زوجا ليونتين
نعم هي قصة فكاهية ولكنها لا تخلو من الجد، أو قل هي قصة فكاهية ولكن كلها جد. فلن تخطئ إذا قلت هذا، ولن تخطئ إذا قلت إن الفكاهة في هذه القصة مع أنها روح القصة وغايتها لم تتخذ في حقيقة الأمر إلا وسيلة إلى الجد، وسيلة إلى هذا الجد الذي يحسن ألا يقصد إليه مباشرة، وألا يعمد إليه الكاتب في غير احتيال وتكلف للطرق المعوجة؛ إما لأن الكلام قد كثر فيه حتى أصبح حديثًا معادًا مملولًا، فلا بد من عرضه في صورٍ جديدة لم يألفها الناس، وإما لأنه من هذا الجد الذي تأبى الأخلاق العامة والأوضاع الاجتماعية أن يهجم عليه الكاتب في غير احتياط ولا تلطف بالنظارة والقراء، فهو مضطر إلى أن يحتال ويفتن في الحيلة ليسمعك ما يريبك دون أن يروعك أو يسوءك أو يشق عليك.
والجد الذي يقصد إليه كاتبنا في هذه القصة ويتخذ الفكاهة وسيلة إلى إدخاله في نفوس القراء والنظارة، لا يخلو من هذين الأمرين جميعًا، فقد كثر الكلام فيه حتى سئمه الناس أو كادوا يسأمونه، وهو مع ذلك دقيق لا يخلو مما شأنه أن ينفر الحريصين على الأخلاق والمألوف من الأوضاع الاجتماعية. ولكنه على كثرة الكلام فيه حتى مل، وعلى دقته ومخالفته لما ألف الناس من خلق وعادة، خليقٌ بالعناية حريٌّ بالتفكير، لم يصل فيه الناس بعد إلى رأيٍ قاطع مقبول. وأنت تعلم حق العلم أن القصاص، سواء منهم الممثل وغير الممثل، قد عالجوا أمر هذه المرأة اللعوب التي تخون زوجها، فتسرف في خيانته حتى تتمثل كأنها الرذيلة مجسمة، ولكن لها من دون ذلك العبث والفجور طبيعة خيرة قابلة للصلاح والطهر. وأنت تعلم أيضًا أن هذه المرأة على كثرة ما أدافع عنها القصاص والأدباء والفلاسفة لا تزال بغيضة إلى سواد الناس، ممقوتة أمام ما اتفق الناس على أنه الأخلاق والعادات الموروثة. وأحب أن تطمئن، فما أريد أن أدافع عن هذه المرأة، وما أريد أن أغير في الأخلاق، ولا أن أمس هذه العادات بخيرٍ ولا بشر، فلست أنا من هذا كله في شيء، وما أنا بالذي يفكر في نقد النظام الاجتماعي وتغييره قليلًا أو كثيرًا. إنما هي قصة أعجبتني، وأظن أنها ستعجبك، بل أتمنى أن تعجبك، ولهذا ألخصها لك، وأعرضها عليك في غير حكم ولا تأييد.
في هذه القصة خفة ورشاقة، وفيها مجون ودعابة. ولكن من الذي حظر على الناس أن يعمدوا إلى القصص الخفيف الرشيق الذي تزيده الدعابة خفة ويزيده المجون رشاقة، فيقرءوه ويشهدوه؟ ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الأدب لا يكون أدبًا إلا إذا كان جدًّا كله؟ ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الدعابة والفكاهة قد تبلغان من التأثير في النفس ومن إذاعة الخير وتحبيبه إلى النفوس ما لا يبلغه أشد الجد حموضة وعبوسًا؟
على أن قصتنا ليست من هذه الدعابة الممقوتة، ولا من هذه الفكاهة التي تضيق بها نفس الرجل الخير المتشدد في حب الخير. فهي تقارب العبث وتدنو منه فتسرف في الدنو، حتى يخيل إليك أنها ستتورط فيه، ولكن الكاتب ماهر حريص على الخلق، حريص قبل كل شيء على حس الجمهور، وعلى حسه من ناحية الخير، فهو لا يريد أن يؤذيه، فهو يدنيك من هذا العبث حتى تكاد تلمسه. ثم ما هي إلا حركة يدفع بها قلمه، فإذا أنت بعيد من الإثم كل البعد، وإذا أنت لم تشهد منه إلا هذه الناحية التي تضحكك من الشر وترغبك عنه.
