه حقبة جديدة في العلاقة بين المعتقدات الدينية العالمية. ويرى مؤرخ الأديان ويلفريد كانتويل سميث أن «شباب اليوم، بدءوا — تأسيسًا على هذه العلاقة — يرون ويشعرون بأنفسهم كأنهم ورثة كل التاريخ الديني للبشرية» (١٩٨١م، ١٨).

الحوار بشأن الممارسة الرُّوحية

ظلَّ تركيزنا حتى الآن على الجوانب الإلهية والفلسفية الخالصة للحوار بين الأديان، بَيْد أننا ونحن بصدد ختام هذا الفصل تجدنا بحاجة أيضًا إلى الإشارة إلى بعض نتائجه فيما يتعلق بالممارسة الرُّوحية. وهنا يلزم أن نولي اهتمامًا خاصًّا للاهتمام المتزايد بين المسيحيين بطرق التأمل الشرقية. ويذهب وليام جونستون إلى أن هذه الظاهرة تصعد إلى درجة «الثورة في الأداء الرُّوحي المسيحي». إذ «إن المسيحيين المتحاورين مع البوذيين يكتشفون من خلال ذلك أن مستويات للوعي كانت كامنة، وفي سبات خلال الفترة السابقة، شرعت تتفتح لتدرك حضور الرَّب». ويتنبأ لهذه الحركة أن تهيمن على التجرِبة المسيحية مستقبلًا، (١٩٨١م، ٢٣). وثمة عالم الهيات كاثوليكي آخر يُدعَى هينريتش دومولين عمل لسنوات في اليابان وأبدى اهتمامًا كبيرًا ووثيقًا ببوذية زن. ويرى أن التأمل في الشرق الأقصى عامل موازنة ضروري للإنسان الغربي الاستحواذي الذي تسيطر عليه بشكل مفرط عملية الاندفاع من إنجاز إلى إنجاز حتى بلغ به الأمر حدًّا فقد معه تناغم ذاته والتوازن الباطني بين السكون والحركة. وإنه «في الحقيقة يمثل الشرط المسبق لكل حياة رُوحية أسمى مكانة.» وعلى الرغم من أنه ظل وثيق الصلة بجذور الكتاب المقدس فإنه يستطرد قائلًا: «يمكن للمؤمن المسيحي صادق الإيمان أن يصل إلى فهم أفضل وأعمق لرُوحانية الشرق الأقصى، بينما بقاؤه على صلة بالتأمل على طريقة الشرق الأقصى يمكن أن يعينه في سبيل إدراكٍ أكثر كمالًا للحقيقة التي تضمنها الكتاب المقدس» (١٩٧٤م، ١٢، ١٣). وثمة محاولات أكثر جسارة تجري من حين إلى آخر لملاءمة بعض المتون المقدسة الشرقية مع الاستخدام المسيحي ودمج مختارات وتراتيل من الأدب الفيدانتي في العبادات المسيحية الدينية، ولعل من أول طلائع المنادين في هذا المجال بالدمج الرُّوحي بين الشرق والغرب هو الراهب الفرنسي البنيديكتي دوم هنري لو سوكس (١٩١٠م، ٧٣)، الذي أسس عام ١٩٥٠م معتكفًا وصومعةً هندوسية-مسيحية في تاميل نادو في جنوب الهند. وعاش هناك حياة السانياسا٢٤ الهندوسية. وكتب بإفاضة عن تقاليد التأمل الهندوسي، وعن الدروس التي يمكن أن تفيد بها حالات التأمل المسيحي من التوجه الهندي صوب الحياة الباطنية. ويجسد معتكفه عمليًّا هذه المثل العليا، حيث سعى إلى توحيد الممارسات الرُّوحية الهندوسية بحياة الرهبنة على الطريقة البنيديكتية٢٥ وبعد وفاة لو سوكس تولى مسئولية معتكفه إنجليزي من أتباع مذهب بنيديكت يدعى دوم بيد غريفيث (١٩٠٦–١٩٩٣م). ولم يقنع هذا بالعمل على دمج ممارسات اليوغا الهندوسية في تراثه الرهباني الخاص، بل اقتدى بإلهامات طلائع المبشرين الجيزويت في الصين، وحاول تفسير المسيحية في ضوء الأوبانيشاد. ويحدِّثنا في كتابه «زواج الشرق والغرب» عن الحاجة إلى الدخول في حوار مع التراث الهندوسي. ورأى أن هذه العملية «ليست بمنزلة تسوية وحلٍّ وسطٍ مع خطأ، بل هي عملية إثراء وتخصيب بحيث تنفتح كل عقيدة عن طريقها إلى الحقيقة التي تجدها في الدين الآخر» (١٩٨٢م، ٢٥). وهناك راهب بنيديكتي آخر حري بنا أن نذكره في هذا السياق وهو دوم إيلريد غراهام، الذي ألَّف كتابًا اختار له عنوانًا استفزازيًّا وهو «كاثوليكية زن». وأكد في كتابه أن ممارسات زن وما تتحلَّى به من طابع مباشر وبسيط لها استحقاقات كثيرة وعظيمة بالقياس إلى ما اعتبره، حسب رأيه، برامج ممارسة رُوحية مسيحية متكلفة للغاية، ويمارسها المرء في حالة من الوعي الذاتي.
