اعترافات تولستوي
يقول تولستوي:
ولدت لأبوين مسيحيين، ونشأت على العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، وتلقيت تعاليمها في عهد الطفولة وإبَّان الصبا والشباب، ولما بلغت منتصف المرحلة الجامعية في دراستي — وكنت حينئذٍ في الثامنة عشرة من عمري — لم أعد أعتقد في أيِّ شيء مما تعلمت في الصغر.
وما عندي من ذكريات لهذا العهد يدل على أنني لم أكن جادًّا في عقيدتي، وإنما كنت أركن إلى ما تلقيت من عقائد وما كان يتردد على ألسنة الكبار من حولي، وحتى هذا الركون لم يكن على أساس وطيد.
وأذكر أني قبل أن أبلغ الحادية عشرة التقيت في بيتي في يوم من أيام الأحد بغلام اسمه فلاديمير مليوتن (وقد مات من زمان بعيد)، وكان حينئذٍ طالبًا بإحدى المدارس الثانوية، وصرَّح لي بأنهم كشفوا بمدرستهم كشفًا جديدًا، كشفوا أنه ليس هناك «إله» وأن كل ما تعلمنا عنه من اختراع المعلمين، وكان ذلك في عام ١٨٣٨م، وأذكر أن إخوتي الكبار قد اهتموا لهذا النبأ اهتمامًا عظيمًا، وقد دعوني إلى الاشتراك معهم في الحديث، وأذكر أن جدالًا عنيفًا دار بيننا، ثم تلقينا النبأ باهتمام عظيم، وأجمعنا الرأي على أنه جائز يحتمل التصديق.
وأذكر كذلك أن أخي الأكبر دمتري — وكان حينئذٍ يطلب العلم بالجامعة — قد كرَّس نفسه فجأة للدين، وتحمس له تلك الحماسة الحارة التي كانت من طبيعته، وبدأ يؤدي صلوات الكنيسة جميعًا بغير إخلال، ويصوم ويحيا حياة خلقية طاهرة، فلم نكفَّ جميعًا — حتى الكبار منا — عن السخرية منه، وأطلقنا عليه لسبب لست أعرفه اسم «نوح».
وأذكر أن موسن بوشكن — أمين جامعة قازان في ذلك الحين — دعانا مرة إلى الرقص في بيته، وأخذ يغري أخي في شيء من التهكم (وكان أخي رافضًا للدعوة) بقوله: إن داود نفسه رقص أمام السفينة، وكنت أعطف على هذه النكات التي تصدر ممن يكبرونني سنًّا، واستخلصت منها أنه من الضروري للإنسان أن يتعلم أصول الدين وأن يؤدي الصلاة في الكنيسة، ولكن ليس من الضروري له أن يفعل ذلك وهو جاد.
وأذكر كذلك أني قرأت فولتير وأنا في باكورة الصبا، وأن سخريته لم تصدم مشاعري، بل أدخلت على نفسي سرورًا عظيمًا.
وهذا الانحراف عن العقيدة الدينية الذي أصابني يصيب كذلك عادةً الشباب الذين يبلغون مستوانا في التعليم، وهو يحدث في أكثر الأحيان — فيما أظن — على هذه الصورة: يعيش المرء — كما يعيش غيره من الناس — على أسس وقواعد لا تتفق البتة وتعاليم الدين.
إن العقائد الدينية لا تلعب دورًا في الحياة أو في صلات الناس الاجتماعية ولا يحسب المرء لها حسابًا في حياته الخاصة، فهي لا تتصل بالحياة ولا ترتبط بها، فإن صادفتك مرة صادفتك كظاهرة خارجية منفصلة عن الحياة تمام الانفصال، يستحيل عليك أن تحكم على الرجل من حياته وسلوكه إن كان مؤمنًا أو غير مؤمن، وإذا كان ثمة خلاف بين الرجل الذي يعترف بإيمانه جهارًا وبين الرجل الذي يُنكر الإيمان، فإن هذا الخلاف ليس في صالح المؤمن، فإن ممارسة الدين والاعتراف به كان وما يزال شائعًا بين الأغبياء والقساة والمتكبرين، وكثيرًا ما تجد المقدرة والأمانة والثقة وكرم الطباع وحسن السلوك بين الكافرين.
إن المدارس تعلم الصبية أصول الدين وترسلهم إلى الكنائس، كما أن موظفي الحكومة ينبغي لهم أن يقدموا الشهادات التي تدل على صدق إيمانهم، ولكن الرجل من أبناء طائفتنا الذي أتم تعليمه ولم يلتحق بخدمة الحكومة يستطيع اليوم أن يعيش عشرة أعوام أو عشرين عامًا دون أن يذكر مرة أنه يعيش بين قوم مسيحيين وأنه هو نفسه يُعد عضوًا في الكنيسة الأرثوذكسية (وكان ذلك أيسر على المرء فيما سلف من الأيام).
ولذا فإن العقيدة الدينية التي يعتنقها المرء — في الوقت الحاضر أو فيما مضى — بمجرد التصديق، والتي تستند إلى الضغط من خارج، تتلاشى تدريجًا من تأثير المعرفة والخبرة بالحياة التي تعارضها ولا تتفق معها، وكثيرًا ما يحيا المرء متوهمًا أنه باقٍ على العقيدة التي تلقاها في الصغر بغير مساس، في حين أنه لم يَبْقَ له في الواقع منها أثر.
قصَّ لي مرة «س» قصة خروجه على الدين، و«س» رجل ذكي صادق، قال إنه وهو في السادسة والعشرين من عمره خرج مرة للصيد، وبلغ مكانًا استقرَّ به لكي يقضي فيه المساء، وهناك في ساعة الغروب خرَّ راكعًا للصلاة، وتلك عادة احتفظ بها من عهد الطفولة، وكان أخوه — ورفيقه في الصيد — مستلقيًا فوق العُشب يرقبه، ولما فرغ «س» من صلاته وأخذ يعد نفسه لاستقبال الليل، قال له أخوه: «أفما زلت تفعل ذلك؟»
ولم يتبادلا الحديث بعد ذلك، ولكن من ذلك اليوم امتنع «س» عن أداء صلواته كما امتنع عن زيارة الكنائس، ولبث على ذلك ثلاثين عامًا، ولم يفعل ذلك لأنه عرف عقائد أخيه واعتنقها، ولم يفعل ذلك لأنه وصل في نفسه إلى قرار معين، وإنما فعل ذلك لأن كلمة أخيه كانت كغمزة الإصبع للحائط الذي أوشك أن ينهار من ثقله، وقد بينت له كلمة أخيه أن ما كان يحسبه في نفسه عقيدة ثابتة لم يكن في حقيقة الأمر إلا شكًّا مطلقًا؛ ولذلك فإن الدعوات ورسم علامات الصليب والركوع أثناء الصلاة حركات لا معنى البتة لها، ولما أدرك خلوها من المعنى لم يستطع أن يتابعها.
وهكذا كانت الحال، ولا تزال — فيما أظن — مع الكثرة الكاثرة من الناس، وأقصد الناس ممن هم في مستوانا العلمي، المخلصين مع أنفسهم، ولست أقصد أولئك الذين يتظاهرون بالإيمان ويتخذونه وسيلة لبلوغ مآربهم الدنيوية (إن أمثال هؤلاء هم أكثر الناس كفرانًا؛ لأن الإيمان إذا كان وسيلة لبلوغ المآرب الدنيوية أبعد ما يكون عن الإيمان الصحيح) إن أولئك الذين يبلغون مستوانا في التعليم عندهم من ضوء المعرفة والحياة ما يُبدد ذلك الحجاب المصطنع الذي يستر بصائرهم، ومنهم من شهد هذا الحجاب فأزاله، ومنهم من لم يشهده بعد.
إن العقيدة الدينية التي لُقِّنتها في الصغر اختفت عندي كما اختفت عند غيري، مع هذا الفارق بيني وبينهم: أني بدأت من سن الخامسة عشرة أقرأ الكتب الفلسفية، وأني أحسست بالنفور من تعاليم الدين في سن مبكرة جدًّا، ولما بلغت السادسة عشرة امتنعت عن أداء الصلاة وامتنعت عن زيارة الكنيسة كما امتنعت عن الصوم بمحض إرادتي، ولم أصدق ما تعلمته في الصغر وإنما اعتقدت في شيء آخر، ولم يكن بوسعي أن أُعبِّر عما كنت أعتقد فيه، اعتقدت في إله ما، أو على الأصح لم أنكر وجود الله، غير أني لم أستطع أن أقول ما كنه ذلك الإله، ولم أنكر المسيح أو تعاليمه، ولكني كذلك لم أستطع أن أقول ما فحوى تلك التعاليم.
والآن إذ أعود بذاكرتي إلى ذلك العهد أرى بجلاء أن عقيدتي — وأقصد العقيدة الحقيقية الفذة التي آمنت بها، تلك التي كانت إلى جانب غرائزي الحيوانية تحفزني إلى الحياة — هي الإيمان بضرورة النهوض بنفسي إلى مرتبة الكمال، بيد أني لم أستطع أن أقول ما كُنه ذلك الكمال وما هدفه الذي يرمي إليه، حاولت أن أبلغ الكمال العقلي فدرست كل ما استطعت وكل ما ألقته الحياة في سبيلي، وحاولت أن أبلغ الكمال في الإرادة فوضعت القواعد التي أسير على نهجها. وحاولت أن أبلغ الكمال الجثماني فنميت قواي ورشاقة جسمي بكل أنواع التمرينات البدنية، وعوَّدت نفسي على الاحتمال والصبر بجميع وسائل الحرمان، وقد حسبت أن في ذلك كله بلوغ الكمال، وكان بالطبع أول ما بدأت به الكمال الخلقي، ولكني سرعان ما استبدلت به الكمال المطلق، استبدلت به رغبة في رفع مستواي لا في عيني، ولا عند الله، ولكن في أعين الآخرين، وسرعان بالتالي ما تحول هذا الجهد إلى رغبة في أن أكون أقوى من الآخرين أي أن أكون أبعد منهم صيتًا، وأكثر أهمية، وأوفر مالًا.
•••
وسأقص عليكم في يوم من الأيام تاريخ حياتي خلال تلك السنوات العشر من شبابي، وستجدون فيه ما يمس إحساسكم وما يزيدكم علمًا، ولست أحسب إلا أن عددًا عديدًا من الناس قد مرت بهم هذه التجربة، ولقد أردت بكل نفسي أن أكون إنسانًا نزاعًا إلى الخير، ولكني كنت وأنا أبحث عن الخير شابًّا تعمر العاطفة قلبه ويعيش في عزلة عن الناس، وكلما حاولت أن أعبر عن هذه الرغبة الخالصة في نفسي — وهي رغبة طيبة من الناحية الخلقية — قوبلت بالسخرية والازدراء، وكلما استسلمت للعواطف الدنيئة قوبلت بالثناء والتشجيع.
إن الناس يُقدِّسون الطموح وحب السلطان والطمع وحب الشر والكبر والغضب والانتقام، فلما خضعت لهذه الشهوات صرت كغيري من الرجال وشعرت أنهم عني راضون، وكنت أسكن مع عمة لي شفيقة، وهي وإن تكن من أطهر الناس ذيلًا إلا أنها كانت دائمًا تقول لي إنه ليس أحب إلى نفسها من أن ينشأ بيني وبين امرأة متزوجة نوع من العلاقات، كانت تقول: «لا يكوِّن الشابَّ شيء مثل ما يكوِّنه القرب من سيدة من بيت كريم»، وكانت عمتي كذلك تتمنى لي السعادة بأن أكون سكرتيرًا حربيًّا لرجل من عظماء الرجال، وليكن الإمبراطور إن أمكن ذلك، ولكن أكبر سعادة لي في عينها كانت في الزواج من فتاة ثرية جدًّا حتى أصبح مالكًا لأكبر عدد ممكن من العبيد.
ولست أستطيع أن أعود بذاكرتي إلى تلك السنوات دون أن أحس بالفزع والمقت وألم النفس الشديد، فلقد قتلت الرجال في الحروب، وتحديت الكثيرين إلى المبارزة كي أقضي على حياتهم، وقامرت وخسرت، واستغللت مجهود الفلاحين، وحكمت عليهم بمختلف العقوبات، وعشت عيشة إباحية وخدعت الناس، واقترفت كل الآثام — الكذب والسرقة والزنا بكل ضروبه، وشرب الخمر، واستخدام العنف والقتل، وقد أثنى الناس على سلوكي في كلِّ هذا، ويعتبرني المعاصرون رجلًا كريم الخلق بالنسبة إليهم.
وهكذا عشت عشر سنوات.
وفي غضون ذلك شرعت أكتب مدفوعًا بالغرور والطمع والكبر، وفعلت في كتابتي ما فعلت في حياتي، فلكي أظفر بالشهرة والمال — ومن أجلهما كنت أكتب — كان لزامًا عليَّ أن أخفي الخير وأُظهر الشر، وهذا ما فعلت، فلكم حاولت فيما كتبت أن أخفي تحت ستار من عدم الاكتراث أو السخرية ذلك النضال القائم بنفسي الذي يُحفزني إلى الخير، والذي يُعطي لحياتي معنًى ومغزًى، وقد نجحت فيما كتبت وظفرت بالثناء.
ولما بلغت السادسة والعشرين من عمري عدت إلى بطرسبرج بعد الحرب، وهناك التقيت بالكتاب، فاستقبلوني كواحد منهم وقابلوني بالنفاق، وقبل أن يتوفر لي الوقت للمشاهدة اعتنقت آراء المؤلفين الذين خالطتهم، وهذه الآراء في الحياة محت محوًا تامًّا كل محاولاتي السابقة في تهذيب نفسي، فلقد أمدتني هذه الآراء بنظرية بررت لي انحلال حياتي.
وهذه هي معتقدات هذه الفئة من الناس — أقصد زملائي في التأليف — في الحياة: كانوا يعتقدون أن الحياة في جملتها تتطور، وأننا نحن رجال الفكر نلعب أكبر دور في هذا التطور، وأن الفنانين والشعراء من بين رجال الفكر هم أصحاب النفوذ الأكبر، مهمتنا في الحياة أن نُعلِّم الناس، فإن سأل سائل هذا السؤال المطروق «ماذا أَعلَم، وماذا أستطيع أن أُعَلِّم؟» أجابوه أن هذا — بناء على نظريتهم — أمر ليس من الضروري أن يُعرف، فالفنان والشاعر يعلم غيره دون أن يشعر بذلك، وكانوا يعدونني فنانًا وشاعرًا من الطراز الأول، فكان من الطبيعي جدًّا لي أن أعتنق نظريتهم، فكنت كفنانٍ وشاعرٍ أكتب وأُعلِّم دون أن أدري أنا نفسي ماذا أعلم، وكنت من أجل ذلك أتقاضى الأجور، فأستمتع بشهيِّ الطعام وبالمأوى والنساء والمجتمع، وظفرت بالشهرة التي دلَّت على أنني كنت أُعلِّم شيئًا له قيمة كبرى.
