مقدمة بقلم المترجم
ولد بِرت «بِرتولد برخت» أو «أويجن بِرتولد فريدريش برخت كما يدل اسمه الكامل» في اليوم الثاني من شهر فبراير عام ١٨٩٨م في مدينة أوجسبرج الألمانية. كان أبوه بِرتولد برخت (وقد ولد في آخرن في الغابة السوداء في عام ١٨٦٩م). قد حضر في عام ١٨٩٣م إلى مدينة أوجسبرج ليعمل في مصانع الورق هناك، وظل يتدرج بجده ونشاطه في سلم الوظيفة حتى صار مديرًا لها في عام ١٩١٤م. نشأ برخت في ظروف اجتماعية ميسرة، كفلت له الرخاء والأمان. كان كل شيء يوحي بأن حياته ستسير في مجراها البرجوازي العادي، على نحو ما سارت عليه حياة شقيقه الأوحد فالتر الذي يعمل الآن أستاذًا لصناعة الورق في كلية الهندسة في مدينة دار مشتات، فقد عُمِّدَ برخت على المذهب الإنجيلي، ودخل المدرسة الابتدائية والثانوية في مسقط رأسه، وغادرها في عام ١٩١٧م إلى جامعة ميونيخ ليدرس الفلسفة والطب. ولكن يبدو أن برخت — الذي ظهرت طبيعته الغريبة الثائرة المتفتحة منذ صباه — كان قد صمم تصميمًا مبكرًا على أن يستبدل الحياة البرجوازية المتطلعة إلى المظهر والغنى بحياة الأديب الطامحة المتحررة من كل قيد.
فها هو في طفولته يهتم بمسرح العرائس اهتمامًا غير عادي، ويمثِّل ويُخرج مع رفاق صباه مسرحيات كاملةً، ويجد لذته الكبرى في الاستماع إلى المغنيين المتجولين في الشوارع والأسواق، ويَظهر لأول مرة في العالم الأدبي وهو لم يتعد بعدُ السادسة عشرة من عمره؛ فقد ظهرت أولى قصائده في اليوم السابع عشر من شهر أغسطس عام ١٩١٤م في جريدة «أحدث أخبار أوجسبرج».
وكان لتجربة الحرب العالمية الأولى أكبر الأثر على تطوره الفني؛ فقد دأب برخت في السنوات الأولى من هذه الحرب على كتابة أشعار وطنية صرفة، ما لبثت نغمتها ابتداءً من عام ١٩١٦م أن تغيرت تغيرًا ملحوظًا. «وقد كتب وهو في المدرسة الثانوية مقالًا «انهزاميًّا» باللغة اللاتينية موضوعه «ما أحلى وما أجمل الموت في سبيل الوطن!» كاد أن يتسبب في طرده من المدرسة.»
واضطُر برخت إلى قطع دراساته التي كان قد بدأها في عام ١٩١٧م في جامعة ميونيخ؛ فقد جُنِّدَ في عام ١٩١٨م، واشتغل في مستشفًى عسكري في مدينة أوجسبرج. وانطبعت آثار المآسي المفزعة التي كان يقابلها كل يوم انطباعًا عميقًا في نفسه، فأصبح إلى نهاية حياته من أعدى أعداء الحرب. واندلعت الثورة الألمانية لعام ١٩١٨م وبرخت على هذه الحال، والمرجَّح أنه انضم لفترة من حياته إلى الحزب الاجتماعي الديمقراطي المستقل. وفشلت الثورة الاشتراكية الأولى، وعاد برخت يدرس الطب بغير حماس، وما أكثر ما كان يهرب من محاضراته ليشترك في حلقات البحث التي كانت تعقد في جامعة ميونيخ عن المسرح، ويتعمق في قراءاته للشاعر الثائر الموهوب جورج بوخنر، وللكاتب المسرحي فيديكند، اللذين ظلَّا مَثَله الأعلى إلى آخر حياته. ويقضي سهراته البوهيمية الصاخبة في المقاهي والحانات، ويوسع من دائرة معارفه من الشعراء وكُتَّاب المسرح والمشتغلين به.
ماتت أم برخت في شهر مايو عام ١٩٢٠م، وكانت أقرب الناس إليه وأبعدهم أثرًا على حياته، وبموتها بدأت صِلاته بأسرته تضعف شيئًا فشيئًا. وانتقل إلى ميونيخ، وظل يكتب في صحيفة «إرادة الشعب» التي كانت تظهر في أوجسبرج فترةً من الوقت، حتى قطع صِلته بها في أوائل عام ١٩٢١م. بذلك انتهت أعوام أوجسبرج (التي كان من ثمارها أيضًا ولد غير شرعي لم يَلْبَث أن تُوُفِّيَ في صغره). وانقطعت صِلته بأبيه وأسرته، وبدأت سنوات الاضطراب التي مَهَّدَت لاستيلاء النازيين على الحكم في عام ١٩٣٣م.
لم يَكَدْ برخت يستقر في ميونيخ حتى راح يتردد على برلين محاولًا أن يضع قدمه فيها، فهو يتفاوض مع الناشرين، ويتعرف على الحياة الفنية، ويرتبط بروابط الصداقة بالممثلين والكُتَّاب (ومن بينهم أرنولد برونر أحد الكتاب المسرحيين التعبيريين المتأخرين)، ويزداد عدد فضائحه ونوادره، ويقف على مسرح الحياة الأدبية وكأنه الطفل المُفْزِع الرهيب في الأدب الألماني الجديد.
ومُثِّلَت «طبول في الليل» في سبتمبر عام ١٩٢٢م لأول مرة في ميونيخ، ونجحت نجاحًا كبيرًا كان بداية شهرته في عالم المسرح، حتى فاز عليها بالجائزة المعروفة باسم الشاعر المسرحي الكبير كلايست، وكتب ناقد يقول: «لقد استطاع بِرت برخت البالغ من العمر أربعة وعشرين عامًا أن يغير وجه الأدب الألماني في يومٍ وليلة تغييرًا تامًّا.»
وفي عام ١٩٢٣م مُثِّلَت مسرحية «في أحراش المدن» في ميونيخ، وهي تعبر عن عزلة الإنسان المطلقة، وغربة الناس عن بعضهم في مدن الأسفلت، غربة لا تسمح لهم حتى بأن يعادوا بعضهم البعض.
وكُلِّفَ برخت لأول مرة في عام ١٩٢٤م بإخراج ماكبث، ولكنه تردد عن القيام بالمحاولة؛ فقد بدا له الإقدام على عمل من أعمال شكسبير مخاطرةً غير مأمونة، واستعاض عنه بأحد كُتَّاب المسرح في العصر الإليزابيثي؛ وهو كرستوفر مارلو. فاقتبس بمعاونة ليون فويشتفنجر مسرحيته «إدوارد الثاني» التي مُثِّلَت لأول مرة في ميونيخ في شهر مارس عام ١٩٢٤م، وبدأت تظهر فيها بذور نظريته المسرحية التي ستتطور فيما بعد إلى الشكل الذي نعرفه اليوم باسم «المسرح الملحمي».
وفي عام ١٩٢٤م انتقل برخت نهائيًّا إلى برلين وعمل حتى عام ١٩٢٦م في «المسرح الألماني» مع المخرج العظيم ماكس رينهارت إلى جانب الكاتب المسرحي كارل تسو كماير. وسُرعان ما أَلِفَ الحياة في برلين، وجمع حوله كعادته عددًا من الأصدقاء والأتباع المتحمسين؛ من شعراء ورسامين وممثلين وملاكمين.
