أطر سيكولوجية جديدة
في عام ١٩٥١م كتب الكاتب البوذي كريسماس همفري يقول: «في عالم العقل، بما في ذلك
عروس العلم العقلي؛ أي علم النفس، هناك الكثير الذي يتعين على الغرب أن يتعلمه من
البوذية والذي يزيد كثيرًا عما يعرفه الآن» (١٩٥١م، ٢٢٣). والحقيقة، التي كان
يدركها همفري جيدًا، أن عملية التعلم كانت قد بدأت بالفعل. ذلك لأنه خلال سنوات ما
بين الحربين شرع عدد من المفكرين في التفكير مليًّا في إمكان انفتاح علم النفس
الغربي على المؤثرات الشرقية. والحقيقة أنه حتى في القرن التاسع عشر كان هناك إقرار
بما تحمله البوذية من إمكانات تثري رؤى علم النفس. والملاحظ أنه على مدى الفترة
الماضية، منذ أن كتب همفري هذه الكلمات، وعملية التلاؤم بين الأفكار الشرقية
القديمة والمباحث العلمية النفسية الوليدة تنمو وتنتشر بوسائل عديدة. وبدأت تنحسر
شكوكٌ وانحيازات قديمة تتحدث عن أن «الشرق الصوفي» لا علاقة له بمهام علم النفس وما
يتسم به من دقة وصرامة. وها هي الآن تفسح الطريق لنظرة تنطوي على احترام أصيل لحكمة
واستبصارات الثقافات الآسيوية القديمة من مثل حكمة بوذية التبت. وسادت رغبة في
المشاركة في نوع من الحوار. ويقول عالم النفس غاي كلاكستون: «تغيرت الأمور سريعًا
خلال السنوات القليلة الماضية … وها هو الاهتمام بأثر التراث الرُّوحي للشرق في علم
النفس والعلاج النفسي أصبح الآن مشروعًا، وأصبح بإمكان المفكرين المستغرقين في
قضايا علم النفس الخروج من الطريق المسدود» (١٩٨٦م، ٨). وأكد هذه النظرة عالم نفس
آخر هو جون بيكرنغ الذي يؤمن بأن «البوذية تسهم على نحو غير مباشر في تحوُّل
الميزان بين النظرة الاختزالية والنظرة الشمولية داخل علم النفس» (١٩٩٥م، ٣١).
ولعلنا نبالغ إذ نقول إن الخطاب السيكولوجي تغير تغيرًا أساسيًّا بسبب هذه العملية
الهرمنيوطيقية الجديدة بين الشرق والغرب. ولكن علم النفس الشرقي داخل الجامعات
الأوروبية خصوصًا حظي باهتمام ضئيل. ومع هذا نجد لاستبصاراته أثرًا مهمًّا في عدد
من المجالات المختلفة.
ويُعتبر العلاج النفسي من بين أشهر مظانِّ التأثير من دون شك. إذ على الرغم من أن
التحليل النفسي الفرويدي لم يكن معنيًّا بأي منظور خاص بالتفاعل بين الثقافات، فإن
عددًا من الباحثين والمدارس الذين تحولوا عن الأب المؤسس حاولوا بناء جسور بين
مباحثهم العلمية وممارساتهم من ناحية، وبين أفكار وتقنيات الشرق القديم من ناحية
أخرى. وساد الاعتقاد بأن هذا يمثل الحدَّ الذي ينتهي عنده التأثير الشرقي في علم
النفس الغربي. بَيْد أن الشرق، كما سوف أحاول أن أوضح في هذا الفصل، ما إن بدأ يؤثر
في علم النفس الأكاديمي في الوقت الذي بدأ فيه علم النفس التحرر من القيود التي
فرضتها عليه منهجية البحث للمذهب السلوكي، وإذا به لم يكتشف فقط مادة سيكولوجية
مهمة في التراث الشرقي، بل إنه عمَد، في بعض المجالات، إلى إدماجها في العملية
الشاملة لاتخاذ وجهة جديدة في مساره وإنجاز نوع من إعادة الملاءمة السياقية
recontextualisation، وشرع بعض علماء النفس في
الحقيقة يتحدثون عن تطورات جديدة تمت بالفعل داخل مباحثهم العلمية والتي ستعتمد على
تراث الشرق وتراث الغرب باعتبارهما مكملين أحدهما للآخر. مثال ذلك أن بيكرنغ يؤمن
بأنه، خلال عملية إعادة التقييم الراهنة لعلم النفس، والاعتراف المتأخر بأهمية
دراسة الوعي، سيكون للبوذية دور مهم «في تطوير علم للدراسات النفسية قائم على نظرة
أكثر تعددية» (١٩٩٥م، ٢٣). ويؤكد عالم النفس جون كروك أننا في حاجة إلى تجاوز
ثنائية الشرق والغرب … لبناء علم نفس أصيل جامع بين الشرق والغرب، وهكذا يبين لنا
ثانية أن هذا كله يتضمن الحاجة الواضحة إلى التجديد وإعادة البناء، وهو مطلب انبثق
من الاعتقاد، في هذا الموقف بالذات، أن علم النفس الغربي علم مقيد ومحدود بشكل ما،
بل وناقص بشكل أساسي. ويرى البعض أن اللقاء بين الشرق والغرب من شأنه على الأقل أن
يسفر عن نقد ذاتي؛ ذلك لأنه، كما يوضح المعالج النفسي إس أجايا (آلان وينستوك):
«إننا بالجمع بين مذاهب الشرق والغرب تظهر للعِيان المسلَّمات الخفية في كل منها
قرينة دلالاتها من أجل تطوير العملية العلاجية» (١٩٨٣م، ١٠). ويقدم كلاكستون فكرة
مماثلة، إذ يؤكد أن «التعاليم البوذية تزودنا بمرآة تعكس استبصارات … علماء النفس
مردودة على ذواتنا، وبهذا تحثنا على تطبيق هذه الاستبصارات انعكاسيًّا أو في ضوء
رؤية أنفسنا من خلالها» (١٩٨٦م، ٣١٣).
وتَواصَل جدل حادٌّ لفترة من الزمن بشأن المسلَّمات الأساسية ومناهج البحث في علم
النفس. ولكن مع التسليم بأن العقود الأخيرة شهدت تطورًا بعيدًا عن المذهب السلوكي
الذي كان النموذج السائد، والذي يتعين على الباحث أن يفسر في ضوئه العملية المعرفية
للذهن، إلا إن البعض من أصحاب هذا المجال يرى أن هذا مذهب قاصر، إذ يفتقد أساسًا
الفهم الملائم للإنسان.
١ ويرى بعض النقاد أن هناك ما هو أشد قصورًا وهو نماذج العقل المستمدَّة
من علم الأعصاب ومن الذكاء الاصطناعي، خصوصًا أن كلًّا منهما أثر تأثيرًا قويًّا في
التفكير النفسي المعاصر، بينما اخفقا معًا في المعالجة الملائمة لمسائل تتعلق
بالوعي والإدراك الذاتي. ويوضح جون ويلوود هذا بقوله:
أخفق علم النفس الغربي حتى الآن في تزويدنا بفهم كافٍ للمدى الكامل
للخبرة البشرية … ويبدو أننا تجاوزنا إلى حدٍّ كبير الحقيقة المحورية لعلم
النفس البشري — عقلنا اليومي، وعينا المباشر الواقعي للغاية
بالوجود.
تقضي هذه النظرة إذن بأن علم النفس الغربي أخفق حتى الآن في تزويدنا بصورة عن
الشخصية البشرية في شمولها، وأن هذه الصورة تبدأ في الاكتمال فقط إذا ما وضعنا في
الاعتبار ودمجنا معًا الجانب الشعوري الذاتي للشخصية، والحياة الباطنية للوعي
والوعي بالذات، وكذا بربط هذه العوامل داخل مخطط مفاهيمي يتجاوز ثنائية العقل-البدن
وصولًا إلى نظرة كلية شاملة عن الإنسان. وأن هذا هو المجال — تحديدًا — الذي يسود
الظن أن الأفكار المستمدَّة من المذاهب الشرقية قرين التزاماتها العريقة بالدراسات
الاستبطانية، وتأكيدها عدم قابلية الفصل بين الوظائف العقلية والوظائف البدنية تكون
فيه الأقدر على تقديم الكثير جدًّا، وهو المجال الذي تبين فيه أن هذه الأفكار تمثل
التحدِّي الأكبر للأصوليات الغربية السائدة. وتحدث العالم التِّبِتي روبرت ثورمان
في ندوة عن العلاقة بين علم الأعصاب الحديث وعلم النفس البوذي القديم، وذهب في
حديثه إلى أن الغرب كان أكثر حذقًا وبراعة في فهم «العتاد»
hardware الذي يشكل عدة العقل، لكنه مع هذا
عليه أن يتعلم الكثير من التراث المقدس للهند والتبت الذي بحث منذ زمن طويل في
«برامج» العقل. ويستطرد ليؤكد أن إخفاق الحضارات الهندية في تطوير «علوم الظاهر»،
الذي يتصوره البعض في غالب الأحيان على أنه إخفاق للعقل، ليس أقل إخفاقًا ولا أقل
روعةً، من حيث الرؤية العملية والسياسية، من إخفاق الغرب في تطوير «علوم الباطن»
(انظر غولمان وثورمان، ١٩٩١م، ٥٧، ٥٩).