وهذه العقيدة في معنى الشعر وفي تطور الحياة كانت دينًا وكنت أحد المبشرين به، والتبشير به كان محببًا إلى نفسي يدر عليَّ مالًا وافرًا، وعشت على هذه العقيدة دهرًا دون أن أشك في صحتها، ولكني بدأت في العام الثاني — وفي العام الثالث خاصةً — من هذه الحياة أشك في نزاهة هذا الدين، كما بدأت أن أفحص حقائقه، وكان أول ما دعاني إلى الشك أني بدأت ألحظ أن المبشرين بهذا الدين لم يكونوا جميعًا على رأي واحد، فبعضهم يقول: نحن خير المعلمين وأكثرهم نفعًا، فنحن نعلِّم المطلوب، ويعلِّم غيرنا الأخطاء، ويقول بعضهم الآخر: كلا! نحن المعلمون الحقيقيون، وإنما أنتم تعلمون الخطأ، فهم يتنازعون ويتشاجرون ويتسابون ويحتالون ويخدع بعضهم بعضًا، وكان بيننا كذلك كثيرون لم يعبئوا من أصاب ومن أخطأ، ولا يهمهم إلا أن يحققوا أطماعهم بهذا الضرب من النشاط الذي نشطناه، وقد اضطرني كل ذلك إلى الشك في صحة ما كنا نعتقد فيه.
وما إن بدأت — فوق ذلك — في الشك في صحة عقيدة المؤلفين نفسها حتى بدأت كذلك أرقب المبشرين بها عن كثب، واقتنعت أخيرًا بأن كل المبشرين بهذا الدين تقريبًا — أقصد الكُتاب — كانوا قومًا لا خلاق لهم، وأن أكثرهم ذوو شخصيات وضيعة تافهة، وأنهم أشد انحطاطًا من أولئك الذين قابلتهم من قبل في حياتي الحربية المنحلة، غير أنهم كانوا على ثقة من أنفسهم، راضين عن أنفسهم، ولا يكون كذلك إلا رجل غاية في القداسة، أو رجل لا يعرف ما هي القداسة، فثارت نفسي ضد هذه الطائفة من الناس، وثرت ضد نفسي، وأدركت أن تلك العقيدة كانت خداعًا.
ومن عجب أني أدركت هذا الخداع ونبذته، ولكني لم أنبذ ذلك اللقب الذي خلعته عليَّ هذه الفئة من الناس، وأقصد لقب الفنان والشاعر والمعلم، وبلغت بي السذاجة أني تصورت أني شاعر وفنان وأني أستطيع أن أُعلِّم الناس جميعًا دون أن أعرف ماذا أعلم، وسلكت مسلكًا يتفق وهذا التصور.
وأكسبتني عشرتي لهذه الطائفة رذيلة جديدة: وتلك أني زدت استكبارًا إلى درجة الشذوذ، واستولت عليَّ عقيدة جنونية أن مهمتي أن أُعلِّم الناس دون أن أعرف ماذا أعلِّم.
وأني لأحزن وأفزع وأسخر من نفسي، بل إني ليثور في نفسي إحساس يشبه كل الشبه ذلك الإحساس الذي يستولى على المرء في مستشفى المجانين، حينما أعود بذاكرتي إلى ذلك العهد، وأذكر حالتي العقلية وحالة أولئك الناس (بالرغم من أن ألوفًا من هذا الطراز يعيشون بيننا اليوم).
كنا إذن جميعًا في ذلك الحين مقتنعين بضرورة الخطابة والكتابة، وبضرورة إخراج الكتب بأسرع ما يمكن وبأكثر ما يمكن، وأن ذلك كله مطلوب لصالح البشر، وقد ألَّفت الألوفُ منا الكتب وطبعوها لكي يعلِّموا الناس، برغم ما كان بيننا من خلاف وبرغم ما كنا نتبادل من ألفاظ السباب، ولم ندرك أننا لم نعرف شيئًا وأننا لا نستطيع الإجابة عن أبسط سؤال في الحياة: ما الخير وما الشر؟ ولكنا جميعًا — برغم ذلك — صممنا آذاننا عما يقوله بعضنا، وتكلمنا في وقت واحد، حينًا نؤيد ما يقوله الآخرون ونثني عليهم لكي نظفر منهم بالثناء والتأييد، وحينًا متغاضبين — كأننا في مستشفى من مستشفيات المجانين.
وألوف العُمَّال يبذلون أقصى الجهد، ويعملون ليلًا ونهارًا، يرصون الحروف ويطبعون ملايين الكلمات التي يحملها البريد إلى أنحاء الروسيا جميعًا، ونحن لا نكف عن التعليم، ولا يتسع لنا الوقت بأي حال من الأحوال لأن نُعلِّم الناس ما يكفيهم، ولا نفتأ نغضب لأننا لا نلقى من الناس ما يكفي من التنبه والالتفات.
كان ذلك أمرًا عجبًا، ولكنه اليوم أمر مفهوم، ذلك أننا كنا في أعماق نفوسنا نحب أن نظفر من المال والثناء بقدر ما نستطيع، ولكي نحقق هذا الغرض لم نستطع إلَّا أن نؤلف الكتب ونكتب في الصحف، وهذا ما فعلنا ولكننا لكي نقوم بهذا العمل الذي ليس من ورائه جدوى ولكي نشعر في الوقت نفسه بأننا قوم لهم أهميتهم في المجتمع كان لا بُدَّ لنا من نظرية تبرر ما نبذل من جهد؛ ولذلك فقد صغنا هذه النظرية فيما بيننا، قلنا «إن كل ما هو كائن معقول، وإن كل كائن يتطور، وأن الكائنات جميعًا تتطور عن طريق الثقافة، والثقافة تُقاس بمقدار انتشار الكتب والصحف، ونحن نحصل على المال ونظفر باحترام الناس لأننا نؤلف الكتاب ونُحرر الصحف، وإذن فنحن أنفع الناس وخيرهم جميعًا» ولا بأس من هذه النظرية لو اتفقنا في الرأي، ولكن أحدنا يعبر عن فكرة ما ويعبر الآخر عن فكرة تعارضها كل المعارضة، وإذن فأمرنا يحتاج إلى التدبر، بيد أننا أهملنا ذلك، فالناس يدفعون لنا المال، ومن ينضم إلينا في الرأي يكيل لنا الثناء؛ ولذا فقد كان كل منا يبرر موقفه.
ويتضح لي الآن بجلاء أننا كنا في حالة لا تختلف عن مستشفى المجانين في شيء، ولكني في ذلك الحين لم تساورني إلا ريبة غامضة، وكنت أحسب الناس جميعًا مجانين، وليس فيهم عاقل سواي، شأني في ذلك شأن كل مجنون.
•••
ولم ألحظ ذلك حينئذ: إنما كنت بين الحين والآخر — وبدافع الغريزة لا بدافع العقل — أثور على هذه الخرافة الشائعة في ذلك العصر، وهي الخرافة التي يخفي بها الناس عن أنفسهم عجزهم عن فهم الحياة … ومثال ذلك أني إبان إقامتي في باريس شهدت منظر تنفيذ الإعدام، فتبيَّن لي مما شهدت أن عقيدتي الخرافية في التقدم لا تقوم على أساس ثابت، رأيت الرأس ينفصل عن الجسد، ورأيتهما يُلقى بهما معًا في صندوق فأدركت بكل كياني — لا بعقلي — أن كل نظرياتنا عن التقدم في عصرنا لا تبرر هذه الفعلة الشنعاء، كما أدركت أن هذا العمل شيء لا ضرورة منه حتى إن رآه ضروريًّا كل إنسان من بدء الخليقة وبرَّره بأية نظرية من النظريات، وإذن فالحَكَم الذي يفصل بين الخير والشر ليس ما يقول الناس وما يعملون، وليس عقيدتهم في التقدم، إنما هو قلبي وهو أنا، وقد كان موت أخي مثالًا آخر يثبت أن العقيدة الخرافية في التقدم لا تكفي هاديًا لنا في الحياة، كان عاقلًا، طيبًا، رزينًا، ثم أصابه المرض وهو لا يزال في ريعان الشباب، وظل يعاني السقام عامًا كاملًا، ثم مات ميتة أليمة دون أن يفهم لماذا كان يعيش، بل دون أن يفهم لماذا لا بُدَّ له أن يموت ولم يجد — ولم أجد مثله — نظرية من النظريات تجيب عن هذه الأسئلة خلال موته البطيء الأليم، ولم تكن هذه سوى أمثلة نادرة من الشك، ولقد واصلت حياتي فعلًا معلنًا إيماني في التقدم، وكان ينبغي لي في ذلك الحين أن أصوغ عقيدتي في هذه العبارة «كل شيء يتطور، وأنا أتطور معه: أما لماذا أتطور مع كل شيء فسوف أدركه في يوم من الأيام.»
وعند عودتي من الخارج استقر بي المقام في الريف، وحدث أني شغلت نفسي بالمدارس الريفية، وكان هذا العمل يلائم ذوقي بنوع خاص؛ لأنه لم يتطلب مني أن أواجه المغالطة التي اتضحت لي ومَثُلت أمام ناظريَّ عندما حاولت تعليم الناس عن طريق الأدب، وكنت الآن كذلك أعمل باسم «التقدم»، ولكني بدأت أنظر إلى نظرية التقدم نظرة نقدية، قلت لنفسي «إن التقدم في بعض نواحي تطوره قد سار سيرًا خاطئًا، والمرء لا بُدَّ له مع أطفال الفلاحين السذج أن يعمل بروح الحرية المطلقة، فيمكنهم من اختيار طريق التقدم الذي يحبون»، وفي الواقع كنت دائمًا أدور حول مشكلة واحدة لا تُحل، وتلك هي: كيف يعلِّم المرء دون أن يعلم ماذا يعلم، لقد أدركت أثناء اشتغالي بالدوائر العليا للنشاط الأدبي أن المرء لا يستطيع أن يعلم دون أن يعلم ماذا يعلِّم؛ لأني رأيت الناس جميعًا يعلمون أشياء مختلفة، ويتنازعون بين أنفسهم فلا يفلحون إلا في إخفاء جهلهم بعضهم من بعض، ولكني هنا مع أبناء الفلاحين فكرت في تحاشي هذه الصعوبة بأن جعلتهم يتعلمون ما يحبون، وإني لأسخر الآن من نفسي حين أذكر كيف كنت أتعثر وأنا أحاول أن أشبع رغبتي في تعليم الناس في حين أني في أعماق نفسي كنت أعرف جيدًا أني لا أستطيع أن أعلِّم غيري شيئًا مما يحتاجه لأني لم أكن أعرف ما يحتاج، وبعد أن قضيت عامًا في العمل المدرسي رحلت إلى الخارج مرة أخرى لأكتشف كيف أعلِّم الآخرين دون أن أعلم شيئًا.
وبقيت عامًا كاملًا أشتغل بالتحكيم وبالمدارس والمجلة، وبلغ مني الإنهاك مبلغه — نتيجة لاضطرابي العقلي بصفة خاصة — وكنت كحَكَمٍ أكافح كفاحًا شديد، ونتيجة نشاطي في المدارس غامضة مظلمة، ومجهودي في المجلة كريه ممقوت (وكنت من وراء كل ذلك أرمي إلى غرض واحد: وذلك أن أعلم الناس جميعًا، وأن أخفي أني لم أعرف ماذا أعلِّم) أنهكني هذا الجهد حتى أصابتني العلة في عقلي أكثر مما أصابتني في جسدي، فنبذت كل شيء، وفررت إلى أهل بشكير في مراعيهم؛ كي أستنشق الهواء العليل، وأحتسي شرابهم (وهو شراب مخمر مجهز من لبن الفرس) وكي أحيا حياة حيوانية بحتة.
وتزوجت بعد عودتي من بشكير، وقد صرفتني الظروف الجديدة للحياة العائلية السعيدة تمامًا عن كل بحث عن المعنى العام للحياة، وتركزت حياتي كلها في ذلك الحين في أسرتي وزوجتي وأطفالي — ومن ثم تركزت في عنايتي بالتزود من وسائل العيش، وشغلني جهدي لمجرد تهيئة أنسب الظروف الممكنة لحياتي وحياة أسرتي عن الجهاد في سبيل كمال النفس الذي استبدلت به بعد فترة الجهاد في سبيل الكمال عامة — وهو الجهاد في سبيل «التقدم».
وهكذا انقضت خمس عشرة سنة أخرى.
وبرغم أني أصبحت أنظر إلى التأليف كأنه عديم الأهمية ثابرت على الكتابة خلال هذه الأعوام الخمسة عشر، وقد ذقت من قبل الإغراء بالتأليف: وهو الإغراء بالجزاء المالي العظيم والثناء على ذلك العمل التافه، فكرست نفسي له كوسيلة لرفع مستواي المادي والقضاء في نفسي على كل سؤال ينشأ عن معنى حياتي الخاصة أو عن معنى الحياة عامةً.
فواصلت الكتابة أبث بين السطور ما كنت أعتبره الأمر الوحيد الصادق: وهو أن يحيا المرء لكي يظفر بأكثر ما يستطيع لنفسه ولأسرته.
هكذا عشت، ولكن منذ خمس سنوات حدث لي أمر عجيب جدًّا، كانت تمر بي في مبدأ الأمر لحظات من الحيرة والارتباك في الحياة، كأني لم أعرف كيف أعيش أو ماذا أعمل، وأصابني الخور والاكتئاب، ثم انقشعت هذه السحابة المظلمة، وواصلت العيش كما كنت أفعل من قبل، ثم عاودتني لحظات الحيرة أكثر من ذي قبل، وكانت تتخذ دائمًا صورة واحدة، وأرَّق جنبيَّ هذا السؤال: لماذا كل هذا؟ وإلامَ يؤدي بنا؟
وبدا لي أول الأمر أن هذا السؤال وما يشبهه نابٍ لا يؤدي إلى غرض، وظننت الأمر جليًّا واضحًا، وأني إن أردت أن أجد للمشكلة حلًّا فإن ذلك لا يكلفني جهدًا كبيرًا، إلا أن الوقت لم يتوفر لي في تلك اللحظة الراهنة، وليس أيسر لي من أن أجد لسؤالي جوابًا إن أنا أردت ذلك، وأخذت هذه الأسئلة تخطر لي في فترات متقاربة، وألحت عليَّ إلحاحًا بحيث لم يعد لي مندوحة عن الإجابة عنها، وأضحت كقطرات المداد تسقط في مكانٍ واحدٍ فتتجمع حتى تصبح بقعة واحدة سوداء.
وحدث لي ما حدث لكل من يقض مضجعه مرض باطني قاتل، تبدو على المريض أولًا أعراض طفيفة من التوعك لا يعيرها التفاتًا، ثم يتكرر ظهور هذه الأعراض حتى تصبح فترة واحدة متصلة من العناء والألم، ويشتد الألم، وقبل أن يستطيع العليل أن يلتفت حواليه يجد أن ما كان يحسبه توعكًا طفيفًا قد بات لديه أهم شيء في الحياة، إنه الموت!
وأحسست أن ما كنت أستند إليه قد انهار، وأني لم أعد أجد لي عمادًا، إن ما عشت من أجله لم يَعُد له وجود، ولم يبق لي في الحياة غرض.