وهي فوق هذا كله تعرض لطائفة من الموضوعات الاجتماعية القيمة التي لن يوفق الناس لأن يتخذوا لهم فيها رأيًا قاطعًا. تعرض لموضوع الطلاق مثلًا، فمما لا شك فيه أن الناس سيظلون مختلفين في الطلاق، يراه بعضهم خيرًا لأنه يرفه على الناس ويفصل بين الزوجين اللذين لا سبيل إلى أن يعيشا مؤتلفين، ويمكنهم بذلك من حماية كرامتهم وشرفهم وآدابهم. ويراه بعضهم شرًّا لأنه يفصم عروة قد أحكمها الدين كما يقول المسيحيون، ولأنه أبغض الحلال إلى الله كما يقول المسلمون. وسيظل أولئك وهؤلاء في خلافٍ وجدال ما احتاج الناس إلى أن يكون بينهم الزواج والطلاق. ولكن هناك وجهًا من وجوه الطلاق لا يفكر فيه الناس كثيرًا، وربما لم يفكروا فيه بوجهٍ من الوجوه، وهم مع ذلك يحسونه ويجدون فيه اللذة حينًا والألم حينًا آخر؛ ذلك أن الطلاق في حقيقة الأمر وسيلة قانونية للفصل بين شخصين لا يستطيعان الحياة مؤتلفين، كما أن الزواج وسيلة قانونية للجمع بين شخصين يحبان أن يعيشا مجتمعين. ولكن المسألة هي أن نعرف أيستطيع الطلاق بعد أن يحقق هذا الفصل القانوني أن يحقق فرقة أخرى صحيحة فيقطع الصلة قطعًا باتًّا بين الزوجين كأن لم يعرف أحدهما الآخر؟ كما أن هذه المسألة نفسها تعرض بالقياس إلى الزواج، فالزواج يجمع الزوجين جمعًا قانونيًّا، ولكنه قد يعجز في كثيرٍ من الأحيان عن أن يؤلف بينهما تأليفًا صحيحًا قويًّا. ولعلك تذكر أني قد حدثتك منذ حين عن قصة لهذا الكاتب نفسه، عرض فيها للطلاق وعجزه عن أن يفرق بين الزوجين إذا جمع بينهما الحب الصحيح. وهذه القصة هي قصة «المذهبين» التي رأيت فيها رجلًا خان امرأته، فأسرف في خيانتها حتى طلبت الطلاق وظفرت به وهمت أن تتخذ لها زوجًا آخر. ومضى زوجها الأول في إثمه وعبثه، ثم التقيا فظهر أن الطلاق لم يفرق بين قلبيهما وإن فرق بين جسميهما، وظهر أنهما مضطران إلى أن يستأنفا حياتهما الأولى.
وكاتبنا في هذه القصة التي نحن بصددها يعرض للطلاق من هذه الناحية، وإن كان لا ينتهي إلى مثل النتيجة التي انتهى إليها في القصة الأخرى، بل ينتهي إلى نتيجة مناقضة من وجهٍ ما لتلك النتيجة. فسنرى زوجين لم يستطيعا أن يعيشا مؤتلفين؛ لأن المرأة خانت زوجها، فأسرفت في الخيانة حتى طلب الزوج الطلاق فظفر به. ولكن هذا الرجل طيب القلب، خير الطبع، فهو يعطف على زوجه بعد الطلاق، ويمدها بما تحتاج إليه من معونة. وهو ينالها بالبر والمودة أكثر مما كان يفعل قبل الطلاق، وهو يحس أن هذا العطف وهذه المودة يناقضان أشد المناقضة ما ألف الناس من عادة وقانون، فهو مضطرب بين إرضاء طبعه وعاطفته وإرضاء العرف. وهو يذعن في كثير من الأحيان للطبع والعاطفة، ولكنه يذعن مرة للعرف فيفر من امرأته المطلقة، ويخيل إليه أنه بهذا الفرار سيريح نفسه من هذا الجهاد العنيف. ولكنك تعلم أن «ألفريد كابو» صديق للمصادفة، فهو يرى أن لها أعظم الأثر في تدبير حياة الأفراد والجماعات، وقد بينت لك هذا في كل ما حللت من قصصه. وهو هنا يعرف للمصادفة هذا السلطان ويسخرها في قصته، وإذن فيستطيع صاحبنا أن يفر من زوجه المطلقة، فالمصادفة كفيلة بأن تكرههما على اللقاء، وإذن فسيظل الجهاد متصلًا بين هذه العاطفة التي تعطف الرجل على زوجه بعد الطلاق، وهذا العرف الذي ينكر ذلك ويراه إثمًا أو شيئًا يشبه الإثم، ولا بد من تدخل المصادفة موقف هذا الجهاد عند حدٍّ ما.