وقد يظن البعض أن هذا القصور المفترض فيما يتعلق بالبرامج
software، أو «علم الباطن»
inner science ليس قاسمًا مشتركًا مع التراث
العلاجي الممتد منذ فرويد، إذ نجد هنا يقينًا التزامًا ببحث عالم الوعي والإدراك
الذاتي. بَيْد أننا في هذا المجال أيضا نسمع صوت احتجاج يعلو باطرادٍ ضد ما قيل إنه
النهج الغربي الضيق والمحدود تمامًا، والذي يلزم، كما هي الحال في علم النفس
الأكاديمي، تجديد حيويته وفعاليته بطاقات رُوحية من الشرق. وهكذا نجد النهج
الفرويدي الصارم متهمًا بأنه نهج اختزالي للغاية ومنحاز بيولوجيًّا جدًّا بحيث إنه
تخلَّى عن أو أسقط مساحات واسعة من الحياة الذهنية البشرية، خصوصًا تلك المرتبطة
بالخبرة الدينية، وحالات واسعة النطاق من الشعور. ونراه متهمًا أيضًا بالتأكيد بقوة
على دور الأنا، ومن ثم يدعم من جديد فكرة غربية في الأساس عن الفرد بوصفه منافسًا
مستقلًّا وسط بيئة اجتماعية عدوانية في جوهرها. ونلحظ في هذين المجالين أن النماذج
الشرقية للذات البشرية تبدو واعدة أكثر ومهيأة لكي تقدم تفسيرًا أكثر اكتمالًا
للشخصية البشرية. ويتزايد الاهتمام بالبوذية خاصة، بحيث أصبح كثيرون لا ينظرون
إليها باعتبارها مجرد دين بل مذهب لفهم وتطوير النمو الشخصي. ومن ثم يرون أنها في
ضوء هذا الفهم تقدم فكرة إيجابية أكثر عن طبيعة الصحة العقلية، وأنها مستودع أكثر
ثراء من الطرق اللازمة لتحقيق حس بالتوازن العقلي والرفاهة والتحقق الذاتي. مثال
ذلك أن عالم النفس الأمريكي دانييل غولمان يجادل مؤكدًا أن «نموذج الصحة العقلية
الذي يجده المرء في علوم النفس الشرقية — وتُعتبر بوذية التبت المثال بامتياز —
يتجاوز حقيقة مفهومنا نحن عن الصحة العقلية، ويمتد إلى نطاق أوسع على نحو فعال
للغاية» (غولمان وثورمان، ١٩٩١م، ٩١).
ويمكن تلخيص نموذج الشخصية البشرية المنبثق من هذه التأملات في قولنا إنه نموذج
يقدِّم نظرة شمولية ومتطابقة مع السياق بالنسبة إلى الحياة العقلية: إنه شمولي
بمعنى أنه قادر على دمج الوعي والمخ والسلوك معًا من دون السقوط ثانية في مهاوي
النزعة الاختزالية سواء المادية أو الإثنينية. وهو نموذج متطابق مع السياق بمعنى
القدرة على فهم الذاتية باعتبارها موجودة داخل — ومتفاعلة مع — إطار اجتماعي ومادي
واسع. وهو أيضًا نموذج يبشر بالجمع بين صرامة وموضوعية الفهم العلمي ومتطلبات
الذاتية أو الرُّوحية المتجددة. وتبدو الحكمة الشرقية، خصوصًا حكمة واستبصارات
البوذية، قادرة أكثر فأكثر على أداء دور مهم في هذه التطورات.
إلى أي مدى يمكن لنا أن نتتبع تاريخيًّا هذه التطورات؟ يتركز الانتباه حتمًا
وبشكل جادٍّ على البوذية. هذا على الرغم من أن علينا ألا ننسى أن تطور فكرة
اللاشعور في القرن التاسع عشر لدى مفكرين عاشوا في مرحلة ما بعد الرومانسية من مثل
سي جي كاروس وإدوارد فون هارتمان مَدينٌ بشيء لتأثير رؤية فيدانتا الهندوسية.
وتتضمن كتابات نيتشه، كما سبق أن لاحظنا، إلماعات للأهمية النفسية للبوذية. ويوضح
توماس تويد أن البوذية في أواخر القرن التاسع عشر بدت في نظر الكثيرين: «متسقة مع
أحدث اكتشافات علم النفس الوليد» (١٩٩٢م، ١٠٤). ولكن المستشرقة كارولين ريس دافيدس
(١٨٥٨–١٩٤٢م) في كتابها «علم النفس البوذي» هي أول من طوَّر هذا الموضوع بإسهاب.
اعتمدت على حوار امتدَّ قرابة نصف قرن بين علماء بوذيين استخدموا في الحوار مفاهيم
مثل أناتا anatta (تعني: لا ذات) ونيرفانا،
وتَحللوا بشكل متزايد من أي مسلَّمات ميتافيزيقية أو دينية. وأُخضعت الأفكار
البوذية لدراسة تحليلية تركزت على الخبرة البشرية دون العقيدة الدينية، وأكدت أن
«الفكر البوذي هو إلى حد كبير وأساسي بحث في العقل وأنشطته»، وأن «استبطان الذات عن
طريق الممارسات التأملية البوذية لديه الكثير مما يتعلم منه الغرب» (١٩١٤م، ٩).
وقام دي تي سوزوكي بدور مهم في الكشف عن الأهمية النفسية لا الدينية للبوذية. ونلحظ
أن الأمر الذي لم ينل حقه من التقدير دائمًا أن سوزوكي إذا كان قد اعتمد كثيرًا
وبشكل واضح على تراثه الياباني المحلي فإنه مَدين بالكثير من تفكيره إلى فكر وليام
جيمس. وليس السبب أساسًا اهتمام جيمس بالفكر الشرقي، وإنما بسبب نهج جيمس
البراغماتي في تناول الدين وتأكيده على الخبرة دون النظرية الميتافيزيقية، ثم — وهو
الأهم — تحليله الظاهراتي «الفينومينولوجي» للصوفية. وأكد سوزوكي أن الجوهر الحقيقي
للزن يكمن في خبرة ساتوري Satori (الاستنارة)،
مؤكدًا في مؤلفاته الباكرة على كوان Koan (طريقة
السؤال والجواب للكشف عن المفارقات في ممارسة الزن) التي عرضها أساسًا من زاوية
سيكولوجية.
العلاج النفسي والصحة العقلية
شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين أولى المحاولات لوضع روابط صريحة بين تراث
الفكر الشرقي ومجال العلاج النفسي الجديد. إذ منذ عام ۱۹۱۸م، وبينما العلاج النفسي
لا يزال في طفولته، رأى المستشرق فريدريتش هيلر أنه حري بنا ألا ننظر إلى التأمل في
بوذية زن باعتباره مجرد إضافة ملحقة لعقيدة دينية، بل تقنية صحة عقلية إذ تُحقق
«تعليقًا مؤقتًا للفكر وللشعور مما يفيد كعملية علاج نفسي وتقوية للأعصاب»
(الاقتباس من دومولين، ١٩٦٣م، ٢٧٦). وبعد سنوات قليلة أوضح أوسكار شميتز توازيات
تفصيلية بين التحليل النفسي واليوغا. وبعد ذلك بفترة قصيرة صاغ عالم الأعصاب
والطبيب النفسي في برلين جيه إتش شولتس تقنية علاج سماها «التدرب النابع من الذات».
وتنبني جزئيًّا على ممارسات التأمل الشرقي التي بدأت تشتهر في أوروبا آنذاك. ولم
يكن القصد بداية أن تكون هذه التقنية طريقة للعلاج، بل تقنية للاسترخاء، غير أنها
كشفت بعد ذلك عن تطبيقات عيادية محددة خاصة لتخفيف بعض الأمراض النفسبدنية. وشجع
شولتس مرضاه على تطوير «تدريبات تأملية» تصوروا خلالها حالات وعمليات جسدية بهدف
التوصل إلى حالة من الصفاء والسكينة والشفاء الذاتي. ويمكن اعتبار هذه الطريقة أول
محاولة لملاءمة التقنيات النفسبدنية الشرقية مع السياق العلاجي الغربي. وعكف
الباحثون على دراسة هذه الطريقة دراسة شاملة على مدى سنوات، والتي لا تزال مطبقة
على نطاق واسع سواء باعتبارها تقنية للتحكم في العقل أو لعلاج عدد من الظروف الطبية المزمنة.
