زوجها
بول جيرالدي كاتب يفتن به المترفون في شعورهم وعواطفهم من الفرنسيين؛ لأنه مترف في شعوره وعواطفه، ومترف بنوعٍ خاص حين يحلل العواطف والشعور. تناول طائفة من الموضوعات في قصصه التمثيلي، فاستطاع أن يبلغ من دقة التحليل ولطف المدخل إلى القلوب ما أسرع به إلى بيت موليير وأنزله منه منزلة رفيعة.
ولست أدري أيذكر القارئ أني تحدثت إليه في غير هذا الموضع عن قصة من قصصه التمثيلية سماها الحب، وحلل فيها الصلة بين زوجين متحابين يعرض لهما من أسباب الفتنة ما يصرف المرأة عن زوجها حينًا، ثم تتكشف الخبرة لهذه المرأة عن حقيقة الأمر فتتبين أنها كانت مفتونة لا عاشقة، وأن حبها إنما كان مقصورًا على زوجها حتى في أشد أوقات الفتنة؛ ذلك لأن الحب شيء غير الشغف وغير الهيام وغير هذه الشهوات التي تملك النفس فتفسد عليها الأمر حينًا. فيه ثقة تمكن المتحابين من أن يطمئن كل منهما إلى صاحبه، فلا يسمح لنفسه بالشك فيه ولا يتخيل هذا الشك، وتمكنهما من أن يعتمد كل منهما على صاحبه اعتمادًا لا حد له. فيه هذه الثقة التي تمكن الزوج من أن يجيب امرأته حين أنبأته بأن فلانًا يتبعها بحبه، وطلبت إليه أن يحميها من هذا الحب: «مثلك لا يحتاج إلى حماية ولا حراسة، ولا خير في حب يتكلف صاحبه أن يقوم دونه يدفع عنه المغيرين.» ثم فيه إلى جانب هذه الثقة ألوان من الذكرى يسيرة ضئيلة في نفسها، ولكن الحب يتألف منها، أو قل: إنها هي التي تؤلف حياة المتحابين.
وقد وفق «بول جيرالدي» في هذه القصة توفيقًا عظيمًا دون أن يحتاج إلى حركة أو مشقة في تدبير هذه الحركة، وإنما هي كلها حوار بين الزوجين، أو بين المرأة وذلك الذي أراد أن يفتنها. ثم لم يقف توفيق «بول جيرالدي» عند هذه القصة، بل تجاوزها إلى قصة أخرى فتنت الباريسيين في السنة الماضية، وهي قصة «روبير وماريان»، وهو على هذه الإجادة في التمثيل شاعر مجيد دقيق، يحبه الفتيان والفتيات، ويقرءون له بنوعٍ خاص ديوانًا صغيرًا عنوانه «أنت وأنا»، تناول فيه العلاقة بين العاشقين من نواحي الحياة المنزلية اليومية في لطف ودعة وخفة روح.
ولكن «بول جيرالدي» على هذا كله صاحب جد، وحظه من الهزل قليل. هو مترف في جده، خفيف الروح، يحاول الدعابة والفكاهة، ولكنه لا يبلغ منهما ما يريد، أو هو لا يريد أن يبلغ منهما شيئًا. وكأنه كان محتاجًا إلى أن يعينه زميله الذي اشترك معه في وضع هذه القصة التي أتحدث إليك فيها اليوم. كان محتاجًا إلى هذه المعونة ليلائم بين جدِّه وفلسفته المترفة وبين ما يحتاج إليه الباريسيون في هذه الأيام من الفكاهة واللهو حتى في أوقات الجد والتفكير العميق. وقد ظفر «بول جيرالدي» من معونة زميله بما أحب وبما أحب الباريسيون، فجاءت هذه القصة الأخيرة آية في الجد والفكاهة معًا. فأنت لا تستطيع أن تمضي في قراءتها دون أن ترى نفسك مغرقًا في الضحك، ولكنك في الوقت نفسه مغرق في التفكير والتأمل؛ ذلك لأن الموضوع كله جد، ولكن الصورة كلها هزل، لفظ رشيق فيه عبث كثير، ولكن من دون هذه الرشاقة والعبث حقيقة من هذه الحقائق التي يجب على كل إنسان أن يفكر فيها وأن يلائم بينها وبين سيرته مع زوجه.
