الفصل الثالث
مخدع القرصان أزمردا في مقدم سفينته، حجرة أنيقة وثيرة الأثاث، معلق فوق السرير بها
سيف لماع رائع، وبحوائطها حلقات من حبال، وسياط متنوعة، يجاورها بهو السفينة وهو رحب
مزدان بقناديل زجاجية، وبه أثاث متواضع. باتوزيس مضطجع على السرير بمخدع الربان،
والنوافذ الصغيرة حوله مسدلة الستائر غير نور منبعث من شعاع الضحى يتخللها من كوة
صغيرة، يدخل ماتوكا حاملًا مائدة طعام بعد أن يطرق الباب.
باتوزيس
(وهو يتقلب في وساده)
:
ماتوكا
(وهو يتقدم بالمائدة في دهشة واضطراب)
:
عبدُكَ ماتوكا!
حُييتَ، يا سيدي
وطابَ هذا النَّهارْ
لم آتِ في موعدي
بوجْبَةِ الإِفطار
باتوزيس
:
ماذا جَرى، يا تُرَى
أكادُ لا أفهَمُ
ماتوكا
:
إنَّ الذي قد جرى
أعجبُ لو تعلمُ
قد حملتنا الرياحْ
ونحنُ صرعى الكَرَى
وما رأينا الصباحْ
إِلَّا بهذا الثَّرَى!
ماتوكا
:
شاطئٌ تضحكُ فيهِ الرِّمالْ
نسيمُهُ دافئٌ وَماؤهُ سلسالْ
•••
يَعرفُهُ مِنْ سناهْ ربابنُ البحرِ
أوَّلُ ما نلقَاهْ من طَرَفَيْ مصرِ!
ماتوكا
:
أجَلْ: مصرُ!
ونَحنُ فيها الآنْ
من دوننا ثَغْرُ
من دونهُ يومانْ
باتوزيس
(مشيرًا إلى المائدة)
:
ما زِلتُ مربوكَا من هذهِ الأحلامْ
ما تلكَ ما توكا؟
ماتوكا
:
مائدةٌ من طعامْ
مائدَةٌ حافِلَةْ كثيرةُ الإغراءْ
جاءَتْ بها قافلةْ تدلفُ من سَيْناءْ
•••
من كلِّ روضٍ بهيجْ فاكهةٌ ناضجه
وكلِّ لحمٍ نضيجْ وَبَقْلَةٍ طازجَه
•••
وإِنْ تَشَأ فالرحيقْ مُهَيَّأٌ مُحْضَرُ
من كلِّ لَوْنٍ عَتيقْ شميمهُ يُسكرُ
•••
طوَّفَ كالكوكَب
على توالي السنين
من شاطِئِ المغربِ
إِلى بحارِ الصينْ
•••
بين السَّنَا والنَّدَى
وفي الرياحِ الهُوجْ
والحَرُّ يُذْكي الصَّدى
والقَرُّ يذرُو الثلوجْ
•••
تحيَّةُ الإخوانْ
في بُكَرِ الصيْفِ
من سيِّدِي الرُّبانْ
لسيِّدي الضيفِ!
باتوزيس
:
والسيِّدُ أزمردا هل قامَ من النَّوْمِ الآنا؟
ماتوكا
:
هو عندَ الشاطئِ يستقصي
نَبَأً وَيُسَائِلُ رُكبانا
•••
إِن شاءَ سيِّدي أمَرْ
أرفعُ هاتيكَ السُّتُرْ
(ويمضي ماتوكا في رفع الستائر بإشارة من باتوزيس فيغمر نور
الضحى المخدع، باتوزيس يحملق فيما حوله فيروعه منظر السيف المتألق بشعاع
النهار.)
باتوزيس
(مشيرًا إلى السيف)
:
ما ذلك الشيءُ أرَى؟
يكاد يبهرُ النَّظرْ
أحِلْيَةٌ نادِرَةٌ
أم ذاكَ من ماضٍ أثَرْ
ماتوكا
(متباهيًا)
:
بل ذاكَ سيفُ سيِّدي
وَعَوْنُهُ على الخَطَرْ
حديثُهُ مِلءُ البحورِ
والثُّغورِ والجُزُرْ
هُوَ الرَّدَى إِذا مَشَى
فَكُلُّ كائنٍ خَبَرْ
باتوزيس
:
وَمَا السِّياطُ هذِهِ؟؟
ألسنَةٌ مِنَ الشَّرَر
ماتوكا
(في حماسة)
:
يُلينُ لَذْعُها الحديدَ
أو يفتِّتُ الحَجَرْ!