•••
آلت حياتي إذن إلى الركون، فكنت أتنفس وآكل وأشرب وأنام، ولم يكن لي بدٌّ من ذلك، ولكن لم يكن للحياة عندي وجود؛ لأني لم تكن لديَّ رغبات أستطيع أن أعتبر تحقيقها أمرًا معقولًا، إن رغبت في شيء، أدركت سلفًا أني سواء أشبعت رغبتي أم لم أشبعها لن أظفر من ورائها بطائل، ولو أن جنية هبطت إليَّ وتطوَّعت بتحقيق رغباتي لما عرفت ماذا أطلب، وإن كنت في لحظات النشوة أحس بشيءٍ إن لم يكن رغبة فهو عادة خلَّفتها الرغبات السابقة، فإني في لحظات الصحو أدرك أن هذه الرغبة وهم باطل وأن ليس لي في الواقع ما أشتهيه، بل إني لم أرغب حتى في معرفة الحقيقة لأني أدركت ما تنطوي عليه، وكنت أشبه شيء برجل أمعن في مسيره حتى بلغ حافة جبل شديد الانحدار فرأى بجلاء أنه لم يَعُد أمامه غير الهلاك، وكان يستحيل عليَّ أن أقف، ويستحيل عليَّ أن أتقهقر، ويستحيل عليَّ أن أغمض عيني، أو أن أغض الطرف عن هذه الحقيقة: وهي أنه لم يبق أمامي سوى الألم والموت المحقق — وذلك هو الهلاك المطلق.
كنت إذن رجلًا سليم الجسم موفور الثراء، ومع ذلك أحسست أني لا أستطيع مواصلة العيش، ودفعتني قوة لا تقاوم إلى أن أخلص نفسي من الحياة بطريقة ما، ولا أستطيع أن أقول إني «رغبت» في الانتحار، ولكن القوة التي كانت تجذبني بعيدًا عن الحياة كانت أقوى وأعظم وأبعد مدى من أية رغبة أخرى، وهي شبيهة بقوة الجهاد السابق في سبيل الحياة، غير أنها تسير في اتجاه مضاد، جذبتني كل قوتي بعيدًا عن الحياة، وتواردت على ذهني خواطر الموت بصورة طبيعية كما تواردت على خاطري من قبل الأفكار المختلفة عن كيفية إصلاح حياتي، وكانت هذه الخواطر الجديدة شديدة الإغراء حتى كان لزامًا عليَّ أن أكون لبقًا مع نفسي خشية أن أتسرع في إخراجها إلى حيز التنفيذ، ولم أشأ أن أتعجل؛ لأني أردت أن أستخدم كل جهد لحل المشكلة، وقلت لنفسي «إن لم أستطع توضيح الأمور فسوف يكون لديَّ دائمًا متسع من الوقت» وفي ذلك الحين — وأنا رجل حباني الحظ السعيد — أخفيت عن نفسي حبلًا خشية أن أشنق نفسي به على حامل وسط غرفتي كنت أخلع عليه ملابسي وحيدًا كل مساء. وامتنعت عن الخروج للصيد بالبندقية خشية هذه الطريقة اليسيرة للقضاء على حياتي، ولم أعرف أنا نفسي ماذا أريد، كنت أخشى الحياة، وأرغب في الفرار منها، ومع ذلك كنت أرجو من ورائها شيئًا ما.
وحلَّ بي كل هذا في وقت كان يحوطني فيه من كل جانب ما يعتبره الناس الحظ الكامل السعيد، فلم أبلغ بعدُ الخمسين، وكانت لي زوجة طيبة تحبني وأحبها، وأطفال طيبون، وضيعة واسعة تتحسن وتتسع رقعتها دون أن أبذل فيها جهدًا كبيرًا من جانبي، وكان أقاربي ومعارفي يحترمونني أكثر من أيِّ وقت سبق، وأطرى عليَّ الناس، وكنت أستطيع — دون أن أخدع نفسي كثيرًا — أن أعتبر اسمي ذائع الصيت، ولم أكن البتة مجنونًا أو مريض العقل، بل على العكس من ذلك كنت أتمتع بقوة ذهنية وبدنية قلَّما صادفتها بين أضرابي من الرجال، فكنت أستطيع من الناحية البدنية أن أجاري الفلاحين وهم يحصدون الزرع، وكنت أستطيع من الناحية العقلية أن أعمل ثماني أو عشر ساعات متواصلات دون أن أشكو وخيم العواقب من هذا الإجهاد، وانتهيت وأنا في هذا الموقف إلى أني لا أستطيع العيش، ولما كنت أخشى الموت كان لا بُدَّ لي أن أمكر مع نفسي كي أتجنب الانتحار.
وتبدَّت لي حالتي العقلية في هذه الصورة: ليست حياتي سوى مهزلة سخيفة يمثلها معي شخص آخر، حاقدًا عليَّ كائدًا لي، ومع أني لم أعترف «بشخص ما» خلقني فإن هذه الصورة — وهي أن شخصًا ما يمثل معي مهزلة شريرة سخيفة بوضعه إيَّاي في هذه الدنيا — هي التي كانت تعبر عما في نفسي تعبيرًا طبيعيًّا.
وبدا لي — بغير قصد — أن هناك في مكان ما شخصًا يلهو بمشاهدة الطريقة التي عشت بها ثلاثين أو أربعين عامًا: وأنا أتعلم وأتطور وأبلغ رشدي جسمًا وعقلًا، كما يلهو بمشاهدتي — وقد بلغت الرشد العقلي فصعدت إلى قمة الحياة حتى انبسطت أمامي جميعها، ووقفت فوق تلك القمة كالأبله أرى بجلاء أن الحياة فارغة لا شيء فيها، ولم يكن ولن يكون فيها شيء ما، وقد سره بالفعل مرآي …
ولم أدرِ إن كان ذلك «الشخص» الذي يسخر مني موجودًا أو غير موجود، ولم أستطع أن أرى معنى معقولًا لأيِّ عملٍ منفردٍ من أعمالي، أو لحياتي بأسرها، وإنما أدهشني أني استطعت أن أتجنب فهم ذلك من بادئ الأمر — وقد عرفه الناس أجمعون من زمان بعيد، واليوم أو غدًا يحل المرض والموت بي أو بمن أحب (وقد حلَّا بالفعل)، ولا يبقى إلا النتن والدود، وسوف تتردى في وهدة النسيان — إن عاجلًا أو آجلًا — شئوني جميعًا مهما تكن، وسوف لا يكون لي وجود، وإذن فلماذا أواصل بذل المجهود؟ … وكيف لا يستطيع المرء أن يرى هذه الحقيقة؟ وكيف يواصل العيش؟ إن هذا لأمر عجب! إن المرء لا يستطيع أن يحيا إلا وهو ثمل بنشوة الحياة، فإذا ما صحا استحال عليه ألا يرى أن الأمر كله خداع في خداع! هذا كل ما في الأمر، وليس فيه ما يتسلى به المرء أو يلهو، والحياة كلها سخف وقسوة.
روي في الأساطير الشرقية من زمان بعيد أن وحشًا هائجًا أدرك رجلًا مسافرًا في البيداء، واستطاع المسافر أن يفر من الوحش ولكنه وقع في بئر جافة، ورأى في أسفل البئر أفعى فتحت فكيها لتلتهمه، ولم يجرؤ المسكين أن يخرج من البئر خشية أن ينقض عليه الوحش الكاسر، ولم يجرؤ أن يقفز إلى قاع البئر خشية أن تلتهمه الأفعى، فأمسك بغصن نما في شق في جدران البئر وتعلَّق به، وكلَّت يداه، وأحس أن لا بُدَّ له من أن يستسلم عاجلًا إلى الهلاك الذي ينتظره في أسفل البئر أو أعلاها، ولكنه ما فتئ يتعلق بالغصن، ثم رأى فأرين، أحدهما أبيض والآخر أسود، يدوران بانتظام حول ساق الغصن الذي تعلق به ويقرضانه قرضًا، ولا بُدَّ للغصن من أن ينكسر بعد فترة فيسقط بين فكي الأفعى، رأى المسافر ذلك وأدرك أن لا مناص له من الهلاك، وتلفت حواليه وهو لا يزال متعلقًا بالغصن فرأى بضع قطرات من العسل فوق أوراق الغصن، فمدَّ إليها لسانه ليلعقها، وهكذا تعلقت بغصن الحياة وأنا أعلم أن أفعى الموت تنتظرني ولا مفر منها، تتأهب لتمزقني إربًا إربًا، ولم أستطع أن أفهم لماذا وقعت في مثل هذا العذاب، وحاولت أن ألعق العسل الذي كنت أتعزَّى به من قبل، ولكن العسل لم يَعُد يمتعني، والفأران الأبيض والأسود — وهما الليل والنهار — يقرضان الغصن الذي أتعلق به، وكنت أرى الأفعى بوضوح وجلاء، ولكن العسل لم يعد حلو المذاق: ولم أرَ سوى الأفعى التي لم يكن منها مناص والفأرين، ولم أستطع أن أبعد عنها ناظريَّ، وليست هذه بالأسطورة، ولكنها الحقيقة الواقعة التي لا حل لها والتي يدركها كل إنسان.
ولم تعد تخدعني مسرات الحياة الموهومة التي كانت فيما سلف تخفف من فزعي من الأفعى، وكم قيل لي «إنك لا تستطيع أن تدرك معنى الحياة، فلا تفكر فيها، ويكفيك أن تعيش» ولكن ذلك القول لم يجدني فتيلًا، ولم أستطع أن أحيا دون أن أدرك معنى الحياة كما فعلت من قبل أمدًا طويلًا، ولم يسعني الآن إلا أن أرى الليل والنهار يتعاقبان ويسيران بي نحو الموت، هذا كل ما أراه؛ لأن ذلك وحده هو الحق، وكل ما عداه باطل.
ولم أعد أجد حلاوة في قطرتي العسل اللتين حولتا عيني عن الحقيقة المرة أكثر من أيِّ شيء آخر: وهما حبي لأسرتي وحبي للكتابة — أو للفن كما كنت أسميها.
وفكرت في «الأسرة» وقلت لنفسي إن أسرتي — زوجتي وأطفالي — هم كذلك من البشر، وهم في نفس الموضع الذي أنا فيه، ولا بُدَّ لهم من أحد أمرين: إما أن يعيشوا في أكذوبة أو يروا الحقيقة المرة، لماذا يعيشون، ولماذا ينبغي لي أن أحبهم وأن أرعاهم وأربيهم وأراقبهم؟ ألكي يصلوا إلى هذا اليأس الذي أحس به أو يكونوا أغبياء! ولما كنت أحبهم لم أستطع أن أخفي الحقيقة عنهم: وكل خطوة نخطوها في سبيل المعرفة تؤدي إلى إدراك الحقيقة، والحقيقة هي الموت.
ثم فكرت في الفن والشعر، وكانت نفسي — تحت تأثير النجاح والثناء الذي ظفرت به — قد اطمأنت كثيرًا إلى أن المرء يستطيع أن يمارس الفن رغم اقتراب الموت — ذلك الموت الذي يُهلك كل شيء حتى مؤلفاتي وذكراها — ولكني سرعان ما أدركت أن ذلك كذلك خداع، واتضح لي أن الفن زينة للحياة ومما يغري بها، بيد أن الحياة فقدت جاذبيتها عندي، وإذن فكيف أستطيع أن أجتذب الآخرين؟ ولما كنت فيما مضى لا أحيا حياتي الخاصة، وإنما أحمل على أمواج حياة أخرى — ولما كنت كذلك أعتقد أن للحياة معنى، وإن كنت لا أستطيع التعبير عنه — فإن انعكاس الحياة في الشعر والفن بكل ضروبه كان يدخل السرور إلى قلبي، فكان يسرني أن أنظر إلى الحياة في مرآة الفن، ولكني لما بدأت أبحث عن معنى الحياة، وأحسست بالضرورة إلى أن أحيا حياتي الخاصة، أصبحت تلك المرآة بالنسبة إلي غير ضرورية، زائدة عن الحاجة، بل باتت شيئًا يدعو إلى السخرية ويبعث على الألم، ولم أعد أستطيع أن أهدئ نفسي بما أرى في المرآة — وذلك هو أن موقفي سخيف يدفع إلى اليأس، كنت أستمتع بما أشاهد في المرآة حينما كنت أعتقد في أعماق نفسي أن لحياتي معنى، حينئذٍ كان يسرني ما يعتور الحياة من أسباب اللهو والمآسي وما يمازجها من شعور وجمال وفزع، ولكني — لما أدركت أن الحياة مفزعة خلو من المعنى — لم تعد تسرني الصور التي تنعكس في المرآة، لم تعد حلاوة الشهد عذبة المذاق وأنا أشهد الأفعى وأشهد الفيران تقضم عمادي وسندي.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فلو أني أدركت أن الحياة تخلو من المعنى واكتفيت بهذا لاحتملت الحياة صابرًا وعلمت أن هذا هو نصيبي منها، ولكني لم أقنع بذلك، ولو أني كنت كالرجل الذي يعيش في الغابة ويعلم أن ليس منها مخرج لاستطعت أن أعيش، ولكني كنت كرجل ضلَّ في الغابة، فلما فزع لضلاله انطلق هنا وهناك محاولًا أن يجد الطريق إلى الخلاص، وهو يعلم أن كل خطوة يخطوها تزيده ارتباكًا واضطرابًا، ولكنه مع ذلك لا يسعه إلا أن يتخبط في المسير.
حقًّا لقد كان الأمر يدعو إلى الهلع الشديد، ولكي أخلِّص نفسي من هذا الفزع أردت أن أقتل نفسي، كنت أكابد الفزع مما ينتظرني — وكنت أعلم أن ذلك الفزع أشد هولًا مما كنت فيه، غير أني — مع هذا — لم أستطع أن أنتظر النهاية صابرًا، وحاولت أن أقنع نفسي أنه إذا انقطع في قلبي شريان، أو إذا انفجر شيء في جوفي، أو إذا حدث ما يشبه هذا، فإن حياتي سوف تنتهي على أية حال، ولكني — برغم ذلك — لم أستطع أن أصبر حتى هذه النهاية الطبيعية، وكان فزع الظلام شديدًا جدًّا، وأحببت أن أحرر نفسي منه بأسرع ما استطعت شنقًا أو رميًا بالرصاص، هذا هو الشعور الذي جذبني بشدة نحو الانتحار.
•••
وكررت لنفسي هذه العبارة «ولكني ربما سهوت عن شيء أو أسأت الفهم، إذ لا يمكن أن تكون هذه الحالة من اليأس من طبيعة الإنسان!» وأخذت أتلمس حل هذه المشاكل جميعًا في كل فروع المعرفة التي اكتسبها الإنسان، وظللت طويلًا أكد في البحث، لا مدفوعًا بمجرد الرغبة الهينة في التطلع والمعرفة، أو بشيء من عدم الاكتراث، وإنما كنت دائب البحث مصرًّا عليه، لا أنِي عنه صباحًا ولا مساءً، وكنت كالرجل بين فكي الموت يبحث عن النجاة — غير أني لم أعد بطائل.