ولعل أشهر داعية ممن استلهموا موقف الاحتواء ويدعو إلى الوحدة بين الممارسات الرُّوحية والرهبانية المسيحية والشرقية هو الراهب الترابي٢٦ الأمريكي توماس ميرتون (١٩١٥–١٩٦٨م). وقرئت مؤلفاته على نطاق واسع وحظيت بإعجاب كبير. واطلع قبل رحلته المصيرية إلى الشرق اطلاعًا واسعًا على أديان الشرق، وألَّف عددًا من الكتب فضلًا على المقالات التي حاول فيها إلقاء الضوء على رحلته الرُّوحية وتراث التأمل المسيحي والصوفية، مستعينًا في هذا بتعاليم وممارسات الحكماء الشرقيين الدينيين. وآمن بأن زِن على وجه الخصوص «تقدم لنا نظرة فينومينولوجية أي ظاهراتية وحكمة استبصارية ميتافيزيقية ووعيًا، وهي أمور ذات قيمة فريدة للغرب» (١٩٦١م، ٢٥٤). وبينما يؤكد مظاهر التباين الواسعة في التراث والنظرة بين الشرق والغرب، إلا إنه أنجز دراسة شاملة عن البوذية. وتبين له أن طرق التأمل البوذية وتأكيدها على حالة التنبه والوعي من أجل تحقق الوضوح الذهني، وكذا تأكيدها على نبذ الأوهام الخادعة، إنما هي جميعًا وسائل يمكنها أن تتمم وتعزز الممارسات التأملية المسيحية التقليدية. وهناك من تبنَّى هذه الأفكار وعمَد إلى تطويرها خلال فترة تالية.٢٧ والجدير ذكره أن ميرتون في سعيه وصولًا إلى درب دنيوي خاص به هجر ديره عام ١٩٦٨م للبدء برحلته إلى جنوب شرق آسيا بغية بناء جسور بين الرهبانية المسيحية والآسيوية، والتقى في رحلته الدلاي لاما وآخرين من الزعماء الدينيين. ويقول بنص كلماته أنه سافر كحاج يؤرقه الشوق ليس فقط من أجل تحصيل معلومات، ولا حتى مجرد معرفة حقائق من التقاليد الرهبانية الأخرى، بل لكي ينهل من نبع المصادر القديمة للرؤية والخبرة الرهبانية (الاقتباس من بورتون وآخرين، ١٩٧٤م، المقدمة). وتحدث خلال محاضرة له في كَلْكُتا عن الحاجة إلى المشاركة في حوار، باعتباره جزءًا من عملية تجديد الرهبانية المسيحية، مؤكدًا أننا:

بلغنا الآن مرحلة (طال انتظارها) للنضج الديني، والتي أصبح من الممكن بفضلها أن يبقى المرء مؤمنًا صادق الإيمان بالمسيحية وبالالتزام الرهباني الغربي، ثم يتعلم ويستوعب إلى أقصى حدٍّ من نظام وتجرِبة البوذية أو الهندوسية كمثال.

(المرجع نفسه، ٣١٣)٢٨
١  نجد عرضًا لمدى ودلالة هذه التطورات التعددية عند ريتشاردسون ١٩٨٥م، وكذلك وود ١٩٨٨م.