فأنت ترى أن هذا الوجه من وجوه الطلاق خليق في نفسه بالعناية بالدرس، وأن الكاتب مهما يصطنع من الفكاهة والمجون لدرس هذا الموضوع وتقريبه إلى الناس، فليس مسرفًا ولا غاليًا في العبث. ذلك إلى أن الأمر نفسه حقيقة من الحقائق الاجتماعية التي لا تقبل الشك. فكلنا يعلم أن الطلاق كثيرًا ما يعقب الندم والحسرة، وكلنا يعلم أن قد كان لهذا أثره في آداب الأمم المختلفة، في آدابنا العربية وفي الآداب الأجنبية على كثرتها واختلافها. وإذن فهي حقيقة من الحقائق الاجتماعية يجب أن تدرس، وأن يتخذ الأدباء إليها الوسائل المختلفة: قصصًا حينًا وتمثيلًا حينًا آخر، جدًّا مرة، وفكاهة مرة أخرى. ذلك إلى أن هناك أشخاصًا من حق الأديب أو من الحق على الأديب أن يصورهم للناس، فقد يكون في تصويرهم، إلى جانب النفع الفني، نفع خلقي واجتماعي. قد يكون هؤلاء الأشخاص أخيارًا، ففي تصويرهم ما يدعو إلى القدوة، أو أشرارًا ففي تصويرهم ما ينفر منهم.
والحق أن الأشخاص الذين صورهم الكاتب فأحسن تصويرهم في هذه القصة قليلون، هم أربعة ليس غير، ومن حولهم أشخاص آخرون لا يمتازون بشيء، وهؤلاء الأشخاص الأربعة قد أحسن الكاتب تصويرهم حتى أصبح من اليسير جدًّا أن ننقل إليك صورهم في غير إطناب ولا إطالة.
فأما أولهم فهو «أدولف ديبوا» رجل من أوساط الناس، له ثروة ولكنها ضئيلة، يعمل في ديوان من دواوين الحكومة، خير الطبع، رضي النفس، مستقيم الخلق، ضعيف الإرادة، يكره الشر ولكنه لا يستطيع مقاومته في يسر، ويحب الخير ولكنه يحب نفسه أيضًا، فهو لا يستطيع أن يعتمد على نفسه في شيء وإنما هو محتاج إلى من يعينه ويرشده ويوجهه إلى سبيل الخير، وهذا الرجل هو الزوج الأول.
وأما الشخص الثاني فهو البارون «إدوار دي لاجامبيير» شاب من الأشراف، ضخم الثروة، ولكنه كصاحبه خير ضعيف الإرادة، لا يستطيع المقاومة ولا يقوى على الجهاد إلا في ناحية واحدة، وهي الناحية المضادة لميول الأشراف وما توارثوا من عادة وسنة، فهو يكره عادات الأشراف، ولا يحرص على تقاليدهم ولا يحفل بها.
والشخص الثالث هي «ليونتين»، امرأة جميلة فتانة، ولكنها كصاحبها ضعيفة الإرادة خيرة، غير أنها لا تستطيع مقاومة الشر أو قل لا تكاد تميز بين الخير والشر، سلطان الغريزة عليها أقوى من سلطان العقل، محبة للفكاهة مندفعة فيها، أو هي ترى الحياة كلها فكاهة، حتى تعلمها المصادفة أن هذه الفكاهة قد تستحيل إلى جدٍّ فتستفيد من هذا الدرس، وإذا هي صاحبة جد ولكنه جد باسم لا يكاد يخلو من الفكاهة.
والشخص الرابع هي الماركيزة «دي بريساك»، شيخة من الأشراف، هي عمة البارون دي لاجامبيير، محافظة، مسرفة في المحافظة، سيئة الخلق، طويلة اللسان، ميالة مع هذا إلى الخير.
هؤلاء هم الأشخاص الذين تقع بينهم القصة. وهناك أشخاص آخرون كثيرون تأتي بهم المصادفة ليتم تدبير ما سيقع من الحوادث دون أن يكون لهم في أنفسهم خطر.