وفي الحق أن روحي هذين الكاتبين قد التأما في هذه القصة التئامًا بديعًا. وحسبك أنهما استطاعا أن يحملاك على أن تفكر في أشد الموضوعات خطرًا دون أن تجد في ذلك مشقة أو عنفًا، بل على أن تجد في ذلك لذة لا تعدلها لذة. ولكن هذه المشقة التي لا تجدها أنت حين تقرأ القصة أجدها أنا حين أحاول أن ألخصها لك؛ ذلك لأني أستطيع أن ألخص لك موضوعها وغرضها، ولكني لن أستطيع أن ألخص لك شكلها وصورتها وحوارها وما فيه من رشاقة وخفة وسرعة، فكل ذلك لا سبيل إلى نقله إلا في ترجمة دقيقة ليست من السهولة واليسر بحيث تظن.
فلأعرض عليك ما أستطيع من هذه القصة معترفًا منذ الآن بأنه تلخيص للموضوع لا أكثر ولا أقل. ولأسلك في هذا العرض الطريق التي تعودت أن أسلكها في غير هذه القصة، فأضع أمامك الأشخاص كما أراد صاحب القصة أن يكونوا.
والقصة تعتمد قبل كل شيء على التناقض بين شخصين متباينين تباينًا تامًّا في الطبيعة والذوق والمزاج، ولكنهما يخدعان عن نفسيهما، ويخيل إليهما أنهما متفقان مؤتلفان لا تباين بينهما ولا تناقض.
فأما أحد هذين الشخصين فالزوج، واسمه «مكسيم مينار»، رجل من أغنياء باريس وأصحاب الأعمال فيها، رجل كغيره من الناس، عادي في ذوقه ومزاجه، وربما كان إلى الطبقة السفلى أقرب منه إلى الطبقة العليا. فإن امتاز بشيءٍ فهو يمتاز بجده في العمل ومهارته في تصريف الأمور المالية، وهو لذلك كثير الصمت قليل الكلام قليل الحركة أيضًا، لا يكاد يتصور الحياة إلا على أنها انهماك في العمل حين يكون في مكتبه، وأكل ونوم حين يأوي إلى بيته. وهو على ذلك قانع بهذه الحياة، يرى فيها المثل الأعلى للسعادة. وهو لا يفهم من الزوجية إلا أن يرى امرأته في البيت زينة له وأداة للهوه الذي لا يصيب منه إلا قليلًا من حينٍ إلى حين. وهو يفهم الأمانة الزوجية كما يفهمها غيره من الناس، لا يخون زوجه ولا يريد أن تخونه زوجه. يكره العبث، ويسيء الظن بكل لونٍ من ألوان المجون والمزاح، ولكنه مع هذا كله ضعيف طيب القلب، مستعد للعفو إن وقع له ما من شأنه أن يحفظ الرجال. هو رجل طيب، ولكنه يعيش في الأرض، وليس له جناحان يستطيع أن يرتفع بهما في الجو ولو قليلًا.
أما امرأته «جاكلين» فجميلة خلابة ككل نساء القصص، ولكنها تناقض زوجها أشد المناقضة؛ فهي قوية الخيال تعيش في السماء لا في الأرض، لا ترى الناس كما هم، وإنما تراهم كما تحب أن يكونوا، تصوغهم صوغًا خاصًّا، وتسبغ عليهم صورتها الخاصة، ثم تعيش معهم بعد ذلك عيشة راضية ملؤها الصفاء والطهر والثقة والإيمان؛ ذلك أن نفسها تتصف بهذه الصفات كلها، فهي راقية تتنزه عن الدنيات، وهي طاهرة لا يكاد يخطر لها الإثم على بال، وهي مطمئنة على نفسها، فيبعثها ذلك على أن تطمئن إلى الناس وتثق بهم ثقة لا حد لها، وهي على هذا كله مترفة في تفكيرها وشعورها، رقيقة العاطفة، رقيقة المزاج قوية الحس، تألم لكل شيء وتسر لكل شيء، وتنتقل من الألم إلى السرور ومن السرور إلى الألم في سرعة غريبة، تعيش في حلم مستمر. وهي بعد هذا كله قد صاغت زوجها في صورة ملائمة لصورتها، فاستيقنت أنه أجل الناس، وأكرمهم، وأرقُّهم طبعًا، وأصفاهم مزاجًا، وأبعدهم نظرًا، وأصدقهم حكمًا على الأشياء والناس أيضًا، حتى إذا أسبغت عليه