٢  الفيشنوية Vaishnavism: عقيدة عبادة الرب فيشنو، الرب الأعظم، وكذا تجسداته؛ خاصة راما وكريشنا. والفيشنوية أحد الأشكال الرئيسية للهندوسية الحديثة هي والشيفية؛ عبادة الرب شيفا القادر العليم المكين المعلم، والشاكتية Shaktism؛ عبادة الربة العظمى شاكتي التي تقود المؤمن إلى التحرر الرُّوحي وتطهير العقل والجسم. وهذه هي الصور الأكثر انتشارًا التي تنشد التحرر أو الخلاص من دورة الموت والميلاد، ومن ثم من ابتلاء الحياة الدنيا لكي تنعم بالوجود الأبدي الرُّوحي مع الإله. (المترجم)
٣  نجد مزيدًا من الأمثلة عن هذا في شنغ ١٩٧٧م، أوتو ١٩٥٧م، باريندر ١٩٦٢م، سميث ١٩٨١م، زاينر ١٩٥٨م. وللاطلاع على تاريخ مفيد لدراسة الدين المقارن اقرأ شارب ١٩٨٦م.
٤  كتاب كريستوفر إيشروود «فيدانتا للعالم الغربي» يضم مختارات من هذه المَجلة. وللاطلاع على مناقشات بشأن علاقة هكسلي بالفيدانتا، انظر شاكوف ١٩٨١م، وإيتون ١٩٤٩م.
٥  الأنثروبوصوفية Anthroposophy: فلسفة رُوحية أهم من طورها رودولف شتاينر (١٨٦١–١٩٢٥م) في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين. وهذه الفلسفة موجهة إلى الإنسان وتعبر عن المسائل الرُّوحية العميقة والأساسية للإنسانية؛ أي عن حاجة الإنسان الفنية العميقة، والحاجة إلى الارتباط بالعالم بمعزل عن الاتجاه العلمي للعقل، وكذا الحاجة إلى خلق علاقة بالعالم في حرية تامة وتأسيسًا على أحكام وقرارات فردية تمامًا. ومن ثم فهي فلسفة أزمة؛ أزمة حرية، وأزمة تناقض بين تراث موروث وجديد يحمل صفة العلم والمادية. لذلك يرى أصحابها أن فلسفة الحرية هي لب الأنثروبوصوفية، ويمكن عندهم تسميتها العلم الرُّوحي الذي يسعى ليس فقط إلى بناء بحث علمي طبيعي، بل وأيضًا بحث علمي رُوحي تأسيسًا على التراث المثالي الغربي منذ أرسطو وأفلاطون وتوما الأكويني. وترى أنها بهذا تعمل على تجسير الهوة التي حدثت منذ العصر الوسيط بين العلوم والفنون والمجاهدات الدينية للإنسان. (المترجم)
٦  في ماكديرموت ١٩٨٤م. انظر صحيفة «دراسات في الدين المقارن». ونجد في فيفر ١٩٩٤م، تأكيدًا على أهمية التراث السري لفهم التاريخ الفكري والثقافي للغرب.
٧  الوَيتْمانية Whitmanism: نسبة إلى شاعر أمريكي هو والتر وَيتْمان (١٨١٩–١٨٩٢م)، حرَمته الكنيسة بسبب آرائه وأفكاره عن المشكلات الجنسية عند غير المتزوجين وعن الإجهاض والدِّعارة والعبودية، إنساني النزعة، يُعتبر رائد الشعر الحر في الأدب الأمريكي. دعا إلى أن الدين شخصي، ومجَّد في الوقت نفسه العلم والمادية. يُعتبر ضمن الحركة الترانسندنتالية. تشكلت حوله حلقة من المثقفين تميزت بالتحرر وعدم الالتزام بالتقاليد. من أهم أعماله «ديوان أوراق العشب»، الذي ثارت بسببه ثائرة الكثيرين، وأثار الكنيسة ضده. الموضوع الرئيسي في هذا الديوان التوحد الرمزي للانبعاث الرُّوحي في الطبيعة للنفس التي لا تموت. ويقول عن نفسه:

«أنا شاعر الجسد وشاعر الرُّوح معًا.»

أعجب به جدًّا رالف والدو إميرسون رائد الحركة الترانسندنتالية. ويرى البعض أن الوَيتْمانية هي الإميرسونية. وإجمالًا تمثل الحركة تأثير الصين على الشعراء المحدثين الأمريكيين. (المترجم)
٨  للاطلاع على مناقشة أحدث عهدًا عن العلاقة بين إيكهارت والصوفية الشرقية انظر بونتيلا ١٩٦٥م.
٩  عن حوار بوبر بشأن الطاويَّة انظر هيرمان ١٩٩٦م.
١٠  انظر جوهانز ١٩٣٢م، ٣. ونجد في روبينسون ١٩٧٩م الرأي القائل إن المسيحية تجد كمالها في الهندوسية.