وتعرف برخت في ذلك الحين على المُخرِج المسرحي الكبير إرفين بسكاتور وتوثقت صلته بمسرحه السياسي الذي توسع في إدخال الوسائل التكنيكية عليه، وفي تفسير الأحداث من جانبها الاجتماعي والتاريخي. وقد كان لتعاون برخت معه أكبر الأثر على تطوره الفني، حتى ليقال إن تعبير المسرح الملحمي أو الدراما الملحمية يرجع إلى بسكاتور، أو هو الذي ساعد على الأقل على نشره والترويج له.
وانفصل برخت في ذلك العام عن زوجته الأولى، وتعرَّف على زوجته الثانية هيلينيه فيجل، وهي الممثلة التي ارتبط اسمها باسمه، وقامت بأداء معظم أدوار النساء في مسرحياته، حتى إن أغلب هذه الأدوار كُتِبَ تحت تأثيرها وفُصِّلَ على قدها «وأشهر أدوارها هو الأم شجاعة في المسرحية المعروفة بهذا الاسم». وسَجَّل هذا العامُ نفسه «١٩٢٧» أولَ عمل مُشتَرَك لبرخت مع الموسيقي كورت فيل، الذي ارتبط اسمه به فيما بعد، وأصبح ملحِّنه الأول بغير منازع، بتلحين بعض أغاني مختارة من «تبتلات البيت» عُرِضَت باسم «ماها جوني» في الاحتفالات الموسيقية السنوية في بادن — بادن، وقد قامت عليها فيما بعد أوبرا «سقوط وازدهار ماها جوني». على أن الانتصار الحقيقي الذي أحرزاه معًا كان بعرض «أوبرا القروش الثلاثة» في ٣١ أغسطس من العام التالي (١٩٢٨م) على مسرح الشفباوردام «وهو إلى اليوم المقر الدائم لفرقة برخت المعروفة باسم «فرقة برلين».» وقد اقتبس برخت هذه الأوبرا عن «أوبرا الشحاذ» التي ألَّفها الإنجليزي جون جاي في عام ١٧٢٨م، وترجمتها إلى الألمانية مساعدته إليزابيث هاويتمان، وحَشَدها بأغنيات من تأليفه ومن تأليف الشاعر الفرنسي الشريد فرانسوا فيون.
وقد حاول برخت في هذه الأوبرا أن يَسْخَر سخريةً مُرَّةً بالعادات الشائعة في المجتمع الرأسمالي، وأن يصوِّر عالمًا من اللصوص والأفاقين والشحاذين ينعكس عليها العالم البرجوازي، كما حاول أن يهاجم الأوبرا التقليدية، وهكذا بدأ النقد الاجتماعي يسير جنبًا إلى جنب مع النقد الفني، كما بدأت تظهر ملامح الشكل المسرحي الجديد الذي دعمته الكتابات النظرية فيما بعد.
وبدأ برخت في عام ١٩٣٠م في نشر مسرحياته في كُرَّاسات متتابعة تحت عنوان «محاولات»، زوَّدها بملاحظات وتعليقات يغلب عليها الطابع العلمي التجريبي الذي أراد به أن يستبدل المتعة الفنية بالدرس والتعليم. على أنه ما لَبِثَ في المرحلة الأخيرة من حياته الفنية أن تراجع عن هذا الموقف المتطرف، وربط ربطًا ديالكتيكيًّا بين الاستمتاع والتعليم. وقد ظهرت أُولى هذه المسرحيات التعليمية في الاحتفالات الموسيقية السنوية في بادن بادن عام ١٩٢٩م، وهي طيران لندبرج «وتكاد أن تكون تمجيدًا للإنسان في العصر الصناعي، الذي ينتصر على الطبيعة». وكانت ثانيتها هي مسرحية بادن التعليمية عن التفاهم «وهي تؤكد دور المجتمع كما تحبذ زوال الفرد في مجتمع لا اسم له». كما بدأ في ذلك العام نفسه يعمل في مسرحية من أهم مسرحياته وهي «جان دارك قديسة المذابح»؛ وهي تدور حول صراع فتاة من متطوعات جيش الخلاص مع رجال الأعمال في بورصة شيكاغو لإنقاذ مصير عمال المذابح والسلخانات، وبدلًا من أن ترتفع إلى السماء كالقديسين والشهداء تهبط إلى الأرض لتدعوَ الإنسان إلى الخلاص من مضطهديه ومستغليه.
وكتب برخت مسرحيته التعليمية الثالثة التي تدور حول التضحية بالفرد في سبيل المجموع، وهي مسرحية «قائل نعم» التي اقتبسها عن الترجمة الإنجليزية التي قام بها أرثر والي لمسرحية النو اليابانية «تانيكو»؛ وتدور حول التضحية بصبي صمم على الاشتراك في رحلة مُضْنِية في الجبل، ولكنه سقط مُجْهَدًا في الطريق ووافق على أن يُلقَى به في الهاوية، حتى لا تتوقف الرحلة عن مصيرها. وقد عُرِضَت المسرحية لأول مرة في برلين باسم «أوبرا مدرسية»، ولحَّنها كورت فيل، وأضاف إليها برخت — بعد مناقشتها مع تلاميذ المدارس — مسرحيةً مضادةً سمَّاها «قائل لا»، واستغنى فيها عن التقليد القديم الذي كان يقضي بتضحية الصبي.
وفي عام ١٩٣٠م كتب برخت مسرحيةً تعليميةً أخرى هي الاستثناء والقاعدة أثناء إقامته في المصيف الفرنسي «لولا فاندو» على شاطئ البحر الأبيض. وتبيِّن المسرحية (التي مثلها مسرح الجيب بالقاهرة في فبراير عام ١٩٦٤م) كيف أن الفعل الخيِّر يصبح هو الاستثناء من القاعدة في مجتمع يسوده الشر ويحتدم فيه صراع المصالح والطبقات، حتى إذا قَدَّمَ الضعفاء والفقراء الخير أُسيء فهمه من جانب المستغلين والأقوياء، وراح القانون أيضًا يبرر سلوك هؤلاء. وقد نُشرت المسرحية لأول مرة في عام ١٩٣٧م، كما مُثِّلَت لأول مرة كذلك في فِلسطين في أغسطس عام ١٩٣٨م.
وفي عام ١٩٣١م أعد برخت مسرحية هاملت للإذاعة، واشترك مع كاسيارنيهر في إخراج أوبرا «ازدهار وسقوط مدينة ماها جوني» على مسرح كورفور ستندام في برلين، كما راح يعمل في مسرحية رواية الأم المشهورة لماكسيم جوركي التي حَوَّلها إلى مسرحية تعليمية «يتعلم منها ممثلوها قبل كل شيء»، وتصور تطور الأم العاملة التي تقتنع بالمبادئ الشيوعية.
ونشر برخت كذلك — إلى جانب ملاحظاته النظرية العديدة عن المسرح الملحمي التي عَلَّقَ بها على أوبرا القروش الثلاثة وأوبرا ماها جوني — مجموعةً صغيرةً من قصائده تحت عنوان «من كتاب سكان المدن». وقد استغنى الشاعر في هذه المجموعة عن القافية والإيقاع المنتظم، وغلبت عليها الدقة في الأداء، والموضوعية في التعبير. كما نشر كذلك في «المحاولات» قصته المعروفة «بحكايات السيد كوينر»؛ وهي تدور على لسان حكيم شرقي يفكر تفكيرًا ديالكتيكيًّا، وينطق بالكثير من آراء الشاعر الشخصية، وكتابًا للأطفال تحت عنوان «الجنود الثلاثة»، قال برخت عنه إن الغرض منه هو أن يحفِّز الأطفال على طرح الأسئلة، وهي عبارة تنطبق على أعماله كلها التي تستهدف إثارة الدهشة والسَّخَط لدى القارئ والمتفرج، ودفعهما إلى تغيير الواقع الاجتماعي المحيط بهما بالثورة والعنف إذا اقتضى الأمر.