٢
وكان الطبيب النفسي الإيطالي روبرتو أساجيولي (١٨٨٨–١٩٧٤م) عاكفًا في ذلك الوقت
على تطوير تقنيات تصور مماثلة. وأقر بأن مذهبه المعروف باسم «التركيب النفسي» له
مصادر إلهام كثيرة من بينها وليام جيمس وبيير جانيت وفرويد ويونغ، لكنه بالإضافة
إلى هؤلاء تأثر أيضًا بالتراث الصوفي اليهودي والأفلاطوني الحديث والمسيحي. وسبق أن
تولَّد لديه في فترة باكرة اهتمام بالتراث الصوفي الشرقي عن طريق الجمعية
الثيوصوفية. علاوة على هذا أنه في عشرينيات القرن العشرين أصبح على صلة بالمفكر
كيزرلنغ ومدرسته في الحكمة في دارمشتاد التي طورت — كما أسلفنا في الفصل السادس —
فكرة أن الغرب أصبح ماديًّا وأحادي الجانب بطريقة محدودة جدًّا، ومن ثم في حاجة إلى
أن ينهل من منابع الشرق الرُّوحية. وكان على اطلاع واسع بالتراث الصوفي العالمي،
وكذا بكتابات الشرق القديمة. وأصبح نتيجة لذلك معنيًّا بوجه خاص ببحث ما سماه
«الوعي الفائق»
super consciousness، وبتكوين
«الذات الأعلى»
higher self، وهما يمثلان جانبًا
للشخصية الإنسانية الذي أغفلته، حسب رأيه، النظريات المعاصرة، ولكن تُقره وتُثريه
التراثات الصوفية في كل من الشرق والغرب. وذهب إلى أن التصور التخييلي والتأمل
بعامة هما التقنية الرئيسية المستخدمة لاستكشاف وغرس حالات الوعي الأرقى. وقال إن
هذه التقنية «تساعد المريض على تحقيق وعي أوسع نطاقًا وخبرة لا شخصية ومعرفة» والتي
«ستواصل التطور لتصبح تقنية منهجية يمكنها أن تساعد الناس على الوصول إلى هدفهم
لتطوير أرقى صور طاقاتهم النفسية» (أساجيولي، ١٩٧٥م، ٣١٤، ٣١٥).
٣
وإن أشهر مستكشف للشرق-الغرب في مجال العلاج النفسي هو من دون شكٍّ سي جي يونغ
(١٨٧٥–١٩٦١م). هذا على الرغم من أن أتباعه حرصوا في غالب الأحيان على طمس حقيقة
دَينه للأفكار الشرقية في صياغته لأفكاره هو خشية أن يفسد عليه هذا مسوغات الثقة العلمية.
٤ والمعروف أنه طور أيضًا اهتمامًا قويًّا بالأفكار والممارسات الشرقية،
وذلك خلال العقود الأولى من القرن العشرين، وسعى إلى دمج الحكمة الشرقية في تفكيره
الخاص. واتسع نطاق اهتماماته في هذا المجال لتشمل تقريبًا كل سلسلة أهم المذاهب
الدينية الشرقية، بما في ذلك الطاويَّة وبوذية ماهايانا بكل صورها المختلفة، ومنها
بوذية زن، وكذا اليوغا الهندية. وقرأ يونغ وهو في العشرينيات من العمر شوبنهاور،
وكان له تأثير كبير في صوغ نظرته. وبدأ أبحاثه في الديانات الشرقية بشكل جادٍّ عام
١٩٠٩م بينما كان لا يزال زميلًا وثيق الصلة بفرويد. وسعى من أجل توسيع نطاق
استبصاراته النفسية عن طريق دراسة الأسطورة والرمزية الدينية على أساس دراسةٍ
مقارنةٍ عالمية النطاق. وأفضى به هذا البحث إلى صياغة نظريته عن اللاشعور الجمعي
الذي قاده بدوره إلى الابتعاد عن فرويد. وشرع بمرور الوقت في كتابة أهم كتابين له
من مؤلفاته الباكرة، وهما «سيكولوجيا اللاشعور» (۱۹۱۲م)، و«الأنماط النفسية»
(۱۹۲۱م). واستوعب بشكل أساسي الأفكار والأساطير الهندية والبوذية والطاويَّة التي
صنع منها نسيجًا متماسكًا شاملًا معه الرموز المسيحية مع رموز من مصادر ثقافية
غربية. وأصبح اهتمامه بالشرق مركَّزًا بشكل محدد في عشرينيات القرن، وذلك بفضل
اتصاله بمدرسة الحكمة التي أنشأها هيرمان كيزرلنغ، ثم بعد ذلك بالاتصال بالعديد من
المستشرقين المتميزين من بينهم هينريتش زيمر وريتشارد فيلهلم. والجدير ذكره أن
ترجمة فيلهلم للنص الطاوي عن السيمياء بعنوان «سر الزهرة الذهبية» هي التي حددت
وهَج حماس يونغ للفكر الشرقي، وهيَّأت له الفرصة للشروع في كتابة بحث عن العلاقة
بين الفكر الشرقي وعلم النفس الغربي. وعلى الرغم من أنه لم يعمل أبدًا على تطوير
فكره في هذا المجال في صورة منظومة فكرية، إلا إن التعليق النفسي الذي كتبه عن هذا
النص بإلحاح من المترجم كان الأول ضمن عدد من المقطوعات القصيرة. ونذكر من بينها
مقدمات لترجمات من «الكتاب التِّبِتي عن الموتي» و«الآي شينغ» أو التحولات، تأليف
لاوتسو، وكتاب سوزوكي «مقدمة لبوذية زن»، هذا علاوة على دراسات عن اليوغا والتأمل
التي صقل ووسع من خلالها نطاق أفكاره. وزار الهند وسِيلان (سريلانكا الآن) في عام
۱۹۳۸م، وامتدت زيارته إلى ثلاثة أشهر. وتمثِّل هذه الزيارة أوج أبحاثه الشرقية.
وعلى الرغم من تحوُّل محور اهتمامه الفكري الرئيسي بعد ذلك إلى أمور أخرى، إلا إنه
حافظ على اهتمامه بالبوذية حتى نهاية حياته.
ونلاحظ أن يونغ في تعليقه على كتاب «سر الزهرة الذهبية» حاول صراحة بناء «جسر
للتفاهم السيكولوجي بين الشرق والغرب» (١٩٧٨م، ٥٧)، كما حاول أيضًا إقامة حوار
«هرمنيوطيقي» تأويلي مع النص الذي حاول ملاءمة أفكاره «الغريبة» مع نظرياته
النفسية. وزعم من خلال استخدامه لهذه التقنية أنه اكتشف في هذا النص القديم توافقًا
غير متوقع بين الحالات النفسية والرموز في الشرق والغرب. ورأى «أن هذا لا يساعد فقط
على تأكيد نظريته عن اللاشعور الجمعي، بل يفيد بأن الهدف من أن يصبح المرء واعيًا
ومتحققًا بالكامل هدف يوحد أكثر الثقافات تباينًا وصولًا إلى مهمة مشتركة» (المرجع
نفسه). والمعروف أن فكرة النفس، الذات، كشيء لا يقبل الاختزال، وأن تطويرها الكامل
هو هدف الحياة النفسية، تمثل لب تفكير يونغ. وزعم تأسيسًا على قراءاته هذه وغيرها
من نصوص شرقية، أنه يجد البرهان الذي يؤكد ما ذهب إليه. مثال ذلك أنه في تعليقه على
كتاب «كتاب التبت عن التحرر العظيم»، نراه يبرز تأكيد هذا الكتاب على الحقيقة
الأساسية للعقل أو الوعي، ويبرز كذلك ما يعلِّمه للناس من أن جميع الموجودات، بما
في ذلك الحقيقة المادية هي في التحليل النهائي صناعة العقل. ويشدد على أن النص
«ينبني على أساس الحقيقة النفسية، أي على النفس بوصفها الشرط الرئيسي والفريد
للوجود» (يونغ، ١٩٧٨م، ١٠٩).