هذه الصورة الجميلة الخلابة أحبته وفتنت به، واندفعت في هذا الحب والفتنة إلى أقصى أمدٍ ممكن، وأخذت تؤول عيوبه على أنها محاسن ومزايا. هو كثير الصمت، لا يتحدث إليها في الحب والغزل؛ ذلك لأنه رقيق دقيق، ولأن الحب أجل من أن يتناوله الكلام، ولأن الكلام يفسد الحب إذا تناوله. وما حاجتها إلى الكلام؟! أليس يكفي أن ينظر إليها زوجها، فترى في هذه النظرات ما تشاء من حب وشغف وولاء وإخلاص؟! وهو لا يحب اللهو ولا السمر، وما حاجتها إلى اللهو والسمر؟! أليس ذلك دليلًا على أنه رجلُ جدٍّ وعمل؟! وما حاجتها تراه وقد عاد إلى البيت فنظر في رسائله ثم قال بصوتٍ مغضب: ما لنا لا نذهب إلى المائدة؟! إن في هذا كله لحبًّا وفتنة. وعلى هذا النحو أحبت زوجها وسعدت بحبه ثلاثة أعوام كاملة، واتخذت نفسها وزوجها مثالًا أعلى للأسرة السعيدة المتحابة. ولكنها كانت تجهل زوجها، وكانت تجهل نفسها أيضًا، وكانت في حاجة إلى حادثة من الحوادث تظهرها على حقيقة نفسها، وتعرض عليها زوجها كما هو، وتنزلها من السحاب الذي كانت تعيش فيه إلى الأرض، لترى الناس والأشياء كما أراد الله أن يكونوا لا كما صورهم الخيال.
ومن غريب الأمر أن في هذه القصة شخصًا ثالثًا يناقض «جاكلين» من بعض الوجوه، ويوافقها من بعضها الآخر، وهو مثل شائع الآن في فرنسا. هذا الشخص هو «جيزيل» أخت «جاكلين»؛ فتاة تدرس الطب، حرة في لفظها وحركاتها وسيرتها، مسرفة في هذه الحرية، لا تتحرج من أن تستعمل في لغتها ألفاظًا يألفها الطلاب وحدهم وينفر منها المترفون، ولا تتحرج من أن تقضي يومها وشطرًا من ليلها مع الشبان في لهوٍ وعبث ومجون، ولا تكره أن تعود إلى بيتها بعد منتصف الليل وقد لهت ورقصت وصاحبها إلى البيت شاب من زملائها في الدرس. ولكنها على هذا كله طاهرة السيرة، تستطيع أن تقول لأختها: إنها على عبثها ولهوها لا تزال عذراء وستظل عذراء. وهي لا تكره أن تعلن إلى أختها صراحة أن الحب قد بطل في هذا العصر، وأن البدعة إنما هي في الدعابة والعبث ليس غير. ومن دون هذا كله قلب خير ملؤه البر والحنان، ونفس راقية تحب المثل الأعلى وتطمح إليه، ولكنها تراه عزيزًا فتتسامح، وتنظر إلى الحياة مبتسمة في شيءٍ من السخرية المرة تغشيها حلاوة متكلفة. هي كأختها لولا أن حظها من العقل يفوق حظها من الخيال.
وهناك شخص رابع، هو أم هاتين الفتاتين: امرأة متقدمة في السن، تمثل عصرها وتعيش غريبة في هذا العصر الجديد، لا تفهم «جاكلين» لأنها تعيش في السحاب، ولا تفهم «جيزيل» لأنها تحللت من القيود المألوفة، وهي معذبة بينهما دائمًا أنهما ستقلانها.
ثم هناك شخص خامس نستطيع أن نقول إنه البطل الثاني من أبطال هذه القصة، وهو «أندريه مورو»، شاب قد جاوز الثلاثين قليلًا، حسن الطلعة، متقن الزي، غني، متصل بالأسر الراقية، شديد الحياء، ولكنه حاد العاطفة والمزاج، ضعيف فيما يظهر، لا يكاد يملك نفسه ولا يسيطر على عواطفها. أكاد أرى أن الكاتبين قد خلقاه خلقًا وبعدَا به بعض الشيء عن الأشخاص المألوفين. وهو كما خلقاه خفيف الروح جذاب، عذب اللسان منطلقه، يندفع في ذلك حتى يخيل إليك أنه مجنون. وهو في حقيقة الأمر مجنون، قد ذهب الحب بعقله حينًا فأصبح كهؤلاء الذين يخضعون للتنويم المغناطيسي.