وأقبل عام ١٩٣٣م، وراح هتلر يعد العدة للاستيلاء على السلطة. وبدأت نذر الإرهاب تتلبَّد في سماء ألمانيا، وتُنذِر بالوقوع على رأس برخت؛ فقد مُنِعَ تمثيلُ مسرحية جان دارك في دار مشتات، كما أُوقِف عرض مسرحية «الأجراء» في مدينة إير فورت. وفَهِم برخت ما تعنيه هذه النذر؛ فغادر ألمانيا مع زوجته في اليوم السابع والعشرين من شهر فبراير عام ١٩٣٣م، وكان على طفليه أن يلحقا بهما إلى المنفى.
وتحققت مخاوف برخت من الإرهاب النازي؛ فقد أُحرِقت كتبه في الحريق المشهور الذي أَلقى فيه النازيون بمؤلفات أكثر من مائتي كاتب وشاعر ألماني اتُّهِمُوا بالانحلال، والتهمتها النيران مع صيحات الجماهير المتحمسة الهاتفة أمام مبنى دار الأوبرا في برلين. وجُرِّدَ برخت من الجنسية الألمانية؛ فقد كانت قصيدة «حكاية الجندي الميت» هي التي أثارت عليه ثائرة النازيين، وملأت قلوبهم حقدًا عليه.
وفي عام ١٩٣٣م غادر الشاعر برلين إلى براغ، ومنها إلى زيورخ عن طريق فيينا. كانت الرحلة الثانية لبرخت (الذي راح يغير بلدًا ببلد أكثر مما يغير الإنسان حذاءً بحذاء، كما سيقول فيما بعد في قصيدته عن برخت المسكين) هي جزيرة تيرو في الدنمارك، حيث قضى هناك أوائل الصيف. وفي هذا الصيف نفسه أقام برخت فترةً من الوقت في باريس، حيث عرض آخر أعماله التي ظهرت بالتعاون مع الملِّحن كورت فيل، وهو باليه أنا — أنا أو الخطايا السبع المميتة، الذي يصور فساد القيم الأخلاقية في مجتمع يسوده الربح والتجارة، وهو الباليه الوحيد الذي كتبه برخت، ولم يُقدَّر له النجاح لا في باريس ولا في لندن.
وفي عام ١٩٣٤م ظهرت في باريس الطبعة الألمانية من مجموعته الشعرية الثانية «أغاني، قصائد، وأناشيد جماعية (كورات)»، كما ظهرت رواية القروش الثلاثة في إحدى مطابع اللاجئين في أمستردام. وقد ازدادت نغمة النقد الاجتماعي حِدَّةً عما كانت عليه في المسرحية المماثلة، وبلغت من السخرية الدامية القاسية درجةً تذكِّرنا بسخريات سويفت، وتصل هذه السخرية القاتلة إلى ذروتها في حلم الجندي فيو كومبي الذي يَتَّهِم فيه المسيحَ ويُدينه؛ لأنه ضَلَّل الفقراء وأغراهم بالآمال الكاذبة.
وأقام برخت مع أسرته في بيت ريفي في سكوفزبو ستراند «منطقة سفند برج» مطلٍّ على شاطئ جزيرة لانجيلاند، يحيط به الأصدقاء الدنماركيون ويعاونونه على الحياة. واتخذ من إسطبلٍ قديم للخيول مزودٍ بمائدةٍ كبيرة مكانًا يعمل فيه. وعاش الشاعر في عزلةٍ كاملة عن العالم الخارجي منصرفًا بكليته إلى الكتابة والتأليف. وكان من الطبيعي أن تتجه كتاباته ضد الاشتراكية الوطنية النازية، وأن يكشف عن الرعب والإرهاب اللذين عاش الألمان ظلهما في ذلك العهد القاتم، ويفضح المحنة والتعاسة الروحية المستترة وراء الصخب الذي يثيره هتلر وأعوانه؛ وكان أن خرجت مسرحيتاه «الرءوس المستديرة والرءوس المدببة» و«رعب الرايخ الثالث وتعاسته». كما راح الشاعر يساهم في مكافحة النازية، ويشترك في مظاهرات الاحتجاج عليها، ويسافر إلى باريس ولندن ونيويورك وموسكو حيث يلتقي بالمهاجرين من زملائه، ويخطب في المؤتمرات (كما فعل في المؤتمر الدولي للكُتَّاب المنعقد في باريس في يونيو ١٩٣٥م)، ويشرف على إخراج مسرحياته، ويُلقي أشعارَه الساخرة من إذاعة ألمانيا الحرة، ويساهم في تحرير الكثير من المجلات التي أسسها المهاجرون في عواصم العالم التي ظلت بعيدةً عن قبضة النازيين، وبالأخص في مجلة «الكلمة» التي كان يصدرها مع ليون فويشتفانجر، وينشر مؤلفه المهم «خمس صعوبات عند كتابة الحقيقة». وفي هذه الفترة توقف برخت عن كتابة مسرحياته التعليمية، ربما لأنه تبين قصورها عن تحقيق أهدافه من المسرح الملحمي الذي كان دائم التفكير فيه، وراح تحت وطأة الظروف التي يعيش فيها يؤلف مسرحيات كفاحية تقترب كثيرًا من النزعة الطبيعية التقليدية «من ذلك مسرحية «رعب الرايخ الثالث وتعاسته» ومسرحية «بنادق الأم كارار» التي تكاد تسير على التقاليد الأرسطية الخالصة»، ويضع مقاله المهم «مسرح التسلية أم مسرح التعليم» (١٩٣٦م) الذي يقيم فيه مسرحه غير الأرسطي على ما يسميه بالإبعاد أو الإغراب الذي يجعل الممثل «يعرض» دوره على المتفرجين بدلًا من الاندماج فيه، ويحفزهم على الدهشة من الواقع الذي يصوره لهم ويدفعهم على نقده والثورة عليه. أضف إلى ذلك أن إقامته في موسكو في عام ١٩٣٥م كان لها أكبر الأثر على تطوره المسرحي، فقد زادت اقتناعه بآرائه في المسرح الملحمي، وعملت على تأكيدها وتعميقها. لقد أتيح له أن يتعرف على المسرح الصيني، ويلتقي بالممثل ماي لان فانج الذي كان يمثل موسكو في ذلك الحين، ويرى فيه المثل الأعلى للتمثيل الملحمي الذي يبتعد فيه الممثل عن دوره أو ينفصل عنه.
وهكذا كتب مقاله «آثار الإغراب في فن التمثيل الصيني» (١٩٣٧م) الذي كان مقدمةً لسلسلة من الكتابات النظرية راح فيها يدعم نظرياته عن المسرح الملحمي ويطبقها على مشاهد من مسرحياته. ونذكر من تلك الكتابات؛ «المسرح التجريبي» (١٩٣٩م)، و«مشهد في الشارع»، و«وصف موجز لتكنيك جديد في فن التمثيل، يحدث أثر الإبعاد»، ويُتوِّجها جميعًا مؤلفه المهم «الأورجانون الصغير للمسرح» (١٩٤٨م).