وحرص يونغ على التمييز بين ما رآه دلالة سيكولوجية لهذه الأفكار وبين صياغتها
باعتبارها معتقدات ميتافيزيقية أو دينية. وشدد على ذلك قائلًا: «أحرص عامدًا على أن
أضع كل ما يبدو في ظاهره ميتافيزيقيًّا في ضوء الفهم السيكولوجي لتوضيحه … وأنتزع
أشياء من ظاهرها الميتافيزيقي لتصبح من موضوعات علم النفس» (١٩٧٨م، ٥١). ومن ثم فإن
الشيء الذي زعم يونغ أنه بصدد البحث عنه في الشرق ليس منظومة ميتافيزيقية جديدة
لتحل محل المسيحية أو العلم، بل البحث عن طريقة لاكتشاف دليل واضح ودعم محدد لرأيه
هو عن محورية النفس، وكذلك لإيمانه بأن النفس نوع من الكون الباطني موازٍ للعالم
الخارجي، والذي يمكن منهجيًّا الكشف عنه. واعتقد يونغ أننا في الغرب التزمنا موقفًا
انبساطيًّا، أي متجهًا إلى الخارج، مكننا، من ناحية، من تحصيل معارف غير مسبوقة عن
العالم الفيزيقي فضلًا على قوة للسيطرة عليه. بَيْد أنه من ناحية أخرى، جعلنا نغفل
أو نقلل من قيمة أهمية الحياة الباطنية. ولكن فلسفات الشرق القديمة وتوجهها نحو
الباطن حققت الكثير مما نتعلمه منها. فضلًا على هذا أكد أن الأزمة الرُّوحية التي
يبدو الغرب في طريقه إليها الآن تجلت في كل من فقدان الشعور بالمعنى الفردي، وكذلك
الانفجار الدوري لعواصف اجتماعية وسياسية عنيفة. وحدث كل هذا نتيجة الوضع النفسي
غير المتوازن في الغرب، وهو وضع في حاجة إلى موازنة مقابلة تتمثل في أن نعيد تأكيد
القيم الباطنية والرُّوحية التي نلتمسها في الشرق.
٥
وقد يفترض البعض أن يونغ، تأسيسًا على إيمانه بحاجة الغرب إلى تعويض ميوله
الانبساطية المتجهة إلى الخارج، أصبح توَّاقًا إلى تبني طرق اليوغا وإلى دمجها في
ممارساته العلاجية. بَيْد أنه كان شديد الحذر من هذه الناحية حتى إنه خيَّب ظن بعض
المعجبين به بسبب هذا الحذر المفرط من دون ضرورة. ومضى بعض النقاد إلى أبعد من ذلك،
كما سوف نرى فيما بعد، وأكدوا أن الوضع الاستقطابي الذي افترضه بين غرب متجه إلى
الخارج (انبساطي) وشرق متجه إلى الداخل (انطوائي)، فضلًا على تأكيده على الاختلافات
الجوهرية بين الثقافات الأوروبية والآسيوية ساعدا على تشكيل إطار مفاهيمي للأفكار
العنصرية في ثلاثينيات القرن. ولكن أيًّا كان الأمر فقد بدا يونغ حذرًا من التكلف
ومن النتائج التي تنطوي على أخطار محتملة بالنسبة إلى أبناء الغرب المطبوعين على
تحصيل كل ما هو جديد مع نفاد الصبر، إذ ربما يقنعون بالتعلق بالجوانب السطحية من
تقنيات اليوغا ويعمِدون إلى «ارتدائها وكأنها لباس جديد ورموز جاهزة وافدة من تربة
غريبة يسترون عُرْيهم بأغطية ذات رونق وبهاء مجلوبة من الشرق» (يونغ، ١٩٥٩م، ١٤).
فضلًا على هذا فإن التقنيات الشرقية للتحول الرُّوحي نمت واكتملت على مدى آلاف
عديدة من السنين تأسيسًا على ثقافة عريقة قديمة وتختلف اختلافًا تامًّا عن الغرب
الذي «سار تطوره الرُّوحي على طول مسارات جد مختلفة عن الشرق، ومن ثم أنتجت ظروفًا
صنعت تربة غير مواتية على الإطلاق لكي يظن المرء أنها صالحة لتطبيق ممارسة اليوغا»
(١٩٧٨م، ٨٥).
لذلك، وعلى الرغم من تقديره الكبير للفكر الشرقي باعتباره إنجازًا رُوحيًّا ويراه
«من أعظم إبداعات العقل البشري» (١٩٧٨م، ٨٥)، فإنه لم يدْعُ الغربيين إلى الاقتداء
بممارساته. ورأى في الحقيقة أن الدافع إلى الأخذ بالأفكار والممارسات الشرقية مطابق
للرغبة الغربية في امتلاكها والسيطرة عليها والاستفادة بها. وألح في دعوته قائلًا:
«ادرس اليوغا وبذلك سوف تتعلم منها معارف لا نهاية لها، ولكن لا تحاول تطبيقها»
(١٩٧٨م، ٨٢). ويرى أن ما يمكن تحصيله منها هو ما توحي به لنا لتطوير صورة اليوغا
الخاصة بنا نحن الغربيين: «يتعين أن نبني على أرضنا نحن وبطرقنا نحن» (المرجع نفسه،
١١). وتمثل تقنيات التحليل النفسي إحدى هذه الطرق. وإذا كان قد تجنب الاستعارة
المباشرة من اليوغا وزعم أنه لم يستخدم أبدًا تقنيات التأمل الشرقي كما هي في
ممارساته، لكنه وجد في هذه التقنيات وفي الأفكار الداعمة لها نماذج شجعته على تطوير
تقنياته الخاصة به. ولهذا رأى أن طريقته في التخيل النشط وتقنية التصور التي يتبعها
المريض على مدى سلسلة من التخييلات بأسلوب واعٍ عمدًا إنما تمثل صيغة غربية حديثة
لبعض التقنيات القديمة ليوغا التانترا. ويتطابق هذا مع استخدامه لرمز الماندالا،
٦،٧⋆
وكذلك استخدامه رسومًا تعبيرية على الرغم من أنه طورها على مدى جهوده هو في التحليل
النفسي. ووجد دعمًا وتأكيدًا له على هذا من رموز وطرق مماثلة مستخدمة منذ زمن طويل
في الشرق. والحقيقة أن كل عملية تطوير الفرد لشخصيته والتي تمثل لب منهج يونغ
التحليلي اعتاد أن يعتبرها صنوًا لطرق اليوغا من حيث العمل في رأيه على توحيد
الشعور واللاشعور.
ولقد كان يونغ في الحقيقة مدركًا للاختلافات المهمة بين أسلوبه في تناول النفس
الإنسانية وفلسفات الشرق الرُّوحية التقليدية. لم يكن موافقًا على تعاليم أدفَيتا
فيدانتا في شأن اللاإثنينية، وذهب إلى أن العقيدة البوذية في شأن إمكان الخلاص
الكامل من المعاناة ما هي إلا خداع. ولكن كتاباته في هذا المجال تمثل محاولة مهمة
ومؤثرة للمشاركة في حوار هرمنيوطيقي مع أفكار الشرق، وتعطينا مثالًا شاملًا للطريقة
التي ينبغي من خلالها تأويل واستثمار الأفكار الشرقية وفاء لأغراض خطابية غربية.
٨ لهذا السبب تحديدًا رأيت أن أقضي بعض الوقت مع يونغ، ولكن من المهم أن
أسجل أن عددًا آخر من المشتغلين في هذا المجال، وممن يضارعونه شهرة، قاموا برحلات
استكشافية تجاه الشرق، واستكشفوا المفاهيم والممارسات الشرقية كطريقة للاستنارة
الخاصة بهم.
أهم هؤلاء ممن يجدر ذكرهم هو إريك فروم (١٩٠٠–١٩٨٠م). نراه مثل يونغ كابد لكي
يربط عمله وأفكاره التحليلية بقضايا اجتماعية وأخلاقية واسعة النطاق، وعمَد إلى
التأكيد على الحرية والمسئولية والبحث عن المعنى وليس عن اللاشعور، وأدى هذا إلى
ابتعاده عن الأصولية الفرويدية، وأصبح على صلة في الخمسينيات بالمفكر سوزوكي، وتولد
لديه من خلاله اهتمام وثيق ببوذية زن. وفي عام ١٩٥٧م شارك مع سوزوكي وآخرين في
مؤتمر عن زن والتحليل النفسي. ويقول إن «هذا المؤتمر قادني إلى عمل إضافات ومراجعات
مهمة لأفكاري، خاصة ما يتعلق منها بمشكلات مكونات اللاشعور وتحوُّل اللاشعوري إلى
شعوري، وهدف العلاج بالتحليل النفسي» (فروم وآخرون ١٩٦٠م، المقدمة). ويوضح هذا
بجلاء في دراسته عن بوذية زن إذ يقول: «كانت ذات أهمية حيوية بالنسبة إليَّ. وأعتقد
أنها مهمة كذلك لجميع دارسي التحليل النفسي» (المرجع نفسه، ٧٨). ونلحظ أنه على
الرغم من الاختلافات بين فروم ويونغ نجد كثيرًا من الخطوط المتوازية في نهج كل
منهما. إنه مثل يونغ يعترف بوجود اختلافات بين زن والتحليل النفسي، وإن رأى في
الوقت نفسه أن كلًّا منهما يلقي ضوءًا يوضح الآخر، خصوصًا حين تتطابق أهدافهما
العملية. ويؤكد أن «معرفة زن والاهتمام بها يحققان أقوى تأثير تخصيبي وتوضيحي
لنظرية وتقنية التحليل النفسي». ويرى كذلك أن «فكر زن سيعمق ويوسع أفق المحلل
النفسي» (المرجع نفسه، ١٤٠).