•••
هؤلاء هم أشخاص القصة، والقصة في نفسها قصيرة كما أن الوقت الذي تقع فيه قصير، لا يكاد يتجاوز اليومين، أو قل لا يكاد يبلغهما. وهي تذكرنا كما قلت بقصة الحب لولا أن الزوجين في قصة الحب كانا مؤتلفين في رقة الطبع ورقي النفس، وهما في هذه القصة مختلفان، ومن هنا انتصرت الزوجية في قصة الحب، وانهزمت في هذه القصة، لولا أن قصة الحب جد كلها، وهذه القصة جد قد صيغ في لفظ فكاهي.
•••
نحن في بيت «جاكلين» آخر النهار، وقد فرغت من استقبال زائريها في هذا اليوم الذي تعودت أن تستقبلهم فيه كل أسبوع، وخلت إلى أختها «جيزيل» فكان بينهما حديث نفهم منه الفرق بينهما في الطبيعة والمزاج، هما تتحدثان عن صديقة لجاكلين، فأما «جاكلين» فمفتونة بها قد أسبغت عليها صورتها الخاصة وأخذت تسرف في الثناء عليها. وأما «جيزيل» فقد رأتها كما هي، وأخذت تهون من شغف أختها. وتمضيان في الحديث فتتناولان أشياء كثيرة، يظهر فيها ما بينهما من الاختلاف في الذوق والحكم، ولكن يظهر في الوقت نفسه أن بينهما حبًّا ومودة تقربان مسافة هذا الخلف وتعطف كلًّا من الأختين على الأخرى. وقد لامت «جاكلين» أختها لأنها لا تزورها كثيرًا ولا تثق بها ولا تطمئن إليها في الحديث، واتفقتا بعد حوار طريف على أن تستأنفا حياة الأختين في ثقة وطمأنينة. وقد فهمنا من هذا الحديث أيضًا أن «مكسيم» مسافر لبعض عمله في بلجيكا، ورأينا حب «جاكلين» إياه، وفهمنا أن «جيزيل» مزورَّة عنه بعض الازورار.
وتقبل أمها مضحكة مضطربة لا تدري علام تقبل من الأمر، أتمكث مع ابنتها أم تعود إلى بيتها؟ ثم يستقر رأيها على العودة فتنصرف مع ابنتها الفتاة وتخلو «جاكلين» إلى نفسها، فنحس أنها تشعر بشيءٍ من الضجر بوحدتها، وهي تريد أن تنصرف إلى غرفتها فتتناول فيها العشاء، وهي تهم بذلك لولا أن الخادم يدخل عليها رجلًا، تنظر إليه فإذا هو «مورو»، وكانت قد رأت هذا الشاب مرة واحدة في بعض الأسمار فأنست إليه وأنس إليها، وتحدثا فأطالَا الحديث. وأقبل هذا الشاب يزورها في يوم استقبالها، ولكنه أقبل متأخرًا فيعتذر من هذا التأخر أول الأمر ثم يعترف بأنه تعمده بعد ذلك، ثم يفتن في الثناء على «جاكلين» ويظهر اغتباطه بذلك الحديث، ثم يهم بالانصراف معتذرًا ولكنه يلتمس سبيلًا للبقاء، أو يلتمس سبيلًا إلى العودة، فيعرض على صاحبته أنه يريد أن يستشيرها في أمر ذي بال، وأن الوقت متأخر فهو يستأذنها في أن يعود ليستشيرها في زيارة أخرى. أما هي فتكاد تحس رضاها عن هذا الحديث وميلها إلى هذا الفتى، وقد أذنت له أن يعود، ثم بدا لها فأمرته أن يبقى، وأن يعرض قصته فورًا. فيبقى، وينبئها بأنه اختلف في الشتاء إلى إحدى الأسر فاتصلت المودة بينه وبينها، وفي هذه الأسرة فتاة، فأحس أن الأسرة تطمع في أن يخطبها، فهو مضطرب لا يدري أيقطع الصلة بينه وبين هذه الأسرة لأنه لا يريد أن يتزوج أم يحتفظ بها.