تأثر برخت في هذه السنوات كلها بعالم الشرق الأقصى، ونهل من نبع الحكمة الصينية، وعاش في أفكار بوذا ولاوتسي وكونفوشيوس، وترك ذلك كله أثره على قصائده ومسرحياته، من ناحيتي الموضوع والشكل معًا. فها هي الحكمة الشرقية بكل ما فيها من محبة وطيبة وإحسان ومقاومة للشر والبطش تظهر في كثيرٍ من أعماله، وها هو يترجم قصائد صينيةً ينشرها في عام ١٩٣٨م، ويؤلف في عام ١٩٣٩م قصيدته المشهورة «حكاية عن نشأة كتاب تاوتي كنج الذي أَلَّفه الحكيم لاوتسي وهو في طريقه إلى المنفى».
زاد خطر الحرب، واشتد الزحف النازي على البلاد المجاورة، وانتقل برخت إلى السويد في أبريل ١٩٣٩م، واشترك في مؤتمر للمهاجرين الأحرار عُقِدَ في لندن في نفس العام، والتقى فيه بكثيرٍ من شخصيات الأدب والفن؛ ومنهم الملحن هانز أيزلر، والمصور أوسكار كو كوشكا، والمخرج برتولد فيرتل. وأتم في نفس العام بعض أعماله المهمة؛ ومنها حياة جاليليو «التي كتبها كما يذهب البعض تحت تأثير النجاح الذي حققه عالِم الطبيعة المشهور أوتوهان بشطر نواة اليورانيوم»، والأم شجاعة وأبناؤها، ومحاكمة لوكولوس. وكلها تمثل ذروة التطور في الدراما الملحمية الواقعية، كما تؤلف بين العناصر التعليمية والعناصر الفنية في وحدةٍ واحدة. فجاليليو يعبر عن مأساة العالم الذي يتنكر في الظاهر لاكتشافاته العلمية الخطيرة التي تثير غضب الكنيسة وتهدد سلطانها المطلق؛ لكي يتمكن من مواصلة البحث عن الحقيقة. والأم شجاعة مثال التاجرة الخبيثة الغبية التي تتعثر في حرب الثلاثين من مغامرة إلى مغامرة، وتفقد ابنيها واحدًا بعد الآخر، وتوشك أن تفقد كل شيء، ولكنها مع ذلك لا تتوقف عن الجري وراء الربح، ولا تتعلم من كوارث الحرب أكثر مما تتعلمه النملة من علم الحيوان. والقائد الروماني لوكولوس يحاكمه العمال والعبيد في العالم الآخر، ويزنون حسناته وسيئاته. أما مسرحية «إنسان ستشوان الطيب» التي بدأها في عام ١٩٣٨م، وأتمها في عام ١٩٤١م، فهي آخر الأعمال الكبرى التي ألَّفها برخت في منفاه الاسكندنافي، وحافظ فيها على نقاء شاعريته فلم تعكرها الأيديولوجية السياسية، وهو يحاول أن يثبت فيها بطريقٍ فنيٍّ غير مباشر كيف أن الإنسان مضطر في المجتمع الرأسمالي إلى أن يحيا بضميرين ينكر كل منهما صاحبه، وكيف أن الخير والطيبة لا مكان لهما في وَسَطٍ يتحكم فيه الأغنياء في الفقراء. فالبغيُّ الطيِّبة شن تي تتشكل في شكلين، وتعيش بقلبين؛ أما أحدهما فيحسن إلى الفقراء ويعطف على المساكين، ويحوز رضا الآلهة. وأما الآخر الذي تتحول فيه إلى ابن العم الشرير شوي تافهو يفكر بعقلية الرأسمالي، ويتصرف بماله في أقدار الناس.
وانتقل الشاعر إلى فنلندا في عام ١٩٤٠م، حيث كتب هناك مسرحيته الشعبية المرحة الصافية «السيد بونتيلا وتابعه ماتي»، واستلهم فكرتها من قصص الكاتبة الفنلندية هيلا وليوكي التي آوته هو وأسرته في ذلك الحين. وبونتيلا واحد من «فصيلة» الإقطاعيين التي تنبَّأ برخت بانقراضها، والتي تعيش منقسمةً على نفسها، فهو إنساني رحيم القلب حين يسكر، ولكنه مستغل قاس مجرد عن الإنسانية حين يصحو من سكرته.
وبينما كان هتلر يستعد لغزو روسيا، كان برخت يستعد للرحيل من جديد، ويسعى للحصول على جواز سفر إلى أمريكا، ويعمل في مسرحيته التي استمد موضوعها من مغامرات أبطال العصابات في شيكاغو، وصوَّر بها استيلاء هتلر وأعوانه على السلطة، ونعني بها مسرحيته «صعود أرتورو أوى الذي يمكن أن يوقف» التي أتمها في أسابيع معدودة.
وفي الثالث عشر من شهر مايو عام ١٩٤١م غادر برخت فنلندا، ورحل إلى فالديفوستوك عن طريق موسكو. وفي الحادي عشر من شهر يونيو استقل سفينةً سويديةً إلى أمريكا، حيث أقام هناك في سانتا مونيكا، إحدى ضواحي لوس أنجيلوس في بيتٍ قديم استطاع أن يشتريَه لنفسه؛ ليعيش فيه ما يقرب من ست سنوات.
وتجمَّع كثيرون من أصدقائه الألمان المهاجرين حوله، وتعرف على عدد من الشخصيات المشهورة في عالم الفن منهم: تشارلي تشابلن، وتشارلز لوتون، وألدوس هكسلي، وأودن، والناقد المسرحي إريك بنتلي الذي أصبح من أكبر المتحمسين له والمترجمين عنه في اللغة الإنجليزية.
وراح برخت يعمل في مسرحيته «رؤى سيمون ماكار»؛ وهي قصة فتاة فرنسية صغيرة، تتشابك فيها أحداث انهيار فرنسا في صيف عام ١٩٤٠م مع مصير جان دارك وكفاحها ضد الإنجليز. ومسرحيته «الجندي شفيك في الحرب العالمية الثانية» التي استلهم موضوعها من رواية للكاتب التشيكي هاشك.
أَغلقت المسارح الأمريكية أبوابها في وجه برخت، وكان عليه أن ينتظر أربعة أعوام حتى تُمَثَّل بعض مشاهد من مسرحيته «رعب الرايخ الثالث وتعاسته» من ترجمة إريك بنتلي في سان فرانسسكو ونيويورك، وإن بقي حظها من النجاح ضئيلًا. ولم يستطع أن ينفذ شيئًا من مشروعاته اللهم إلا الفيلم الذي كتبه وأخرجه فرتس لانج بعنوان «الجلادون أيضًا يموتون»؛ وهو يصور جرائم قائد الجستابو المشهور هيدرش الدموية في تشيكوسلوفاكيا، ومصرعه على يد رجال المقاومة السرية، كما راح يعيد كتابة مسرحية «جاليليو» بالتعاون مع الممثل الشهير تشارلز لوتون الذي قام بالدور الرئيسي فيها في عام ١٩٤٧م، متأثرًا بالانفجار الذري في هيروشيما الذي هز كِيانه هزةً عميقةً. ويُتم آخر مسرحياته الكبرى التي استمد موضوعها من مسرحية صينية قديمة، ونعني بها «حلقة الطباشير القوقازية»، وإن كان قد غيَّر فيها تغييرًا حاسمًا، بحيث تجتاز الوصيفة التي رعت الطفل رعاية الأم — لا الأم الحقيقية — امتحان حلقة الطباشير، وبذلك يبين برخت أن الروابط الاجتماعية أقوى من روابط اللحم والدم. وتُعَدُّ هذه المسرحية، التي يقدمها منشد واحد — يذكرنا بدور الشاعر في أدبنا الشعبي — من أنجح مسرحيات برخت وأقدرها على توضيح مقصده من المسرح الملحمي «وقد ترجمها الدكتور عبد الرحمن بدوي إلى العربية، وظهرت في سلسلة روائع المسرح العالمي التي تصدر بالقاهرة». وقد مُثِّلَت المسرحية لأول مرة باللغة الإنجليزية على أحد مسارح الطلبة في نور نفيلد في ولاية مينيسوتا في شهر مايو عام ١٩٤٨م.