بَيْد أن المقدمة الأولى التي انطلق منها فروم لم تكن التحليل النفسي في ذاته، بل
«الأزمة الرُّوحية التي يمر بها الإنسان الغربي في هذه المرحلة التاريخية الحاسمة»
(فروم وآخرون، ٧٧). وهذه نقطة اتصال أخرى مع يونغ. ويشخص هذه الأزمة بوصفها «قلقًا»
و«ضجرًا» و«مرض القرن» و«إماتة الحياة»، و«أتمتة الإنسان»، بمعنى أن يصبح إنسانًا
أشبه بآلة أتوماتية، والاغتراب عن نفسه وعن الصديق وعن الطبيعة. ويشير إلى أن هذه
الأزمة حرص على تعريفها وتحديدها مفكرون كثيرون، ابتداء من كيركغارد وماركس وحتى
تيليتش ودافيد ريسمان (المرجع نفسه، ۷۸، ۷۹). ويمثل التحليل النفسي في رأي فروم
تعبيرًا متميِّزًا لهذه الأزمة، ومحاولة لالتماس حل. فضلًا على هذا أنه ليس
بالإمكان تفسيره على أنه إجراء طبي خالص وله أهدافه المرتبطة بالمفاهيم التقليدية
عن «المرض» و«الشفاء»، بل إن هدفه أوسع من ذلك وهو «معرفة الذات» بنفسها و«التحول
الذاتي». وأين أمكن للعلاج النفسي أن يعتمد على الأفكار والممارسات التقليدية عند
زن. ويؤكد لنا أن «لب العملية العلاجية هي زيادة قوة الوعي بالذات، واتساع نطاق
الوعي، وتحقيق الذات لإمكاناتها، وأن هذا هو تحديدًا عين الهدف الذي يمثل لب بوذية
زن. ذلك أن زن هي فن رؤية المرء لوجوده داخل الطبيعة في اتساق معها. إنها أسلوب
للتحول من أسر العبودية إلى الحرية» (المرجع نفسه، ١١٥). إنها ليست، كما افترض
البعض خطأ في أغلب الأحيان، صورة من نرجسية إنكار العالم،
٩⋆
وليست أيضًا وسيلة لتحقيق ما يشبه حالة الغَشْية التي تتبدد خلالها الحقيقة
الواقعة، بل هي إيقاظ للوضع الراهن للمرء ومواجهة مباشرة معه. إن ساتوري
(الاستنارة) ليست حالة شاذة للعقل، ولا هي، كما كان يميل يونغ إلى الاعتقاد، فن
شرقي بعيد عن الخبرة الغربية، بل هي «إدراك مباشر للحقيقة من دون استغراق في
التفكير … تحقق علاقة الذات بالكون» (المرجع نفسه، ١٣٤). فضلًا على هذا فإن طريق
زِن للاستنارة ما دام يشبه عملية العلاج النفسي فإنه يساعدنا على فهم هذه العملية
من حيث تأكيدها على ما هو قائم على الخبرة وليس الفكر أو المعرفة، ذلك لأنها تفارق
نوع المعرفة والإدراك الذي تراقب من خلاله الذات-الفكر نفسها كموضوع، وبذلك فإنها
تفارق المفهوم العقلاني الغربي عن المعرفة (المرجع نفسه، ۱۱۱). نقول هذا بأسلوب آخر
وهو أن «زن، مثلها مثل العلاج النفسي، تواجه مباشرة الظرف الوجودي؛ ذلك لأن كليهما
يثير سؤالًا واحدًا: «من أنا؟» وتشجع على التحرر من أي نوع للسلطة الخارجية. إنها
تعني الإيقاظ، وتبديد الخيالات والأكاذيب بُغية رؤية الحقيقة الواقعة كما هي»
(المرجع نفسه، ١٢٩).
وتجلَّت واضحةً الرابطة بين زن والوجودية عند فروم مثلما تردَّد صداها عند العديد
من المفكرين الآخرين. مثال ذلك: الطبيب النفسي الفرنسي أوبير بينوَا الذي كان له
تأثير كبير على دارسي زن الغربيين في المرحلة الباكرة. ويذهب بينوَا إلى أن البوذية
بتأكيدها على الظرف الإنساني وعلى مصادر المعاناة الذهنية تشترك مع الوجودية في
عناصر كثيرة. ويرى أن استنارة زن تمثل ببساطة «التحول إلى وعي بالوجود» و«التبصر في
الطبيعة الخاصة بالمرء». وتتميز هذه الطريقة بالفجائية والتلقائية وعملية الإفراغ
الطليق، وهي عملية غير فكرية (بينوَا، ١٩٥٥م، ٢٥). وتتجلَّى الفكرة الوجودية أكثر
وضوحًا في أعمال المحلل النفسي السويسري ميدارد بوس رائد منهج في العلاج النفسي
يسمى التحليل الوجودي
dasein analysis، وهو منهج
ينبني على فلسفة مارتن هيدغر. والجدير ذكره أنه خلال الستينيات قام بزيارتين
طويلتين إلى الهند حيث التقى عددًا من حكمائها ممن أُعجب بهم إعجابًا شديدًا
«كأمثلة حية لإمكان النمو والنضج الإنساني وتحقيق سلم باطني شامل.» وخلَص إلى نتيجة
محددة وهي «حري بنا أن نسميهم معالجين نفسيين لا فلاسفة» (بوس، ١٩٦٥م، ١٨٤). والتزم
لفترة طويلة موقفًا نقديًّا إزاء النظرة الإمبريالية الغربية بعامة، وإزاء ما رآه
بخاصة من منظوره الوجودي افتقاد علم النفس الغربي لأي فهم حقيقي للشخص كذات واعية:
«إن علم النفس الغربي لا يقول لنا أي شيء على الإطلاق عن ذاتية الذات، وشخصية
المرء، ووعي العقل … إنه يرى الإنسان شيئًا فقط أو تراكمًا من أشياء» (١٩٦٥م، ١٠).
وحذا حذو يونغ في رفضه تبني تقنيات اليوغا كما هي وبشكل مباشر، وحذر من النتائج
النفسية الوخيمة التي تلحق بالغربيين الذين «يحاولون الاستغراق في التأمل بالطريقة
الهندية» (المرجع نفسه، ١٨٦). بَيْد أنه في الوقت نفسه رأى أن المحلل النفسي في
وسعه أن يحقق لنفسه الكثير من زن، خصوصًا ما يتعلق بالقدرة على تطوير حالة تأملية
متفتِّحة للعقل، وقدرة على الإنصات الهادئ إلى «الإيقاع النغمي المتسق» للوجود كله
بدلًا من إجهاد الفكر» (المرجع نفسه، ۱۹۰). وثمة اثنان آخران من كبار المحللين
النفسيين المتميزين الذين عُنوا عناية كبيرة بالتبادل فيما بين الثقافات. هذان هما:
كارين هورني الذي دأب مع إريك فروم على متابعة محاضرات سوزوكي في جامعة كولومبيا،
وزار اليابان لمتابعة حياة دير من أديرة زن. والثاني: آر دي لانغ الذي قضى بعض
الوقت يتعلم على أيدي معلمين بوذيين في سريلانكا وتايلاند واليابان. بَيْد أنني، في
حدود معرفتي، أرى أن رحلة أي منهما لم تحقق ما هو أكثر من الفائدة الشخصية.
١٠
عالجنا في الصفحات القليلة الماضية موضوعات كثيرة من مثل الحاجة إلى استكمال
أساليب التناول الغربية بأخرى شرقية لدراسة الشخصية البشرية، والحاجة إلى المساهمة
الممكنة التي تيسرها تقنيات الشرق التقليدية لأساليب العلاج النفسي. وتبدو هذه
الموضوعات ماثلة بوضوح في علم النفس الإنساني. ونلحظ أن إحدى السمات البارزة
المميزة لهذه المدرسة الفكرية هي سعيها لتناول علم النفس بأسلوب راديكالي جديد.