١١  انظر بريبروك ١٩٩٢م بشأن الحوار بين الأديان خلال ما بين الحربين.
١٢  إيرانوس Eranos: فريق نقاش فكري مخصص لدراسة الرُّوحانيات يلتقي سنويًّا في سويسرا منذ عام ١٩٣٣م، والكلمة مشتقة من اليونانية، وتعني «المائدة». أسست الجماعة السيدةُ أولغا فروب كابتيين. وتضم الحلقة باحثين في مجالات تخصص عديدة من سيكولوجيا الأعماق (اللاشعور) والدين المقارن والنقد الأدبي والفولكلور. تستمر الحلقة لمدة ثمانية أيام يقضونها معًا إقامة كاملة وحوارًا. ويتحدد كل عام موضوع رُوحاني محدد. (المترجم)
١٣  يؤكد تراسي ١٩٩٠م أهمية إلياد في الحوار بين الأديان. وتحليل ندوات إيرانوس في ويب ١٩٧٦م، تؤكد علاقتها بالاهتمامات السرية ومعتقدات القوى الخفية والسحر خلال الفترة نفسها.
١٤  انظر على سبيل المثال: دي كوستا ١٩٨٦م، ٧–٩، ونيتلاند ١٩٩١م، ٩–٢٧.
١٥  الفينومينولوجيا (الظاهراتية) Phenomenology: فلسفة أو منهج بحث وتفكير ينبني على مقدمة تقضي بأن الواقع مؤلف من موضوعات — أشياء وأحداث يدركها أو يفهمها الوعي البشري — وليس مؤلفًا من أي شيء آخر له وجود في الخارج مستقلًّا عن الوعي البشري. أي من دون حاجة إلى البحث عن وجود وراء الوعي، وإنما تُعنى بالإدراك أو الوعي المباشر من دون اعتبار لمقولات الميتافيزيقا عن الماهية والجوهر … إلخ. نشأت على يدَي إدموند هوسرل (١٨٥٩–١٩٣٨م)، وراج الاسم على يدَي هيغل وكتابه «فينومينولوجيا الرُّوح». ويرى هوسرل أن بالإمكان دراسة الظواهر ذاتيًّا لا موضوعيًّا، وهذا هو المعنى الذي طوره هيدغر. وهنا تتضح العلاقة الوثيقة بين فكر هوسرل والوجودية عند سارتر، وكذا تأثيره على فلسفة الهرمنيوطيقا أو التأويل التي وجدت مجالًا ممتازًا للتطبيق في الدراسات النقدية الأدبية. (المترجم)
١٦  ساتوري Satori: هي الهدف الرُّوحي في بوذية زِن في اليابان. واسمها في الصين وو wu. وترجمتها العامة: الاستنارة الفردية أو ومضة الوعي اللحظي المفاجئ. إنها خبرة حدسية. وتشير ساتوري إلى تجرِبة ذاتية شديدة العمق، والإحساس بالفضاء اللانهائي حول الذات. وتُعتبر الخبرة أو التجرِبة الذاتية والتدرب هي السبيل الوحيد إليها. وثمة طقوس خاصة ورموز وألغاز خاصة بها، ومن ذلك التأمل الذي يستغرق المرء ويتحرر معه من المفاهيم المألوفة، ويقترن هذا بشعور بالبهجة أو النشوة الطاغية التي تعوق أي مشاعر أخرى مفرحة أو مؤسية. وتجرِبة ساتوري هي خبرة ذاتية لحظية سريعة وقابلة للتكرار، وتكرارها يعني أن المرء على طريق التحرر ويرى الحياة والعالم من حوله شيئًا جديدًا. إنها الباب إلى أسلوب جديد في التفكير والوجود. (المترجم)
١٧  عن تيليتش ولقائه الحماسي مع الفكر الشرقي، انظر آبي ١٩٦٦م.
١٨  انظر هيك ١٩٧٣م، فصل ٩. وأيضًا هيك ١٩٧٤م، ١٩٨٢م، ١٩٩٣م. وهيك ونيتر ١٩٨٧م.
١٩  انظر أيضًا كوب ١٩٨٢م.
