الْمَدِينَةُ الْبَاسِلَةُ
طَلَعُوا جبابرةً عليكِ، وثاروا
وَوَقَفْتِ أنتِ، ورُوحُكِ الجبَّارُ
عصفوا ببابِكِ، فاسْتُبيحَ، فلم يكُنْ
إلَّا جَهَنَّمَ هَاجَها الإعصارُ
حَرْبٌ إذا ذُكِرَتْ وَقَائِعُ يومِها
شابَ الحديدُ، لِهَوْلِهَا، والنَّارُ
لو قِيلَ: أبطالُ العصورِ فمنْهُمو
لحَماتِكِ الإعظامُ والإكْبَارُ
أو عادَ «هُوميرٌ» وسِحْرُ غِنَائِهِ
ورأَى مَلَاحِمَهم وكيفَ تُثَارُ
وهُمُو حُماةُ مدينةٍ مَحْصورَةٍ
دُكَّتْ على حُرَّاسِها الأسوارُ
نَسِيَ الذي غَنَّاهُ في «طُرْوَادةٍ»
وشَدَا بهم، وترنَّمَ القيثارُ
كم من «أَخيلٍ» فيهم لكنَّهُ
رُدَّ المُغيرُ به، وفُكَّ حِصارُ
لم تَجْرِ مَلْحَمَةٌ بوَصْفِ كِفاحِهِ
لكنْ جَرَتْ بدمائِهِ الأنهارُ
نادَتْهُ من خَلْفِ الشواطئِ أُمَّةٌ
هُو عن حِماها الذائدُ المِغْوارُ
إنْ يَسْأَلوا عنه، فَفَارسُ حَلْبَةٍ
لم يَخْلُ من وَثْبَاتِهِ مِضمارُ
أو يَقْرءُوا تاريخَهُ، فَصحيفَةٌ
إمضاؤُه فيها عُلًا وفَخَارُ
أو يبحثوا عن قَبْرِهِ، فَمَكانُهُ
فيما يُظِلُّ العُشْبُ والأزهارُ
فيما يُغَطِّي الثَّلْجُ تحت رُكامِهِ
فيما تُعَرِّي الرِّيحُ والأَمْطَارُ
هو مُهْجَةٌ فَنِيَتْ بأرضِ مَعَادِهَا
لِيَتمَّ غَرْسٌ أو يَطيبَ ثِمارُ
هو مَوْجَةٌ ذابت بِبَحْرِ وُجُودِهَا
كَيْمَا يَثُورَ بِرُوحِهَا التَّيَّارُ
في شاطئِ وقف العَدُوُّ إزاءَهُ
يَبْغِي العُبُور ودُونَهُ أَشبَارُ
ما زالَ يَدْفَعُ عنه كلَّ كَتِيبَةٍ
حتى تَلَاشَى الجَحْفَلُ الجَرَّارُ
وَهَوَى وفي شَفَتَيْهِ بَسْمَةُ ظافِرٍ
أَوْدَى، وَتَمَّ على يَدَيْهِ الثَّارُ
يُزْهَى به تحت الحديد وبَأْسِهِ
رَأْسٌ يكلِّلُ مِفْرَقَيْهِ الغارُ
•••
يا رَبَّةَ الأَبْطالِ، لا هَانَ الحِمَى
وسَلِمْتِ أنتِ، وَقَوُمُكِ الأَحْرَارُ
أأَقُولُ: أَبناءُ الوَغَى أَمْ جِنَّةٌ؟
وأَقولُ: آلِهَةٌ، أَمِ الأَقْدَارُ؟!
يسْتَنْقِذُونَكِ من بَرَاثِنِ كاسِرٍ
ماجَتْ بهِ الآجامُ والأَغوارُ
مُتَرَبِّصِ السَّطَواتِ تَخْتَبِئُ الرُّبَا
وتَفِرُّ من طُرُقَاتِهِ الأشجارُ
قَهَر الطبيعةَ صَيْفَهَا وشِتَاءَهَا
حتى أَتَاهُ شِتَاؤُكِ القَهَّارُ
مَجْد المَدَائن والقُرى! إنَّ الذي
أبْدَعْتِهِ، فيه العُقُولُ تَحَارُ
•••
عَجَبًا أَأَنْتِ مَدِينَةٌ مَسْحُورَةٌ
أمْ عَالَمٌ حاطَتْ به الأسرارُ؟!