وإذا كان بوسعنا يقينًا أن نراها تطورًا نابعًا من تراثات أكثر أصولية إلا إنها في
الوقت نفسه تمثل نقدًا قويًّا ومتصلًا لكل هذه التوجهات الأصولية. ويمس هذا النقد
كثيرًا من القضايا التي فرغنا الآن من عرضها، ومن ثم لا غرابة أن نكتشف أن علماء
علم النفس البشري عملوا بنشاط وصراحة من أجل الاعتماد على النماذج الشرقية في
محاولتهم صوغ وجهة نظر مميزة مع تأكيد قابلية التلقي وعدم التدخل والتلقائية
والخبرة الآنية المباشرة على سبيل المثال. وحري أن نتذكر أن ميلاد علم النفس الإنساني
١١⋆
توافق مع هموم حركة الثقافة المناهضة في الستينيات وعبَّر عن بعض هذه الهموم. وحدث
ذلك، كما رأينا، وقتما أصبح الفكر الشرقي بؤرة الاهتمام على نطاق واسع. وأبرز دعاة
هذه الحركة شخصيات من مثل أبراهام ماسلو وروللو ماي وكارل روجرز. والملاحظ أن هؤلاء
على عكس بعض المشتغلين بالعلاج النفسي السابقين عليهم ممن عرضنا لهم، لم يدرسوا عن
كثَب الفكر الشرقي دراسة مباشرة. ولكن الطابع العام لمشروعهم وتأكيده على تحقق
الذات في الواقع العملي واستكشاف وصقل الوعي اكتسب نكهة شرقية. وهذا ما عبَّر عنه
جون رُوان مؤرخ الحركة بقوله: «يشتمل علم النفس الإنساني اليوم على أشياء كثيرة
نبعت أساسًا من الشرق» (١٩٧٦م، ١٤).
١٢
وثمة نقاط التقاء كثيرة بين مدرسة علم النفس الإنساني والشرق، من بينها الرغبة في
التعالي على التفكير الإثنيني؛ العقل-الجسد، مثال ذلك أن روللو ماي الذي لفت
الأنظار إلى أوجه التشابه بين التحليل الوجودي والفلسفات الشرقية مثل الطَّاوية
وزن، يدفع بأن أهمية الفكر الشرقي لعلم النفس الإنساني تكمن في حقيقة أن «الفكر
الشرقي لم يعانِ أبدًا من الصدع الراديكالي بين الذات والموضوع الذي يميز الفكر
الغربي (١٩٥٨م، ١٩). وهذه فكرة أكدها ماسلو في حديثه عن «الانقسام الثنائي». وتتعلق
نقطة التقاء أخرى باستخدام استراتيجيات العلاج المستوحاة جزئيًّا من ممارسات التأمل
في الشرق. ونجدها أكثر ما تكون وضوحًا في مدرسة الجِشطَلت التي تركز على المباشرة
هنا والآن، وعلى الخبرة من دون توسط إعمال فكري للعقل. ونلحظ أن ممارسات التأمل
البوذي المتمثلة في «الانتباه المجرد» و«التنبه» قدم نماذج فعالة وقوية. وأكد
المفكر الجِشطَلتي كلوديو نارانجو (وهو داعية مبرز للدمج بين الممارسات الرُّوحية
الشرقية والعلاج النفسي) التأثير القوي للتأمل البوذي على التوجه الراهن للعلاج
النفسي المعاصر. ويخلُص إلى أن القواعد والنظم الرُّوحية الشرقية — خاصة زن — أسهمت
كثيرًا في صياغة العلاج الجِشطلتي.
١٣ ويتمثل التقاءٌ آخَر في غرس «حالات عليا للوعي»، وهذا إجراء مقترن بأحد
فروع علم النفس الإنساني المعروف حاليًّا باسم علم النفس أو سيكولوجيا ما وراء ظاهر الشخصية.
١٤⋆
ويمكن تتبع جذور الوحي بهذا المبحث بالرجوع إلى اهتمامات جيمس ويونغ وأساجيولي
بالخبرة الصوفية واعتبارها جزءًا متكاملًا مع «النمو النفسي السوي». ويمكن الرجوع
بها أيضًا إلى اهتمام ماسلو بما يسمى «خبرات الذروة»، وكذا أهمية حالات معينة في
الحياة النفسية من مثل «الإدراك العميق» و«النشوة» و«الإبداع» و«الوعي الموحد».
وجدير بالذكر أن حركة علم النفس الإنساني بعامة اعتمدت كثيرًا على التراث الشرقي مع
صياغة معقدة لمستويات الوعي المختلفة، بداية من الحالات اليومية العادية ووصولًا
إلى خبرات «الوعي الخالص» التي يضعف فيها إحساس المرء بنفسه كفرد متميز. ويقول في
هذا الصدد وارويك فوكس: «إن المفكرين المهتمين بحالات الوجود فيما وراء ظاهر
الشخصية شعروا بوجه عام أن من الضروري التطلع إلى الفكر الشرقي باعتباره مصدرًا
لِلُغة المفاهيم وللنماذج النظرية والإرشاد العملي» (١٩٩٠م، ٢٩٩). ويُعتبر كين
ويلبر المفكر الرائد في هذا المجال، وهو ناقد قوي الشكيمة في نقده للأطر الفكرية
السائدة في علم النفس، كما استخدم أفكارًا مستمدَّة من الشرق لتساعده في صوغ نموذج
تطوري شامل للوعي. وقدم مع معاونيه كتاب «تحولات الوعي» الذي حاولوا فيه الجمع بين
الأفكار الشرقية مع التيار الأساسي لعلم النفس بغية بناء «نموذج جامع شامل وتام
للنمو البشري … وهو نموذج يضع في الاعتبار على نحو جادٍّ المسارات والمراحل
«الأرفع» أو «الأدق» التي تجسدها أعظم المباحث العالمية التأملية.»
وتشير فكرة اتساع نطاق الوعي إلى كل مجال الصحة العقلية، وكذا إلى النمو الشخصي
الذي يعج في مرحلة عمرية بمشكلات القلق والاغتراب والفراغ. وأصبحت لهذه الفكرة
الغلبةُ والسيادة أكثر فأكثر. وإن أهمية تراث الشرق الرُّوحي في هذا السياق تكمن في
الإصرار المتزايد على التفكير في هذا التراث، ليس باعتباره فقط أو أساسًا عقائد
دينية، بل باعتباره «مذاهب للفهم وإنجاز تغيير عميق في الشخص» ويقود إلى تحولات في
المواقف تجاه مسائل عن «الحياة والموت والمسئولية والعلاقة والذاتية» (كلاكستون
١٩٨٦م، ٩). ومن ثم فإن الصحة العقلية كخاصية إيجابية مقابل غياب الحالة المرضية،
التي يمكن العمل بنشاط على تطويرها وتقدمها إنما هي شيء لم يؤكده دائمًا التراث
الطبي الغربي الحديث. ولكن الاهتمام أخيرًا بهذا الأسلوب في التناول مَدين بعض
الشيء للنماذج الشرقية وتقنياتها لغرس الهدوء والسكينة والتوازن بين العقل-الجسد.
ونشهد أيضًا في مضمار نمو الشخصية غرس بذور من الأفكار الشرقية في عدد من المجالات
التي تتجاوزها وإن ارتبطت بالعلاج النفسي. ويشتمل هذا على الإدراك الذاتي والتدرب
على إدارة الذات والتحكم في العقل والذاكرة وتقنيات التصور، والتغذية المرتدة
الحيوية، بل والعلاج السلوكي. ونلحظ أن جميع هذه الحالات لها تطبيقاتها التي تمتد
عبر مجالات كثيرة، من بينها: العلاج النفسي، والرعاية الصحية، واستراتيجيات النمو
الشخصي، والتدرب المهني والإدارة. ويوجز عالم النفس البريطاني مالكولم والي العلاقة
التي تربط الشرق-الغرب فيما يلي:
إن تراث تدريب العقل الذي نشأ وتطوَّر في إطار بوذية التِّبِت يمثل
مصدرًا نفيسًا للمعلومات يفيد به العاملون في مجال العلاج النفسي الغربي
وفي المهن الأخرى المساعِدة. ويمكن لعلماء النفس أن يجدوا من خلال تقييمهم
لهذا التراث ما يشجعهم على دراسة مسلَّماتهم هم وما لديهم من إمكانات
لتعديل منظومات المفترضات الذهنية كلٍّ على حدة في اتجاه تحقيق رفاهة نفسية
أعظم.
(كروك وفونتانا، ١٩٩٠م، ١٤٣)
١٥
الدراسات عن التأمل والوعي
التفكير في تدريب العقل وفي الصحة العقلية يفضي حتمًا إلى مسائل تتعلق بدور
التأمل في المناقشات السيكولوجية المعاصرة. والملاحظ في السنوات الأخيرة أن ممارسات
التأمل على الطريقة الشرقية حظيت باهتمام متزايد في المجتمعات الغربية سواء على
المستوى المهني أم الشعبي. وسبق أن رأينا أولًا وقبل كل شيء في مجال العلاج النفسي
ثم في مجالات أوسع للتطور الشخصي والمهني كيف أمكن ملاءمة التقنيات الرُّوحية
الشرقية التقليدية مع أهداف غربية المنشأ. وأوضح لنا عالم النفس البريطاني ميشيل
ويست اتساع نطاق الاهتمام، وهو الباحث الذي أكد أن ثمة رابطة بين التأمل وقضايا
أوسع نطاقًا تتعلق باللياقة والصحة والرفاهة العاطفية … وهو شكل طبيعي للعلاج
والاسترخاء يدعم الصحة العقلية والتحقق الذاتي. ويستطرد ليوضح لنا المدى الواسع
الذي يمارس فيه الناس العاديون التأمل الآن في أماكن حياة يومية غير عيادية (١٩٨٧م،
المقدمة).