•••
فإذا كان الفصل الأول فنحن عند «أدولف» في بيته في باريس، نشهد شابًّا قد أقبل يطالب بقسطٍ من الأقساط المالية، فتظن الخادم أنه يطالب بالقسط المستحق من ثمن البيانو الذي اشتراه سيدها، فتدفع إليه خمسين فرنكًا، فيضحك ويطلب ألفين. فإذا سمعت الخادم هذا الرقم جزعت وفزعت إلى سيدها، فيقبل ويعد الشاب بالأداء بعد دقائق. وما هي إلا أن يصل صديق له عضو في مجلس النواب اسمه «بلانتين»، يحمل إليه هذا المقدار فيأخذه ويدفعه إلى الشاب. والخادم ساخطة تلوم سيدها لومًا عنيفًا، فهي تعلم أين يذهب هذا المال، هو يذهب في حاجات زوجه المطلقة، ومع ذلك فقد أضاعت هذه المرأة على زوجها أكثر ثروته، ثم خانته فأسرفت، حتى إذا طلقها اتخذت صناعة المومسات، وهي مع ذلك لا تستحي أن تلجأ إلى زوجها القديم كلما مسها الضيق، وزوجها القديم لا يستحي أن يعينها كلما لجأت إليه. ثم تنصرف الخادم مغضبة، ويأخذ النائب في النصح لصديقه ألا يفعل، وصديقه يرى رأيه ويقبل نصحه. ولكن الخادم تعود فتعلن إلى سيدها أن زوجه مقبلة، فيضيق الرجل ذرعًا ولكنه يستقبلها.
فإذا دخلت رأيت امرأة خفيفة الروح، حلوة الحديث، مستخفة بكل شيء، قد أقبلت على زوجها القديم مطمئنة واثقة تتحدث إليه في غير تكلف، وزوجها يخشى أن تكون قد أقبلت تطلب بعض المال فهو يدافعها عن ماله. ولكنها لم تقبل لشيءٍ من هذا، إنما قبلت لشيءٍ آخر؛ ذلك أنها غضبت على صاحبها فطردته، أو غضب عليها صاحبها فانصرف عنها، وكانت قد استدانت فعجزت عن أداء الدين، وباع الدائنون متاعها، وأصبحت وليس لها مأوى، وهي تبحث عن بيت، ولكنها تريد مأوى حتى تجد هذا البيت وتهيئه للسكنى. وقد فكرت في صديقاتها ولكنها استحت منهن، فلم تجد إلا زوجها، فيدافعها الرجل عن بيته، ويشجعه صاحبه على الدفاع. وتقبل المرأة رفض زوجها راضية غير مكترثة في ظاهر الأمر، حتى إذا انصرف النائب عنهما أقبلت إلى «البيانو»، فأخذت تعزف لاعبة باكية في وقتٍ واحد. وعجز صاحبنا عن المقاومة، فأذن لها أن تبقى عنده. وهو يفكر في تدبير الأمر، فسينزل لها عن غرفته، وسينام في غرفة الاستقبال. أما هي فلا تريد أن يفسد النظام في غرفة الاستقبال بهذا السرير الذي سيضاف إليها، وهي لا ترى بأسًا أن تقاسم زوجها غرفته، ولكن الزوج يرى في ذلك البأس كل البأس، فتقبل منه ذلك ضاحكة غير حافلة، وهل تحفل بشيء؟
وانظر إليها قد نهضت فنظرت في غرفة الاستقبال فلم يعجبها تنسيق المتاع، فهي تقترح تغيير النظام، تريد أن تنقل هذا المتاع من مكانه وتضع مكانه متاعًا آخر. وزوجها يرى رأيها وكأنه قد نسي الطلاق وخيل إليه أنهما في حياتهما الأولى. وانظر إليها بعد هذا تطلب إلى زوجها شيئًا من النقود، وتكلف الخادم أن تشتري شيئًا من الزهر تزين به هذا البيت. ثم انظر إليها تداعب زوجها، وهو يقاوم أول الأمر ثم تضعف مقاومته حتى يوشك أن يزل، لولا … زيارة تفصل بينهما، فقد أقبلت صديقتان لزيارة «ليونتين» وكانت قد أنبأتهما أنها ستلجأ إلى عمها فتقيم عنده حتى يجعل الله لها من ضيقها مخرجًا، فتقبلان وتقدم إليهما «ليونتين» أدولف على أنه عمهما.