بحثت في كل العلوم، ولكني لم أظفر بما أردت، بل اقتنعت بأن كل من كان مثلي يبحث في المعارف الإنسانية عن معنى الحياة لا يجد مثلي شيئًا، لم أظفر بشيء، ولم يكن هذا كل ما في الأمر، ولكني أيقنت يقينًا لا شك فيه أن الأمر الذي دفعني إلى اليأس — وأقصد خلو الحياة من المعنى — هو ذاته الشيء الوحيد الذي لا يعتريه شك والذي يستطيع أن يعرفه الإنسان.
بحثت في كلِّ مكان، وحيث إني قضيت حياتي في العلم، وحيث إني كنت كذلك شديد الصلة بعالم البحث العلمي، فقد تيسر لي أن أتصل بالعلماء والباحثين في كل فروع المعرفة، وقد أطلعوني — راغبين — على كل معارفهم، لا في الكتب وحدها ولكن في أحاديثهم كذلك حتى كان بين يدي كل ما يقوله العلم في هذه المشكلة الحيوية.
وبقيت طويلًا لا أستطيع أن أصدق أن العلم لا يجيب عن مشكلة الحياة بأكثر مما يقدم لنا فعلًا، وبدا لي من زمان بعيد — حينما رأيت صفة الجد والأهمية التي يعلن بها العلم نتائجه، وهي نتائج لا علاقة لها البتة بمشاكل الحياة الإنسانية الحقيقية — بدا لي أن هناك شيئًا لست أفهمه، لقد طال إحساسي بالجبن أمام العلم، وبدا لي أن انعدام التوافق بين ما يجيب به وما أسأل عنه لا يرجع إلى نقص في العلم، وإنما يرجع إلى جهلي، غير أن الأمر بالنسبة إليَّ لم يكن لهوًا ولا لعبًا، وكانت المسألة مسألة حياة أو موت، وانتهيت — كرهًا — إلى الاعتقاد بأن أسئلتي هي وحدها الأسئلة المشروعة التي على أساسها تقوم المعارف كلها، كما انتهيت إلى الاعتقاد بأني لا يصح أن أُلام على أسئلتي، وإنما على العلم تقع اللائمة إن كان يزعم أنه يجيب عنها.
إن سؤالي الذي حفزني إلى حافة الانتحار وأنا في الخمسين من عمري كان أيسر الأسئلة جميعًا، وهو يتردد في صدر كل إنسان من الطفل الغر إلى الراشد الحكيم: هو سؤال لا يستطيع المرء أن يحيا دون أن يجيب عنه — كما تبيَّن لي من تجاربي، ذلك السؤال هو: «ما وراء ما أفعل اليوم أو ما سوف أفعل في غدي — بل ما وراء حياتي كلها؟»
وأستطيع أن أعبر عن السؤال بصيغة أخرى فأقول: «لماذا ينبغي لي أن أعيش، ولماذا أرغب في أي شيء أو أعمل أي شيء؟» وأستطيع كذلك أن أعبر عن السؤال بهذه العبارة: «هل في حياتي معنى لا يهدمه الموت الذي لا مفر منه والذي ينتظرني؟»
وقد بحثت في العلم عن جواب لهذا السؤال الوحيد الذي عبرت عنه بصيغ مختلفة، ووجدت أن المعارف الإنسانية كلها بالنسبة إلى هذا السؤال تنقسم إلى ما يُشبه نصفي الكرة التي تجد في طرفيها قطبين، أحدهما سالب والآخر موجب، ولم أهتد عن هذا القطب أو ذاك إلى حل لمشاكل الحياة.
ذلك أن مجموعة من مجموعات العلم لا تعترف بالمشكلة فيما يظهر، ولكنها تجيب بوضوح ودقة عن أسئلتها الخاصة المستقلة، وتلك هي مجموعة العلوم التجريبية، وعلى قمة هذه المجموعة علوم الرياضة، أما المجموعة الأخرى فتعترف بالمشكلة ولكنها لا تجد لها حلًّا، وتلك هي مجموعة العلوم المعنوية، وفوق قمتها الميتافيزيقا (أو علوم ما وراء الطبيعة).
وقد شغفت منذ حداثتي بالعلوم المعنوية، وجذبتني العلوم الرياضية والطبيعية فيما بعد، وقد قنعت بالإجابات المزيفة التي قدمتها لي هذه العلوم إلى أن تحدد السؤال في ذهني وإلى أن تضخم هذا السؤال في نفسي وبات يتطلب الجواب الحاسم السريع.
قلت لنفسي في دائرة العلوم التجريبية: «إن كل شيء يتطور ويتنوع ويسير نحو التعقيد والكمال، ولهذه الحركة قوانينها التي تسيِّرها، وما أنت إلا جزء من كل، فإن أنت درست الكل بقدر ما تستطيع، وإن أنت درست قانون التطور، فهمت مكانتك في المجموع، وعرفت نفسك» ويخجلني أن أعترف الآن بأني اقتنعت بهذا الرأي في وقت من الأوقات، كان ذلك حينما كنت أنا نفسي أسير في طريق التعقيد والتطور، فكانت عضلاتي تنمو وتقوى، وكانت ذاكرتي تُغنى وتُثرى، وقدرتي على التفكير والفهم في ازدياد، وكنت أنمو وأتطور جملة وقد أحسست بهذا النمو في نفسي فكان من الطبيعي لي أن أعتقد أن ذلك هو القانون العالمي الشامل الذي ينبغي لي أن ألتمس فيه حلًّا لمشكلة حياتي، غير أن نموي الشخصي توقف بعد حين، وشعرت أني لا أزدهر، بل أذبل: فعضلاتي آخذة في الضعف، وأسناني تتساقط، ورأيت أن قانون التطور لا يفسر لي شيئًا، وليس ذلك فحسب، بل إن مثل هذا القانون لم يوجد ولن يوجد، وأدركت أني إنما جعلت مما وجدت في نفسي في فترة من فترات حياتي قانونًا ثابتًا، وأنعمت النظر في تعريف هذا القانون، واتضح لي أنه لا يمكن أن يكون هناك قانون للتطور الذي لا يقف عند حد، وبات من الجليِّ أن هذا القول: «إن كل شيء في الفضاء اللانهائي والزمان الذي لا يحد يتطور ويسير نحو الكمال والتعقيد والتنوع لا يدل على شيء»، إنما هذه كلمات لا تؤدي إلى معنى؛ لأن اللانهائي ليس به معقد ولا بسيط، وليس به تقدم أو تأخر، وليس به حسن أو قبيح.
وفوق كل هذا فإن سؤالي الشخصي «من أكون أنا بما يجيش في نفسي من رغبات؟» بقي بغير جواب، وأدركت أن هذه العلوم التجريبية شائقة جدًّا، جذابة جدًّا، ولكنها حينما تطبق على مشكلة الحياة تفقد دقتها ووضوحها، كلما بعدنا بهذه العلوم عن تطبيقها على مشكلة الحياة زادت دقة ووضوحًا، وكلما حاولنا أن نجيب بها عن مشكلة الحياة زادت غموضًا وإملالًا، وإذا نحن اتجهنا إلى ذلك القسم من العلوم الذي يحاول أن يجيب عن مسائل الحياة — أي إلى علم وظائف الأعضاء وعلم النفس وعلم الحياة وعلم الاجتماع — قابلنا فقرًا مريعًا في الفكر، وغموضًا شديدًا، وادعاءً لا مبرر له البتة لحل مشاكل بعيدة عن الموضوع، وتناقضًا متواصلًا بين كل ثقة في الموضوع وبين الثقات الآخرين أو حتى بينه وبين نفسه، وإذا نحن اتجهنا صوب فروع العلم التي لا تختص بحل مشكلة الحياة، ولكنها تجيب عن مسائلها العلمية الخاصة ابتهجنا لقدرة العقل الإنساني، ولكنا عرفنا سلفًا أنها لا تجيب عن مشاكل الحياة، إن هذه العلوم تكتفي بإهمال تلك المشاكل، ويقول علماؤها «ليس لدينا ما نجيب به عن هذا السؤال: من أنت ولماذا تعيش، وليس يهمنا ذلك، ولكنك إن أردت أن تعرف قوانين الضوء أو الاتحادات الكيمائية، أو قانون تطور الكائنات الحية، وإن أردت أن تعرف قوانين الأجسام وتركيبها، والعلاقة بين الأعداد والكميات، وإن أردت أن تعرف قوانين عقلك، فإن لدينا لكلِّ ذلك إجابات واضحة دقيقة مقطوعًا بصحتها.»
ونستطيع أن نعبر بوجه عام عن العلاقة بين العلوم التجريبية ومشكلة الحياة بهذه العبارة؛ السؤال: «لماذا أعيش؟» الجواب: «في الفضاء اللانهائي، وفي الزمان اللانهائي، تتغير أشكال الجزيئات المتناهية في الصغر إلى صور من التعقيد لا نهاية لها، فإن فهمت قوانين تغير الصور أدركت لماذا تعيش فوق الأرض.»
ثم قلت لنفسي في ميدان العلوم المعنوية «إن الإنسانية كلها تعيش وتتطور على أساس من المبادئ والمُثُل الروحية التي تهتدي بها، وهذه المثل تعبر عنها الديانات والعلوم والفنون وأشكال الحكومات، وهذه المثل ترتفع شيئًا فشيئًا، وتتقدَّم الإنسانية إلى أقصى سعادتها ورفاهيتها، وأنا جزء من الإنسانية، وإذن فمهمتي أن أدفع العلم بالمثل الإنسانية إلى الأمام وأن أعمل على تحقيقها»، وقد اقتنعت بذلك في وقت كنت فيه ضعيف العقل، ولكن عندما اتضحت مشكلة الحياة أمام عيني بجلاء تدهورت هذه النظريات في الحال، ولا داعي إلى أن أذكر ذلك الغموض الذي لا تمازجه الريبة والذي تعلن به هذه العلوم النتائج التي تصل إليها بعد دراسة جانب يسير من الإنسانية كأنها نتائج عامة، ولا داعي إلى أن أذكر التناقض القائم بين الطوائف المختلفة التي تؤمن بهذا الرأي وتتحمس له، فهم مختلفون في تحديد المثل الإنسانية، وأكتفي بأن أذكر أن غرابة النظرية — ولا أقول سخفها — تنحصر في أنك لكي تجيب عن هذا السؤال الذي يواجه كل إنسان «من أنا؟» أو «لماذا أعيش؟» أو «ماذا ينبغي أن أفعل؟» يجب عليك أولًا أن تجيب عن هذا السؤال «ما هي حياة المجموع» (وهي مجهولة له، ولا يعلم منها إلا قطرة يسيرة في فترة من الزمن قصيرة جدًّا)، إن المرء لكي يعلم ما هو يجب أولًا أن يفهم هذه الإنسانية الغامضة كلها، التي تتألف من أفراد مثله لا يفهم أحدهم الآخر.
ولا بُدَّ لي أن أعترف أنه قد مر بي وقت اعتقدت فيه ذلك، وكان ذلك عندما كانت لي مثلي العليا الخاصة التي أعتز بها والتي أبرر بها نزواتي، وكنت أحاول أن أصوغ نظرية تيسر للناس أن يحسبوا نزواتي قانون الإنسانية كلها، ولكن عندما نشأت في ذهني مشكلة الحياة في وضوح تام، تبددت هذه الإجابة في الحال هباءً منثورًا، وأدركت أنه كما أن من العلوم التجريبية ما هو علم صحيح، ومنها ما هو شبه علم يحاول أن يقدم الإجابات عن مسائل فوق مقدورها، فكذلك في عالم العلوم المعنوية هناك سلسلة كاملة الحلقات من العلوم المائعة التي تحاول أن تجيب عن أسئلة ليست في حدود اختصاصها، وأشباه العلوم من هذا الطراز — العلوم القانونية والعلوم التاريخية الاجتماعية — تحاول أن تحل مشاكل حياة الإنسان بزعمها — كل منها بطريقتها الخاصة — أنها تقرر مشكلة حياة الإنسانية كلها.
وكما أن الإنسان — في ميدان المعرفة التجريبية — الذي يبحث مخلصًا كيف له أن يعيش لا يمكن أن يقنع بهذا الجواب: «أدرس في الفضاء الذي لا نهاية له التغيرات التي تطرأ على الذرات التي لا تُحصَى فتعقد تركيبها تعقيدًا لا يقف عند حد في زمن يمتد إلى ما لا نهاية، أدرس هذا تفهم حياتك.» فكذلك الرجل المخلص لا يمكن أن يقتنع بهذا الجواب: «أدرس حياة الإنسانية كلها التي لا نعرف لها بداية ولا نهاية، بل والتي لا نعرف منها حتى اليسير، تفهم حياتك»، وأشباه العلوم المعنوية كأشباه العلوم التجريبية يحوطها الغموض وعدم الدقة والسخافات والمتناقضات كلما بعدت عن المشاكل الحقيقية، إن مشكلة العلم التجريبي هي تتابع السبب والمسبب في مظاهر الكون المادية، فإذا ما تعرض العلم التجريبي إلى مسألة السبب النهائي أصبح هراءً لا معنى له، وموضوع العلم المعنوي معرفة مغزى الحياة الأول، فإذا ما تعرض للبحث في الأسباب والمسببات في الظواهر المختلفة (كالظواهر الاجتماعية والتاريخية) أصبح كذلك هراء لا معنى له.
فالعلم التجريبي إذن لا يعطينا سوى المعرفة الإيجابية، ويعرض عظمة العقل الإنساني حينما لا يتعرض في بحوثه لموضوعِ السبب النهائي، وعلى العكس من ذلك لا يكون العلم المعنوي علمًا يعرض عظمة العقل الإنساني إلا إذا استبعد جانبًا المسائل التي تتعلق بالأسباب والمسببات في ظواهر الكون، ولم ينظر إلى الإنسان إلا من حيث علاقته بالسبب النهائي، هذا هو موقف علوم الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) أو الفلسفة في ميدان العلوم التي يتكون منها أحد قطبي الدائرة، هذا العلم يعرض هذه الأسئلة في وضوح وجلاء «من أنا؟ وما الكون؟ ولماذا وجدت، ولماذا وجد العالم؟» ومذ وجد هذا العلم كان دائمًا يقدم لنا جوابًا واحدًا لا يتغير، وسواء يُسمى الفيلسوف خلاصة الحياة الكائنة في نفسي والكائنة في كل موجود «بالفكرة» أو «المادة» أو «الروح» أو «الإرادة» فهو لا يفتأ يقول إن هذه الخلاصة موجودة، وإني أنا منها، ولكنه لا يعرف لماذا، ولا يقول لماذا، إن كان من المفكرين الدقيقين، وأنا أسأل «لماذا توجد هذه الخلاصة؟ وماذا ينجم عن وجودها الآن ووجودها مستقبلًا؟» … والفلسفة لا تجيب عن هذا السؤال، بل أنها لتسأله هي نفسها، وإن كانت فلسفة حقيقية فإن كل جهدها ينحصر في وضع هذا السؤال في صيغة واضحة، وإن لزمت واجبها لا تستطيع الإجابة عن السؤال «مَن أنا، وما الكون؟» إلا بقولها «كل شيء ولا شيء.» كما تُجيب عن هذا السؤال: «لماذا؟» بقولها «لست أدري.»