تُخرِسُ أو تُنطِقُ مَنْ
تَشْكو الكلامَ والحَصَرْ!
ماتوكا
(مترسلًا في حماسته)
:
هُنَّ منْ حَبَائلِ القَدَرْ!
تلتفُّ بالسُّوقِ الرِّقاقِ
والمعاصمِ النُّضُر
وَلا ترقُّ للدُّموِع ضارعًا بها الحَوَرْ!
باتوزيس
(مشمئزًا)
:
كَفَاكَ ماتوكا كَفَاكَ
فالحديثُ لا يَسُرّْ!
قَرِّبْ إليَّ الكأْسَ أوْ
هذا النضيجَ وَالثَّمَرْ!
(ماتوكا يسرع بالمائدة فيضعها أمام باتوزيس وقد جلس في السرير،
وهو يقلب أنواع الشراب فيختار لونًا ويملأ به قدحه ويشربه ويأكل قطعة من
النضيج.)
باتوزيس
(شبه مسرور)
:
طيِّبةٌ هذي السلافُ والطعامُ طيِّبُ
إنِّي عَلى موْثقِ أزمردا وعهْدي أشْرَبُ
قُلْ لِيَ ماتوكا أأنتَ للجنوبِ تُنْسَبُ؟
إنَّ بلادًا أنْجَبَتْكَ للكرامِ تُنْجِبُ
ماتوكا
(شبه متألم)
:
أيُّ البلاد هذه أذكرها لسيِّدي؟
جهلتُ من أيْنَ أنا وَأَيْنَ كانَ مولدي!
دَرَجْتُ في هذا الوجودِ والخفاءُ مُوجِدِي
كأنما أمْسِي يأتي بَعْدَ يومي وغَدِي
ما للعبيدِ في مصايرِ الحياةِ من يدِ
وليسَ ماتوكا الرئيسُ غيرَ عَبْدٍ أسوَدِ
حَبَاهُ أزمردا الحياةَ جَمَّةَ التَّرَغُّدِ
(وقد تغيرت لهجته إلى العنف.)
وَبَثَّ فيَّ رُوحُهُ رُوحَ قضاءٍ مُرْصِدِ
يَصُولُ بالسَّوط إِذا شَاءَ وبالمُهَنَّدِ
وَيَفْتَدِي سيِّدَهُ، دمي فداءُ سيِّدِي!
باتوزيس
:
حَبَاكَ أزمردا الحياةَ؟ عَبَثٌ مُضَلِّلُ!
أنْتَ أسيرُ بَطْشِهِ، بسحرِهِ مُغَلَّلُ
سَبَتْكَ منهُ قوَّةٌ تَصْرَعُ أو تُقَتِّلُ
أنتَ وأزمردا سَواءُ والأصولُ تعدلُ
ألستَ إِنْسَانًا تُحِسُّ مثلَهُ وتعقلُ؟
تفعلُ ما يوحِي بهِ الضميرُ أو لا تفعلُ؟
كيفَ تعيشُ لا رجاءَ في غدٍ تُؤَمِّلُ؟
يرعاكَ أزمردا وأنتَ في قُواكَ ترفلُ
فإِن مرضتَ أو هَرِمْتَ أنتَ منهُ مهملُ
اُنظرْ إِلى الأطيارِ في أجوائها تنقَّلُ
سيدةً تصعدُ ما شاءتْ هنا وتنزلُ
مُوَطَّأٌ لها السحابُ والثرى مُذَلَّلُ
تبني الحياةَ في الوكون حُرَّةً وتنسلُ
لها الضياءُ والفضاءُ والنَّميرُ السلسلُ
هي الحياةُ حُرَّةً في طائرٍ تُمثَّلُ
حَقكَ لا منٌّ به عَلَيْكَ أو تَفَضُّلُ
ماتوكا
:
يا سيِّدي، أنَّى لي الكونُ الذي تُخَيِلُ؟
أنَّى لمثلي ذاك العالَمُ؟ إِنِّي أجهلُ!