وساد الغرب من دون ريب سوء فهم كبير بشأن التأمل. إذ كثيرًا ما اعتبروه عملًا
يجسد كل ما هو غامض وغريب يتعلق بالشرق. كذلك نرى في نطاق علم النفس أن ثمة ميلًا
للربط بينه وبين الخبرة الصوفية، ومن ثم النظر إليه باعتباره شكلًا من أشكال
الهلوسة المدفوع إليها المرء ذاتيًّا، وكذا باعتباره مهربًا من متطلبات العالم.
ولكن شهدت السنوات الأخيرة موجة طاغية من التغير في المواقف يوجزها الفيلسوف
الأمريكي بول ساغال في كلمات له إذ يقول: «لا شيء سحريًّا غريبًا في التأمل. إنه
ليس أداة لممارسة قوى سرية … إنه في نهاية المطاف ممارسة للحياة اليومية» (من كروك
وفونتانا، ١٩٩٠م، ١٥٠). ويؤكد نارانجو الذي أجرى أعمالًا تجريبية كثيرة في هذا
المجال أنه إذا كانت صوفية الغرب تتطلع إلى أعلى وإلى ما وراء الجسد والعالم المادي
فإن تقنيات التأمل الشرقي تُولِي أهمية كبرى للعوامل النفسية-الفسيولوجية وللخبرة
اليومية مع الأصوات والصور الخيالية والحركات ووظائف البدن (نارانجو وأورنشتين،
١٩٧١م، ٦٦). ويبرز عالم النفس جون ويلوود وجهها البراغماتي اليومي في الفقرة
التالية:
يبرهن التأمل على طريقة عملية ومباشرة تمامًا لاكتشاف أكبر قدر من الوعي
والحيوية الزاخرة في داخلنا ولتعلم أن نثق باتجاهه الطبيعي صوب الرفاهة.
كذلك يدربنا التأمل على الانتباه … باعتباره جوهريًّا للتغيير العلاجي.
ويساعدنا على غرس موقف ودي إزاء جميع ظواهر العقل — وهكذا يمكن إبدال
الصراع والنضال الباطني في محاولة للتخلص من الأنماط الذُّهانية بما تسميه
البوذية ميتري maitri، أو التصالح مع
الذات. ويسمح في الوقت نفسه بأن يأخذ المرء طريقة لتحقيق أكبر قدر من الوعي
حيث تبدو التشابكات الانفعالية العادية من منظور مغاير.
وليس لنا أن ندهش إذ أصبح التأمل موضوعًا للبحث العلمي في ضوء هذا الاعتدال في
الموقف والاعتراف بتطبيقات واسعة النطاق في سياقات دنيوية حديثة. وتركزت جهود كبيرة
لعلم النفس للدراسة العملية لهذا الموضوع على مدى الربع الأخير من القرن العشرين،
وتَمثَّل حصادها في إصدار عشرات الكتب والتسجيلات وأكثر من ألف ورقة بحث. وعلاوة
على الدلالات العلاجية فقد تركز الاهتمام الرئيسي في مجالات التغيرات الفسيولوجية
والشخصية، هذا على الرغم من أن هذه التغيرات، كما سنرى بعد قليل، ارتبطت بدورها
بمسائل أوسع نطاقًا عن طبيعة الوعي. وجدير بالذكر أنه فيما يتعلق بالتغيرات
الفسيولوجية أُجري عدد من البحوث في الشرق وفي الغرب على السواء. وأوضحت هذه البحوث
أن ثمة تغيرات فسيولوجية ذات دلالة تحدث أثناء التأمل وتظهر في مجالات مثل التنفس
ونبضات القلب وضغط الدم، ومقاومة الجلد ونشاط المخ. وجدير بنا أن نذكر نتيجتين لهذه
البحوث لما لهما من أهمية. يؤكد بعض علماء النفس، فيما يتعلق بالنتيجة الأولى
وتأسيسًا على أبحاث استخدمت تقنيات رسام المخ الكهربي أنه علاوة على اليقظة والنوم
والأحلام هناك حالة رابعة أساسية للوعي تنتج خلال حالات التأمل وتتميز بنمط من
الإثارة المنخفضة ويشار إليها بعبارة نشاط الموجة ألفا
١٦⋆
وتتعلق النتيجة الثانية بإمكان التحكم المباشر في الجهاز العصبي الذاتي. ويُعتبر
هذا المجال في البحث مثالًا واضحًا للتلاقي بين علوم الشرق والغرب وللمعارف التي
يجري التقاطها وجمعها من المذاهب التأملية القديمة، كما أنه مجال لمعلومات جُمعت
بفضل أكثر التكنولوجيات الطبية الحيوية تقدمًا في القرن العشرين (بيللينيير، ١٩٨٥م،
١٤٢). وتحققت نتائج عيادية ضمنية مهمة نذكر من بينها أساليب جديدة في علاج ظروف
وشروط ارتفاع ضغط الدم.
أما عن التغييرات التي تطرأ على الشخصية فقد أُجري عدد من البحوث لتحديد الآثار
بعيدة المدى لممارسة التأمل على كل من السلوك والشخصية. وأشارت هذه البحوث إلى
انخفاض مستويات القلق والاكتئاب والعُصاب، كما أشارت إلى ارتفاع مستويات الإحساس
بقيمة النفس والثقة بها. وحريٌّ أن نؤكد أن نتائج جميع هذه الجهود التجريبية ليست
أبدًا إيجابية في اتجاه واحد محدد، وأن البحث فيما يتعلق بالنتائج الفسيولوجية
للتأمل وأثر التأمل على الشخصية لم تحقق دائمًا الوعي الذي بشَّرت به في البداية.
ومع ذلك لا يمكن القول بأن اهتمام علماء النفس التجريبيين بات مستنفَدًا، إذ لا
يزال العمل في هذا المجال مستمرًّا ليوضح جدوى تلاقي مناهج البحوث النفسية من
خلفيات ثقافية جِد متمايزة. وفي هذا يقول ميشيل ويست: «يفيد الرجوع إلى الفلسفات
الشرقية في تزويدنا بأطر مفاهيمية متقدمة نسترشد بها في صوغ الفروض.» ويستطرد
ليقول: «إحدى نتائج التلاقي بين مناهج البحث في الشرق والغرب تتمثل في إجبارنا على
العودة ودراسة مناهج البحث في علم النفس دراسة أكثر تدقيقًا» (١٩٨٧م، ٢٦٦). ويؤكد
أن هذه الدراسة سوف تساعدنا حتمًا على توجيه اهتمام الباحثين النفسيين إلى جوانب من
السلوك الإنساني طالما كانت مُغْفلة. وإن أحد هذه الجوانب هي الإدراك الذاتي أو
الوعي، ولقد حان الوقت الآن لدراسة أثر الدراسات عن التأمل والفلسفات الشرقية بعامة
على مجال البحث الذي عاد ثانية ليشغل اهتمام علماء النفس.
١٧
ويشهد علم النفس في الغرب تجديدًا للنشاط البحثي فيما يتعلق بالوعي بعد قطيعة
امتدت زمنًا منذ أيام وليام جيمس في أمريكا ومدرسة نورنبرغ في ألمانيا عند منعطف
القرن. ويتوافق هذا مع استحداث علم نفس المعرفة في الستينيات والسبعينيات، كما
يرتبط بتنامي تأثر مذهب الظاهراتية (الفينومينولوجية) داخل العلوم الإنسانية. ويرى
روبرت أورنشتين، وهو من الرواد الأوائل لحركة الوعي، أن هذا الاهتمام مجددًا بما قد
يبدو في نظر الشخص العادي أمرًا محوريًّا على نحو مطلق لأي دراسة تستهدف دراسة
الإنسان، إنما يمثل رد فعل ضد نهج السلوكية وما يتصف به من «ضيق أفق» و«محدودية لا
مبرر لها»، كما يمثل توجهًا نحو دراسة الإنسان دراسة أكثر شمولًا واستيعابًا لكل
الجوانب (أورنشتين، ١٩٧٧م، ٥، ٧). وقدم أورنشتين إسهامه في هذه الحركة الذي يتركز
على تحديد الخطوط الفاصلة بين وظائف النصفين الكرويين للدماغ اليمين واليسار. وجدير
بالذكر أن روجر سبيري وميشايل غازانيغا قدما عملًا رائدًا في هذا المجال خلال
الستينيات، وهو العمل الذي حث أورنشتين على التفكير في وجود نمطين للوعي أساسيين
ومتكاملين، أحدهما تحليلي معنِيٌّ بالوظائف الكلامية والعقلية، بينما الآخر تركيبي
أو شمولي معنِيٌّ بالوظائف التخييلية والحدسية والانفعالية — وهذان هما المخ الأيسر
والمخ الأيمن على الترتيب. ويرى أورنشتين أن ثمة ميلًا في الثقافة الغربية الحديثة
لإضفاء مكانة متميزة على أنشطة المخ الأيسر، ومن ثم الغض من قيمة أنماط الوعي غير
العقلانية وغير الكلامية. وتفيد نظرية النصفين الكرويين المتمايزين وظيفيًّا للمخ
أن تركيز الغرب على التدرب الكلامي والعقلي بحاجة إلى أن نستكمله بالطرق الأكثر
حدسية والمقترنة بالتأمل الشرقي وممارسات اليوغا. وأن هذه الممارسات تفضي إلى
«تحوُّل من العالم التحليلي السوي الذي يحتوي على أشياء وأشخاص متمايزة ومنفصلة
بعضها عن بعض إلى النمط الثاني الذي يمثل خبرة الوحدة والإدراك الشمولي» (المرجع
نفسه، ١٨٧). ويعتقد أورنشتين أن علم النفس المعاصر يواجه الآن أول الدوافع التي
تستحثه لخلق مركب من هذين النمطين. ويشير إلى أننا بصدد بداية علم أكثر اكتمالًا عن
الوعي الإنساني. وإن هذا المركب، في رأيه، سيتعلم الكثير والكثير من سيكولوجيات
الشرق السرية والقاصرة على الشرق.