وعلى هذا فإني مهما قلَّبت هذه الإجابات الفلسفية لا أستطيع أن أظفر بما يشبه الجواب، لا لأن الجواب لا يتعلق بسؤالي — كما هي الحال في ميدان العلوم التجريبية الواضح — ولكن لأن الجواب هنا ينعدم، وذلك على الرغم من أن الجهد العقلي كلَّه يتجه نحو سؤالي بذاته، وبدلًا من الظفر بالجواب يعود المرء بنفس السؤال، إلا أنه في صورة معقدة.
•••
أحسست أثناء بحثي عن جواب لمشكلة الحياة أن مثلي كمثل رجل ضلَّ في غابة، فهو يبلغ رقعة من الأرض الفضاء بين صفوف الأشجار، ثم يتسلق شجرة، ويرى الفضاء الذي لا يحد واضحًا أمام عينه، ولكنه يرى كذلك أن مأواه ليس في ذلك المكان، ولا يمكن أن يكون، فيتوجه إلى الغابة المظلمة، ويرى ظلامها الدامس، ويدرك كذلك أن مأواه لا يمكن أن يكون هناك.
وهكذا أخذت أجول في تلك الغابة من معارف الإنسان، وسط أضواء العلوم الرياضية والتجريبية التي أظهرت لي آفاقًا واضحة غير أنها في اتجاه لا يمكن أن يكون لي فيه مأوى، وكذلك أخذت أجول وسط ظلام العلوم المعنوية فكنت أمعن في الظلام كلما أمعنت في المسير، فاقتنعت في نهاية الأمر بأنه ليس هناك مخرج لي ولن يكون.
ولما أسلمت نفسي إلى الجانب المضيء من المعارف أدركت أني إنما كنت أحيد ببصري عن المشكلة، ومهما تكن تلك الآفاق الممتدة أمام بصري واضحة جذابة، ومهما يكن الانغماس في الفضاء اللانهائي لتلك العلوم خاطفًا للأبصار، فقد فهمت أنها كلما وضحت قلَّ إشباعها لحاجتي وقلت قدرتها على الإجابة عن سؤالي.
قلت لنفسي: «إني أعرف ما يصر العلم على كشفه، وليس على امتداد ذلك الطريق جواب عن مشكلة معنى الحياة»، وأدركت أنه بالرغم من أن الهدف المباشر للعلم المعنوي هو أن يجيب عن سؤالي، فإنه ليس في هذا الميدان جواب غير ذلك الذي قدَّمت لنفسي وهو: «ما معنى حياتي؟ لا شيء.» أو «ماذا سيعود عليَّ من الحياة؟ لا شيء.» أو «لماذا توجد الكائنات، ولماذا وجدت؟ لأنها موجودة ولأني وجدت.»
وفي خلال بحثي عن دائرة واحدة من المعرفة الإنسانية، ظفرت بعدد لا يُحصى من الإجابات التي تتعلق بموضوعات لم أسأل عنها: ظفرت بإيجابات عن تركيب النجوم الكيمائي، وعن حركة الشمس نحو مجموعة هركيوليز، وعن أصل الأنواع وأصل الإنسان، وعن صور الذرات الأثيرية الخفيفة المتناهية في الصغر، ولكني في هذا الميدان من ميادين المعرفة لم أجد جوابًا عن سؤالي «ما معنى حياتي؟» غير هذا «إنما أنت ما تسميه «حياتك». أنت مجموعة من الذرات التي تماسكت عرضًا واتفاقًا، والتفاعل المتبادل بين هذه الذرات والتغيير الذي يطرأ عليها يُحدث فيك ما تسميه «حياتك»، وهذا التماسك يبقى فترة من الزمن، ثم يقف التفاعل بين الذرات فيقف ما تسميه «الحياة» فتنتهي بذلك كل مشاكلك، ما أنت إلا كتلة صغيرة من مادة ما اتحدت أجزاؤها عرضًا، هذه الكتلة الصغيرة تتخمر، وتُسمى الكتلة هذا التخمر «حياتها»، ثم تنحل الكتلة، فينتهي التخمر وتنتهي بذلك كل مشاكلك»، هذا ما يُجيب به الجانب الواضح من العلم، وهو لا يسعه إلا أن يجيب كذلك لو سار على مبادئه سيرًا دقيقًا.
وترى من هذا الجواب أنه لا يجيب عن السؤال، فأنا أريد أن أعرف معنى حياتي، أما كونها جزءًا من اللانهائي فلا أقول إنه لا يكسب الحياة معنى، بل أقول إنها يهدم كل ما يمكن أن يكون لها من معنى، وهذا الجانب من العلم التجريبي الدقيق يحاول أن يوفق بصورة غامضة بينه وبين العلم المعنوي، وذلك حينما يزعم أن معنى الحياة ينحصر في التطور وفي التعاون مع هذا التطور، ولكن هذه الصورة من صور التوفيق لا يمكن أن تغنينا كجواب للمشكلة نظرًا لغموضها وعدم دقتها.
أما الجانب الآخر من العلم — الجانب المعنوي — فهو حينما يلتزم مبادئه التزامًا دقيقًا ويجيب عن المشكلة إجابة مباشرة، يجيب دائمًا وفي كل عصر بطريقة واحدة، إنه يقول «إن الدنيا شيء غير محدود أو مفهوم، والحياة الإنسانية جزء غير مفهوم من ذلك «الكل» غير المفهوم»، وأنا أستبعد ثانية كل محاولة للتوفيق بين العلوم المعنوية والعلوم التجريبية، وهي تلك المحاولات التي تستند إليها استنادًا كاملًا أشباه العلوم كلها التي نسميها شرعية أو سياسية أو تاريخية، في أشباه العلوم هذه تُقحم خطأ مرة أخرى فكرة التطور والتقدم، مع هذا الفارق الوحيد: وهو أنه في المرة الأولى كان التطور يشمل كل شيء، بينما هو هنا لا يشمل غير حياة الإنسان، ولكن الخطأ واقع في الحالتين، فالتطور والتقدم في اللانهائي لا يمكن أن يكون له اتجاه أو هدف، ومِن ثَمَّ فليس في هذا الرَّأي جواب فيما يختص بسؤالي.
وفي العلم المعنوي البحت؛ أي في الفلسفة الحقيقية — لا في تلك الفلسفة التي يسميها شوبنهور «الفلسفة المحترفة» التي تنحصر وظيفتها في تصنيف كل الظواهر الموجودة إلى أبواب فلسفية جديدة وتسميتها بأسماء جديدة — حيث لا يغض الفيلسوف الطرف عن الموضوع الأساسي، لا تظفر إلا بجواب واحد لا يتغير. وذلك الجواب يقدمه لك سقراط كما يقدمه لك شوبنهور وسليمان وبوذا.
قال سقراط وهو يتأهب للموت: «إننا نقترب من الحقيقة كلما أشرفنا على مفارقة الحياة، إذ ما الذي نجاهد في سبيله نحن محبي الحقيقة؟ إننا نجاهد لكي نحرر أنفسنا من الجسد ومن كل الشرور التي تنشأ عن حياة الجسد! ولما كان الأمر كذلك، فلماذا إذًا لا نفرح حينما يأتي إلينا الموت؟ إن الرجل الحكيم يبحث عن الموت طوال حياته؛ ولذا فالموت لا يفزعه.»
ويقول شوبنهور: «إذا ما أدركنا أن طبيعة العالم الخفية ليست سوى «الإرادة»، وأن كل مظاهر الطبيعة — من الحركة اللاشعورية لقوى الطبيعة الغامضة إلى عمل الإنسان الكامل الوعي — إن هي إلا مظاهر لهذه الإرادة، لم يَعُد لنا ما يبرر التخلص من النتائج؛ وذلك أنا إن نبذنا الإرادة وتخلينا عنها طائعين، ألغينا كذلك كل تلك المظاهر — ذلك التيار الدافق والجهد الذي لا يكل ولا يهدأ في كلِّ مرحلة من مراحل المظاهر الطبيعية التي منها وعن طريقها يتألف العالم، وتلك الصور المتنوعة المتعددة التي تتلو إحداها الأخرى في تدرجها، وستختفي مع هذه الصور كل دلائل الإرادة، وستختفي كذلك في النهاية الصور العالمية لتلك الدلائل — الزمان والمكان، والصورة النهائية الأساسية؛ أي إن كل ما هو ذاتي وكل ما هو موضوعي سوف يتلاشى، إذا لم تكن هناك إرادة فلن يكون هناك مظهر لشيء ولن يكون هناك عالم، إنه لا يبقى أمامنا — بالتأكيد — سوى العدم، ولا يقوم في وجه هذا التحول إلى العدم إلا طبيعتنا وهي إرادة الحياة عينها — وهي نحن؛ لأنها عالمنا، وكراهيتنا الشديدة للعدم، أو بعبارة أخرى رغبتنا في الحياة، ليست سوى تعبير آخر عن إرادتنا الشديدة للحياة، وأننا لسنا سوى هذه الإرادة، ولا نعرف غيرها شيئًا، وإذن فإن ما يبقى — بعد إلغاء الإرادة إلغاءً تامًّا — لنا نحن الممتلئين بالإرادة، هو لا شيء البتة، بل على العكس من ذلك أن عالمنا هذا — وهو جد حقيقي — بكلِّ ما فيه من كواكب ونجوم هو عدم عند أولئك الذين انقلبت لديهم الإرادة أو نبذوها.»
ويقول سليمان «باطل الأباطيل — كل شيء باطل، ما فائدة الإنسان من أي عمل يتولاه تحت الشمس؟ جيل يتولى وجيل يقبل والأرض باقية إلى الأبد … إن ما كان سوف يكون، وما حدث سوف يحدث، وليس تحت الشمس جديد، هل هناك شيء تستطيع أن تقول عنه: انظر، هذا جديد؟ كلا، إنه من قديم الزمان الذي سلف، ليس لما سلف ذكرى، ولن تكون لما يقبل ذكرى، أنا الذي أعظكم كنت ملكًا على بني إسرائيل في بيت المقدس، ولقد وهبت قلبي للتنقيب والبحث عن طريق الحكمة في كل ما حدث تحت السماء، هذا العمل المضني كلَّف الله به بني الإنسان ليختبرهم به، ولقد شهدت كل عمل تحت الشمس، ورأيت أن الكل باطل يبعث على حنق النفوس … وناجيت قلبي، وقلت له: هيه، أنا مالك لضيعة كبرى، وعندي من الحكمة أكثر من كل من سبقني ببيت المقدس — أجل، إن قلبي مفعم بكثير من تجارب الحكمة والمعرفة، ولقد وهبت قلبي لإدراك الحكمة ولمعرفة الجنون والحماقة، فرأيت أن ذلك أيضًا يبعث على حنق النفوس؛ لأن الحكمة العظيمة تنطوي على الحزن العميق، ومن يزدد علمًا يزدد أسًى.
وهذا ما تُحدِّثنا به الحكمة الهندية:
خرج مرة في عربته «ساكياموني» وهو أمير شاب سعيد، خفي عنه العلم بوجود المرض والشيخوخة والموت، فوقعت عيناه على رجل مسن مفزع، تحطمت أسنانه وسال لعابه من فمه، فدهش الأمير الذي خفى عنه حتى اليوم العلم بالشيخوخة، وسأل سائق عربته عما رأى، وكيف آل هذا الرجل إلى مثل هذه الحال الزرية المقززة، ولما علم أن ذلك هو المصير المألوف للناس جميعًا، وأن تلك الحال عينها تنتظره بغير مناص — وهو الأمير الشاب — لم يستطع أن يواصل السير، وأمر السائق أن يقفل إلى البيت راجعًا كي يتدبر الأمر، ثم حبس نفسه وأخذ يفكر، وربما وجد في نفسه ما يعزيه؛ لأنه خرج بعدئذٍ في العربة مرة أخرى وهو مرح سعيد، غير أنه رأى هذه المرة رجلًا مريضًا، رأى رجلًا هزيلًا شاحب اللون قاتم العينين يرتعش من شدة الهزال، فوقف الأمير، الذي خفى عنه العلم بالمرض، وسأل عما رأى، ولما علم أن ذلك هو المرض الذي قد يتعرض له أي إنسان، وأنه هو نفسه — وهو الأمير الصحيح البدن الهانئ القلب — قد تصيبه العلة في غده، عاد إليه ذلك الاكتئاب الذي يحرمه المتعة بحياته، وأمر سائقه أن يقفل راجعًا إلى البيت، وبحث عن العزاء مرة أخرى، وربما وجده؛ لأنه خرج في عربته للمرة الثالثة قصد النزهة، ولكنه في هذه المرة الثالثة رأى مشهدًا آخر جديدًا: رأى جماعة تحمل شيئًا فسأل: «ما هذا؟» وقيل له: «هذا رجل ميت.» قال: «ما معنى كلمة «ميت»؟» فقيل له: «إن المرء حين يموت يمسي كذلك الرجل.» واقترب الأمير من الجثة، ورفع عنها الغطاء، ونظر إليها، وسأل: «ما الذي سيحدث له الآن؟» فقيل له إن الجثة ستوارى التراب، «لماذا؟» «لأنه بالتأكيد لن يعود إلى الحياة، ولن يصدر عنه غير النتن والدود.» «وهل هذا هو مصير الناس أجمعين؟ وهل سوف يحدث لي نفس هذا الشيء؟ هل سوف يدفنونني، وهل سوف تصدر عني الرائحة الكريهة ويأكلني الدود؟» «نعم.» «إلى البيت! لن أركب عربتي للنزهة، ولن أفعل ذلك مرة أخرى!»
ولم يجد «ساكياموني» في الحياة سلوى، وقرر أن الحياة أعظم الشرور، وكرَّس كل قواه الروحية للتحرر منها، وليحرر غيره منها، وقرر أن يفعل ذلك بحيث لا تتجدد الحياة حتى بعد الموت، بل تنهار انهيارًا كاملًا من جذورها، هذا ما تقول به حكمة الهند كلها.
وهذه إذن هي الإجابات المباشرة التي تقدمها لنا الحكمة الإنسانية، إذا وجهنا لها السؤال عن مشكلة الحياة.
يقول سقراط: «إن حياة الجسد شر وأكذوبة، وإذن فتحطيم حياة الجسد نعمة، يجب أن نتمناها.»
ويقول شوبنهور: «الحياة هي ما لا ينبغي أن يكون — هي شر، والانتقال إلى العدم هو وحده ما في الحياة من خير.»
ويقول سليمان: «كل ما في الحياة — من حماقة وحكمة وثراء وفقر ومرح وحزن — باطل وعدم، يموت المرء ولا يبقى منه شيء، وهذا سخف.»
ويقول بوذا: «يستحيل على المرء أن يعيش وهو يدرك أن الألم والضعف والشيخوخة والموت أمور لا مفر منها — يجب أم نتحرر من الحياة الممكنة كلها.»
وما ذكره أصحاب هذه العقول الجبارة فَكَّرَت فيه وأحسَّت به وعبرت عنه ملايين الملايين من أمثالهم من البشر. وقد فكرت فيه وأحسست به أنا كذلك.
وهكذا ترى أن جولتي في العلوم عززت لديَّ روح اليأس بدلًا من أن تحررني منها، فإن ضربًا من المعرفة لم يجب عن مشكلة الحياة، وضربًا آخر أجاب إجابة مباشرة تؤيد يأسي، وتشير لا إلى أن النتيجة التي وصلت إليها كانت ثمرة للخطأ أو لمرض عقلي، بل على العكس من ذلك تدل على أني كنت سليم التفكير وأن أفكاري تطابق النتائج التي وصلت إليها أقوى العقول البشرية.