سفينتي هي الحياةُ، والغدُ المؤمَّلُ
قد طابَ لي في ظلِّها العيشُ وطابَ المنزلُ
ومن كساءِ سيدي الرُّبانِ هذا المخملُ
وَمِنْ شَرابِهِ أعلُّ هانئًا وأثملُ
أيُّ حياةٍ ليَ من هذي الحياةِ أجملُ!
(ثم ينحني ويغادر الحجرة بالمائدة ويظل باتوزيس مبهوتًا ثم
يعاوده الكسل، فيتمدد على الفراش بينما يدخل إلى البهو أزمردا ومعه الفتيات الأربع
وهو يحييهن باسمًا، وبينما هن يتأملن البهو ومنظره والصور وجلود الحيوانات المعلقة
على جوانبه، يعتذر إليهن أزمردا ليعد الكنز ويختفي من باب صغير وهن منشغلات عنه
يتهامسن):
ويشافا
(متعجبة)
:
أهذِهِ السفينةُ الموعودَة
حاملةُ العجائبِ المنشودَة؟!
مريتا
(حائرة)
:
ماذا أرى؟ طاقاتُها مسدودة!
حروازا
:
تَمهَّلي! سوف نرى وُعُودَه
وَالفِتَنَ الرائعةَ المشهودَة!
مريتا
:
أُحسُّ بصوتِكِ المهموسِ هزَّاتٍ من العطفِ
حروازا
:
أيغريني ترابيٌّ بهذا الوضعِ وَالوصفِ؟
مريتا
:
لَقَدْ أغراكِ حروازا بأمرٍ ظاهرِ الزَّيفِ
ويشافا
:
وَكِدْتِ على ذراعيه من الفتنةِ أن تُغْفِي
حروازا
(مبتسمة)
:
حَزَرْتُ حديثكنَّ هناك حينَ غَضضتُ من طرفي
مريتا … لا يغرنَّكِ ما أظهرتُ من ضَعْفِ
فهذا عَبَثٌ منِّي وبعضُ اللهو
حروازا
:
أردتُ به لأعرفَ ما يُسرُّ لنا وما يُخفي!
حروازا
(في قوة واعتداء)
:
أآلهةٌ تخافُ الناسَ؟ هذا منتهى السُّخْفِ!
حروازا
:
أخَذْتُ الأمْرَ بالعُنْفِ!
إِذا واجهتهُ فاصْمُدْنَ من حولي ومن خلفي!
(ويسمعن أصواتًا بالحجرة المجاورة فيخفضن من أصواتهن، ويستمعن
حينًا إلى مصدر الصوت وينظرن حينًا آخر إلى محتويات المكان، ثم يميل بعضهن على بعض
وهن يتهامسن قلقات بينما يدخل أزمردا من باب خلفي على باتوزيس في المخدع وهو شديد
الاضطراب الممزوج بالفرح هامسًا في انفعال):
أزمردا
:
هنَّ هنا! هنَّ! باتوزيسُ أما
تسمعُ أصواتهنَّ بالبابِ؟
هنَّ هنا هنَّ باتزيس أفِقْ
اُخرجْ عليهنَّ غيرَ هيَّابِ!
أعِدَّ قيثاركَ، استثرْ نغمًا
يروِّضُ حتى الوحوشَ في الغابِ
حتى تراهنَّ بينَ شاديةٍ
وَبَينَ رقَّاصةٍ بأكوابِ!
يكادُ قلبي لما ظفرتُ بِهِ
يَطيرُ من فرحةٍ وَإعجابِ
باتوزيس
(وهو ينهض من الفراش مبهوتًا)
:
من هُنَّ أزمردا أثرتَ نفسي
ورُعْتَ أوهامي وهجتَ حِسِّي؟
أزمردا
(مشيرًا بأصبعه على فمه)
:
لا ترفعِ الصوتَ وَقُلْ بهمسِ
فهنَّ يسمعنَ خفيضَ الجرْسِ
آلهةُ الرِّياحِ حُلْمُ الأمسِ
لَقيتهنَّ في شروقِ الشمسِ
بينَ الغياضِ والصخور المُلْسِ
يرقصنَ في غلائلِ الدمقسِ
ما زلتُ أحتالُ بغيرِ يأْسِ
حتى تُسمَّعنَ لضعفِ الجنسِ
وَجئنَ في ابتهاجة وَأُنْسِ
باتوزيس
:
بل هذه تخيُّلاتُ الكأسِ!