وترك برخت أمريكا في عام ١٩٤٧م، وليس صحيحًا أن اللجنة الخاصة بالنشاط المُعادي لأمريكا هي التي اضطرته إلى مغادرة البلاد؛ فقد أبدى رغبته بالفعل في عام ١٩٤٦م في العودة إلى أوروبا، ولكنه لم يحصل على تأشيرة السفر إلا في أوائل عام ١٩٤٧م. ومهما يكن الأمر فقد حُوكم أمام تلك اللجنة، وبُرِّئ من تهمة العمل في صالح الشيوعيين، واستقل الطائرة في اليوم التالي لمحاكمته إلى أوروبا، حيث وصل إلى سويسرا في اليوم الخامس من شهر ديسمبر عام ١٩٤٧م بعد خمسة عشر عامًا قضاها في المنفى. وأقام برخت في الدور العلوي من أحد البيوت الريفية في هرليبرج المطلة على بحيرة زيورخ. وهناك أتم أهم مؤلفاته النظرية عن مسرحه الملحمي «الأورجانون الصغير للمسرح»، كما أعاد صياغة مسرحية أنتيجونا لسوفوكليس (عن ترجمة الشاعر الكبير هولدرلين)، وأبرز فيها الجانب الاجتماعي والسياسي من الأحداث المعاصرة له بصورةٍ واضحة. وفي أكتوبر عام ١٩٤٨م غادر برخت سويسرا إلى برلين الشرقية، وما زال الرأي القائل بأنه كان ينوي الاتجاه إلى ألمانيا الغربية؛ فمنعته سلطات الاحتلال في حاجةٍ إلى التأييد.
انتزع الموت برخت وهو في قمة نشاطه، تدل على ذلك آثاره العديدة التي لم يقدَّر لها أن تتم؛ فقد مرض مرضًا شديدًا في ربيع عام ١٩٥٦م، بعد اشتراكه في مؤتمر الكتَّاب المنعقد في برلين في يناير من نفس العام. واضطُر إلى وقف التجارِب التي كانت تُجرَى على مسرحية جاليليو، وقضاء عدة أسابيع في العلاج. ولم يكد يقف على قدميه حتى راح يشارك في التجارب النهائية التي كانت تجرى في فرقته المسرحية؛ إذ كان مقدرًا لها أن تزور لندن في نهاية شهر أغسطس.
يرتبط اسم برخت «بالمسرح الملحمي» الذي أراد أن يبدأ به عهدًا جديدًا للمسرح، وقد يطلق عليه أيضًا اسم المسرح غير الأرسططالي أو المسرح الديالكتيكي الذي يوقظ مَلَكة الحكم عند المتفرج، ويثير فيه الإحساس بالغرابة والدهشة لما يراه، ويبعث فيه إرادة التغيير الثوري للقيم والظروف الاجتماعية التي يعيش فيها ويراها أمامه منعكسةً على خشبة المسرح. ومع أن الإطار الملحمي في الدراما قديم قِدَمَ الدراما نفسها، ومع أنه يتخلل المسرحَ الغربي من إيسخليوس إلى يونسكو وآداموف، فإن برخت قد أثار بتعبيره «المسرح الملحمي» كثيرًا من الغموض والحيرة والاضطراب. فلا شك أن المسرح والملحمة مشتركان في عناصر معينة، ولكن لا شك أيضًا في أن لكل منهما خصائصه وصفاته التي ينفرد بها دون صاحبه وتجعل الجمع بينهما أمرًا متعذرًا إن لم يكن مستحيلًا، بحيث نستطيع أن نقول إن تعبير المسرح الملحمي لا يخلو في ذاته من شيء من التناقض.
ولقد سبق للشاعرين الكبيرين جوته وشيلر أن اشتركا في كتابة بيان يحددان به طبيعة كل من الشعر الملحمي والعمل الدرامي، ويضعان لكل منهما حدوده ويميِّزان خصائصه؛ فوظيفة الشاعر عندهما هي أن يعرض علينا عوالم نحسها ونراها رأي العين. والشاعر الملحمي والشاعر المسرحي يخضعان معًا لقوانين وقواعد عامة؛ أهمها قانون الوحدة وقانون التطور. وهما كذلك قد يعالجان نفس الموضوع وقد تحركهما إليه نفس الدوافع. ولكن الفارق الأكبر بينهما هو أن الملحمي «يروي» ما يعرضه علينا من أحداث جرت في الزمن الماضي، والدرامي «يشخص» لنا هذه الأحداث باعتبارها حاضرةً حضورًا تامًّا في اللحظة التي نراها فيها.
فالقصيد الملحمي كما يقول الشاعران، يصور فاعليةً محدودةً من الناحية الشخصية، والتراجيديا تصور ألمًا أو عذابًا محدودًا من الناحية الشخصية؛ القصيد الملحمي يصور الإنسان الذي يفعل فعلًا يَتِمُّ في العالم الخارجي بعيدًا عن نفسه؛ «كالقتال والترحال أو أي فعل يقتضي نوعًا من الاتساع المحسوس». أما التراجيديا فتصور الإنسان المتِّجه إلى داخل نفسه، وتعبر عن الأحداث التي تَتِمُّ في باطنه، ولذلك كانت أحداث التراجيديا الأصلية لا تحتاج إلَّا إلى أقل حيِّز ممكن من الفراغ.
وقد تشترك الملحمة والدراما بنسب متفاوتة في الدوافع التي تعمل على إبطاء الحدث فتوقف سيره أو تطيل طريقه، أو التي ترجع بالسامع أو المشاهد إلى أحداث أخرى جرت قبل زمن الملحمة أو الدراما، أو التي تسبقه فتتنبأ بما سيحدث بعد انتهائهما، ولكنهما على كل حال يتميَّزان تميُّزًا واضحًا في أن أحدهما يدور بكليته في الماضي، وأن الآخر يكاد أن يكون حاضرًا كله. إذن فالملحمي — إن صحت الكلمات السابقة — لا يمكنه أن يصور واقعًا دراميًّا، ولا في إمكان الدرامي أن يصور واقعًا ملحميًّا؛ فإن أراد الملحمي أن يصور الإنسان الذي يحتدم الصراع في باطنه أفلت منه الواقع الملحمي، وقَدَّم للسامع أو القارئ كلامًا يدور على ألسنة البشر، ولكنه لا يصوِّر هؤلاء البشر أنفسهم. وكذلك الشأن مع الكاتب المسرحي؛ فهو لا يستطيع إلا في أضيق الحدود أن يقدم لنا واقعًا ملحميًّا على المسرح، إذ لا يمكنه أن يصور لنا حركته المتصلة في الزمن الماضي.
فهل نستطيع أن ننتهيَ من هذا إلى أنه لا وجود للملحمة التي تحتوي على مضمون درامي، كما أنه لا وجود للدراما التي تحتوي على مضمون ملحمي؟ من الصعب أن نقطع بهذا؛ فالدراما قد تحتوي على عناصر ملحمية، والملحمة على عناصر درامية، ولكن الشيء العسير حقًّا هو أن تقدَّم الدراما في إطار ملحمي، والملحمة في شكلٍ درامي.