أما «جاكلين» فتدهش لأن صاحبها يستشيرها في مثل هذا الأمر، وهي لا تكاد تعرفه، ولكنه قد أنس إليها حين رآها في المرة الأولى ورأى منها صراحة ونصحًا وإخلاصًا، فطمع في أن يستشيرها واطمأن إلى رأيها. وهي لا تدري بم تشير عليه، ولكنها كما قلت لك طيبة النفس، صادقة العاطفة. فانظر إليها وقد اندفعت تلوم صاحبها لومًا عنيفًا؛ لأنه يستشيرها في مثل هذا الأمر، وهي ترى أنه أمر لا يحتمل المشورة، فأنت بين اثنتين: إما أن تحس بشيءٍ من الميل إلى هذه الفتاة؛ وإذن فاحتفظ بالصلة وامض حتى تنتهي إلى الزواج، وإما ألا تحس شيئًا؛ وإذن فلا ينبغي أن تطمع هذه الفتاة ولا أن تضللها. وصاحبنا لا يحس شيئًا وإذن فسيقطع الصلة، ولكن «جاكلين» يروعها هذا وتشفق أن تكون مشورتها عقبة في سبيل السعادة الزوجية التي تطمع فيها هذه الفتاة، فتنصح لصاحبها بالأناة والتفكير، وتندفع في حديث عن الحب لذيذ كله حرارة وصدق وإخلاص، وقد اندفعت فيه حتى تناولت نفسها وزوجها وسعادتها، ولم تفكر — أو قل لم تشعر — بما تترك في نفس هذا الشاب من الأثر. وهي تجد لذة في حديثها إليه، وهو يجد لذة في الاستماع إليها. وما تزال في الحديث وما يزال هو في الاستماع والسؤال أحيانًا حتى ينتهي الأمر إلى أقصاه، وقد خلبت الفتى وحببت إليه الزواج، فاستقر رأيه على أن يسرع إلى بيت الفتاة فيخطبها من فوره. وهي الآن تنصح له ألا يتعجل في الخطبة بعد أن كانت تنصح له ألا يتعجل في القطيعة.
وقد فهمنا من كل هذا أنها تجد لذة في الحديث إلى الفتى، وأن الفتى مفتون باستماع حديثها. وهما في ذلك وقد تقدم الليل وإذا «مكسيم» قد أقبل ولم يكن منتظرًا، إنما كانت تنتظر عودته من الغد. أقبل فلم يجد أحدًا من الخدم، وعالج باب الدار حتى فتحه، وتقدم حتى انتهى إلى غرفة الاستقبال دون أن يظفر بخادم، فلما دخل الغرفة رأى زوجه تتحدث إلى أجنبي. دهش ودهشت وبهت الزائر ونهض مودعًا وانصرف، وخلا الزوجان، ولكن بينهما شيئًا. أما هي فلم تكن تنتظر هذه العودة، وأما هو فلم يكن ينتظر أن يرى هذا الأجنبي، ولم يكن ينتظر أن تستقبله امرأته هذا الاستقبال ولا سيما وقد قدم عودته يومًا وأبرق بذلك إلى امرأته، ولكن الرسالة لم تصل إليها، وقام الدليل على ذلك فوصلت الرسالة أثناء حوارهما. ولكن في نفس الرجل شيئًا على كل حال، فهو يسأل عن هذا الأجنبي في شيءٍ من الازدراء أول الأمر، ثم تشتد عنايته به شيئًا فشيئًا، ويظهر الشك قليلًا قليلًا. والمرأة مخلصة في الاغتباط بعودة زوجها، ولكن هذا الشك يؤلمها، يدهشها أولًا، ثم يؤذيها، ثم تحس الإهانة، ثم تكبر نفسها وترى أنها أرفع من أن تهبط إلى حيث تدافع عن شرفها.
وبينما تغلو في الكبرياء يغلو زوجها أن هذه آثار الخوف، وبينما تؤثر الكبرياء فيها فيظهر عليها الغضب يظن زوجها أن هذه آثار الخوف والريبة، وما هي إلا أن ينتهي إلى اللوم ثم إلى التعنيف، وكلما مضى في ذلك اشتد سخط المرأة وكبرياؤها، فخيل إليه أن الخوف والذعر هما اللذان يشتدان، حتى ينتهي به الأمر إلى الاتهام، وينتهي بها هي الأمر إلى أن تزدري زوجها فتتهم نفسها أيضًا. وقد انتهت الغيرة بالرجل إلى أقصاها، وانتهى الغضب والكبرياء بالمرأة إلى أقصاهما، فتركت زوجها وأغلقت من دونه الباب.