فإذا خلا النساء إلى أنفسهن قالت إحدى الصديقتين لليونتين: إن الله قد هيأ لهما مخرجًا من هذا الضيق، فإن البارون «إدوار دي لاجامبيير» الذي رآها منذ سنة مفتون بها، وهو يلتمسها ويريد أن يتخذها خليلة له، وهو مقبل لزيارة بعد حين، تقولان ذلك وتنصرفان. ويأتي الزوج وهو مضطرب في دخيلة نفسه، واثق بالزلل أن أقام مع امرأته، عاجز عن أن يرى لنفسه مخرجًا من هذه الأزمة. ولكن صديقه النائب قد عاد يخبره بأنه مسافر، فيطلب إليه أن يصطحبه ليخرج من هذه الأزمة، ويقبل النائب. وانظر إليه يعلن إلى زوجه أنه مسافر الآن لأمرٍ طرأ، وأن سفره قد يطول، وأنها مطلقة التصرف في البيت ما لم تسئ السيرة، وأن خادمه متصلة بشخصها، وأنه تارك لها مقدارًا من المال يقترضه من صاحبه، وهو يهيئ حقيبته وينصرف.
وما هي إلا أن يقبل البارون ومعه صديق له أستاذ في مدرسة من مدارس الزراعة في الأقاليم. فإذا أستأذنا وأذن لهما انتظرا لحظة نراهما فيها وحدهما، فتعرف أن البارون على ذكائه ومهارته في تصريف الحديث مفحم أمام النساء، ولا سيما حين يعجبنه ويقعن من نفسه.
وما هي إلا أن تدخل «ليونتين» حتى يظهر اضطرابه وعجزه وحتى تسخر منه في نفسها، ويظهر في الوقت نفسه لسن هذا الصديق الأستاذ وفصاحته، وإذا «ليونتين» مفتونة بهذا الأستاذ. ولست أطيل عليك بتلخيص ما يقع بينهم من حديث، ولكن الأمر ينتهي بدعوة إلى العشاء وقبول لهذه الدعوة وخروج الثلاثة إلى حيث يطمعون.
•••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في مدينة من مدن الأقاليم، في دار الأستاذ الذي رأيناه في الفصل الأول، وقد أقبلت لزيارته واستشارته المركيزة «دي بريساك» ومعها ابنة أخ لها جميلة يقال لها «أورتنس»، وأورتنس هذه تنبئ عمتها أنها كادت تفقد الحياة لولا أن رجلًا أنقذها ورد عنها فرسًا جامحًا كاد يقتلها. وعمتها تسخر منها ومن صاحبها الذي أنقذها، كما تسخر في غضب وسخط من ابن أخيها البارون «دي لاجامبيير» الذي تزوج امرأة مطلقة من باريس خارجًا بذلك على تقاليد الأشراف وأصول الدين. وهذه الشيخة مغضبة محنقة على كل شيء، ترى أن النظام الجمهوري مسئول عن كل الشرور حتى التي لا عمل للناس فيها. أليست الجمهورية هي التي استحدثت هذه العلل التي تصيب الكروم فتفسدها؟! وقد أقبلت هذه المرأة تستشير أستاذنا الزراعي في إحداهما! ولكن الأستاذ قد أبطأ، فتنصرفان على أن تعودا بعد حين.
ويقبل الأستاذ ويقبل البارون ويتحدثان، فنفهم من حديثهما أن البارون لم يكد يرى «ليونتين» حتى فتن بها واعتزم أن يتخذها له زوجًا، تردد في ذلك أيامًا ثم صحت عزيمته فتزوجها، لم يحفل بأحدٍ ولم يدع أحدًا، وهو سعيد بهذا الزواج منذ ثلاثة أشهر، وامرأته سعيدة أيضًا … وهو يلتمس لها العذر فيما اقترفت من إثم قبل أن يتزوجها، فذنب ذلك على زوجها الأول، ذلك الرجل المجرم الذي كان يشرب حتى إذا سكر عاد إلى بيته فأذاق امرأته ألوان العذاب. وآية ذلك أن المحكمة حكمت عليه بالطلاق لا على زوجه. هو إذن راضٍ عن حظه مغتبط به، وصاحبه الأستاذ يهنئه ويغبطه، وهو يعلم زوجه اصطناع البسكليت، وهو معجب بجمالها فيما تتخذ لهذا الغرض من زي، معجب بذكائها وسرعة إتقانها لهذا الفن.
