صوت
ينبغي أن تفهم هذا العنوان كما تفهمه حين تجده في كتاب الأغاني، فهو يدل على مقطوعة من الشعر يُغنى بها، وكذلك أراد صاحب هذه القصة التي أريد أن أحدثك عنها في شيء من الإيجاز كثير، فأنا — كما قلت في غير هذا الموضع — حين أنحو هذا النحو من تلخيص القصص التمثيلي أو غير التمثيلي، لا أريد أن أغني القارئ العربي عن الأصل الأوروبي، إنما أريد أن أرغبه فيه وأحبب إليه قراءته ودرسه. فهذه الفصول المتواضعة ترغيب في قراءة تلك القصص الممتعة لا أكثر ولا أقل.
وقصتنا هذه ممتعة في موضوعها، ممتعة في شكلها، ممتعة في لغتها، وممتعة بنوعٍ خاص لأنها تمثل التئام الذوقين الأمريكي والفرنسي التئامًا بديعًا.
وضع لها صاحبها هذا العنوان؛ لأنها تبتدئ بصوتٍ من الغناء وتنتهي بهذا الصوت، ولأن هذا الصوت نفسه رشيق عذب فيه سذاجة ورِقة، ولأنك لا تكاد تمضي في قراءة هذه القصة حتى تجد فيها هذه العذوبة وهذه الرشاقة وهذه السذاجة، ملتئمة أحسن الالتئام مع حقائق الحياة الواقعة وما فيها من خشونة وغلظة وتعقيد.
وإن أعجب لشيء فإنما أعجب لأن هذه القصة لم توقع بعدُ على الألحان الموسيقية، كما أوقعت من قبل قصص تشبهها كل الشبه.
على أني لا أريد أن أطيل في المقدمات ولا أن أسرف في التحليل، وإنما أسرع بك إلى القصة نفسها، وأعتمد على الترجمة أحيانًا لأدلك على ما فيها من جمالٍ وروعة.
•••
نحن في مدينة نيويورك في مكتب الأسقف البروتستانتي «توم أرمسترونج»، وهو شيخ في السبعين من عمره، قد جلس إلى النار يصطليها أول الليل، وحفيدته تقرأ له إحدى الصحف. ونحن نحس أنها تقرأ له هذه الصحيفة في شيءٍ من السأم والضجر؛ لأنها تؤثر أن تتحدث إليه أو تلهو معه بشيءٍ آخر، وآية ذلك أنها لا تكاد تمضي في القراءة حتى تقف سائلة جدها الأسقف: أليس يؤثر على هذا الكلام صوتًا من أصوات الفنوغراف؟ ثم تدع الصحيفة وتعمد إلى الفنوغراف فتنطقه بالصوت المعروف: «أتعرف ذلك البلد الذي يزهر فيه البرتقال …؟!» فما هي إلا أن يظهر الشيخ شيئًا من الضيق، ويطلب إلى حفيدته في رفقٍ أن تدع هذا الصوت إلى صوتٍ آخر، فإذا سألته الفتاة عن مصدر هذا الضيق أبى عليها، وأحسسنا نحن أنه لا يكره هذا الصوت ولكنه يشفق من استماعه.
والفتاة لم تدع الصحيفة إلى الفنوغراف إلا لتدع الفنوغراف أيضًا إلى الحديث، فهي تريد أن تتحدث إلى جدها في أمرٍ ذي بال، تريد أن تتحدث إلى الشيخ في أمر أخيها الشاب «هنري»؛ فقد أحب هذا الشاب فتاة ممثلة جميلة رائعة الطلعة يتيمة فقيرة سيئة الحظ، وهو يريد أن يتزوجها، وهو يريد أن يتحدث في هذ الزواج إلى جده، ولكنه كلف أخته أن تعد الشيخ لهذا الحديث وقد فعلتْ. وأقبل الفتى وانصرفت الفتاة، وخلا الشاب إلى جده وذكر له قصته، وأسرف له في الثناء على هذه الفتاة، وأعلن إليه أنه يريد أن يتخذها له زوجًا. فيأبى عليه الشيخ في رفقٍ معلنًا إليه أنه حدثٌ قليل التجربة، وأن الخير في أن يروى ويفكر حتى إذا كانت السنة المقبلة رأى في ذلك رأيه. وليست السنة المقبلة بعيدة، فستبدأ بعد ساعات لأننا في اليوم الأخير من شهر ديسمبر. ولكن إباء الشيخ يشق على الفتى ويؤلمه، فيقول لجده: لو عاش أبواي الشابان لاستطاعا أن يفهما عاطفة الحب ويقدراها، فقد تقدمت بك السن حتى نسيت شبابك وعجزت عن فهم عواطف الشباب.