ما هنَّ إِلَّا من بناتِ الإِنسِ
وَقَعْنَ في تدبيرك الأخسِّ
ويحكَ أزمردا وويحَ نفسي
أحسَبُ أن اليومَ يومُ نَحْسِ!
أزمردا
(ملاطفًا)
:
تُنكرُ ما شِمْتُ بعينيْ رأسي؟
مَسَّكَ باتوزيسُ أيُّ مسِّ!
باتوزيس
:
وهبْ أنهنَّ كما قُلْتَهُ فماذا بآلهةٍ تصنعُ؟
أزمردا
:
أسخرهنَّ قوىً ينتظمن شراعيَ ما قادني المطمعُ
أسيراتِ بأسيَ أو صاحباتيَ أرسو كما شئتُ أو أقلعُ
وأغزو بهن منيعَ الثغورِ وأجنِي الثراءَ وأستمتعُ
باتوزيس
:
أتطمعُ في ملكوتِ السماءِ؟
أزمردا
:
هو المرءُ ما عاشَ لا يقنعُ
باتوزيس
:
خُلِقْنَا غرائزَ منهومةٍ
فليست تُروَّى ولا تَشبعُ!
أزمردا
:
تعالَ معي وَاتَّبِعْ حكمتي
فدونَ سعادتنا إِصبعُ!
باتوزيس
:
ألم يَكْفِ ما حُزْتَهُ من غِنًى
وَمَا تقتني من غريبِ النساءْ؟
أضاقتْ بمنسركَ الكائناتُ
فحاولتَ تخطفُ حتى الهواءْ؟
أزمردا
:
ليضحكني مِنكَ هذا الحديثُ
خيالٌ بديعٌ وقولٌ هُراءْ
دليلُ الحياةِ اغتصابُ المتاعِ
وما الزهدُ إِلَّا دليلُ الفناءْ
تمتَّعْ بأوفرَ ما تستطيعُ
ولا تقتصدْ واغتصبْ ما تشاءْ
باتوزيس
(صائحًا)
:
يا لمساءِ الحانةِ اللعينَه
قَدْ قادني لهذه السفينَه
أزمردا
(ملاطفًا في ثورة نفس ضارعًا)
:
ما هذه الخفَّةُ والرعونَه
كفَى صياحًا والْزمِ السَّكينَه
أو لا فَدَعْ هيئتَك الرزينَه
وأكثرِ الضِّحكَ وزِدْ رنينَه
وهاتِ من وادي الهوى لحونَه
مسحورةً، مخمورةً، مجنونَه!
باتوزيس
(ضارعًا)
:
سألتكَ الآلهةَ الحزينَه
لا تُؤذِ هذي المُهَجَ المفتونَه
فإِنها بريئةٌ مسكينَه
أزمردا
:
أنتَ فتًى لم يطَّرحْ مُجونَه
يسألني الرَّحمةَ والمعونَه
ولو رأى الخمرةَ في قنِينَه
لباعَ دنياهُ بها ودينَهْ!
دَعْ عنك هذي المُثلَ الأفينَه!
ولا تُضِعْ فُرصتكَ الثمينَه!
باتوزيس
(غاضبًا)
:
عهديَ، يا قرصانُ، لَنْ أخونَهْ
ما كنتُ أزمردا، ولن أكونَهْ!!
أزمردا
:
أجننتَ باتوزيس ويحكَ! لا تُثِرْ هذا النزاعْ
أنسيتَ حُلْوَ حديثنا، والكأسَ ضاحكةَ الشعاعْ
ورواةَ طيبةَ عن بناتِ الرِّيح آلهةِ البقاعْ
فيمَ التشاؤمُ، والتنكُّرُ، والتغيُّرُ، والخداعْ؟
ولِمَ الصياحُ إِذا دعوتُك للرويَّة والسماعْ؟
أتريدُ تُسمعهنَّ صوتكَ؟ لا رجاءَ ولا انتفاعْ!
أحكمتُ أمري، والعبيدُ هنا على أُهَبِ الصراعْ
بإِشارةٍ تَهوِي السياطُ وسيفُ أزمردا الشجاعْ
إِنِّي عرضتُ عليكَ أجملَ ما ادَّخرتُ من المتاعْ
لكنْ أبيتَ وخانني فيكَ الغرائزُ والطباعْ
فاسلمْ بنفسك باتزيسُ! ولا سلامَ ولا وَداعْ!