•••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن حيث كنا في الفصل الأول من الغد، و«جاكلين» منصرفة إلى أعمال بيتها تأمر خادمها ببعض الشأن. ونحن نحس أنها تألم وأنها ترى أن قد أهينت في كرامتها وكبريائها، ولكنها لا تقول شيئًا، ولا تظهر شيئًا، ولكن هذه أمها قد أقبلت في شكلها المضحك دائمًا، وهي مضطربة مذعورة، فإذا رأتها ابنتها خيل إليها أنها مريضة، ثم ظنت أن أختها قد آذتها، ثم تبينت آخر الأمر أن زوجها قد ذهب إليها وقص عليها ما كان أمس وغلا في القصص، فيسوءها ذلك ويؤذيها في شرفها وكبريائها، ولكنها تطمع في أن تكون أمها قد دافعت عنها. وقد فعلت أمها فنهرت الرجل وقالت في ابنتها ما تقوله الأمهات. و«جاكلين» إذن سعيدة تقبل أمها في حنان وبر، ولكن لا تلبث الشيخة أن تطلب إلى ابنتها أن تستعطف زوجها وتصلح ما بينهما من الأمر، فإذا مضت في الحديث قليلًا أحست «جاكلين» أن أمها قد صدقت ما قال فيها الزوج، فتكلفت الدفاع ولكنها مقتنعة فيما بينها وبين نفسها بأن ابنتها آثمة، فيؤلمها ذلك ويؤذيها إيذاءً شديدًا تكتمه ولكنه مع ذلك ظاهر، لا تكاد تفهمه الشيخة، ونفهمه نحن في وضوحٍ وجلاء.
وهذه «جيزيل» مقبلة. ولست ألخص لك محاولة الشيخة إقصاءها وإخفاء الأمر عليها في حوارٍ بديع وحركات مضحكة، ولكنها قد دخلت على كل حال وخنت إلى أختها، وهي تذكر ما كان بينهما من عهد أمس، وقد سمعت «مكسيم» وهو يحدث أمها بالقصة، فأقبلت تؤاسي أختها وتظهر لها العطف والنصح والمودة. واسمع لها تهنئ أختها بأنها قد اتخذت لها خليلًا وخانت هذا الزوج الذي لا يستحق إلا أن يخان، وإذن فهي أيضًا تتهم أختها وتصدق فيها الفاحشة! فلا يزيد ذلك «جاكلين» إلا ألمًا ويأسًا، ولكنها تملك نفسها وتأخذ الأمر في سخرية وعبث من دونهما ألم شديد.
وهن في ذلك وإذا بالخادم يستأذن لمورو، فأما الشيخة فيحنقها ذلك، وأما «جاكلين» فتستقبله، وهي تستقبله باسمة وهو يقص عليها أمره وأنه خرج من عندها أمس متأثرًا مفتونًا، فلم يملك نفسه فذهب إلى أهل الفتاة وجلس إليها، ثم لم يلبث أن تحقق أنها لا تُرضي مثله الأعلى، فانصرف عنها وعدل عن اتخاذها زوجًا. وهذا كله يلهي «جاكلين» ويلذها ويسليها بعض الشيء، ولكن الفتى يمضي في حديثه فيخبرها بأنه وإن كان قد انصرف عن هذه الفتاة وعرف أنه لا يحبها، يشعر مع ذلك بأنه يحب، وآية ذلك أنه لم ينم الليل، وأنه يرى الحياة قد تغيرت كلها، فهو إذن يحب، ولكن من يحب؟ وهو يفكر ويسأل نفسه. وانظر إليه وقد كشف الحقيقة فجأة وأعلنها فجأة: فهو يحب «جاكلين» ويعلن إليها ذلك في لهجةٍ مضحكة مؤثرة معًا، وهي تدهش لذلك أول الأمر، ثم تغضب ثم تثور. ولكن هذا كله لا يزيد صاحبنا إلا اقتناعًا بأنه يحبها وإلحاحًا في إعلان هذا الحب، وهي تنهره وتطرده وتقصيه، ولكنه لا يزيد إلا إلحاحًا وإصرارًا. ثم يستكشف أنها هي لا تكرهه وقد لا تحبه، ولكنها تميل إليه بعض الميل. ويستدل على ذلك بأنسها إليه لأول ما لقيته واطمئنانها إليه في المرة الثانية. وهي تدفع عن نفسها مغضبة ثائرة وقد زاد ذلك في إيذائها، فزوجها يتهمها، وأمها وأختها يصدقان هذه التهمة، وهذا الفتى لا يستبعد التهمة أيضًا. وقد انتهت إلى إخراج هذا الفتى ولكنها عذرت زوجها وأخذت تلوم نفسها على هذا الكبر الذي وضعها هذا الموضع السيئ، وقبلت أو رغبت في أن ترى زوجها وتستعطفه وتظهره على جلية الأمر. ويقبل زوجها فتتلقاه باسمة واثقة مطمئنة وتترضاه، ولكنها كلما حاولت أن تبسط له حقيقة الأمر مضى هو في الاتهام، ثم انتقل منه إلى العطف ثم إلى العفو. فهو إذن يأبى إلا أن تكون زوجة آثمة، وكبرياؤها تأبى أن تصرح له بجلية الأمر. وقد وقع بينهما ما لم يكن بد من وقوعه، وظهر أنهما مختلفان اختلافًا أساسيًّا، فهو لا يؤمن بها ولا يقدسها بل يراها كغيرها من النساء، وهي تألم لذلك ولكنها تقبله وتخفي الألم وتشكر زوجها على العفو إذا طلب إليها هذا الشكر.