تقع هذه الكلمات في نفس الشيخ موقعًا مؤلمًا، فيدعو الفتى إلى البقاء وكان قد همَّ بالانصراف، ويأمره أن يحمل إليه صندوقًا صغيرًا على مائدة في ناحيةٍ من نواحي الحجرة، فإذا حمل إليه هذا الصندوق فتحه وأخرج منه منديلًا وزهرات من البنفسج قد أتى عليها الدهر فأصبحت هشيمًا، وبدأ يقص على حفيده قصة هذا المنديل وهذه الزهرات؛ ليثبت له أنه على شيخوخته وتقدُّم السن به لم ينس شبابه، ولم ينس أنه أحب وألم للحب. وهنا يتحول المسرح وتستخفي الحجرة والشيخ والفتى، وتمثُل أمامك القصة التي بدأ الشيخ يقصها على الشاب.
•••
فأما الفصل الأول من هذه القصة، فيقع في قصر رجل من أغنياء الأمريكيين حين كان الأسقف في الخامسة والعشرين من عمره. وقد أقام هذا الرجل الغني في قصره حفلًا دعا إليه وجوه المدينة وأغنياءها وذوي المكانة فيها؛ ليسمعوا عنده مغنية إيطالية ذائعة الصيت، قد اتخذها الموسيقيان الشهيران «روسيني» و«فردي» ترجمانًا لما يضعان من الموسيقى، وهي رائعة فاتنة قد شغف بها من أغنياء أوروبا وأمرائها خَلقٌ كثير. وانتهى الأمر بها إلى هذا الغني الأمريكي الذي يتصل بأسرة فرنسية هاجرت إلى أمريكا في آخر القرن الثامن عشر، أحبها هذا الغني وكلف بها كلفًا شديدًا، فدعاها إلى نيويورك وقدمها إلى وجوه المدينة وعشاق الفن الموسيقي فيها. ونحن نرى قصر هذا الغني مزدحمًا بمن فيه من الشباب والكهول والشيوخ رجالًا ونساءً، ونحن نرى ونسمع من عبث الأمريكيين وحوارهم ما يلذ ويضحك وما لا سبيل إلى أن نلم به في هذا الفصل.
ولكني أقف بك عند رجل من الأغنياء قد دُعي إلى هذا المحفل فأقبل، وإنه لشديد السخط على القصر وصاحبه ومن فيه؛ هو رجل قد أكل الحقد قلبه، فهو لا يرضى عن شيءٍ ولا عن أحد، وهو ضخم الثروة، ولكنه شديد البخل مسرف في الحرص عظيم الشره، يريد أن يستمتع بكل ما يجد دون أن يعترف بشيءٍ من الاستمتاع. ضاق صدره بالمدعوين، ففر منهم إلى إحدى غرف القصر وأمر الخادم أن يحمل إليه طعامه وشرابه، فإذا دخل الغرفة نظر فإذا علبة فيها سيجار، فيلقي على هذه العلبة نظرة احتقار وازدراء، ثم لا يلبث أن يتحقق أن ما فيها جيد النوع، فيأخذ واحدًا، ثم لا يكفيه ما أخذ فيأخذ طائفة أخرى من السيجار ويدسها في جيبه. ويأتي الخادم وقد حمل إليه من الطعام والشراب ما استطاع، فيلقي إلى ما حمل إليه نظرة ازدراء واحتقار، ثم ينتهر الخادم لأنه لم يحمل إليه إلا قليلًا، ويجلس كارهًا إلى طعامه، ولكنه لا يكاد يذوقه حتى يستجيده فيسرف في الأكل والشرب.