ولا فائدة من أن يخدع الإنسان نفسه، فالكل باطل! وسعيد من لم يولد: والموت خير من الحياة، ويجب على المرء أن يُحرر نفسه من الحياة.
•••
ولما لم أجد في العلم ما يشفي غلتي، بدأت أبحث عن تعليل المشكلة في الحياة نفسها، وتعشمت أن أجد التعليل بين من يحيط بي من الناس، وبدأت ألاحظ كيف يعيش هؤلاء الناس — وهم من أمثالي — وما موقفهم إزاء هذه المشكلة التي انتهت بي إلى اليأس.
وإليكم ما وجدت بين الناس الذين كانوا يشبهونني في تربيتهم وأسلوب حياتهم.
وجدت أن للناس الذين يحيون حياتي أربعة مخارج من المأزق الذي كنا جميعًا نتردى فيه.
- المخرج الأول: هو الجهل، وهو الجهل بأن الحياة شر عبث، بل وعدم إدراك هذه الحقيقة، والناس من هذا القبيل — والنساء خاصةً أو صغار الشبان وأغبياء الناس — لم يفهموا بعد تلك المشكلة الحيوية التي واجهت شوبنهور وسليمان وبوذا، إنهم لا يرون الأفعى التي تنتظرهم كما لا يرون الفيران التي تقرض الغصن الذي يتعلقون به، وهم يلعقون قطرات الشهد، غير أنهم يلعقون هذه القطرات من الشهد لفترة وجيزة فقط، ثم يتنبهون بعدئذٍ لسبب ما إلى الأفعى والفيران، فيكفون عن لعقه، ومن هؤلاء لم أتعلم شيئًا.
-
والمخرج الثاني: هو الأبيقورية، يدرك المرء أن الحياة لا رجاء فيها فيستغل ما بين يديه من
مزايا، ويغض الطرف عن الأفعى والفيران، ويلعق الشهد بأحسن الوسائل، وبخاصة
إذا كان الميسور منه وافرًا، ويعبر سليمان عن هذا المخرج بقوله: «ثم اخترت
المرح، إذ أن خير ما يظفر به الإنسان تحت الشمس هو أن يأكل ويشرب ويمرح،
وأن يبقى على ذلك طوال الأيام التي قدر له الله أن يحياها تحت الشمس،
فلتأكل إذن خبزك مسرورًا، واحسُ خمرك بقلب مرح … وعش في هناء مع الزوجة
التي تحب طوال أيام حياتك المليئة بالغرور … ذلك نصيبك من الحياة ومن عملك
الذي تؤديه تحت الشمس … كل ما تمد إليه يداك بالعمل اعمله بكلِّ ما أوتيت
من قوة، إذ أن القبر الذي سوف تتردى فيه لا يحتوي على عمل أو حيلة أو علم
أو حكمة.»
بهذه الطريقة يجعل أكثر الناس من أمثالي حياتهم مستطاعة، وظروفهم تمدهم بأسباب الرفاهية أكثر مما تمدهم بأسباب المشقة، وغباؤهم العقلي يمكِّنهم من أن ينسوا أن ميزتهم من مركزهم الاجتماعي ميزة عارضة، كما أنهم ينسون أن ليس بوسع كل امرئ أن تكون له قصور عديدة، وألف زوجة كما كان لسليمان، وينسون أن لقاء كل رجل يتمتع بألف زوجة ألفُ رجل بغير زوجة واحدة، وأن لقاء كل قصر ألف رجل عليهم أن يشيدوه بعرق الجبين، وأن الفرصة العارضة التي جعلتني اليوم كسليمان قد تجعلني في غدي عبدًا من عبيد سليمان، إن ضعف الخيال عند هؤلاء الناس يمكنهم من نسيان الأشياء التي أرَّقت جنبيَّ بوذا — وهي ضرورة المرض والشيخوخة والموت، التي سوف تقضي على هذه المتع اليوم أو غدًا.
هكذا يفكر ويشعر أكثر الناس اليوم ممن يسيرون على أسلوبنا في الحياة، وقد يصرح بعض هؤلاء الناس بأن هذا الرأي الذي يرونه بفكرهم الضعيف وخيالهم القاصر فلسفة من الفلسفات — يسمونها الفلسفة الإيجابية — ولكن ذلك في رأيي لا يُقصيهم عن صفوف الناس الذين يلعقون الشهد كي لا يواجهوا المشكلة.
لم أستطع أن أنهج نهج هذه الفئة، ولما لم أكن مثلهم قاصر الخيال لم أستطع أن أخلق في نفسي هذا الخيال القاصر خلقًا، ولم أستطع أن أبعد بصري عن الفيران والأفعى، كما لا يستطيع ذلك رحل حي بعد ما تقع عليها عيناه.
-
والمخرج الثالث: هو القوة والنشاط، إذا ما أدرك الفرد أن الحياة شر وعبث انهال عليها
بالتحطيم، وقليل من الناس يعلمون ذلك، وأولئك هم أصحاب القوة الجبارة
والمنطق الصارم، إنهم يدركون سخف النكتة التي يسخر منهم بها القدر، ويدركون
أن الموت خير من الحياة، وأن خير الأمور العدم، فيعملون طبقًا لذلك ويأتون
على هذه السخرية دون توان ما دامت هناك وسيلة: حبل حول الرقبة، أو قليل من
ماء، أو سكين يُطعن في القلب، أو قطار يسير على قضيب، ويزداد عدد أولئك
الذين ينفذون ذلك من أبناء طائفتنا يومًا بعد يوم، وهم يعملون ذلك في أغلب
الأحيان وهم في زهرة حياتهم، حينما تكون قواهم العقلية على أشدها ولم
يكتسبوا بعد تلك العادات التي تحط بعقل الإنسان.
وقد رأيت أن هذه الوسيلة خير الوسائل للنجاة، وأردت أن أنفذها.
- والمخرج الرابع: هو الضعف، يرى الفرد حقيقة الموقف، ومع ذلك يتشبث بالحياة، وهو يعلم سلفًا أنها لا تؤدي إلى شيء، والناس من هذا الضرب يعلمون أن الموت خير من الحياة، غير أنهم تعوزهم القدرة على العمل طبقًا لما توحيه إليهم عقولهم — وذلك أن يسرعوا بالقضاء على هذه الخدعة وبالقضاء على حياتهم — وكأنهم يترقبون شيئًا ما، ذلك هو مخرج الضعف؛ لأني إن عرفت ما هو خير لي، وكان ذلك في مقدوري، فلماذا لا أستسلم لهذا الخير؟ … وقد ألفيت نفسي رجلًا من هذا الطراز.
وهكذا ترى أن أبناء طبقتي من الناس يتفادون التناقض المريع بأربع وسائل، ومهما أعنت الفكر لم أجد غير هذه الوسائل الأربع، إحداها ألا يدرك المرء أن الحياة خلو من المعنى، كلها غرور وشر، وأنه من الخير للمرء ألَّا يعيش، ولم يسعني إلَّا أن أدرك ذلك.
وما إن أدركته لم أستطع أن أغمض عيني عنه، والوسيلة الثانية أن تضرب في الحياة كما هي دون أن تفكر في المستقبل، ولم أستطع أن أفعل ذلك، وكنت مثل «ساكياموني» لا أستطيع أن أخرج راكبًا للصيد وأنا أعلم بوجود الشيخوخة والألم والموت، وكان خيالي حيًّا جدًّا، ولم أستطع كذلك أن أبتهج بالأحداث العارضة التي تأتي إليَّ بالمتعة في لحظة ثم تزول، والوسيلة الثالثة أن يدرك المرء أن الحياة شر وسخف فيقضي على حياته بيديه، وقد أدركت ذلك، ولست أدري لماذا لم أنتحر. والوسيلة الرابعة أن يعيش المرء كما عاش سليمان وشوبنهور — يعلم أن الحياة نكتة سخيفة يسخر منا بها القدر، ومع ذلك يواصل الحياة، فيغتسل ويلبس ويأكل ويتحدث إلى غيره بل ويؤلف الكتب، وكان ذلك بغيضًا إلى نفسي مؤلمًا جدًّا، ولكني بقيت على هذا الوضع.
وأرى الآن أني لم أنتحر لأني أحسست إحساسًا غامضًا بأن آرائي لم تكن سليمة صحيحة، ومهما بدا لي تسلسل آرائي وآراء الحكماء الذي حدا بنا إلى الاعتراف بخلو الحياة من المعنى — مهما بدا لي ذلك مقنعًا لا شك فيه، فقد بقي في دخيلة نفسي شك غامض في عدالة الحكم الذي وصلت إليه.
وكان الأمر كما يأتي: أدركت بعقلي أن الحياة لا معنى لها، وإذا لم يكن هناك شيء أرقى من العقل (وليس هناك ما هو أرقى منه، وليس هناك ما يدل على وجود ما هو أرقى منه) فالعقل إذن هو خالق الحياة لي، فإذا لم يوجد العقل لم تكن لي حياة، وكيف يستطيع العقل أن ينكر الحياة وهو خالقها؟ أو بعبارة أخرى: إذا لم تكن هناك حياة ما كان لعقلي وجود، وإذن فالعقل وليد الحياة، الحياة كل شيء، والعقل ثمرتها، ومع ذلك فالعقل ينبذ الحياة نفسها! وقد أحسست أن في ذلك شيئًا من الخطأ.
وقلت لنفسي لا شك أن الحياة شر لا معنى له، ومع ذلك فقد عشت وما زلت أعيش، وعاش الناس جميعًا وما زالوا يعيشون، فكيف كان ذلك؟ لماذا نعيش ومن الممكن ألَّا نعيش، وهل ليس هناك حكيم غيري وغير شوبنهور يدرك شر الحياة وخلوها من المعنى؟
إن التفكير الذي يُظهر عبث الحياة ليس شاقًّا أو عسيرًا، وقد كان من زمان بعيد مألوفًا للعامة السذج، ومع ذلك فقد عاشوا وما زالوا يعيشون، فكيف يعيشون جميعًا ولا يتطرق إليهم شك في أن الحياة أمر معقول؟
إن علمي — تؤيده حكمة الحكماء — قد بيَّن لي أن كل شيء على سطح الأرض — عضوي أو غير عضوي — منسق بمهارة فائقة، وليس هناك ما هو شاذ سخيف غير موقفي أنا، وأولئك الحمقى — وأقصد الجماهير الغفيرة من الناس — لا يعلمون شيئًا عن كيفية تنظيم كل ما في الدنيا من عضوي وغير عضوي، ولكنهم يعيشون، ويبدو لهم أن حياتهم مرتبة أحكم ترتيب! …
فخطر لي هذا الخاطر: «ربما كان هناك شيء لم أدركه بعد؟ فهذه هي طريقة الجُهال، إنما دائمًا يقولون مثلما أقول، إذا لم يعرف الجاهل شيئًا ما قال إن ما لا يعرفه سخيف، وفي الحق أنه ليبدو أن هناك عالمًا بأسره من الناس كان يعيش ولا زال يعيش كأنه يفهم معنى حياته؛ لأنه ما كان ليستطيع العيش دون فهمه، ولكني أقول إن هذه الحياة كلها تخلو من المعنى وإني لا أستطيع أن أعيش.
لا شيء يمنعنا من إنكار الحياة بالانتحار، إذن فلتقتل نفسك، ولا تجادل بعد هذا، إذا كانت الحياة لا تسرك فلتقتل نفسك! إنك تعيش، ولا تستطيع أن تفهم للحياة معنى — إذن فلتقض على حياتك، ولا تَحْيَ عابثًا، تقول وتكتب إنك لا تفهم الحياة، إنك تضطرب في وسط طيب من الناس، كلهم قانعون، وكلهم يعلمون ما هم فاعلون، فإن كنت تجد الحياة كئيبة منفرة فلتبتعد!»
حقًّا لسنا نحن — الذين نؤمن بضرورة الانتحار ولا ننفذه — سوى أضعف الناس، وأشدهم تناقضًا، أو بعبارة أوضح نحن أشد الناس غباء، نملأ الدنيا صياحًا بغبائنا كما يفعل الأحمق الذي يصيح بغجرية ذات أصباغ؛ لأن حكمتنا — مهما كانت صادقة — لم تمدنا بالعلم بمعنى الحياة، في حين أن الناس أجمعين، الذين يحتملون الحياة — وهم ملايين — لا يشكون في معنى الحياة.
حقًّا لقد عاش الناس من أقدم العصور التي عرفت شيئًا عنها — حينما بدأت الحياة — وهم يعرفون الجدل الخاص بعبث الحياة، التي أظهرت لي خلوها من المعنى، ومع ذلك فقد عاشوا ينسبون إلى الحياة شيئًا من المعنى.
منذ أن دبت الحياة في الناس على صورة من الصور وجدوا للحياة معنى، وحيوا تلك الحياة التي تحدرت إليَّ، كل ما فيَّ وكل ما حولي — بدني وغير بدني — ثمرة لمعرفتهم بالحياة، وهذه الأداة الفكرية نفسها التي أتدبر بها هذه الحياة وأحكم عليها لم تكن من اختراعي بل من اختراعهم، ولقد وُلدت ونشأت وتعلمت بفضلهم، استخرجوا الحديد من باطن الأرض، وعلمونا قطع الغابات، واستأنسوا البقر والخيل، وعلمونا أن نزرع الحبوب، وأن نعيش مجتمعين، ونظموا حياتنا، وعلموني أن أفكر وأن أتكلم، وها أنا ذا — وأنا من إنتاجهم — وقد أمدوني بالطعام والشراب، وعلموني — وأنا أفكر بأفكارهم وألفاظهم — أجادل في أنهم عبث باطل! قلت لنفسي: «هناك نوع من الخطأ، ولقد ارتكبت خطأ كبيرًا بصورةٍ ما.» ثم انقضى وقت طويل قبل أن أستطيع الكشف عن موضع الخطأ.
•••
كل هذه الشكوك التي أستطيع الآن أن أعبر عنها بشيء من الدقة لم أستطع في ذلك الحين أن أعبر عنها، كنت حينئذٍ أحس أن النتائج التي وصلت إليها فيما يتعلق بعبث الحياة مهما تكن حتمية بحكم المنطق — ومهما كان تأييد كبار المفكرين لها — لا تخلو من بعض الخطأ، وسواء كان هذا الخطأ في التفكير نفسه أو في صياغة السؤال، فإني لم أعرف ذلك على وجه الدقة، إنما أحسست أن النتيجة كانت مقنعة من الناحية العقلية، ولكن ذلك لم يكن كافيًا، وهذه النتائج كلها لم تقنعني إلى الحد الذي يجعلني أعمل بناء على ما يترتب على تفك يري — أعني أن أقتل نفسي. ولو أني قلت إن العقل أدى بي إلى النقطة التي وصلت إليها لكنت — إذا لم أنتحر — من الكاذبين، كان العقل يعمل، ولكن شيئًا آخر كذلك كان يعمل، شيئًا أستطيع أن أسميه الإحساس بالحياة، كانت هناك قوة تعمل وترغمني على توجيه انتباهي إلى هذا الشيء دون ذاك، تلك هي القوة التي أنقذتني من موقفي اليائس وحوَّلت ذهني إلى اتجاه آخر، هذه القوة أرغمتني على أن أوجه انتباهي إلى أني، ومعي بضع مئات من أمثالي، لا نكوِّن المجموعة البشرية كلها، ونبهتني كذلك إلى أني لم أعرف بعدُ حياة البشر.