عمَّا قليلٍ يهتفُ الداعي وينطلقُ الشراعْ!!
(ويسرع باتوزيس بمغادرة الحجرة بينما يرتفع صوت من البهو
المجاور، هو صوت القلق المستحوذ على الفتيات وأزمردا داخل عليهن.)
حروازا
:
ما هذه الضجَّةُ والصياحُ
نسمعُ والرؤيةُ لا تُتاحُ
كأنما تَقْتتلُ الأشباحُ
من حولنا أو تَثِبُ الأرواحُ!
أزمردا
:
معذرةً، أيَّتها الملاحُ
فخادمي قد هزَّهُ المِراحُ
فانزلقتْ من تحته الألواحُ
وانتثرتْ من كفِّهِ الأقداحُ
فضجَّ واستخفَّهُ الصياحُ!
أزمردا
:
والذَّهبُ المقدَّسُ الصُّراحُ!
أسميتا
:
عما قليلٍ تُظلمُ البطاحُ
ويصعبُ الغدوُّ والرواحُ
(ويظهر ماتوكا في مخدع سيده حائرًا وهو يشير إلى أزمردا دون أن
تراه الفتيات، فيسرع إليه أزمردا وحروازا تقول له):
حروازا
:
أسرِعْ فقد راحَ بنا المراحُ
ماتوكا
(لأزمردا)
:
إِنَّ السجينةَ في غيابة قبوها
ليستْ تكفُّ تمرُّدًا وصِياحا
قطعَتْ عُصابتها فجئتُ أذودُها
فهوتْ تُحطِّمُ في يدي المصباحا
لولا العنايةُ طارَ بعضُ شرارِهِ
وطوى السفينةَ شعلةً واجتاحَا
ماتوكا
:
سيدي عذَّبتُها
فأبَتْ وقد مُلِئَتْ دمًا وجراحَا
أزمردا
:
إِنْ لم تكفَّ عن الصياحِ فألْقها
في اليمِّ …
ماتوكا
:
أخشى صَوتها الفضَّاحا
يعلو فيملأُ زائراتِكَ ريبةً
أو يستخفُّ لنجدةِ ملَّاحا
ماتوكا
:
تعالَ معي لها
فلربما أبدتْ رضًى وسماحا
(ويسرع ماتوكا بأزمردا إلى قبو السفينة وحين يختفي خيالهما
يظهر باتوزيس فجأة من مخبئه خلف باب المخدع، ويدخل على الفتيات الأربع متفرسًا
فيهن متلفتًا وراءه من الخوف.)
حروازا
(وقد بوغتت برؤية باتوزيس)
:
من أنتَ، أيها الفتى وكيف جِئْتَ ها هنا!
باتوزيس
(هامسًا)
:
لا وَقْتَ للسؤال من أنتِ هنا، ومن أنا!
أنتنَّ في سفينةِ القُرصانِ … لا وقت لنا …!
باتوزيس
:
قاتلٌ يملأ شَرُّهُ الدُّنَا
بل هو أزمردا …
باتوزيس
:
أراهُ صانعًا بكنَّ؟! ويحكنَّ إِنْ دَنَا!
حروازا
:
هوِّنْ عليكَ، لا تَخفْ أذًى، ولا تخش ضنى
آلهةُ الرياحِ نحنُ فارتَقِبْ صنيعَنَا
ولا يرُعْك إِنْ رأيتَهُ يحومُ حولَنا
ويشافا
:
ومن تكونُ، يا فتى إِنَّا نَراكَ مُحْسِنا!
باتوزيس
:
من بني مصرَ باتزيسُ الشجيُّ المعذَّبُ
شاعرٌ، واسمهُ هناكَ مغَنٍّ ومطربُ
باتوزيس
:
أنا، في هذه الحياة، شريدٌ مغرَّبُ
أينَ؟ لا أينَ أذهبُ! أنا في التِّيهِ أضربُ!!
(وتسمع وقع أقدام أزمردا وهو قادم من أقصى السفينة متجهًا إلى
مخدعه.)