وإنه لفي ذلك إذ يدخل عليه القسيس الشاب «توم أرمسترونج»، وهو — كما قدمت — في الخامسة والعشرين من عمره، جميل الطلعة، واضح الأسارير، ممتلئ نشاطًا وقوة، قد عُرف بالإخلاص في خدمة الدين، وبالعناية في خدمة الفقراء والبائسين، خفيف الظل، حلو الروح، يحبه صاحب القصر ويرجو أن يزوجه من إحدى قريباته. يدخل هذا القسيس على صاحبنا وهو منهمك في طعامه وشرابه، فلا يكاد يراه حتى ينصرف عما هو فيه من طعام إلى صاحب القصر فينال منه في لفظ منكر قبيح، ويعيب عليه هذه المغنية التي دعا الناس لاستماعها في قصره؛ لأنها خليلته، ولأنها معروفة بسوء السيرة، ويلوم القسيس لأنه يرضى عن هذه الآثام ويقصر في تأدية واجبه الديني، فلا يكف صاحب القصر عن هذه الفضيحة، فيسمع له القسيس.
حتى إذا فرغ من كلامه قال له هذه الجملة التي تعطيك منه صورة واضحة: لمن هذا الطعام الذي تزدرده؟ ولمن هذا الشراب الذي تعبُّ فيه عبًّا؟ ولمن هذا السيجار الذي تدسه في جيبك؟ أليس هذا كله لصاحب القصر؟! يجيبه الغني: بلى، وأنت ترى أن من واجب القسيس هو أن يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويأخذهم بترك ما يتورطون فيه من شر. يجيبه الآخر: نعم! وإذن فلأبدأ بك، فقد أتيت نكرًا لا يعدله نكر حتى اغتبت صاحب هذا القصر على هذا النحو القبيح، وأنت في قصر تأكل من طعامه وتشرب من شرابه!
وهما في هذا الحوار إذ يأتي «دي روشار» صاحب القصر، فينصرف هذا الغني. ولا يكاد القسيس يخلو إلى صاحب القصر، حتى يبدأ في تأدية واجبه الديني من أمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر. ولكنه يجد في هذا مشقة، فهو يكبر صاحب القصر ويجله، وهو مدين له في مركزه في الكنيسة. على أن هذه المشقة لا تصرفه عن أداء هذا الواجب، فهو يلوم صاحب القصر على ما بينه وبين هذه المغنية من صلة، وصاحب القصر يجيبه معتذرًا إليه في شيءٍ من الرفق والفلسفة، والشك في معنى الخير والشر، وقيمة الفضيلة والرذيلة، ويعلن إليه أنه يرى السعادة الحقيقية في حب الخير والجمال والشباب.
وهما في هذا الحوار وإذا المغنية قد فرغت من غنائها وأقبلت يتبعها المعجبون بها، فينصرف القسيس وتخلو هذه المغنية إلى صاحبها؛ ليكون بينهما حوار نفهم منه أن وعظ القسيس قد أثر في نفس هذا الرجل من حيث لم يشعر. انظر إليه يتحدث إلى صاحبته بأنه في الحادية والخمسين من عمره، وأن أسباب اللهو والنعيم قد تقطعت به، وأن الخير إنما هو في أن يستحيل حبهما إلى مودةٍ بريئة. وهي تستمع له راضية حينًا وساخطة حينًا آخر، غاضبة مرة، مداعبة مرة أخرى، مزدرية لما يقول، حريصة على أن يعدل عنه. ولكنها على كل حال قد رأت القسيس وهو ينصرف فوقع من نفسها، وهي تعلن إلى صاحبها في صراحة أنها تكره البروتستانتية من الموسيقى والبخور والاعتراف، ولكنها تحب البروتستانتية لأن قسسها حسان. وما زالت بصاحبها حتى أقنعته بأنه لم يبلغ الخمسين من عمره وأنه ما زال يستمتع ببقيةٍ من شباب، وحتى ضربت معه موعدًا للنزهة إذا كانت الساعة الرابعة من مساء، ثم تطلب إليه أن يدعها لتستريح قبل استئناف الغناء وأن يرسل إليها شيئًا من الخمر والليمون.