والتفتُّ إلى الدائرة الضيقة من زملائي فلم أر غير قوم لم يفهموا المشكلة، أو قوم فهموها ولكنهم أغرقوها في نشوة الحياة، أو فهموها وقضوا على حياتهم، أو فهموها ولكنهم — لضعفهم — كانوا يحيون حياتهم يائسين، ولم أرَ غير هؤلاء، وبدا لي كأن تلك الدائرة الضيقة من الأغنياء المتعلمين ذوي الفراغ التي أنتمي إليها تكوِّن الإنسانية بأسرها، وكأن تلك الملايين العديدة التي عاشت وما تزال تعيش ليست سوى ماشية من نوع ما — وليسوا أناسًا حقيقيين.
ويبدو لي الآن أن من أعجب العجب ومن الأمور التي لا تُفهم ولا تصدق أن أستطيع — وأنا أناقش مسألة الحياة بالعقل — أن أغض الطرف عن حياة الإنسانية كلها التي تحيط بي من كل جانب، وأن أزل إلى هذا الحد البعيد وإلى هذه الدرجة القصوى من السخف حتى أحسب حياتي، وحياة سليمان وشوبنهور، هي الحياة الحقة، وهي الحياة الطبيعية، وحياة الملايين حدث لا يستحق الالتفات، هكذا كان موقفي، برغم أنه يبدو لي اليوم جد عجيب، وصوَّر لي وهم اعتزازي بقدرتي العقلية أنه مما لا شك فيه أني — وسليمان وشوبنهور — عرضنا المسألة بصدق ودقة لا تجعل رأيًا غير رأينا جائز الصواب، ولم أشك لحظة في نظرتي إلى الموضوع، حتى إن تلك الملايين كانت تتألف، في عيني، من رجال لم يبلغوا بعد أن يدركوا كل ما في الموضوع من عمق، وحتى بحثت عن معنى حياتي دون أن يطرأ لي مرة أن أسأل: «ما المعنى الذي أضفته على الحياة تلك الجموع من عامة الناس التي عاشت وما تزال تعيش على وجه الأرض؟»
عشت طويلًا في هذه الحال الجنونية — وهي حال في الواقع (إن لم يكن باللفظ) نتميز بها خاصة نحن معشر الأحرار المتعلمين، وبفضل حبي الطبيعي العجيب للعمال الحقيقيين، ذلك الحب الذي أرغمني على أن أفهمهم وعلى أن أدرك أنهم ليسوا أغبياء كما حسبناهم، أو بفضل إخلاصي في العقيدة بأني لا يمكن أن أعرف شيئًا أكثر من أن خير ما أفعله هو أن أشنق نفسي، بهذا الفضل أو بذاك أحسست بالغريزة أني إن أردت أن أعيش وأن أفهم معنى الحياة فلا بُدَّ لي أن أبحث عن هذا المعنى لا عند أولئك الذين فقدوه ويحبون أن يقتلوا أنفسهم، بل عند أولئك الملايين الذين عاشوا في الماضي وما يزالون يعيشون في الحاضر، أولئك الذين يخلقون الحياة ويتحملون أعباء حياتهم وحياتنا كذلك، فتأملت في تلك الجموع العديدة من الناس السذج الجهلاء الفقراء الذين عاشوا ولا زالوا يعيشون، ورأيت شيئًا يختلف كل الاختلاف، رأيت أن كل تلك الملايين — مع الاستثناء النادر — الذين عاشوا وما زالوا يعيشون، لا ينخرطون في أقسامي، وإني لا أستطيع أن أصممهم بجهل المشكلة؛ لأنهم يعرضونها بأنفسهم، ويجيبون عنها بوضوح يدعو إلى العجب، ولم أستطع كذلك أن أحسبهم أبيقوريين؛ لأن حياتهم تتألف من الحرمان والألم أكثر مما تألف من أسباب المتع، ولا أستطيع البتة أن أعتقد أنهم يتخبطون بغير عقل في حياة لا معنى لها؛ لأنهم يفسرون كل عمل من أعمال حياتهم، بل ويفسرون الموت نفسه، وهم يعدون قتل النفس أعظم الشرور خطرًا، وبدا لي كأن الناس أجمعين لهم بمعنى الحياة دراية لا أقرها بل وأزدريها، وبدا لي كذلك أن المعرفة العقلية لا تمدني بمعنى الحياة، بل ولا تشملها: في حين أن المعنى الذي تكسبه الحياة ملايين البشر — بل الإنسانية بأسرها — يقوم على أساس من المعرفة زائف محتقر.
إن المعرفة العقلية — كما يعرضها العلماء والحكماء — تنكر معنى الحياة، في حين أن الجماهير العديدة من الناس — بل الإنسانية بأسرها — تتلقى هذا المعنى في المعرفة التي لا تمت إلى العقل بصلة، وهذه المعرفة التي لا تستند إلى العقل هي الإيمان — وهي ذلك الشيء الذي لم يسعني إلا أن أنبذه، تلك المعرفة هي الله — الثالوث، وخلق الدنيا في ستة أيام، والملائكة والشياطين، وما إلى ذلك، مما لا أستطيع أن أقبله ما دمت محتفظًا بعقلي.
كان إذن موقفي مريعًا، فقد عرفت أني لا أستطيع أن أجد شيئًا في طريق المعرفة العقلية غير إنكار الحياة، وهناك — في الإيمان — لا شيء غير إنكار العقل، وهو عندي أشد استحالة من إنكار الحياة، لقد دلت المعرفة العقلية على أن الحياة شر، وعرف الناس ذلك — فكان عليهم أن يتخلوا عن الحياة، ولكنهم عاشوا ولا زالوا يعيشون، ولكني كذلك أعيش، رغم أني عرفت من زمان بعيد أن الحياة خلو من المعنى وأنها شر مستطير، وأظهر لي الإيمان أني لكي أفهم معنى الحياة لا بُدَّ لي أن أطرح العقل جانبًا — والعقل هو الشيء نفسه الذي يتطلب وحده إدراك ما في الحياة من معنى.
•••
وهنا ينشأ التناقض، ولم أجد له سوى مخرجين، إما أن يكون ذلك الذي سميته العقل غير معقول — كما ظننت — أو أن يكون ذلك الذي حسبته غير معقول معقولًا — ولو إلى حد — وليس كما ظننت، وبدأت أحقق الحجج التي كنت أؤيد بها معرفتي العقلية.
وحققت الحجج التي تؤيد المعرفة العقلية فألفيتها صحيحة جدًّا، ولم أجد مناصًا من النتيجة التي وصلت إليها وهي أن الحياة لا شيء، ولكني لمست موضعًا من مواضع الخطأ، وذلك أن تفكيري لم يكن متفقًا مع السؤال الذي قدمته، كان سؤالي «لماذا أعيش؛ أي ما النتيجة الحقيقية الثابتة التي تنجم عن حياتي الوهمية الزائلة — ما معنى وجودي المحدود في هذا العالم غير المحدود؟» ولكي أجيب عن هذا السؤال درست الحياة.
وجليٌّ أن حل جميع مشكلات الحياة الممكنة لا يمكن أن يقنعني؛ لأن سؤالي — برغم أنه بدا بسيطًا في أول الأمر — كان يتطلب ضمنًا تفسير المحدود في حدود اللامحدود.
سألت نفسي: «ما معنى حياتي فيما وراء الزمان والمكان والسبب؟» — وأجبت عن هذا السؤال: «ما معنى حياتي في حدود الزمان والمكان والسبب؟» فكانت النتيجة أني أجبت — بعد جهد كبير من الفكر «لا شيء».
وكنت في تفكيري دائمًا أوازن (ولم أستطع غير ذلك) بين المحدود والمحدود، أو بين اللامحدود واللامحدود، ولكني من أجل هذا السبب بلغت النتيجة التي لا مناص منها: وهي أن القوة هي القوة، والمادة هي المادة، والإرادة هي الإرادة، واللامحدود هو اللامحدود، والعدم هو العدم — وذلك كل ما أمكن أن أصل إليه.
فكان هذا شبيهًا بما يحدث في علوم الرياضة، حينما يُفكر المرء في حلِّ معادلة فيجد أنه يصل إلى التطابق، سلسلة التفكير سليمة، ولكنها تنتهي إلى أن أ = أ، أو س = س، أو ص = ص، وحدث لي نفس الشيء في تفكيري فيما يتعلق بمسألة معنى الحياة، فإن الإجابات التي قدمتها العلوم جميعًا لهذا السؤال انتهت كلها بالتطابق.
وفي الحقيقة أن المعرفة العلمية البحتة — تلك المعرفة التي تبدأ كما بدأ ديكارت، بالشك المطلق في كل شيء — تنبذ كل معرفة تقوم على أساس الإيمان، وتبني كل شيء من جديد على أساس قوانين الفكر والتجربة، ولا تستطيع أن تجيب عن مشكلة الحياة إلا بما حصلت عليه: وهو جواب غير محدود، ولم يَبْد لي إلا أول الأمر فقط أن المعرفة تقدم لنا جوابًا قاطعًا — هو جواب شوبنهور: إن الحياة خلو من المعنى وأنها شر، ولكني عندما أنعمت النظر في الموضوع أدركت أن هذا الجواب لم يكن حاسمًا، وإنما هو شعوري الذي حسبه كذلك، أما إن عبرنا عن الجواب تعبيرًا صحيحًا، كما فعل البراهميون وسليمان وشوبنهور، فهو لا شك غير محدود، أو هو متطابق مع السؤال (س = س والحياة عدم)؛ ولذا فالمعرفة الفلسفية لا تنكر شيئًا، ولكنها تجيب بأنها لا تستطيع أن تجد للسؤال حلًّا — وأن الحل عندها لا يفتأ غير محدود.
ولما أدركت هذا أدركت أنه يستحيل على المرء أن يبحث في المعرفة العقلية عن جواب لسؤالي، كما أدركت أن الجواب الذي تقدمه المعرفة العقلية إن هو إلا إشارة إلى أن المرء لا يستطيع أن يظفر بجواب إلا إذا وضع السؤال في صيغة أخرى، ولا بُدَّ إن يتضمن السؤال العلاقة بين المحدود واللامحدود، وفهمت أن الإجابات التي يقدمها لنا الإيمان — مهما تكن ملتوية بعيدة عن العقل — لها ميزة كبرى، وهي أنها تدخل في كل جواب علاقة بين المحدود واللامحدود، وهي العلاقة التي يمكن أن يكون لنا بغيرها حل.
ومهما تكن الصيغة التي وضعت فيها سؤالي فإن هذه العلاقة كانت دائمًا تظهر في الجواب، كيف لي أن أعيش؟ وفقًا لناموس الإله، ما النتيجة الحقيقية التي تنجم عن حياتي؟ العذاب الأبدي أو النعيم الأبدي، ما معنى الحياة الذي لا يقضي عليه الموت؟ الاتحاد مع الله الدائم: السماء.
ولذا فإلى جانب المعرفة العقلية التي بدت لي كأنها المعرفة الوحيدة، اضطررت إلى الاعتراف بأن الإنسانية الحية كلها لها نوع من المعرفة غير المعقولة — تلك هي الإيمان الذي يجعل الحياة ممكنة، وقد بقي الإيمان في عيني غير معقول كما كان من قبل، غير أني لم يسعني إلا أن أُقر بأنه يُقدِّم للإنسانية جوابًا عن مشكلة الحياة، وأنه — لذلك — يجعل الحياة ممكنة، إن المعرفة التي تنطبق على العقل قد انتهت بي إلى الاعتراف بأن الحياة لا معنى لها — وقد وقفت حياتي عن المضي في المسير وأردت أن أقضي عليها، ولم تطلَّعت حولي إلى الإنسانية كلها رأيت أن الناس يعيشون ويعلنون صراحة أنهم يعرفون للحياة معناها، ثم نظرت إلى نفسي فرأيت أني كنت أعيش عندما كنت أعرف للحياة معنى، فإن الإيمان كان قد أكسب الحياة عندي معنى كما أكسبها عند غيري، وجعل الحياة ممكنة.
ثم نظرت كذلك إلى أهل البلدان الأخرى، وإلى معاصريَّ، وإلى سابقيهم، فرأيت نفس الشيء، رأيت أنه — مذ بدأ الإنسان — إذا كانت هناك حياة فإن الإيمان هو الذي جعلها ممكنة، وأن المبادئ الأساسية للإيمان واحدة في كل زمان ومكان.
ومهما يكن ذلك الإيمان، ومهما تكن الإجابات التي يقدمها، وأيًّا كان الإنسان الذي تُقدم له الإجابات، فإن هذه الإجابات جميعًا تكسب حياة الإنسان المحدودة معنى غير محدود، معنى لا تهدمه الآلام والحرمان والموت، ومعنى ذلك أننا في الإيمان وحده نستطيع أن نجد للحياة معنى أو أن نجدها ممكنة، فما هو هذا الإيمان إذن؟ لقد فهمت أن الإيمان ليس مجرد «اتضاح الخفي» أو ما يُشبه ذلك، وليس إلهامًا (إنما ذلك يحدد جانبًا واحدًا من جوانب الإيمان)، وليس هو العلاقة بين الإنسان والله (إذ أن المرء عليه أولًا أن يحدد الإيمان، ثم يحدد بعد ذلك الله، ولا يحدد الإيمان عن طريق الله)، ليس الإيمان هو الموافقة على ما قيل لنا من قبل (كما يُفرض فيه في أكثر الأحيان)، إنما الإيمان هو معرفة معنى الحياة الإنسانية، الذي يترتب عليه أن يبقي الإنسان على حياته ولا يقضي عليها، الإيمان قوة الحياة، وما دام الإنسان حيًّا فلا بُدَّ له أن يعتنق عقيدة من العقائد، فإذا لم يعتقد المرء أنه لا بُدَّ أن يعيش من أجل شيء ما، ما بقي على وجه الأرض، وإذا لم يرَ ويدرك الطبيعة الوهمية للعالم المحدود، فإنه يعتقد في هذه الطبيعة الوهمية أما إذا أدركها فلا بد له أن يعتقد في اللامحدود، إنه لا يستطيع العيش بغير إيمان.
واستعرضت كل ما بذلت من جهد عقلي فأصابني الرعب والفزع، فقد اتضح لي الآن أن المرء لكي يستطيع الحياة لا بُدَّ له إما أن يغفل رؤية اللانهائي، أو أن يفسر الحياة تفسيرًا يربط المحدود باللامحدود، وقد كان لي من قبل هذا التفسير، ولكني طالما اعتقدت في المحدود لم أكن بحاجة إلى هذا التفسير، وبدأت أحققه بالعقل، وفي ضوء العقل تبدد تفسيري السابق كله، ثم جاء الوقت الذي كففت فيه عن الاعتقاد في المحدود، وبدأت بعدئذٍ أُشيد على أسس عقلية — مما لديَّ من معارف — تفسيرًا يُكسب الحياة معنى، غير أني لم أستطع أن أشيد شيئًا ما، فإني — وخير أصحاب العقول البشرية — وصلنا إلى هذه النتيجة: وهي أن س = س، ودهشنا لهذه النتيجة، برغم أنه لم يكن بالإمكان أن ينجم غيرها.