حروازا
(وقد رأت باتوزيس يتحرك من مكانه)
:
باتوزيس
(وهو يتأهب للقاء خصمه)
:
(وبينما أزمردا في مخدعه يسرع في تقلد سيفه، يدخل عليه ماتوكا
ويقف خلفه مبهوتًا فيلتفت إليه أزمردا ويدرك أن وراءه
شيئًا.)
أزمردا
:
ما لي أراكَ واجمًا مُرتاعًا
ماتوكا
:
يا سيدي عفوَكَ لن تُراعا
لكنْ …
ماتوكا
:
إِنَّ سمارا خَانَتِ الأتباعا
كما أمرتَ، سيِّدي، مُطاعا
فتحتُ دونَ بابها المصراعا
فأفلتتْ وانسرقتْ خداعا
كأنها الظلُّ امَّحى وضاعا
أزمردا
(خائفًا)
:
وأين تمضي؟ أتشقُّ القاعا؟
أم تستحيلُ بيننا شعاعًا؟
أسرعْ مَتُوكا، ولتكنْ شجاعا
اطووا الحبالَ وانشروا الشراعا
وأتوا إليَّ ها هنا سِراعا!
(ويدخل أزمردا من باب المخدع على الفتيات فيرى باتوزيس
بينهن وهن متحفزات وفي عيونهن بريق الغضب، فيفهم الموقف ويقف صامتًا واضعًا يده
على مقبض سيفه.)
باتوزيس
(ساخرًا)
:
أقبلتَ أزمردا وليس تحيةٌ
للزائراتِ، ولا عليَّ سلامُ!
أزمردا
:
صَهْ، يا أجيرَ العاهراتِ، فإنما
قربُ الحرائرِ من خطاكَ حَرامُ!
باتوزيس
:
أتسبُّ ضيفَكَ أو صديقك جهرَةً؟
عجبًا؟ فأينَ الودُّ والإكرامُ؟
أزمردا
:
بل وأغسلُ إِثمَهُ
بدمائهِ
باتوزيس
(ساخرًا)
:
لو تُغسلُ الآثامُ
انظرْ عيونَ الزائراتِ فإِنها
رَصَدٌ عليكَ ولعنةٌ وضِرامُ
أزمردا
(إلى الفتيات)
:
قسمًا بكنَّ فما أردتُ خيانةً
بل عطفَ آلهةٍ بكنَّ يُشامُ!
ما رُمْتُ إِلا أن تكنَّ صواحبي
باتوزيس
:
ما كلُّ شيء في الحياةِ يُرامُ
حروازا
:
لِمَ لَمْ تضارحْنا، وكيف دَعَوْتَنَا
للكنزِ؟
أزمردا
:
هذي طباعُ الآدميِّ، وهذه
أطماعُهُ
مريتا
:
بَلْ حيلةُ القرصانِ أنتَ أرَدْتَنا
صَيْدًا يُباعُ فِراؤُهُ ويسامُ
حروازا
:
وبكم تسوِّمني إِذا ما بِعْتَني
والسُّوقُ حَوْلَكَ ضجةٌ وزِحامُ
ويشافا
(مدنية إليه بوجهها)
:
أسمتيا
(تدور حول نفسها)
:
باتوزيس
(صائحًا طربًا)
:
يا للرشاقةِ كلكنَّ غرامُ!
مريتا
:
أوَكنتَ تَطمعُ أن تُسخِّرنا قُوًى
لسفينةٍ يحدو بها الإِجرامُ؟
حروازا
(وهي تواجهه)
:
قُلْ خيرٌ لنا
بيديكَ تسليمٌ!
أزمردا
:
كما تَرَى
ثِقَتِي بموتكَ …
باتوزيس
(متصنعًا الملاطفة)
:
أزمردا
(وهو يجرد سيفه ويهم بطعن باتوزيس)
:
قادتْكَ باتوزيسُ آخرُ خطوةٍ
للموتِ! خُذْها ما عَلَيَّ مَلامُ!
حروازا
(تحول بذراعها دونه)
:
أزمردا
(محاولًا الاندفاع)
:
بلِ ابْعدي
رُدِّي ذراعَكِ …
حروازا
(بصوت رائع وهي تلوح بقبضتها في وجه أزمردا)
:
لا يُردُّ حِمامُ!
يا أيها النفسُ الأثيمةُ أقصري
وقِفي مكانَكِ خانَكِ الإقدامُ!