فلا تكاد تخلو إلى نفسها حتى يمر القسيس فتتناوم وتدع رداءها يسقط عنها، وقد نظر إليها القسيس وحدق فيها وكأنها وقعت في نفسه، فيدنو منها في خفةٍ ويعيد إليها الرداء وينصرف، ولكنه لا يكاد يتجاوز الغرفة حتى يسمع صوتها وهي تشكره، وما هو إلا أن يسمع هذا الصوت حتى يضطرب ولا يدري أيمضي أم يقف؟ فتستوقفه وتستدنيه ويجيبها إلى ما تريد في شيءٍ من الاضطراب والذهول. ويأخذان في الحديث، وإذا هي تخفي على القسيس نفسها وتأخذ في اغتياب المغنية، فيلومها القسيس ويطلب إليها أن تستغفر الله من هذا الإثم، فتأبى فيغضب ويهم أن ينصرف. ولكن الخادم قد أقبل يحمل الشراب، فتطلب إليه أن يصب لها في القدح فيفعل، ثم تطلب إليه أن يصب في قدحٍ آخر فيفعل، ثم تدفع إليه أحد القدحين فلا يستطيع أن يرده، ثم تأمره أن يحدق فيها وتعلن إليه أنها ستحدق فيه وتقترح أن يشربا قدحيهما على هذا النحو، فإذا فرغا من الشرب رأيناهما وقد فتن كل منهما بصاحبه فتنة قوية. فأما هي فتستغفر الله في إثمها حين اغتابت المغنية، وأما هو فيطلب إليها موعدًا لأنه يريد أن يراها وأن يتحدث إليها بأشياء كثيرة ما كانت لتخطر له من قبل. وهما في هذا الحوار إذ يُقبل صاحب القصر فيراهما على هذه الحال، وهي كالنائمة وهو جاث بين يديها يناجيها.
وأنت تستطيع أن تقدر دهش صاحب القصر حين يرى مكان القسيس من المغنية، وهو الذي كان يلومه فيها منذ حين. تنهض المغنية لتستأنف الغناء، ولكن القسيس يلح عليها في الموعد غير حافل بمكان صاحب القصر، فتضرب له الموعد من الساعة الرابعة من مساء غد، فإذا ذكرها صاحب القصر بأنها قد ضربت له الموعد في هذه الساعة نفسها أجابته: أما موعدك فمؤجل. وتنصرف وقد سقط من يدها منديل، فيهوي القسيس فيأخذه.
•••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في بيت القسيس، في حجرة عمله، نرى عمتيه قد جلستا تتنازعان؛ إحداهما في الثامنة والخمسين، والأخرى في الستين، وكلتاهما قد وقفت حياتها على القسيس لا تدري ماذا تصنع لترضيه وتُعنى بطعامه وشرابه ولباسه. والخصومة بينهما في ذلك متصلة مضحكة، ولكنهما رغم هذه الخصومة متفقتان في الألم؛ لأن الشاب قد تغيرت حياته تغيرًا شديدًا منذ ثلاثة أسابيع، فهو شديد الكلف بهذه المغنية الإيطالية، يقضي معها شطرًا من كل يوم حتى نسي خطيبته، وحتى أخذ الناس يتحدثون عن كلفه بهذه الفتاة، وهما تصليان وتضرعان إلى الله أن يصرف عن القسيس هذا المكروه، وهما تستعينان ﺑ «دي روشار» صديقهما وصديق القسيس وعم خطيبته، وهما تنتظران عودة الشاب بعد حين، ولكنهما لا تعرفان من الذي أرسل هذه الطاقة من الزهر دون أن يرسل اسمه معها، ولا تفهمان لِمَ لا يريد الشاب أن يأخذ الشاي معهما، ولا تعرفان هذا الشخص الذي سيتناول الشاي مع القسيس.
وقد أقبل صديقهما دي روشار؛ قصتا عليه القصة وألحتا عليه في أن يحاول صرف الشاب عن هذه المغنية الأجنبية فيعدهما، وينبئهما بأن الأمر يعنيه كما يعنيهما؛ لأنه يحب القسيس كما تحبانه، ويعلن إليهما أيضًا أنه سينتظر الشاب ليتحدث إليه، فتنصرفان عنه. ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى تقبل المغنية فيلقاها دهشًا، أما هي فيصيبها شيء من الذهول، ثم يتحدثان فتفهم من حديثهما أن الحب قد اتصل قويًّا عنيفًا بينها وبين الشاب، وأن هذا الحب على قوته وعنفه طاهر بريء، يقوم على أكذوبة أو على طائفة من الأكاذيب، فإن الفتاة لم تستطع أن تنبئ صاحبها بحقيقة أمرها ولا بما تشتمل عليه حياتها من الآثام، وإنما تركته يصورها كما أراد له خياله وحبه، نقية طاهرة مثالًا للفضيلة والبراءة والطهر. وهي تستعذب هذا الحب الأفلاطوني، ولا تريد أن تكذب ظن الشاب، ولم تكذب ظنه وستعود إلى أوروبا بعد خمسة عشر يومًا، فتنقطع بينهما الأسباب، وتكون قد سعدت في حياتها بحلمٍ لذيذ. ولكن «دي روشار» يلفتها إلى أن الأمر أشد خطرًا مما تظن، فالشاب يحبها حقًّا، وسيطلب إليها أن تكون زوجة وليس إلى ذلك من سبيل، وهو يقترح عليها أن تسافر من الغد وأن تنصرف الآن دون أن تراه، وهي مستعدة للانصراف، ولكن القسيس قد أقبل، وما يكاد يراها وتراه حتى ينسيا كل شيء، وينصرف كل منهما إلى صاحبه.