ثم نفهم من حديثهما أنه ساعٍ لصديقه الأستاذ في أن ينال أحد الأوسمة، وأنه لا بد لذلك من عريضة يوقعها أعيان الإقليم. والأستاذ قد هيأ هذه العريضة وسيمضيها البارون ويحمل عمته على إمضائها، فسيكون لذلك أثره، وإن كانت عمته ساخطة عليه مغاضبة له. وقد أقبلت «ليونتين» في زي البسكليت جميلة خلابة مبتسمة للحياة، راضية عن كل شيء، حلوة الحديث، لذيذة الفكاهة، فتتحدث حينًا، ونفهم من الحديث أن زوجها مضطر إلى أن يغيب عنها ساعات تقضيها هي في دروس البسكليت. ثم ينصرف الزوج حينًا، فإذا بين الأستاذ وبين «ليونتين» إثم قديم العهد لأنها أحبته منذ رأته وأحبها هو أيضًا ولكنه خائف، أما هي فلا يعرف الخوف إلى نفسها سبيلًا. وانظر إليها قد أخذت تداعبه، وهو يجيبها كارهًا، ثم تدنو منه وما تزال تدنو حتى تكون بين ذراعيه، وهو يقبلها وهي تقبله، وهي تكرهه على أن يضرب لها موعدًا إذا انصرف زوجها، وهو يتأبى، ولكنها تكرهه وتلح عليه وتقول له في قبلة: «إلى اللقاء بعد حين.»
وفي أثناء ذلك يفتح الباب وتظهر الشيخة، فإذا رأت هذا المنظر انصرفت مغضبة وافترق العاشقان ولم يحسا شيئًا.
ثم يعود البارون وتنصرف امرأته إلى البسكليت. وبينما هو في حديثٍ مع الأستاذ إذ تستأذن الشيخة فتدخل في جدٍّ وحشمة، وتطلب إلى الأستاذ أن يزور زراعتها غدًا أو بعد غد وتهم بالانصراف. ولكن ابن أخيها يستوقفها ويريد أن يتقرب إليها، فيتركهما الأستاذ حينًا فيتحدثان، ونفهم من حديثهما أنها لا تعترف بزواجه، وإنما ترى أنه اتخذ له خليلة وليس في ذلك بأس. غير أن الشاب يطلب إليها توقيع العريضة، فتأبى في غضبٍ لأنها تزدري هذا الأستاذ، وكيف لا تزدريه وقد رأت بين ذراعيه منذ حين امرأة جميلة في زي البسكليت ما ترى إلا أنها من مومسات باريس! يدهش الشاب لأنه كان يرى صديقه الأستاذ أبعد الناس عن العبث واللهو. فإذا ألح في هذا الدهش وألحت عمته في الوصف والتفصيل، تطرق الشك إليه فيستوصف عمته، فتفصل الوصف، فيستحيل الشك يقينًا، وإذا هو مصعوق، وإذا عمته تقول في سخرية: أخشى أن أكون قد أسأت إليك عن غير عمد. ولكن صاحبنا يريد أن ينتقم وهو يريد البينة قبل الانتقام، وقد أخبرته عمته أن العاشقين تواعدا على أن يلتقيا بعد حين، فيخرج وتخرج عمته للاستعانة بصاحب الشرطة، وقد عاد الأستاذ إلى غرفته، وهو يحدث نفسه كارهًا لهذا الموعد، معلنًا أن الدرس والمرأة لا يجتمعان.
ولكن المرأة قد أقبلت، فتداعب وتعبث حتى تصرف الرجل عن درسه، ثم تنسل في لطفٍ إلى غرفة النوم وقد تجردت من ثيابها، وهي تدعو إليها صاحبها في دعابة ورشاقة، وصاحبها يقبل عليها كارهًا، ولكنه يسمع وقع أقدام، ثم يحس طرق الباب، ثم يستيقن أنه الزوج قد أقبل ومعه صاحب الشرطة، فيضطرب ويشتد اضطرابه، ويحاول أن يحمل صاحبته على الفرار، ولكن كيف تفر وهي عريانة؟! أما هي فهادئة مطمئنة، تأمر صاحبها أن يفتح الباب، وقد فتح الباب، ودخل الزوج ودخل صاحب الشرطة ومعه كاتبه، ولكننا لا نكاد نرى صاحب الشرطة حتى يأخذنا الدهش ثم الإغراق في الضحك، ذلك أن صاحب الشرطة هو «أدولف ديبوا» الزوج الأول لليونتين، أرادت المصادفة أن يكون مدير الشرطة في هذه المدينة منذ أيام.