(وتقف مريتا وويشافا وأسميتا وراء حروازا وهن ينفخن، فإذا بقوة
هائلة كالعاصفة تدفع أزمردا وماتوكا وعبيده إلى الوراء، وتقع السياط من أيدي الرجال
وهم يرجفون رعبًا وتتجمد ذراع أزمردا وتتقلص أصابعه حول مقبض سيفه وجسده يهتز بعنف
كأنه يصارع جبارًا لا يرى، ويسقط السيف من يده فيحاول استرداده جاثيًا فلا يستطيع
وهو يهدر):
أزمردا
:
ماذا أُحسُّ؟ ما أرى! ماذا أصابَ مِسْمعي
أنفاسكنَّ تِلكَ؟
حروازا
:
أيَّ كلامٍ تدَّعي!
سوف ترى نهايةً بمثلها لم يُسمعِ!!
أزمردا
(وقد خفت صوته)
:
أهكذا أنتنَّ، يا للهوْلِ! يا لمصرعي!
لم أدرِ قبلَ اليومِ ما سِرُّ الرياحِ الأربعِ
إذا تألَّبْنَ على سفينةٍ بموضعِ
فيا لَكنَّ من قُوًى تُخضِعُ من لم يخضعِ!!
إِليَّ ماتوكا إِليَّ
ماتوكا
(وهو لا يستطيع حراكًا)
:
أزمردا
:
أنتَ معي …
أينَ الرجالُ؟ …
أزمردا
:
أما
تَرى؟ إِليَّ أسرع …
أسرع إِليَّ
أزمردا
(وهو يركع متخاذلًا)
:
(وتترقرق الدموع في عين أزمردا فيذهل بأتوزيس لما يراه فيحدق
وكأنه لا يصدق):
باتوزيس
:
ويحكَ أزمردا أفي عينيكَ بعضُ أدمعِ؟
أحقًّا ذي دموعُك أم خِداع الخوفِ والألَمِ
أتبكي، أيها التمساحُ
أزمردا
(بصوت خافت)
:
لا تَشْمَتْ ولا تَلُمِ
صديقي أنتَ باتوزيس أنقذني من العَدَمِ
ألا صفحًا فهذي ساعةُ التكفيرِ والنَّدَمِ!!
(وينظر إلى الفتيات ضارعًا، وهو يقول):
هذي الدموعُ وجدتُها فَوَجَدْتُ إِنسانيتي
أنتنَّ أرجعتنَّ لي ما عَزَّ من أُمنيةِ
هذا الشُّعور حُرِمْتُهُ عُمري، فيا لسعادتي
أحسستُ أني الآن إِنسانٌ لأولِ مرَّةِ
وهي الحياةُ بها التقيتُ على لقاء منيَّتي!
أزمردا
(إلى مريتا)
:
يا للنُّبل، يا للرَّحمَةِ
أحسنتِ لي، وَمَحَوْتِ مني الآن كلَّ خطيئةِ
فلأُفنينَّ العمرَ في الإِحسانِ باسمِ إِلهتي
حروازا
:
بعض هذا الحنانِ ما تاب لكنْ خرَّ عجزًا فراح ينطق كذْبَا
إنَّه في مفازعِ الموتِ يحتالُ ليلقى سِلمًا ويرتدُّ حربَا
أزمردا
(ضارعًا)
:
رحمةً ربَّتي فما أستطيع الآن قولًا ولست أملكُ عتْبَا
يا ابنة الشرقِ! أنتِ أيتها الحسناء يا من ملأت قلبيَ حبَّا
لم يعدْ بعدُ ما أخاف فأخفي عنك حبِّي ما كان حبي ذنْبَا
إِنْ يكن حانَ مصرعي فعديني بعد موتي وتلك آخر رُغْبى
امنحيني بعض العزاءِ ولا تلقي بجسمي في اليمِّ أفقدْك غصبَا
وسِّديه عشبَ المكان الذي فيه التقينا، ففيه أمسيتُ صبَّا
عندما قَبَّلَتْ محياكِ عينايَ وضمَّت صبابتي منكِ قلبَا
فإذا ما سريتِ فجرًا فمسِّي جسدًا مقفرًا من الرُّوح جدْبَا
عانقيه ظلًّا أحبَّكِ روحًا كشعاع الصباح، ريَّان، عذْبَا
واسحبي فوقهُ الظلال ومدِّي ورقًا ناضرَ الأفانينِ رطْبَا
وإذا أبْلَتِ الليالي كياني، فاسكبي فوقهُ الغمائمَ سكْبَا
أو فذرِّيهِ في الفضاءِ كما شئتِ وأنَّى سريتِ شرقًا وغربَا
إنها ميتةٌ ألذُّ من العيشِ فلا تَحرمي مُحبَّكِ قرْبا!!