ويضطر دي روشار إلى أن يدعهما حينًا، وهنا موقف بين العاشقين شديد التأثير حقًّا، فيه لين ودعة وعذوبة، وفيه حب يبلغ به العنف أقصاه، ولكنه سعيد كله غبطة وأمل، ثم فيه أمل تتفطر له القلوب وتتفرق له النفوس شعاعًا. انظر إليه راضيًا مغتبطًا شديد الابتهاج بزيارتها إياه، انظر إليه في وداعة الطفل يظهرها على ما في غرفته من متاع، انظر إليه يظهرها على صورة أمه التي ماتت شابة. واسمع له يتحدث عن أمه: يصفها بالجمال وعذوبة الخلق ورضا النفس، واسمع له يذكر أمه وما كانت تشعر به لو أنها رأت صاحبته. ثم انظر إليه يهدي إلى صاحبته عقد أمه، وهي تأخذ هذا العقد وتطوق به جيدها، ثم اسمع لهما يغنيان معًا صوتًا كانت أمه تغنيه، ثم انظر إليهما وقد نسيا كل شيء وفني كل منهما في صاحبه، وقد أقبل إليها فضمها بين ذراعيه لحظة ثم أطلقها وهو يطلب إليها أن تكون له زوجًا. هنا تعود الفتاة إلى نفسها وتذكر حياتها الآثمة ويحس منها هذا، ولكنه قسيس وهو يحب، فما أسرع ما ينتهي به حبه ودينه ومركزه الديني أيضًا إلى العفو، فهو ينسى ماضيها، بل يمحوه وهو يلح عليها في أن تكون له زوجًا، وهو يعلن إليها مبتهجًا أنه سيدعو عمتيه ودي روشار لينبئهما النبأ.
فلا تكاد تسمع اسم دي روشار حتى تضطرب ويريبه هذا الاضطراب. والعجب أنه نسي كل ماضيها وعفا عن آثامها جميعًا، ولكنه شديد الحرص على أن يعلم أنه لم يكن بينها وبين هذا الرجل شيء؛ هو يلح عليها وهي تتردد، حتى إذا أشفقت عليه من الحق كذبت وزعمت له أنه لم يكن بينها وبين هذا الرجل شيء، فيستحلفها على التوراة فتهم بإقسام اليمين، ولكن دي روشار قد أقبل، فينبئه القسيس بحبه وخطبته، ولكنه لا يرى منه ابتهاجًا فيريبه ذلك. وانظر إليه قد اندفع به الحب والريب، حتى انتهى إلى ذهول يشبه الجنون؛ فهو ماثل أمام هذا الرجل وهذه المرأة يستحلفهما على التوراة أن لم يكن بينهما شيء. فأما الرجل فقد رق له فكذب عليه، وأما المرأة فقد كان حبها من القوة والصدق والإخلاص بحيث حال بينها وبين الكذب مرة أخرى. فاسمع لها تعلن في صراحة وألم أنها كذبت، وأن هذا الرجل قد كذب أيضًا، وأنها كانت خلته منذ سنتين، وأن آثامها في الحياة أكثر عددًا من صلوات القسيس، وأنها اتخذت جسمها تجارة، وأنها لا تصلح له زوجًا، وأنها تنبئه بهذا كله لأنها تحبه حقًّا. أما هو فقَدْ فقَدَ رشده أو كاد، وهو الآن جالس مطرق وقد انصرف عنه الرجل، وهمت هي أن تحدثه فلم يسمع لها فتنصرف، حتى إذا سمع الباب يغلق من دونها أغرق في البكاء كأنه طفل.