يأخذ صاحب الشرطة في كتابة المحضر مستعينًا بكاتبه، حتى إذا أراد أن يرى المرأة الخائنة أنبئ أنها لا تستطيع أن تظهر له فيسجل ذلك في المحضر. وبعد حين يفتح باب الغرفة وتخرج «ليونتين» … فقدر دهشها، وقدر بنوع خاص دهش صاحب الشرطة وقد رأى امرأته في هذا الموقف. ولكنهما يجتهدان في إخفاء هذا الدهش، ويحاول الرجل أن يمضي في عمله فيأخذ في سؤال «ليونتين»، فتطلب إليه «ليونتين» أن يأذن لها في توجيه الكلام لحظة إلى هذين الرجلين زوجها وعاشقها. فتسأل الزوج ماذا يريد؟ يجيبها: الطلاق في أسرع وقت، وتسأل الأستاذ ماذا يريد أن يصنع؟ فيجيب: إنه لا يريد شيئًا فهو رجل درس، وكل ما يعنيه أن ينصرف إلى عمله. هو إذن متخل عنها … هو إذن رجل لا شرف له ولا مروءة، وقد كانت أحبته لأنها كانت ترى فيه جدًّا واستقامة. أما زوجها فيسألها ماذا تريد أن تصنع هي؟ تجيبه: وما يعنيك من هذا؟ فيقول: إنك ستظلين زوجي حتى يفرق الطلاق بيننا، فمن الحق أن أعرف إلام تصيرين، عجيب! سأذهب إلى حيث كنت، إلى بيت عمي فهو خير كريم. ولا يكاد صاحب الشرطة يسمع هذا حتى يملكه غضب لا حد له، فهو يحس أن «ليونتين» ستعود إليه، وهو إنما ترك باريس فرارًا من «ليونتين» وهو يريد أن يتقيها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. وانظر إليه يأبى أن يمضي في كتابة المحضر على وجهه، ويعلن أنه لم ير إثمًا وإنما رأى سيدة محتشمة عند الأستاذ. فلا تسل عن سخط الزوج وحنقه، ولكن صاحب الشرطة ملح، ثم ينتهي الأمر بأن يطلب صاحب الشرطة إلى الزوج أن يتحدثا لحظة على خلوة، فيتفرق عنهما الناس، ويأخذ «أدولف» في النصح لهذا الشاب بأن يعدل عن الطلاق، وما يزال به يبغض إليه الطلاق ويحبب إليه العفو والمغفرة حتى بلغ منه ما أراد، وقد عادت المرأة، فيتركهما لحظة يتم فيها الوفاق بينهما، ويعود وقد استقام له الأمر كما كان يحب، فلن يكون طلاق ولا خصومة، ولن تلجأ إليه «ليونتين». ولكن الزوجين قد أحباه لأنه أصلح بينهما وأحبه الزوج بنوعٍ خاص، فهو يدعوه إلى العشاء، وامرأته تلح في الدعوة. وإذن فقد كان يريد أن يفلت من «ليونتين» فأصبح مكرهًا على عشرة «ليونتين».
•••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت أيام على هذه الحادثة، ونحن في قصر البارون نرى «ليونتين» تؤنب خدمها في رفقٍ وفكاهة، وقد أقبل «أدولف» مدعوًّا إلى الغداء، فتلقاه «ليونتين» مبتهجة بلقائه وهو ضيق الصدر بهذه المودة، ضيق الصدر خاصة بمكانه من البارون الذي يجهل كل شيء مما كان بين «أدولف» و«ليونتين»، وهو ينبئ «ليونتين» بأنه قد غير اسمه الخاص عندما سأله عنه البارون، وبأنه يلتمس طريقًا للانتقال من هذه المدينة حتى لا يضطر إلى معاشرة الزوجين. ولكن «ليونتين» لا تريد أن يفارقهما، وهي لا ترى في شيءٍ مما كان بأسًا، ونحن نحس في كل أحاديثها أن قد تغيرت حقًّا منذ تلك الحادثة التي رأيتها في الفصل الثاني، تغيرت فأصبحت خيرة طيبة النفس، طاهرة الطبع شديدة البغض للإثم والخيانة، محبة لزوجها شديدة الحرص على الوفاء له، عافية عن الآثمين متجاوزة عن آثامهم، وقد أقبل الزوج فإذا هو أشد من امرأته حبًّا لأدولف ووفاءً له واعترافًا بجميله. والرجل مضطرب ضيق الصدر بين هذين الزوجين، ولكن حب البارون لأدولف لا حد له، فهو يريد أن يلتمس له زوجًا ويضن به على هذه الحياة التي تنغصها الوحدة، وامرأته تشاركه في هذا الرأي. وما هي إلا لحظة حتى يهتدي الزوجان إلى القرينة الملائمة. وما الذي يمنع «أدولف» من أن يتزوج ابنة عم البارون «أورتنس»، فهي جميلة غنية خيرة؟! أما أدولف فلا يرى في هذا إلا نوعًا من المزاح.