(وتسمع ضجة وصيحات تتردد بها جوانب السفينة، وإذا بسمارا ممزقة
الثياب دامية اليدين شاحبة الوجه تظهر هاربة من الباب ووراءها عبدان يتبعانها في
أيديهما السياط، وهي تلوذ بالفتيات الأربع فيحطن بها منصرفات عن أزمردا دون
انتباه.)
سمارا
:
أنا المكبَّلة السجينَه
وأنا ضحيةُ ذلكَ الوحشِ الذي تتأملونَهْ
باتوزيس
:
هذي سمارا بنتُ ببلوسَ وحسناءُ المدينَه
بالأمسِ أنقَذَها ولم أفطنْ لخدْعتهِ المشينَه
سمارا
:
باسمِ الوفاءِ تبعتُهُ طَوْعًا إِلى هذي السفينَه
وكْرِ الخيانةِ والأذى، ومباءة الشرِّ اللعينَه
وظننتُهُ رجلًا فكان النَّذلَ مُبتدعًا فنونَهْ
(تشير إلى جراحها.)
أنقذنني بالله، وانظرنَ الجراحاتِ الثخينَه
(حروازا وقد انشغلت بالفتاة دون أزمردا فينفك عنه سحرها الذي
كان مسلطًا عليه بتأثير ذراعها، ويشعر بالدماء تجري في عروقه فيمد ذراعه في غفلة
عنهن ويتناول سيفه، ويهم واقفًا ووراءه العبيد وقد تبدلت هيئته وبدا الشر في عينيه،
وهو يصيح):
أزمردا
:
هيَّا رجالي أذِنَ الكفاحُ
باتوزيس
(صائحًا وقد شرع العبيد يتقدمون)
:
إِلى الوراءِ، أيُّها الوَقَاحُ
دماؤكم أوَّلُ ما تُباحُ!
أزمردا
:
لا تسمعوا فقولُهُ مِزاحُ
سكرانُ قد هِيجَ له جماحُ!
باتوزيس
(وقد رأى أزمردا هاجمًا بسيفه)
:
ما أنت، يا قرصانُ، والسلاحُ
رأسُك أزمردا به يُطاحُ!
حروازا
(وقد رفعت ذراعها في وجه أزمردا فيقف بغتة)
:
هذا هو القرصان، يا أرواحُ
قناعُهُ عن وجهه يُزاحُ
أزمردا
(وهو يحاول الحركة فلا يستطيع)
:
خيرٌ لَكُنَّ الصمتُ لا الصِّياحُ
حروازا
:
طغيتَ واستشرى بك الطِّماحُ
مريتا، ويشافا، أسميتا
(في غضب وثورة ملوحات بأيديهن مهددات)
:
يا لِصُّ!
يا مفضوحُ!
يا فضَّاحُ!
(حروازا والفتيات مندفعات إلى جانب باتوزيس رافعات أيديهن وقد
بدأت العاصفة من جديد):
الفتيات
:
حَقٌّ عَليكَ الموتُ، يا سفَّاحُ
نحن الردى والقَدَرُ المتاحُ
لَنا الفضاءُ الرحبُ والجناحُ
نطيرُ لا يَعزُّنا السَّراحُ
حروازا
:
إِن نُغرقِ الفلكَ فلا جُنَاحُ
سفينةُ القرصانِ تُستباحُ
هيَّا بنا … اِعْصفنَ، يا رياحُ!
(وتعصف الرياح والأربع بالسفينة فتتخبط الأبواب وتطير الستائر
وتسقط الصور من جوانب البهو ويتكفأ العبيد، صارخين محاولين الهرب من الأبواب ويقع
أزمردا جاثيًا، بينما تثبت الرياح الأربع في خفة من جانب السفينة الموشكة على الغرق
ومعهن باتوزيس وسمارا.)