•••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في الفندق الذي تقيم فيه المغنية، وقد مضت أيام على ما كان في الفصل الثاني. ونحن نرى خادم المغنية قد جلست إلى النار تهيئ طعام سيدتها، وفي الغرفة اضطراب يدل على استعداد للسفر. وأنا أعفيك — كارهًا — من ضروب الحوار المضحك بين هذه الخادم وأهل الفندق، وأعفيك أيضًا من كثير من الحوار اللذيذ، لأنتهي بك مسرعًا إلى القصة.
فقد أقبل دي روشار معلنًا أن المغنية قد ظفرت في مسرح الأوبرا بفوز لا يشبهه فوز، وأنه ينتظرها في هذه الغرفة، وما هي إلا أن تقبل الفتاة رائعة مروعة أيضًا قد أنفقت جهدًا عظيمًا لتخفي ما تحس من ألم، ولتؤدي واجبها في الأوبرا. وقد انتهت من هذا الجهد ووصلت الآن إلى غرفتها، فتستطيع أن تستسلم لآلامها وهي مستسلمة لهذه الآلام. أليست منصرفة عن صاحبها هذا، منصرفة عن خادمها، منصرفة عن هذه الجموع التي أقبلت من الأوبرا تشيعها وتهتف باسمها، منصرفة عن كل شيء، وقد ألقت بنفسها على الأرض مفكرة أو كالمفكرة والناس يحاورونها ويلحون عليها، وهي لا تجيب إلا في كرهٍ وسخط. وانظر إليها تنهر خادمها في عنف، ثم لا تلبث أن ترق لهذه الخادم فتقبلها في حنان. وانظر إليها معرضة عن صاحبها، حتى إذا هم أن ينصرف أمسكته، هي ذاهلة لا تفكر إلا في صاحبها القسيس وما بعثت في نفسه من الألم منذ حين، وهي تتحدث بذلك إلى نفسها مرة وإلى صاحبها مرة أخرى، حتى إذا عجزت الخادم وعجز صاحبها عن تسليتها أو حملها على أن تأكل، انصرفا عنها فخلت إلى نفسها. وما هي إلا أن أقبلت على الصلاة جاثية، ولكن بابها يطرق مرة ومرة ومرة أخرى، فتنهض وتفتح الباب وإذا القسيس مقبل في شكلٍ بشع رائع، مضطرب أشد الاضطراب، ظاهر الذهول، حائر الطرف، لا يكاد يبين، قد جلل الثلج ثيابه، ودلت هيئته على أنه قد هام على وجهه غير قليل، وهو يرتعش من البرد. فإذا سألته فيم أقبل؟ أجابها أجمل جواب وأبدعه وأشده في النفوس تأثيرًا، أجابها: لقد خرجت فهِمت ساعات لا أدري أين أنا وإلى أي وجهٍ أقصد، ولقيتني فتاة سألتني عن طريقها وكنتِ أنت هذه الفتاة. منذ ذلك الوقت اختلفت عليَّ صور منك لا تحصى، رأيتك طفلة بائسة تعسة، ورأيتك فتاة تتغنى في الشوارع، ورأيتك باغية تسرف في الإثم، ورأيتك لاهية، ورأيتك جميلة، ورأيتك دميمة، رأيتك في عزة، ورأيتك في ذلة، وأحاطت بي منك صور لا تحصى، ومضيت وهذه الصور من حولي حتى مررت بكنيسة كاثوليكية من كنائسكم، فدخلت وجثيت وصليت وفهمت … فهمت أني آثم … آثم حقًّا، مسرف في الإثم، فهمت أني أشر، فهمت أني مقصر لم أؤد واجبي. كان حقًّا عليَّ أن أنقذك بعد أن رأيتك فيما رأيتك فيه من إثمٍ وذل وألم، ولكني آثرت نفسي عليك ففررت منك … نعم فهمت وجئت الآن لأؤدي هذا الواجب.