ولكن «أورنتس» قد أقبلت، فلا تكاد ترى «أدولف» حتى تدهش، فهو الذي أنقذها من الموت. وما يكاد ابن عمها يخلو إليها ويحدثها في هذا الزواج حتى تظهر الرضا والاطمئنان، فالقوم جميعًا سعداء، ولا سيما بعد أن أقبل النائب «بلانتين» يزور البارون فيلقى صديقه «أدولف» وصاحبته «ليونتين» ويكون في هذا كله اضطراب غريب مصدره حرص «أدولف» على ألا يظهر اسمه الحقيقي، وحرصه أيضًا على ألا تظهر المعرفة و«ليونتين». وتكلف هؤلاء القوم جميعًا الحيلة في إخفاء الأمر على البارون، هم ينجحون في هذا التكلف، وهم كما قلت لك سعداء ينتظرون الدعوة إلى المائدة. ولكن المصادفة لم تفرغ بعد من عملها، فقد أقبلت عمة البارون الشيخة، فخلت إلى ابن أخيها لحظة تسأله عن أمر الطلاق، فلا يستطيع أن يخبرها بأن قد تم الصلح بينه وبين امرأته، فيزعم لها أن القضية تجري مجراها. ولكن الشيخة قلقة لأن ابنة أخيها «أورتنس» مشغوفة بحب هذا الرجل الشرطي الذي أنقذها من الموت، وهي تخشى أن ينتهي هذا الحب إلى الزواج. فإذا سألها ابن أخيها: وأي بأس في ذلك؟ أجابت: إنها الفضيحة؛ فإن هذا الرجل قد طلق امرأته. فيدهش الشاب لأنه كان يقدر أن صاحبه لم يتزوج. فتؤكد له عمته ذلك، وتخرج له وثيقة استخلصتها من المحكمة في باريس، وفيها أن هذا الرجل — واسمه «أدولف ديبوا» — قد كان سكيرًا يضرب امرأته، فطلقت امرأته عليه، ثم أثبتت لابن أخيها أن هذا الرجل هو بعينه الذي عين منذ أيام مديرًا للشرطة. فقدر أنت دهش الشاب واضطرابه حين يعلم أن صاحب الشرطة هو الزوج الأول لامرأته، واسمع لعمته تقول له الآن كما قالت له في الفصل الثاني: أخشى أن أكون قد أسأت إليك عن غير عمد يا ابن أخي! وقد انصرفت عنه وتركته في هياجٍ واضطراب. فانظر إليه وقد دخل عليه «أدولف» ومعه «ليونتين»، كيف يستقبل صاحبه مضطربًا ساخطًا صاخبًا، يعلن إليه اسمه وصناعته الأولى في باريس وقضيته مع امرأته … والرجل يعترف بكل شيء في وجومٍ ودهش، حتى إذا فرغ من هذا أعلنت «ليونتين» أن «أدولف» لم يكن في يومٍ من أيام حياته سكيرًا ولا شريرًا، لم يضربها ولم يسئ إليها، وإنما هي التي خانته فأراد الطلاق، وكره أن يكون الحكم عليها، فقبل أن يتهم نفسه وأن يقع الطلاق عليه هو. ثم تتبع امرأته بعد الطلاق بالبر والعطف، حتى كان هذا الحادث الأخير. وانظر إليها ترفق بزوجها وتترضاه في خفةٍ ودعابة وطهر، حتى تأخذ يده فتضعها في يد زوجها الأول. وتدخل «أورتنس» ومعها النائب يستعجلان الغداء، فيضع البارون ذراع «أدولف» في ذراع «أورتنس» وقد سماه باسمه هذه المرة. فإذا سمع النائب ذلك أظهر الدهش، فينبئه صاحبه أن قد عرف الرجل كل شيء، وهم يتقدمون إلى المائدة والخادم مقبلة وفي يدها زهر تقدمه إلى سيدتها كأنما تهدي هذا الزهر إلى هذين الخطيبين.