مَصْرَعُ الرُّبَّانِ
يا قاهرَ الموتِ كمْ للنفسِ أسرارُ؟
ذَلَّ الحديدُ لها، واستخْذَتِ النَّارُ
وأشفَقَ البحرُ منها، وهو طاغيةٌ
عاتٍ على ضرباتِ الصَّخْرِ، جَبَّارُ
حواكَ أُحدوثةً مُثْلَى، وتضحيةً
لم تَحوِهَا سِيَرٌ، أو تروِ أخبارُ
رماكَ في جَنَبَاتِ اليمِّ مُحْتَرِبٌ
خافي المقاتلِ، عند الرَّوعِ فرَّارُ
ترصَّدتكَ مراميهِ ولو وَقَعَتْ
عليهِ عيناكَ لم تُنقِذْهُ أقدارُ
يَدِبُّ في مسبحِ الحيتانِ منسربًا
والغورُ داجٍ، وصدرُ البحرِ موَّارُ
كدودةِ الأرضِ نورُ الشمس يقتُلُهَا
وكم بها قُتِلَتْ في الروض أزهارُ
هوى بكَ الفُلْكُ إلَّا هامةً رُفِعَتْ
لها من المجدِ إعظامٌ وإكبارُ
واستقبلَ البحرُ صدرًا حين لامسَهُ
كادتْ عليهِ جبالُ الموجِ تنهارُ
وغابَ كلُّ مَشيدٍ، غَيرَ قُبَّعةٍ
ذكرى من الشَّرفِ العالي وتَذكارُ
ألقيتَها، فتلقَّى الموجُ مَعْقدَها
كما تَلَقَّى جبينَ الفاتحِ الغَارُ
ولو يُرَدُّ زمانُ المعجزاتِ بها
لانشقَّ بحرٌ لها، وارتدَّ تَيَّارُ
كأنَّها خطبةٌ راعَتْ مقاطعُها
لها العوالمُ سُمَّاعٌ ونُظَّارُ
تقولُ: لا كانَ لي ربٌّ ولا هتفتْ
بذكرِه الحربُ، إن لم يُؤخذِ الثارُ
•••
يا ابنَ البحار وليدًا في مسابِحِهَا
ويافعًا يُؤثرُ الجُلَّى ويختارُ
ما عالَمُ الماءِ؟ يا ربَّانُ، صِفْهُ لَنَا
فما تحيطُ به في الوهم أفكارُ!
وما حياةُ الفتى فيهِ؟ أتسليةٌ
وراحةٌ؟ أم فُجاءاتٌ وأخطارُ؟
إذا السفينةُ في أمواجِهِ رَقَصَتْ
على أهازيجَ غَنَّاهُنَّ إعصارُ
وأشجَتِ السُّحْبَ موسيقاهُ، فاعتنقتْ
وأُسدِلَتْ من خدور الشُّهبِ أستارُ
وأنتَ ترنو وراءَ الأُفق مبتسمًا
كما رنا نازحٌ لاحتْ له الدارُ
غرقانَ في حُلُمٍ عَذْبٍ تُسَلْسِلُهُ
من ذروةِ الليل أنواءٌ وأمطارُ
يا عاشقَ البحر، حَدِّثْ عن مفاتَنِهِ
كم في ليالِيهِ للعشَّاقِ أسمارُ
ما ليلةُ الصيف فيه؟ ما روايتُها؟
فالصَّيفُ خمرٌ، وألحانٌ، وأشعارُ
إذا النسائمُ من آفاقِهِ انحدرَتْ
وَضَوَّأتْ من كُوَى الظَّلْمَاءِ أنوارُ
وأقبلتْ عارياتٍ من غلائلها
عرائسٌ من بناتِ الجنِّ أبكارُ
شُغْلُ الربابنةِ السَّارينَ من قِدَمٍ
تُجلَى بهنَّ عَشِيَّاتٌ وأسحارُ
يُتْرعْنَ كأْسَك من خمرٍ مُعَتَّقَةٍ
البحرُ كهفٌ لها، والدهرُ خمَّارُ
وأنت عنهنَّ مشغولٌ بجاريةٍ
كأَنَّ أجراسَها في الأُذْنِ قِيثارُ
صوتُ الحبيبةِ قد فاضتْ خوالجُها
ورَنَّحَتْها من الأشواقِ أسفارُ
وا لَهفَ قلبكَ لما انْدَكَّ شامِخُها
والنَّوءُ مصطرعٌ والموجُ هدَّارُ
بُوغِتَّ بالقدَرِ المكتوب فانسرَحَتْ
عيناكَ تقرأُ، والأمواجُ أسطارُ
نزلتما البحرَ قبرًا، حين ضمَّكما
رفَّتْ عليه من المَرْجان أشجارُ
نام الحبيبانِ في مثواهُ واتَّسدا
جنبًا لجنبٍ، فلا ذلٌّ ولا عارُ!!
•••
مصارعٌ للفدائيين يعشقها
مستقلونَ وراءَ البحر أحرارُ
مَنيَّةٌ كحياةٍ، كلما ذُكِرَتْ
تجدَّدَتْ لك في الأجيالِ أعمارُ
هيَ الفخارُ لشعبٍ من خلائقهِ
خَلْقُ الرجالِ إِذَا هاجَتْهُ أخطارُ
له البحارُ بما احتازتْ شواطئُها
وما أجنَّتْهُ خُلجانٌ وأغوارُ
رواقُ مجدٍ على جدرانِهِ رُفِعَتْ
للخالدين أماثيلٌ وآثارُ
دخلتَ من بابِهِ، واجتزتَ ساحتَهُ
وسِرْتَ فيهِ على آثارِ من سارُوا
يتيهُ باسمِك في أقداسِهِ نُصُبٌ
رخامهُ الدهرُ، والتَّاريخُ حَفَّارُ