ذاع حديث موانئ الغزو في بدء هذه الحرب، ولعل أعظم وأروع هذه الغزوات في الحروب
القديمة بدأت من «طنجة» الميناء الأفريقي الذي خرج منه القائد العربي العظيم «طارق بن
زياد» في أسطول يُقِلُّ اثني عشر ألف محارب منذ أكثر من ألف ومائتي عام، وسار به إلى
الصخرة الشَّمَّاء التي نزل بها جيشه الفاتح، وسُمِّيت باسم ذلك القائد العظيم الذي
أتاحت له عبقريته الحربية في هذه الغزوة نصرًا منقطع النظير في أجمل وأغنى وأقوى بقاع
القارة الأوروبية وهي الأندلس.
أشباحُ جنٍّ فوق صدر الماءِ
تَهْفُو بأجنحةٍ من الظلماءِ؟
أم تلكَ عُقْبَانُ السماءِ وَثَبْنَ من
قُنَنِ الجبالِ على الخضمِّ النائي؟
لا، بل سفينٌ لُحْنَ تحت لوائه
لمَنِ السفينُ تُرى، وأيُّ لواءِ؟
ومَنِ الفَتَى الجبَّارُ تحت شراعها
متربِّصًا بالموج، والأنواءِ
يُعْلي بقبضته حمائلَ سيفِهِ
ويَضُمُّ، تحت الليل، فضلَ رداءِ
ويُنِيلُ ضوءَ النجم عاليَ جبهةٍ
من وَسْمِ «إفريقيَّةَ» السمراءِ
ذَهَبٌ ببوتقة السَّنَا من ذوْبِهِ
مَسَحَتْ مُحَيَّاهُ يَدُ الصحراءِ
لونٌ جَلَتْ فيه الصحارَى سحرَها
تحت النجوم الغُرِّ والأنداءِ
وسماءِ بحرٍ ما تطامنَ موجُهُ
من قبلُ لابنِ الواحةِ العذراءِ
بحرٌ، أساطيرُ الخيال شطوطُهُ
ومسابحُ الإلهامِ، والإيحاءِ
ومدائنٌ سحْريَّةٌ شارفْنَهُ
بنَخيلها، وضفافها الخضراءِ
ومعابدٌ شُمٌّ، وآلهةٌ على
سُفُنٍ ذواهبَ بينهنَّ جوائي
أبطالُ «يونانٍ» على أمواجِهِ
يطوون كل مفازةٍ وفضاءِ
يتجاذبون الغارَ تحت سمائِهِ
يتناشدونَ ملاحمَ الشعراءِ
ما زال يرمي «الرُّومَ» وهو سليلهم
ويُديلُ من «قرطاجة» العصماءِ
حتى طَلَعْتَ بِهِ فكنتَ حديثَهُ
عجبًا! وأيُّ عجائبِ الأنباءِ
ويسائلونَ بِكَ البروقَ لوامِعًا
والموجَ في الإزباد والإرغاءِ
من عَلَّمَ البدويَّ نَشْرَ شراعِهَا!
وَهَدَاهُ للإبحار والإرساءِ!
أين القفارُ من البحارِ، وأين من
جنِّ الجبالِ عرائسُ الدأماءِ؟
•••
يا ابن القباب الحُمْرِ ويحَكَ! من رَمَى
بِكَ فوق هذي اللُّجَّةِ الزرْقَاءِ؟
تغزو بعينيكَ الفضاءَ وخَلْفَهُ
أُفُقٌ من الأحلامِ والأضْواءِ
جُزُرٌ مُنَوَّرَةُ الثغور كأنَّها
قطراتُ ضوءٍ في حفافِ إناءِ
والشرقُ، من بُعْدٍ حقيقةُ عالَمٍ
والغربُ، من قُرْبٍ خيالةُ رائِي
ضَحِكَتْ بصفحتِهِ المُنَى وتراقصتْ
أطيافُ هذي الجنَّةِ الخضراءِ
وَوَثَبْتَ فوق صخورها وتَلَمَّسَتْ
كَفَّاكَ قلبًا ثائِرَ الأَهواءِ
فكأنما لَكَ في ذُرَاها مَوْعِدٌ
ضَرَبَتْهُ أندلسيَّةٌ للقاءِ!
ووقفتَ والفتيانُ حولكَ، وانْبَرَتْ
لك صيحةٌ مرهوبةُ الأصداءِ:
هذي الجزيرةُ، إنْ جهلتم أمرَها
أَنتمْ بها رهطٌ منَ الغُربَاءِ
البحرُ خلفي، والعدوُّ إزائي
ضاعَ الطريق إلى السفين ورائِي!!
… وتلفَّتُوا فإذا الخضمُّ سحابةٌ
حمراءُ مُطبِقَةٌ على الأرجاءِ
قد أحرقَ الرُّبانُ كلَّ سفينةٍ
من خلفِهِ إلَّا شراعَ رجاءِ
ألقى عليه الفجرُ خَيْطَ أشعَّةٍ
بيضاءَ فوقَ الصخرة الشَّمَّاءِ
•••
وأتى النهارُ وسار فيه طارقٌ
يبني لِمُلْكِ الشرق أيَّ بناءِ
حتى إذا عَبَرَتْ ليالٍ طَوَّفَتْ
أحلامُهُ بالبحر ذاتَ مسَاءِ
يرعى على الأُفُقِ المُرصَّع قريةً
أعظِمْ بها للغزو من ميناءِ
مَدَّ المساءُ لها على خُلجانها
ظِلًّا، فنامتْ فوق صدرِ الماءِ!