وبرخت لا يتحدث في الواقع عن الدراما الملحمية، بل عن المسرح الملحمي؛ المسرح ينبغي في رأيه أن يصبح ملحميًّا، وهو مطلب يكاد يستحيل تحقيقه طالما كنا نقف على أرض التراث المسرحي الممتد من إيسخيلوس إلى جرهارت هاويتمان. ذلك أن المسرح لا بد له في حدود هذا التراث أن يظل «مسرحيًّا»، بمعنى أنه لا يستطيع إلا أن يعرض علينا أحداثًا دراميةً على خشبة المسرح قد يعود الرواية إلى الماضي، فيحكي لنا حدثًا بعيدًا كما يفعل الرسول في المسرحية اليونانية القديمة، ولكن المسرح يظل مع ذلك مسرحًا ولا يمكن أن يوصف لذلك بأنه أصبح ملحميًّا. لا بد إذن لكي تصح عبارة برخت عن المسرح الملحمي أن تصاحبها نظرية جديدة كل الجِدَّة عن الفن عمومًا والمسرح بوجهٍ خاص، وأن تحدَّدَ الدراما تحديدًا لم يسبقه إليه أحد من قبل.
الواقع أن هذا هو الذي يريده برخت ويحققه بالفعل؛ فمسرحه الملحمي شيء جديد من أساسه لا يمكن أن يقاس بالمسرح التقليدي أو يقارن به، ونظريته تقوم على أساس الفلسفة الماركسية في التاريخ والمجتمع والحضارة، وتحدد طبيعة الدراما ووجودها ومصيرها على أساس تحديدها لطبيعة الإنسان ووجوده ومصيره.
كان التحديد المعترف به إلى عهد برخت لطبيعة الدراما وجوهرها ووظيفتها هو التحديد الذي قدمه لها أرسطو؛ فأرسطو قد رأى الدراما اليونانية المتطور تُمثَّل أمامه، فتحدث عن التراجيديا باعتبارها أعلى مرحلة من مراحل تطور تلك الدراما، وجعل واجب الشاعر الدرامي أن يثير الشفقة والخوف في عواطف المتفرجين، وأن يطهرهم بذلك من الانفعالات الدنيئة، دون أن يكون الخوف أو الشفقة هدفًا في ذاته، ولا وسيلة يلجأ إليها الشاعر كيف يشاء. وبذلك حدد أرسطو معنى الدراما والغاية منها، كما حدد الوسيلة التي توصل إليها، وأوجد نظريةً مدعَّمةً متكاملةً فيها. ولم يكن عجيبًا إذن أن يقول لسنج إن كل خطوة تبعد بنا عن أرسطو هي خطوة تبعد بنا عن التراجيديا الصحيحة، وأن يقول هردر إن أرسطو قد عاش في عصر اكتمل فيه بناء المسرح اليوناني، فلم يرتفع من بعده إلى ذروة أعظم من تلك التي بلغها. كذلك كان أرسطو في رأي هردر هو الرجل الذي عرف كيف يستنبط قواعد العمل الفني على خير وجه، وجاء جوته وشيلر ففكرا وأنشآ وهما على هذه العقيدة نفسها، ولكن الرومانتيكيين وعلى أثرهم هيجل هم أول من ربط الدراما بفلسفتهم في التاريخ، ففهموها على أنها مظهر من مظاهر الوجود المتغير. فالوجود يتحول ويتغير، والدراما تتحول معه وتتغير. لم يعد في استطاعتنا أن نرجع إلى الفن القديم، بل أصبح من الواجب علينا أن استطاعتنا أن نرجع إلى الفن القديم، بل أصبح من الواجب علينا أن نتبين نوع الوجود الذي يظهر الآن في الدراما. وأصبحت نظرية الدراما التي استوحاها شعراء وكتاب مثل لسنج وجوته وشيلر عن النماذج القديمة الخالدة، نظريةً فلسفيةً تحدد ما يناسب الحاضر وما لا يناسبه. وهكذا يقرر الرومانتيكيون أن الوجود الرومانتيكي الجديد يتغير باستمرار، ولم تعد له صفة الثبات والإطلاق التي كانت للوجود الكلاسيكي. ولذلك فهم يطلبون من الدراما أن تكون دراميةً وملحميةً وشاعريةً غنائيةً، إنها الآن من إبداع العقل الإنساني الحر الجديد الذي يرتفع فوق الطبيعة وفوق كل ما هو طبيعي، وهكذا فقد الوهم الشعري حقه في الوجود، وأصبح على العقل الإنساني الحر أن يثبت حريته بتحطيم هذا الوهم، وألَّا يسمح للدراما بأن تكون نِتاجًا طبيعيًّا كذلك الذي كان يتطلبه الكلاسيكيون، ويشترطون الوحدة العضوية التي تهبها الطبيعة لكل ما يصدر عنها من موجودات.
وجاءت الماركسية فأخذت عن هيجل مبدأ تطور الواقع وشكله، ونعني به الديالكتيك، وإن كانت قد فسرته تفسيرًا ماديًّا لا روحيًّا، وجعلته يتجه نحو تحقيق المجتمع الخالي من الطبقات بدلًا من أن يتجه إلى الروح المطلق؛ فالتاريخ عندها لم يعد هو تاريخ هذا الروح أو العقل الإلهي المطلق في مراحله المختلفة، بل هو تاريخ العقل الإنساني المتطور نفسه. والعقل المتطور يصل في النهاية إلى أنه ليس هناك عقل أو روح في ذاته، بل يرى أنه لا وجود إلا للمادة، وأنه هو نفسه قد نتج عن هذه المادة. ومن ثم لا تصبح المراحل التاريخية ولا الأشكال والنظم الحضارية من دين وفن وفلسفة مظهرًا للوجود العقلي، بل للوجود الذي تحدده عوامل الاقتصاد والاجتماع. كما أن الدراما لا تبين الحقيقة الميتافيزيقية، بل الواقع المادي وحده. فإذا سألنا؛ وما هو هذا الواقع المادي الذي يظهر في الدراما؟ كان الجواب بأنه هو المجتمع. فالدراما شكل من أشكال التعبير يظهر فيه وجود المجتمع، وتنعكس عليه أحواله.
لم تعد الدراما إذن عملًا فنيًّا خالصًا فحسب، يصوِّر فيه الشاعر عالمه كما كان الأمر عند شاعر مثل جوته أو شيلر، ولا مجالًا فنيًّا يظهر فيه الوجود الميتافيزيقي نفسه، ويتجلى انشقاقه الديالكتي على ذاته في شخصياته كما كان الأمر في رأي فيلسوف مثل هيجل، بل أصبح المجتمع هو الوجود الوحيد الذي يمكن أن يظهر في الدراما؛ لأن الإنسان عند أصحاب الماركسية هو كائن اجتماعي قبل كل شيء، وبعد كل شيء، والظروف الإنسانية كلها قائمة على العلاقات الطبقية.