•••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن حيث كنا في الفصلين الأولين من الغد، ولكننا نرى «مكسيم» ضيق الصدر ينتظر امرأته التي خرجت فأبطأت في العودة، وقد جاء ميعاد الغداء وهو جائع يتضور، ويطلب إلى الخادم ما يتبلغ به. وهذه «جاكلين» مقبلة، فهو يلقاها ساخطًا لائمًا، يعنفها لأنها بعد الذي كان أمس قد أسرفت في عدم الاكتراث به. أما هي فتجيبه في سخرية مؤلمة بأن هذا اللون من التشديد لا يليق به بعد هذا العفو الذي أصدره أمس، على أنها قد تناولت غداءها في باريس في أحد المطاعم، وعلى أنها لا تعرف أين تتعشى، وعلى أنها قد تريد أن تذهب إلى أحد المراقص. وكل هذه الأحاديث يدهش لها «مكسيم» ثم يغضب، ثم يحاول أن يستعمل سلطته وأن يقهر امرأته على أن تحيا حياة ملائمة. ولكنها تنكر عليه ذلك في سخرية. أليس قد عرف أنها آثمة ثم عفا عنها، فهو إذن يبيح لها الإثم! فليبح لها الحرية. وهما في هذا الحوار وإذا أمها مقبلة، فينصرف الرجل إلى غدائه، وتعلن الفتاة إلى أمها في شيءٍ من الإبهام والسخرية أنها لا تحب زوجها، وأنها قد عرفته وكشفت أمره وقد كانت تجهله، فهو رجل كغيره من الناس، وأمها لا تفهم من هذا الحديث شيئًا. ويفرغ الرجل من غدائه، ويعود فيسأل امرأته كيف تريد أن تقضي بقية النهار، فلا تجيبه بشيءٍ مقنع، ثم تنصرف عنه مع أمها إلى غرفتها. وتقبل «جيزيل»، فإذا لقيها تنكر لها وتنكرت له، ثم كان بينهما حوار لذيذ يفهم منه «مكسيم» أن امرأته بريئة، وأنها لم تأثم، ونفهم نحن أن هذه الفتاة نادمة لأنها أساءت الظن بأختها وآذتها في شرفها. والرجل لا يعرف كيف يحتال في إرضاء امرأته، فهو يقترح ألوانًا من الترضية، يريد أن يستعطفها، ويريد أن يهدي إليها هدية، ويريد أن يقبلها، ثم يبدو له فيرى أن الحل الملائم إنما هو أن ينصرف، وكذلك يفعل. وتأتي «جاكلين» فإذا رأت أختها كان بينهما حوار جاف، نفهم منه ألم «جاكلين» وندم الفتاة وحنانها وكبرياءها أيضًا.