طُرُقٌ مُحَيِّرٌة يَضِلُّ ويَهْتَدِي
فيها الكُمَاةُ، وليس ثَمَّ قَرَارُ
عَزَّتْ على قَدَمِ العدُوِّ كأَنَّمَا
من زِئْبَقٍ صِيغَتْ بها الأحْجَارُ
ومَنَازِلٌ مشْبُوبَةٌ، وكأَنَّهَا
لِلْجِنِّ في وادي اللَّظَى أوْكَارُ
وَتَرى زَبَانِيةَ الجحيم ببابِهَا
ضاقت بهم غُرَفٌ، وناءَ جِدَارُ
يتصارعون بأذْرُعٍ مَخْضُوبَةٍ
والسَّقْفُ فوق رءوسِهِم يَنْهَارُ
يتنازعون بها الطِّبَاقَ خَرائبًا
دَمِيَتْ على أنقاضِهَا الأظْفَارُ
مَا زِلْتِ صامِدَةً لهم حتَّى إذا
سَهَتِ العقولُ، وزاغتِ الأبصَارُ
وتَقَبَّضَ المُسْتَقْتِلُونَ، وعَرْبَدَتْ
أَيْدِي الرُّماةِ، وَعَرَّدَ البتَّارُ
وتَقَوَّضَ الحِصْنُ المنيعُ، ولم يكن
إلَّا جِدارٌ يحتويهِ دَمارُ
وقسَا عليكِ المُرْجِفون وحدَّثوا:
أنْ ليس تمْضي لَيْلَةٌ ونَهارُ
أطْبَقْتِ كالنَّسْرِ المُحَلِّق، ما لهمْ
منه، ولا من مِخْلَبَيْهِ فِرارُ
وَتَفَرَّسَتْكِ قلوبهم فَتَرَنَّحُوا
رُعْبًا، وأنتِ الخمرُ والخمَّارُ
وَخَبَتْ مَدَافِعُهُمْ وذابَ حديدُهم
والثَّلْجُ يَعْجَبُ واللَّظَى الموَّارُ
•••
يا فِتْيَةَ «الفُولْجَا» تحيَّةَ شاعرٍ
رَقَّتْ له في شَدْوِهِ الأَشْعَارُ
مَلَّاحُ وادي النِّيلِ إلَّا أنهُ
أغْرَتْهُ بالتِّيهِ السَّحِيقِ بحارُ
أبدًا يُطَوِّفُ حائرًا بِشِرَاعِهِ
يَرْمِي به أُفْقٌ، وتَقْذِفُ دارُ
إني رَفَعْتُ بكم مثالًا رائعًا
يُومَا إليه في العُلا، ويُشارُ
لشبابِ مِصْرَ وهم بُناةُ حَياتِهَا
وحُماتُها إنْ حاقَتِ الأَخْطَارُ
•••
وبِمْثِل ما قَدَّمْتُمُ وبَذَلْتُمُو
تَغْلُو الدِّيارُ وتَرْخُصُ الأَعْمَارُ
هذِي مَدينَتكم، وذاك صِراعُها
رَمْزٌ لكلِّ بُطُولةٍ وشعارُ
جِئْتُمْ بكلِّ عَجيبةٍ لم تَحْتَفِلْ
يومًا بمِثْلِ حَديثها الأمصارُ
تَتَحَدَّثُ الدُّنْيَا بها وبصُنْعِكُمْ
وتُحدِّثُ الأجيالُ والأدهارُ
أحقيقةٌ في الكَوْنِ أم أُسْطُورَةٌ
هذا الصِّراعُ الخالِدُ الجبَّارُ؟!