كانت غاية الدراما عند الإنسان القديم — مثلها في ذلك مثل سائر الفنون — أن تثير اللذة في نفس المتذوق، ولم يكن للتراجيديا أن تشذ عن هذه الغاية. ولكن الخلاف على طبيعة هذه اللذة التي يبعثها الجميل أصبح مع الزمن مشكلةً فلسفيةً. وكان أن وُجِدَ التفسير الحسي؛ فذهب البعض إلى أن الفن يسبب اللذة بوصفها الشعور بالرضا والسعادة والارتياح، الذي هو الهدف من كل فن على الإطلاق. وجاء «كانت» في نقده لمَلَكة الحكم، فذهب إلى أن هناك مصدرًا مزدوجًا للَّذَّة، فهناك اللذة الحسية، وهناك اللذة العقلية؛ فاللذة التي نحسها في الجمال لذة عقلية، إنها جواب الوجدان على كمال الخليقة. هذا الكمال — الذي تستطيع ملكة المعرفة عندنا أن تعرفه معرفةً موضوعية — يثير في وجداننا الشعور باللذة حين نراه ماثلًا أمام أعيننا على الأقل. وجاء شيلر فأوضح كذلك في رسائله الفلسفية هذا الإحساس باللذة الذي تثيره فينا التراجيديا بوجه خاص؛ فالتراجيديا في ذاتها كان ينبغي أن تثير فينا الألم لأنها تبين لنا الإنسان وهو يتعذب ويتألم ثم ينهار، ولكنها بفعلها هذا نفسه إنما تثير فينا ملكة عليا، وتزيدنا علمًا بأنفسنا، وترينا أننا كائنات عاقلة، وأن فينا شيئًا يعلو على كل ما هو حسي أو طبيعي بحت، شيئًا لا سبيل إلى تحطيمه أبدًا. وحين نشاهد الإنسان في التراجيديا وهو يتحطم ويسقط أمامنا نشاهد في الوقت نفسه ذلك الجانب السامي من وجودنا الذي يجعلنا نموت مرفوعي الرأس، ونحس بنوع من اللذة في المأساة.
ويحاول برخت بدوره في السنوات الأخيرة من حياته أن يكشف عن حقيقة الفن من ناحية إثارته للذة؛ فهو يؤكد أن المسرح لون من ألوان التسلية، من شأنه كما من شأن جميع الفنون أن تسليَ الناس وتسعدهم، ولكنه يبدأ بالسؤال عن المصلحة أو المنفعة التي تعود على المجتمع من المسرح. فالمجتمع من العصور القديمة إلى عهد جرهارت هاوبتمان كان ينتظر من المسرح متعةً غذائيةً، أو لذةً «مطبخيةً» على حد تعبيره! إنه ينظر إلى اللذة الفنية نظرةً حسيةً خالصةً، ويربطها بحاجة طبقة واحدة من طبقات المجتمع. هذه الطبقة لم تكن تريد من الدراما شيئًا سوى إنما تعيش في الوهم، وأن تتأثر وتُسَرِّيَ عن نفسها. غير أن إنسان العصر الحديث لا ينبغي عليه أن يسعى وراء الوهم أو التأثر أو التسرية، إنما عليه أن يتعلم فحسب. وكاتب المسرح الحديث عليه ألَّا يخاطب الشعور، بل يخاطب العقل، إن من واجبه أن يُعلِّم هذا العقل ويدفعه إلى الحركة والتغيير بدلًا من أن يثير الشعور. وكما قال ماركس: إن على الفلسفة أن تغير العالم لا أن تفسره. فقد أصبح على الفن والمسرح أيضًا أن يغيرا الإنسان تمهيدًا لتغيير العالم. ولما كانت ظروف الإنسان قائمةً على ظروفه الطبقية كما قدمنا، فإن النتيجة الحتمية التي سينتهي إليها برخت في حدود هذه النظرة الماركسية؛ هي أن الدراما التي تهدف إلى الإيهام والتأثير على العاطفة والوجدان إنما هي دراما برجوازية، لا يكتبها ولا يريدها إلا من ينتمي إلى هذه الطبقة وله مصلحة في بقائها وتحكُّمها. فهي في يده سلاح يقاوم الطبقة العاملة الصاعدة، وهي حين تُغرِق الإنسان في الوهم إنما تعوق تطوره العلمي التجريبي، وتخدر فيه إرادة الصراع من أجل الحرية وإلغاء الطبقات. فالبرجوازية إذن تريد جُهدها أن تحول بين الطبقة العاملة وبين الوعي العلمي الجاد، وأن تشلَّ فيها إرادة التغيير الثوري للظروف المجحفة بها.
الشكل الدرامي للمسرح | الشكل الملحمي للمسرح |
---|---|
يُجري الأحداث. | يروي الأحداث. |
يُلقي بالمتفرج في شبكة الأحداث التي تَجري على خشبة المسرح. | يجعل من المتفرج مراقبًا. |
يستهلك فاعليته. | ولكنه يوقظ فاعليته. |
يستثير فيه مشاعر. | يضطره إلى اتخاذ مواقف. |
تجربة حية. | صورة للعالم. |
المتفرج يوضع به في شيء. | المتفرج يوضع في مواجهة شيء. |
إيحاء. | حجة عقلية. |
الإحساسات يحافظ عليها. | الإحساسات تدفع إلى مرتبة المعارف. |
المتفرج يقف وسط الأحداث ويشارك في معاناتها. | المتفرج يقف في مواجهتها ويدرسها. |
الإنسان كائن يفرض أنه معروف مقدمًا. | الإنسان موضوع البحث. |
الإنسان الذي لا يقبل التغير. | الإنسان الذي يقبل التغيير ويغير. |
التوتر متعلق بالنهاية. | التوتر متعلق بمجرى الأحداث. |
المشهد مرتبط بغيره من المشاهد. | كل مشهد قائم بذاته. |
نمو. | مونتاج «تركيب». |
الحدث يجري في خطٍ مستقيم. | الحدث يجري في خطوطٍ منحنية. |
حتمية التطور. | قفزات. |
الإنسان شيء ثابت. | الإنسان عملية تحول. |
الفكر يحدد الوجود. | الوجود الاجتماعي يحدد الفكر. |
شعور. | عقل. |
ويعتقد برخت بهذا البرنامج أنه قد تجاوز التراث المسرحي الذي يمتد إلى أكثر من ألفي عام؛ فهو في مسرحه الجديد إنما يطبق برنامج الحركة التعبيرية التي لم تكن تهتم بالدراما في ذاتها بقدر اهتمامها بأن تكون أداةً للعرض والبيان. فالتعبيري كان يعرض عواطفه الجيَّاشة المنطلقة، وبرخت يعرض نزعته العدمية في مسرحياته المبكرة أولًا، ثم يعرض نزعته الماركسية في مسرحياته التعليمية، وأخيرًا يجد أن هذا الطريق لا بد مسدود في وجه الفنان، فيحاول أن يخرج منه بالتأليف الذي يجمع بين النقيضين في مسرحياته الأخيرة التي تخلو من التزمت العقائدي، وتهيب بالجمهور أن يفكر ويبحث عن حل بدلًا من أن تَفرِض عليه الحل الوحيد. إن هدفه من العرض المسرحي — في مرحلته التعليمية المتوسطة — هو تحريك المُشاهد إلى الفاعلية والتغيير، فالعالم في رأيه لا بد أن يتغير؛ لأنه يقبل التغير. وموقف الإنسان من العالم ينبغي أن يكون موقف الثوري الفعَّال لا موقف المشاهد المتأمل؛ «فموقفه من النهر أن ينظِّم مجرى النهر، وموقفه من شجرة الفاكهة أن يقلِّم شجرة الفاكهة، وموقف من الحركة المتصلة أن يبنيَ العربات ويصنع الطائرات، وموقفه من المجتمع أن يغير هذا المجتمع من جذوره». والمسرح إذن لا بد أن يكون أداة هذا التغيير الجذري وسلاحه.