وجدير بالذكر أن نظريات أورنشتين عن الدلالات الضمنية الأوسع نطاقًا للبحوث بشأن
الثنائية الوظيفية للنصفين الكرويين لم تحظ بقبول عام، وذلك على الأقل بسبب نزوعها
إلى تَشْييء الاختلافات الثقافية، بمعنى جعلها متمايزة تكوينيًّا. ومع ذلك فإن
مشروعه لتأسيس علمٍ أكثر اكتمالًا عن الوعي، بما في ذلك بحث الفلسفات والممارسات
الشرقية، تردد صداه في عدد من أوساط علم النفس خلال العقود الأخيرة. وتجلى هذا
بوضوح لا مزيد عليه في بحوث لدراسة تغير حالات الوعي،
١٨⋆
بمعنى دراسة الحالات الذهنية التي تحدث تحديدًا بتأثير المارِجوانا والعقاقير
المسببة لفقدان الوعي والهذيان من مثل المِسكالين وإل إس دي
LSD، وتجارِب المرء المشرف على الموت
near-death experiences، أو تجارِب المرء
الخاصة بإحساسه بنفسه بعيدًا عن أحاسيسه الجسدية
out-of-body
experience، وأيضًا حالات الوعي التي يستحثُّها المرء من خلال
ممارسات التأمل. والملاحظ أن فلاسفة آسيا غالبًا ما نراهم في هذا السياق يصفون
ويوصون بتقنيات خاصة للوصول إلى حالات الوعي المتغيرة. وثمة آخرون مضَوا إلى أبعد
من ذلك وأكدوا أن حالات الوعي المتغيرة لا تشير فقط إلى مفهوم عن الوعي البشريِّ
أكثر ثراءً مما يفيد به التراث الغربي الرئيسي، بل إن لها أيضًا دلالات معرفية
(إبستمولوجية)؛ إذ تفيد احتمال وجود وسائل صائبة للمعرفة غير معترف بها في الفلسفة
الغربية. معنى هذا أن الفلسفات الآسيوية ربما تكون بطبيعتها أصلًا أعمَّ وأشمل من
الفلسفات الغربية، ويقول أموري رينكور في هذا الصدد: «بينما يرى الغرب في حالات
الوعي المتغيرة عمليات غريبة مقحمة ولا تفسير لها … لا يمكن استيعابها أو دمجها في
الحقيقة، فإن الشرق في المقابل ارتضاها منذ زمان طويل ورآها خبرة يومية» (١٩٨١م،
١٥٨). ونطالع في كتاب من تأليف شارلز في. تارت، وهو أحد علماء النفس المبرَّزين في
هذا المجال، طعنًا مماثلًا لما نتصوره حدودًا تحدُّ من النهج الغربي في دراسة الوعي
بالمقارنة بالنهج الشرقي التقليدي. نراه يؤسس رباطًا وثيقًا بين الخبرات الرُّوحية
وحالات الوعي المتغيرة، ويوضح اعتقاده بأن فهم السيكولوجيات الشرقية يمكن أن
يساعدنا في بحوثنا في مجال الحالات المتغيرة. وعلى الرغم من أنه لا يدعو الغرب إلى
تبني أساليب التناول الشرقية جملة بقدها وقديدها، إلا إنه يرى فيها مصدرًا للإلهام
ودليلًا نسترشد به في تناولنا للظواهر. ويقول مرددًا تحفظات مماثلة عند يونغ
وآخرين:
لا شك عندي في أن الكثير من المتون المقدسة تحتوي على قدر كبير ونفيس من
المعلومات والحكمة. وإنني على يقين من أن كثيرين من المعلمين الرُّوحيين
لديهم الكثير جدًّا مما يعلمونه لنا، وهو ذو قيمة مهولة. ولكن أعظم
التعاليم الرُّوحية يتعين ملاءمتها مع ثقافة الشعب الذي نقدمها له، إذا ما
شئنا أن ترتبط حقيقةً بتكوينهم النفسي.
ولا تزال فكرة تحقيق نوع من التلاقي بين سيكولوجيات الغرب والشرق مستمرَّة في حفز
العمل في كلٍّ من مجالات علم النفس العملي والنظري. ولكن على الرغم من هذا نجد أن
مسألة مقارنة رُوحانية الشرق بعلم النفس الغربي تثير برمتها مناقشة مهمة تفضي
بالبعض إلى الزعم بأن التطوُّر الرُّوحي لا علاقة له بالصحة العقلية، وأن النمو
النفسي والنمو الرُّوحي ليس بينهما ما هو مشترك سوى القليل جدًّا (انظر ويلوود،
١٩٨٣م، ٣٣، ٤٢). وأكثر من هذا أن فكرة أن التأمل يمكن أن يفضي إلى صحة عقلية للمرء
باتت موضع شك وتساؤل بسبب الفوارق الواضحة بين التراث الشرقي والغربي فيما يتعلق
بدور وقيمة الأنا. إذ بينما يسعى العلاج النفسي الغربي في غالب الأحيان إلى توسيع
نطاق حدود وقوى الأنا فإن النهج الشرقي غالبًا ما يُفضي إلى إذابتهما. علاوة على
هذا فإن بحث الغرب عن معرفةٍ نظرية تتعلق، على سبيل المثال، بطبيعة الوعي يبدو
أحيانًا في وضع حرج وصعب بالمقارنة بسعي الشرق لمعرفة النفس كهدف رُوحي، ذلك لأن
العلم بحكم طبيعته ذاتها لا يمكنه أن يقدم دليلًا نسترشد به فيما يتعلق بمسائل عن
المعنى والقيمة.
وطبيعي أن قضايا كهذه ليس من المحتمل أن تكبح فيضان الاهتمام بالدروب التي يسلكها
الشرق وصولًا إلى المعرفة وإلى تطور الذات. بَيْد أنها تشير بالفعل إلى أن السنوات
الأخيرة تشهد ميلاد أسلوب أكثر ميلًا إلى النقد والانعكاس على الذات في تناول
ودراسة المشروع برمته. وأن عبارات تبسيطية على نحو مخلٍّ مثل قولنا: «البوذية إحدى
صور العلاج النفسي» تمضي في الطريق نفسه لتكشف عن تفاهة الصيغ الشائعة عن «الشرق
المحفوف بالأسرار». وثمة أمارات تشير إلى تزايد الرغبة والإرادة من أجل الاعتراف
بالاختلافات واحترامها، والتي تظهر من خلال تباين الخلفية الثقافية والنظرة العامة
عند كل من الشرق والغرب. ومثلما أصبح علم النفس ذاته أكثر إدراكًا للمشكلات
المعرفية التي تنسج نهجها من خلال خطابه الخاص، كذلك الحال بالنسبة إلى أولئك
الباحثين عن سبيل للإسهام في بناء جسر بين الشرق والغرب أصبحوا مدركين الحاجة إلى
الاعتراف بالطبيعة المثيرة للجدل لمهمتهم. علاوة على هذا فإن المواجهة بين لغات علم
النفس الغربي ورُوحانية الشرق يمكن أن تسهم أيضًا في تآكل التصنيفات الفئوية وفي
توسيع نطاق الإحساس، الأمر الذي يمكن أن يفضي إلى تحوُّل في مبحث علم النفس ذاته.
والملاحظ أن الصعوبات التي نواجهها عندما نستخدم في هذا السياق مصطلحات بينها
اختلاف جوهري، من مثل: «رُوحاني» و«دين» و«علاج نفسي»، سوف ترغمنا على إعادة تقييم
هذه المصطلحات، ومن ثم إعادة تقييم جديد للغات التي تجسدها.