ولكن هذا الخادم يستأذن لمورو، فترفض استقباله، ثم يعود الخادم فيلح وينبئ بأن مورو قد جلس وأعلن أنه لن ينصرف، فتأذن له مغضبة وتستقبله منتهرة زاجرة. ولكنه الآن هادئ مطمئن رزين يطلب إليها في صوتٍ كله دعة وطمأنينة أن تتفضل بتناول العشاء عنده مع زوجها. أما هي فترفض مغضبة، ويلح هو متطلفًا فتأبى. وقد أخذت تدهش لأنه لا يتحدث إليها في حبه، وهي لا تملك نفسها أن تسأله: أثاب إلى الرشد منذ أمس؟ فيعتذر في دعة وهدوء. وكأنها تألم لتغير لهجته، وكأنها كانت تريد أن تراه مشغوفًا مفتونًا، فتنهره وتزجره، فأخذها شيء من الحزن حين رأته هادئًا يعتذر، فهي تلومه في لطف وحزن على ما كان منه أمس. وانظر إليه وقد انفجر وترك ما كان فيه من دعة وهدوء وأخذ يعلن إليها أنه يحبها ويحبها ويحبها، وأنه إنما تكلف هذا العشاء وهذا الهدوء ليستطيع أن يراها، وأنه كان يريد أن يعتدل ويهدأ ويزورها من وقتٍ لآخر زيارة هادئة محتشمة مكتفيًا بذلك، فأما وقد أبت إلا أن يتكلم فهو يتكلم، وهو يحبها ويحبها ويحبها. ونحس نحن أنها تجد شيئًا من اللذة في أن تسمع هذا الحديث، ولكنها مع ذلك مغضبة ثائرة تنهره وتزجره وتزعم له أنه لا يعرف من أمرها شيئًا، ولا يستطيع أن يحبها. ويأخذ هو في وصفها، حتى إذا انتهى إلى أنها سعيدة في حياتها المنزلية، أنكرت عليه ذلك وألحت في الإنكار، فإذا هو سعيد مغتبط، يرى أنه قد هان كل شيء في سبيل حبه، فهو يقبل عليها يأخذ بيدها ويدعوها إلى أن تمضي معه، وهو يهم بتقبيلها وهي تدافعه عن نفسها في قوةٍ شديدة وضعفٍ شديد معًا. وهي قد اضطرت إلى أن تستخدم آخر سلاح، فتعلن إليه أنها عاشقة وأن لها خليلًا … يصدق ذلك أول الأمر، ثم لا يلبث أن يفطن فينكر وينكر في عنف، ويعلن إليها أنها تكذب لتدافع عن نفسها، وأنه لن يصدق شيئًا من هذا، وأنه لو رآها بين ذراعي رجل لما صدق أنها عاشقة، وهو كلما مضى في هذا الحديث صادف منها قبولًا ورضًا.
وانظر إليها الآن مطمئنة هادئة، ولكنها تبكي في صمتٍ وتشكر له إيمانه بها وحسن رأيه فيها، ثم تطلب إليه أن ينصرف الآن، فإذا أبى ألحت عليه في رفق وفهمته أنها تحبه، وأنها تعترف بهذا الحب. ولم لا؟ فهو الشخص الوحيد الذي آمن بها وبرأها من هذه التهمة، وهو يقبل أن ينصرف، ولكن على أن يعود إذا عجز عن المضي في طريقه. وما يكاد يخرج حتى يعود زوجها باسمًا مبتهجًا، فينبئها بأنه قد استأجر لها مكانًا في الأوبرا حيث الرقص هذا المساء، ولكنها تعتذر. وإذن فسيصحبها زوجها للعشاء في أحد المطاعم، ولكنها تعتذر. وإذن فسيبقيان في البيت، ولكنها تستدنيه وتنبئه بأنها لا تحبه وقد انصرفت عنه. أما هو فمغرور مفتون بنفسه واثق بسلطانه، فهو لا يحفل بهذا الإعلان، ولكنه يمضي في حديثه مداعبًا هازئًا، وهي تطلب إليه حريتها، فيجيبها في دعابة وهزء، وقد أقبل الخادم يستأذن مرة أخرى لمورو، فيأذن له مبتهجًا بلقائه، ويعتذر إليه بأنه أساء لقاءه في المرة الأولى؛ فقد كان متعبًا من آثار السفر، وهو يدعوه إلى العشاء معهما هذه الليلة، فيعتذر الفتى محرجًا، ويعلن «مكسيم» أسفه ويلح في أن يتعشى معهما في إحدى ليالي الأسبوع، ثم يعتذر ببعض العمل وينصرف عمدًا تاركًا لزوجه ترتيب أمر العشاء.
فإذا انصرف نظر كل من العاشقين إلى صاحبه في شيء من الحرج والضيق، ثم جلس الفتى وطال الصمت حينًا، ثم أعلن إليها في هدوء أن اسمه الخاص أندريه …