أما هي، فما كادت تسمع حديثه هذا حتى أخذها شيء من الذهول أشبه شيء بذهول الصوفية. وفي الحق إنها تغيرت تغيرًا تامًّا، وانقطعت الصلة بين حياتها القديمة وحياتها الجديدة. فاسمع لها تهون على صاحبها القسيس وتنبئه بأنه قد بلغ ما كان يريد؛ لأنه قد استنقذها من الآثام وطهرها من الرجس، فجحدت حياتها الماضية وابتدأت حياة جديدة، أو قل: خلعت شخصها الأول واستحالت شخصًا جديدًا. واسمع له وهو يسألها أن تعده ألا تقوم منذ اليوم على إثم، وألا تكون منذ اليوم أداة لهو وعبث، فتدفع له كتابًا قد كانت كتبته فيه هذا الوعد، ولكن قراءة هذا الكتاب تغير من صاحبنا كل شيء. فانظر إلى نفسه وعواطفه وشهواته الإنسانية، وقد ثارت ثورة عنيفة منكرة، فمزقت ثياب القسيس وألقتها عنه، وإذا هو رجل قائم يحس ويشعر ويحب ويشتهي ويرى أمامه موضوع حبه وشهواته، وإذا هو يعلن هذا إلى الفتاة في عنفٍ ويسرع إليها فيضمها إليه، وإذا هي تضطرب بين ذراعيه اضطراب الطامع المشفق، يرغبها حبها في الإسماح، ويصرفها ما نذرت عن اللهو، وإذا هي تضرع إليه أن يخليها، وترغب إليه في ألا يكون كغيره من الناس وألا يتخذ جسمها كما اتخذوه متاعًا. وإذا هي تعلن إليه في ضراعة وإشفاق ورهبة أن أمرها بين يديه، إن شاء تركها صالحة وإن شاء ردها إلى حيث كانت من الإثم والفساد. وإذا كلماتها ورغبتها وإشفاقها تؤثر في هذا الرجل، فتنطلق ذراعاه عنها قليلًا قليلًا. وإذا هو جاثٍ مطرق مغرق في تفكيرٍ عميق، ولكن الليل انتصف وابتدأت السنة ودقت أجراس الكنائس، وانطلقت بالصلوات ألسنة المؤمنين. وكأن هذا كله قد انتهى إلى القسيس فأيقظه من نومه، فينهض متثاقلًا، ويمر يده على جبينه، يعتذر ويستأذن في الانصراف ليلحق بالمصلين. وانظر إليه يخرج متثاقلًا، وإن الظلمة لتنشر في الغرفة شيئًا فشيئًا حتى تغمرها وتخفي فيها كل شيء. وإذا المسرح يتغير فجأة كما تغير في أول القصة، وإذا نحن في حجرة الأسقف حين تركناه في أول القصة يقص على حفيده ما كان من أمره في شبابه، والفتى يسأله: ثم ماذا كان من أمر هذه المغنية؟! فيجيبه: لم أعلم من أمرها شيئًا، إنما قصصت عليك هذه القصة لتعلم أن تقدم السن بي لم ينسني أني كنت شابًّا وأني قد أحببت، ففكر في أمر زواجك قبل أن تقدم عليه، وادع لي أختك فإنها لم تتم لي قراءة الصحيفة.
ويخرج الفتى، فيدعو أخته فتقبل وتستأنف القراءة، فإذا هي في الأخبار البرقية، وإذا هي تقرأ هذا العنوان: موت مغنية شهيرة «كافاليني». فإذا سمع الأسقف هذا الاسم اضطرب قليلًا، وطلب إلى الفتاة أن تقرأ، فتقرأ أن هذه المغنية التي ماتت قد انقطعت عن الغناء وانصرفت عن المجد وزخرف الحياة في ريعان شبابها منذ سنة ١٨٧٣، ووقفت ثروتها الضخمة على أعمال البر. وإن الفتاة لتقرأ وإذا الأجراس تدق، فقد انتصف الليل وابتدأت السنة. وألقت الفتاة صحيفتها، وتقبل على جدها تهنئه وتقبله، ولكنها ترتد عنه قائلة: أرى خدك مبتلًّا! … وخدك الآخر … إنك تبكي … كلا يا ابنتي، ولكن أين أخوك؟ فتدعو له الفتى، فإذا أقبل مهنئًا دفع الشيخ إليه الصحيفة وقال له: اقرأ هذا. فإذا حاول الفتى أن يظهر شيئًا من الدهش دعاه الشيخ إلى الصمت قائلًا: أتذكر صاحبتك الممثلة، اتخذها زوجًا. وإنه ليقول ذلك وإن القصة لتنتهي، بينما تصل إلى الآذان من بعيد جدًّا أنغام هذا الصوت الذي سمعناه أول القصة.
«أتعرف ذلك البلد الذي يزهر فيه البرتقال …؟»