٢٠  الفراغ Shunyata Orsunyata: مفهوم محوري في تعاليم بوذا، الإدراك المباشر للفراغ أو سونياتا للتحرر من دورة الوجود سمسارا وتحقق الاستنارة الكاملة. لا شيء اسمه نفس أو رُوح دائمة. النفس مؤلفة في حقيقتها من خمسة مكونات غير دائمة: البدن، المشاعر، الإدراك، التكوينات الذهنية (بما في ذلك الإرادة) والوعي … جميع ظواهر الوجود «فارغة» من نفس أو جوهر أو ماهية دائمة. وتحقق الفراغ يعادل خبرة نيباتا أو النيرفانا، أي الاستنارة وتوقف المعاناة. العالم سيَّال دافق من عناصر متغيرة أبدًا (دهارما). نحن لا نرى حقائق الموجودات وإنما نخلق المفاهيم التي هي مقاربة إلى الواقع. العالم الذي نراه وهم اصطنعه العقل. والحقيقة نوعان: اصطلاحية ونهائية. الحقيقة الاصطلاحية هي المظاهر التي نراها عادة. والحقيقة النهائية هي العالم كما هو والذي نراه عن طريق ممارسات تأملية معينة تحررنا من الوهم والخداع، وهنا يتأكد من خلال التأمل التركيز على فراغ النفس أو الأنا ونرى البدن تحلل وتبدد في الهواء، وعقولنا تبددت وأفكارنا ذرتها الرياح، ومشاعرنا وإدراكاتنا ورغباتنا تذوب في اللاشيء، العدم. وليس الفراغ في البوذية يساوي العدم. إذ يعني أن الظواهر والنفس فارغة من جوهر ميتافيزيقي ثابت ودائم، وأن سيَّال الوجود الدافق مترابط بعضه ببعض، هو سيال نشوء وتغير والكل واحد. (المترجم)
٢١  عن مسألة النسبوية في هذا السياق انظر أيضًا دافيز ١٩٧١م.
٢٢  مصطلح بودهيساتفا Bodhisattve: له معنيان في مجموعتين من مذاهب وملل البوذية. وتشير الكلمة إلى أشخاص بذاتهم، قديسين، منذ أحقاب طويلة عاشوا (دورة الحياة الصغرى) على طريق الاستنارة الكاملة أو النيرفانا. وتشير بخاصة إلى مرحلة ما قبل الاستنارة في حياة الحكيم غوتاما بوذا. وفي مذاهب أخرى تعني الشخص المفعم قلبه رحمة وتراحمًا، ونذر حياته لخلاص الآخرين، ولكي يصبح هو بوذا بعد ذلك بأحقاب طويلة قادمة (دورة الحياة الطويلة). وبذلك يعني المصطلح إجمالًا في الحالتين الشخص الساعي على طريق الاستنارة اقتداء بالحكيم بوذا، إنه من يرجئ خلاصه، بلوغ مرتبة النيرفانا، بغية التخفيف من معاناة الآخرين. (المترجم)
٢٣  للاطلاع على أمثلة لمثل هذه الدراسات انظر شنغ ١٩٧٧م، لي ١٩٩١م، ياو ١٩٩٦م.
٢٤  سانياسا: Sannyasa كلمة سَنسِكريتية تعني حياة الزهد والتخلي عن متاع الحياة الدنيا، وهي حياة القديس البوذي والهندوسي في معتكفه، حيث بلغ أعلى مرحلة من الفارنا وقد وهب نفسه للحياة الرُّوحية الخالصة، ويلتزم بنظام يتضمن ممارسة تقاليد اليوغا. (المترجم)
٢٥  نسبة إلى بنيديكت النورسي Benedict of Norsia، وهو راهب قديس إيطالي في مطلع القرن السادس ومؤسس المذهب البنيديكتي، وهو أحد مذاهب الكنيسة الرومانية الكاثوليكية. (المترجم)
٢٦  الترابي Trappist: عضو في طريقة رهبانية تأسست عام ١٦٦٤م في لاتراب — نورمانديا — شمال فرنسا. وهي متفرعة من طريقة مسيحية رهبانية أسسها الإصلاحيون البنيديكتيون في فرنسا عام ۱۰۹۸م، ومشهور عن نظامها الزهد والتجرد من متاع الدنيا والصمت الكامل والتأمل. (المترجم)
٢٧  انظر أيضًا بارنز ١٩٩١م.
٢٨  أثناء هذه الرحلة الآسيوية لقي توماس ميرتون حتفه مصادفة صعقًا بالكهرباء في بانكوك وقتما كان مشاركًا في مؤتمر ضم رؤساء الأديرة المسيحيين في آسيا. وكان لي شرف الالتقاء به في سنغافورة قبل وفاته ببضعة أيام فقط، وهو لقاء يمثل إحدى الخطوات الأولية على طريق الرحلة التي ساقتني إلى تأليف هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