وبرخت يظن بهذا أن عرض الحدث الواقعي في تتابعه الزمني وروايته عن بعد يمكن أن تكفيَ لكي يوصف بأنه ملحمي، والواقع أن هذا إساءة لفهم طبيعة الحدث الملحمي نفسه؛ فالشاعر الملحمي يلجأ إلى الرواية الهادئة المتباعدة التي تخلق الوهم الملحمي، في حين أن برخت إنما يفكر في الحقيقة في نوع من الرواية العلمية التي تبدد الوهم. وربما كان أصدق نموذج للمسرح الملحمي في رأيه هو نموذج الجراح الذي يُجري عمليةً جراحيةً أمام جمهور من الطلبة، ويعلمهم في نفس الوقت عن طريق هذه العملية. وما زال الجدل يدور بين الباحثين حول إمكانية تحقيق المسرح الملحمي بالشروط التي أرادها له برخت؛ ذلك أن هناك فارقًا أساسيًّا عامًّا يميز الحقيقة الواقعية عن الحقيقة الجمالية.
ومهما يكن من شيء فلا نستطيع في مثل هذه المقدمة السريعة أن نقرر إن كان المسرح الملحمي قضاءً على المسرح أو إحياءً له، فالتجربة الحية وحدها هي التي تستطيع أن تقرر هذا. ومن واجبنا أَلَّا نندفع في الحماس لنموذج نعرضه على مسارحنا — كما حدث عند عرض مسرحية الاستثناء والقاعدة أخيرًا في بلادنا — ولا أن نُربِك القراء والمتفرجين بكتابات نظرية معقدة لا جدوى منها. فمن الخير دائمًا أن نمثل لبرخت كما نمثل لغيره، وأن نترك الفرصة للجمهور ليحكم بنفسه ويفكر ويتذوق. وليس هناك ما يمنع أن نتحمس لبرخت أو لغيره — فليس هناك فن ولا فكر حقيقي يمكنه أن يحيا بغير الحماس — على أن نضع نصب أعيننا دائمًا أن نقف منه ومن غيره موقف الحذر والتريث في كل الأحوال.
إن من حقنا أن نترك الرياح من كل الجهات تهب على شجرتنا، ولكن من واجبنا ألَّا نسمح لها أن تقتلعها من جذورها.
والمسرحيتان اللتان يجدهما القارئ في هذا الكتاب من مسرحيات برخت التعليمية التي كتبها في المرحلة المتوسطة من حياته الفنية، وهي التي لم يكن قد تجاوز فيها بعدُ دائرة التزمت المذهبي؛ فالتاجر كارل لانجمان يريد أن يعبر إحدى الصحاري الهندية بأسرع ما يستطيع لكي يسبق منافسيه في الحصول على امتياز للبترول، وهو يؤجر لهذه الغاية دليلًا وأجيرًا. وبرخت يقول عن هذه المرحلة التي يقوم بها الثلاثة معًا: «إن مستغلًّا يقوم بها مع مستغلين»؛ فالتاجر هو الرأسمالي الجشع الذي يعتبر الإنسان مجرد بضاعة تُشترى وتباع، وحين يبدي الدليل عطفه على الأجير تساور التاجر مخاوفه منه فيطلق سراحه، وحين يوغل في السير مع الأجير ويريد هذا أن يعطيَه زمزميةً ليرويَ بها عطشه — وكان الدليل قد أعطاه زمزميته شفقةً منه عليه — يظن التاجر أنه يحاول أن يصرعه بحجر؛ فيسرع بقتله برصاصةٍ من مسدسه. ويقدم إلى المحاكمة فيبرَّأ من تهمة القتل التي رفعتها زوجة الأجير، وشهد فيها الدليل في صف المقتول؛ فالقاضي ينتمي إلى طبقة الرأسماليين، ولا بد له أن يحميَ التاجر، إنه يقول مثلًا: «الأجير ينتمي إلى طبقةٍ من الناس لديها في الواقع ما يبرر إحساسها بأنها مظلومة ومهضومة الجانب». والتاجر بدوره من طبقة غير طبقة الأجير، فلم يكن من الممكن أن يستجيب للتصرف الإنساني من جانب الأجير الذي أراد أن يسقيَه، وبخاصةٍ بعد أن عذبه طَوال الرحلة، كما اعترف بنفسه أمام المحكمة. لقد هداه عقله إلى أنه عرضة للخطر، فدافع عن نفسه دفاعًا مشروعًا.
فالرحمة والإنسانية إذن لا وجود لهما إلا عند المستغلين، والاستغلال المهين هو القاعدة في ظل النظام الرأسمالي. ولكن على المتفرج أن يكتشف الاستثناء وراء هذه القاعدة، بعد أن يتبين له وجه الغرابة والظلم فيها. والممثلون — الذي لم تُحَدِّد المسرحية طبائعهم، بل اكتفت بأن يتقدموا بأنفسهم ليخاطبوا الجمهور — يهيبون دائمًا بالمتفرجين أن يفتحوا عيونهم، ويحكموا بأنفسهم ويتعلموا. ولَمَّا كان المسرح الحقيقي لا يمكن أن يقوم على التعليم المباشر؛ فقد لجأ برخت إلى الأغنية، واستعان بالعنصر الموسيقي ليخفف من جفاف التعليم، ويحيطه بغلالة شاعرية تحجب خطر الخطابية الواضحة، وتستر ضعف البناء المسرحي، وافتقار الشخصيات إلى الحياة الواقعية.
أما مسرحية «محاكمة لوكولوس» فقد كتبها برخت في عام ١٩٣٩م، وقد كتبها في مبدأ الأمر كمسرحية إذاعية، ثم تحولت بعد إجراء بعض التعديلات عليها إلى أوبرا لَحَّنها صديقه الموسيقي باول دساو، وعُرِضت لأول مرة باسم «إدانة لوكولوس» في عام ١٩٥١م في دار الأوبرا في برلين الشرقية. ومن أهم هذه التعديلات التي أُجرِيَت على المسرحية الإذاعية أن الأشكال الحجرية المنقوشة لا تُستجوَب في المحاكمة، بل يُنادَى على الظلال نفسها التي تمثلها هذه الأشكال، فتدخل إلى المسرح، وتقف في مواجهة اللوح الذي يحمله العبيد وتدلي بشهادتها.
والمعروف أن برخت كثيرًا ما كان يغير في نصوص مسرحياته، فيضيف إليها أو يحذف منها على أثر المناقشات التي تدور بينه وبين الجمهور والممثلين. وقد أضاف إلى هذه الأوبرا إضافتين مهمتين؛ فالأولى تبين كيف اجتاز الملك الأسير المحاكمة التي أدين فيها لوكولوس. ففي المشهد التاسع، مشهد المحاكمة، يقول لوكولوس:
وهنا يسأل المعلمُ ظلَّ الملك الأسيرِ:
فيجيبه الملك:
أما الإضافة الثانية فتأتي في ختام المشهد الأخير، حيث يوافق الجنود الذين سقطوا في الحملات الآسيوية على إدانة لوكولوس، فيقول الجنود:
هذا ومن الواضح أن برخت قد كتب هذه المسرحية وفي ذهنه شخصية هتلر محاولًا أن يسخر ببطولته الزائفة، وطموحه الفاسد، وأن يكشف عن الجانب الخفي من انتصاراته الكاذبة التي كلفت شعبه كما كلفت الملايين من نساء العالم وشبابه وشيوخه وأطفاله حياتهم. وسوف يرى القارئ بنفسه كيف ارتفع برخت في المسرحية التعليمية إلى مستوًى أنضج بكثيرٍ من مسرحياته التعليمية المبكرة، ومنها الاستثناء والقاعدة. وكيف استطاع أن يجيد صياغة الشكل الملحمي إلى الحد الذي يذكرنا بالمسرحية اليونانية القديمة، وبخاصةٍ عند إيسخيلوس.