ماذا كنت أفعل عندما كنت أبحث عن الجواب في العلوم التجريبية؟ كنت أحب أن أعرف لماذا أعيش، ولهذا الغرض درست كل ما هو خارج عن نفسي، وبدهي أني قد أعرف الكثير، ولكني لن أعرف شيئًا مما أردت معرفته.
ثم ماذا كنت أفعل عندما كنت أبحث عن الجواب في المعرفة الفلسفية؟ كنت أدرس آراء أولئك الذين ألْفَوا أنفسهم في مثل موضعي، يعوزهم الجواب عن هذا السؤال: «لماذا أعيش؟» وبدهي أني لم أكن لأعلم شيئًا غير الذي علمت من نفسي — وذلك أنه لا يمكن معرفة شيء ما.
من أنا؟ جزء من اللانهائي، في هذه الكلمات القليلة تنحصر المشكلة بأسرها.
أمِنَ الجائز أن الإنسانية لم تضع هذا السؤال لنفسها إلا منذ الأمس فقط؟ وهل لم يستطع أحد قبلي أن يضعه لنفسه — وهو سؤال جد بسيط، يقفز إلى لسان كل طفل عاقل؟
لا شكَّ أن هذا السؤال قد وجد مذ نشأ الإنسان، ومن الطبيعي لحل هذا السؤال مذ ظهر الإنسان ألا يكفي أن نقارن المحدود بالمحدود أو غير المحدود بغير المحدود، ومذ بدأ الإنسان على وجه البسيطة أخذ يبحث عن العلاقة بين المحدود واللامحدود وحاول أن يعبر عنها.
ونحن نُخضع للبحث المنطقي كل الآراء التي تتعلق بالصلة بين المحدود واللامحدود، أو بإيجاد معنى الحياة — وأقصد فكرة «الله» أو الإرادة أو الخير، وكل هذه الآراء لا تستطيع أن تقف في وجه النقد العقلي.
ومما يفزع له المرء، بل مما يسخر منه، أننا — كالأطفال — نفكك الساعة أجزاء، فخورين راضين عن أنفسنا، ثم نستخرج الزنبرك، ونجعل من الساعة ألعوبة، وندهش بعدئذٍ لأن الساعة لا تسير.
من الضروري ومما له قيمة كبرى أن نوفق إلى حل للتناقض القائم بين المحدود واللامحدود، وأن نوفق إلى جواب لمسألة الحياة حتى تبيت الحياة ممكنة، وذلك هو الحل الوحيد الذي نلقاه في كل مكان وكل زمان، وبين جميع البشر: وهو حل يتحدر من الأزمنة التي تتوارى عن أبصارنا فيها حياة الإنسان، حل بلغ من العسر أننا لا نستطيع أن نؤلف ما يشبهه — ونحن نهدم هذا الحل مستخفين لكي نضع السؤال عينه مرة أخرى، وهو السؤال الطبيعي لكل امرئ، والذي ليس لدينا له جواب.
إن فكرة الإله الذي ليس له نهاية، وقدسية الروح، والعلاقة بين الله وشئون البشر، ووحدة الروح ووجودها، وفكرة الإنسان عن الخير والشر في الأخلاق — كلها أفكار صيغت في الضمير البشري الخفي الذي ليس له نهاية، وهي تلك الأفكار التي لا يمكن لي ولا للحياة بغيرها البقاء، ومع ذلك فقد نبذت جهد الإنسانية كلها بأسره وأردت أن أصوغها بنفسي وبأسلوبي الخاص من جديد.
إنني لم أفكر على هذا النمط في ذلك الحين، ولكن جراثيم هذه الأفكار بدأت تدب في نفسي، لقد أدركت في أول الأمر أن موقفي وموقف شوبنهور وسليمان — برغم ما لدينا من حكمة — سخيف غير مستساغ: إننا نرى الحياة شرًّا، ومع ذلك نواصل الحياة، وجلي أن هذا أمر شاذ؛ لأن الحياة إن كانت غير معقولة، وإن كنت مغرمًا بأحكام العقل، إذن فلا بُدَّ من هدم الحياة، وإذن فلن يكون هناك من يتحداها، ثم إني أدركت أن كل ما تقدم من تعليل عقلي يدور في حلقة مفرغة، كالعجلة تنفك عن الترس، ومهما ناقشنا وأجدنا النقاش فإننا لا نستطيع أن نظفر بجواب للسؤال، غير أن س = س دائمًا؛ ولذا فالأرجح أننا نسلك طريقًا خاطئًا، ثم بدأت كذلك أدرك أن الأجوبة التي يقدمها الإيمان تحتوي على أعمق حكمة إنسانية، وإني لا أملك حق إنكارها بحجة العقل، وأن تلك الأجوبة هي وحدها التي تجيب عن مشكلة الحياة.
•••
أدركت ذلك، غير أن إدراكي له لم يصلح لي الأمور، كنت الآن على استعداد لقبول أي ضرب من ضروب الإيمان، إذ لم يتطلب مني إنكارًا مباشرًا للعقل — وإلا كان مغالطة من المغالطات، فدرست البوذية والإسلام من الكتب، ودرست أكثر من ذلك المسيحية من الكتب وممن حولي من الناس.
وكان من الطبيعي أن ألتفت أول الأمر إلى العقائد الثابتة التي تسود أبناء طبقتي، وأن ألتفت إلى العلماء: وهم علماء الكنيسة والرهبان، والمحدثين من علماء الدين، بل وإلى الإنجيليين الذين يعترفون بالخلاص عن طريق العقيدة في الفداء، وتشبثت بأهداب أصحاب هذه العقيدة وأخذت أسألهم عن عقائدهم وفهمهم لمعنى الحياة.
ومع أني تهاونت كثيرًا، وتجنبت كل ما يدعو إلى النزاع، فإني لم أستطع أن أقبل عقيدة هؤلاء الناس، فقد رأيت أن ما يزعمون أنه عقيدتهم لا يوضح معنى الحياة بل يزيده غموضًا، وأنهم هم أنفسهم يؤكدون عقيدتهم لا ليجيبوا عن تلك المشكلة الحيوية التي أدت بي إلى الإيمان، ولكن لأغراض أخرى غريبة عني.
وإني لأذكر الشعور الأليم بالخوف من أن أعود إلى حالتي السابقة من اليأس — بعد ذلك الأمل الذي كان يعاودني — كلَّما اتصلت بهؤلاء الناس.
كلَّما زادوني إيضاحًا عن عقائدهم، اتضحت لي أخطاؤهم، وأدركت أن أملي في أن أجد في عقيدتهم تفسيرًا لمعنى الحياة أمل واهٍ لا رجاء فيه.
لم ينفرني منهم أنهم في عقائدهم يمزجون كثيرًا مما ليس ضروريًّا أو معقولًا بحقائق المسيحية التي كانت دائمًا تحت يدي، إنما نفرني منهم أن حياتهم كانت كحياتي مع هذا الفارق الوحيد — أن مثل هذه الحياة لم تتفق والمبادئ التي يبثونها في تعاليمهم، وأحسست بجلاء أنهم يخدعون أنفسهم، وأنهم — مثلي — لم يجدوا للحياة معنًى غير أن يحيوا ما دامت الحياة مستولين على كل ما تمتد إليه أيديهم، رأيت ذلك لأنهم لو وجدوا معنى يهدم الخوف من الخسارة ومن الألم والموت لما خشوا هذه الأشياء، ولكنهم — أقصد أولئك الذين يعتقدون في الدين من دائرتنا — كانوا مثلي يعيشون في كفاية ووفرة ويحاولون أن يحتفظوا بما لديهم أو أن يضاعفوه، يخشون الحرمان والألم والموت، وهم كذلك — مثلي ومثل كل من لا يعتقدون في الدين — كانوا يعيشون لإشباع رغباتهم، ويحيون حياة سيئة، إن لم تكن أسوأ من الحياة التي يحياها الكافرون.
فأدركت أن عقيدة هؤلاء الناس لم تكن ذلك الإيمان الذي كنت أبحث عنه، وأن إيمانهم ليس بالإيمان الصادق ولكنه عزاء أبيقوري في الحياة.
وأدركت أن تلك العقيدة قد تنفع كسلوى أو على الأقل كموضوع ينصرف إليه ذهن رجل كسليمان يعض بنان الندم وهو على فراش الموت، ولكنها لا تنفع الكثرة الكاثرة من بني الإنسان الذين لا يُطلب إليهم أن يلهوا وهم يستهلكون إنتاج غيرهم، وإنما يُطلب إليهم أن يخلقوا الحياة نفسها.
ولكي تستطيع الإنسانية جمعاء أن تعيش، وأن تواصل العيش وهي تنسب إلى الحياة معنى من المعاني، لا بُدَّ لهذه الملايين من عقيدة غير هذه، ولا بد لهم من معرفتها معرفة صحيحة، حقًّا أنني لم أقتنع بوجود العقيدة لأنني أنا وسليمان وشوبنهور لم نقتل أنفسنا، بل اقتنعت بوجودها لأن تلك الملايين من البشر قد عاشت وما تزال تعيش، وقد حملت سليمان كما حملتنا فوق تيار حياتهم.
وبدأت أقترب من المؤمنين من الفقراء السذج الأميين: الحجاج والرهبان والطائفيين والفلاحين، إن عقيدة هؤلاء العامة هي نفسها العقيدة المسيحية التي يُعلنها أشباه المؤمنين من دائرتنا، فقد وجدتُ لديهم كذلك قدرًا كبيرًا من الخرافة ممزوجًا بحقائق المسيحية، غير أن الفارق بينهم وبيننا هو أن الخرافة للمؤمنين منا كانت نافلة ليس لها ضرورة ولم تكن متفقة والحياة التي نحياها، فهي عندنا ضرب من ضروب اللهو الأبيقوري وحسب، في حين أن خرافة المؤمنين من جموع العمال كانت تتفق كل الاتفاق وحياتهم حتى إنه ليستحيل أن نتصورهم بغير تلك الخرافة، فهي شرط لازم لحياتهم، إن حياة المؤمنين من طبقتي كلها تناقض عقيدتهم، في حين أن حياة العمال كلها تأييد لمعنى الحياة الذي أمدتهم به عقيدتهم، فشرعت أنعم النظر في حياة هؤلاء الناس وفي عقيدتهم، وكلما أنعمت النظر زدت اقتناعًا بأنهم صادقون في عقيدتهم، وأن العقيدة ضرورية لهم، وهي وحدها تكسب حياتهم معنى، وتجعل الحياة ممكنة لهم، وعلى نقيض ما شهدت بين أبناء طائفتي — حيث تمكن الحياة بغير إيمان، وحيث لا تكاد تجد واحدًا في الألف يعترف بأنه مؤمن — رأيت أنك لا تكاد تجد رجلًا واحدًا في الألف بين هؤلاء لا يعتقد في الدين، وعلى نقيض ما رأيت بين أبناء دائرتي، حيث تُقضى الحياة كلها في خمول ولهو وسخط، فإن حياة هؤلاء الناس كلها تُقضى في العمل الثقيل وهم راضون عن الحياة، وعلى نقيض الطريقة التي يُعارض بها أبناء دائرتنا القدر ويشكونه بسبب ما يصيبهم من حرمان وآلام، فإن هؤلاء الناس يقبلون المرض والأحزان دون ارتباك أو معارضة، بل بيقين هادئ ثابت بأن كل شيء ينطوي على الخير، وعلى نقيضنا نحن الذين كلَّما ازددنا حكمة قل إدراكنا لمعنى الحياة ورأينا في الألم والموت سخرية وشرًّا، يعيش هؤلاء القوم ويتألمون، ويقابلون الموت والألم بهدوء بل وبسرور في أكثر الحالات، نحن نحسب أن الموت الهادئ الذي لا يحوطه الفزع واليأس نادر جدًّا بين أفراد الطائفة التي ننتمي إليها، وهم على نقيض ذلك يرون أن الموت الذي تكتنفه المشاق وثورة النفس والشقاء أمر نادر جدًّا، وهؤلاء الناس الذين يعوزهم كل ما نراه ويراه سليمان الخير الوحيد في الحياة — وهم مع ذلك ينعمون بأكبر قسط من السعادة — جمهور كبير، وأنعمت النظر فيما حولي، وتدبرت حياة أكثر الناس في الماضي والحاضر، ورأيت أن أمثال هؤلاء الناس الذي يدركون معنى الحياة ويستطيعون أن يحيوا وأن يموتوا، لا يعدون بالآحاد أو العشرات أو المئات أو الألوف بل يعدون بالملايين، وكلهم — على اختلاف عاداتهم وعقولهم وتعليمهم ومراكزهم اختلافًا كبيرًا — متشابهون، وهم يختلفون عني كل الاختلاف، فهم يعلمون ما أجهل من معنى الحياة والموت، ويعملون في هدوء، ويتحملون الحرمان والآلام، ويعيشون ويموتون، ولا يرون في ذلك عبثًا بل خيرًا ونعمة.
وتعلمت أن أحب هؤلاء الناس، وكلما عرفت حياتهم — حياة الأحياء منهم والأموات، ومن قرأت عنهم أو سمعت، ازددت حبًّا لهم وازدادت حياتي يسرًا، وبقيت على ذلك قُرابة العامين، ثم اعتراني تغيير كنت أتأهب له من زمان بعيد، ولم تبرح نفسي قط بذرة التفكير فيه، وانتهيت إلى أن حياة الفئة التي أنتمي إليها — الأغنياء والعلماء — ليست كريهة فحسب، بل فقدت كل ما لها من معنى في عينيَّ، وتبدَّت لي كل أعمالنا ومناقشاتنا وعلومنا وآدابنا تحت ضوء جديد، فهمت أن ذلك كله إن هو إلَّا غرور بالنفس، وأنه يستحيل على المرء أن يجد فيه أيَّ معنى من المعاني. في حين أن حياة الناس العاملين كلهم — وأقصد بهم كل من يُنتجون الحياة من بني الإنسان — قد ظهرت لي بمعناها الصحيح، حينئذٍ أدركت أن حياتهم هي الحياة نفسها، وأن المعنى الذي يكسو هذه الحياة معنى صادق: فتقبلته راضيًا.
•••
ولما تذكرت كيف أن هذه العقائد نفسها كانت تنفرني وتبدو لي خلوًّا من المعنى حينما يُقِر بها قوم تتعارض حياتهم معها، وكيف أن هذه العقائد نفسها تجذبني وتبدو لي معقولة حينما أرى الناس يعيشون وفقًا لها، فهمت لماذا نبذت تلك العقائد في أول الأمر ووجدتها عديمة المعنى، ثم قبلتها الآن وألفيتها مليئة بالمعاني، أدركت أني كنت مخطئًا كما أدركت سبب الخطأ، لقد أخطأت لا لأني أسأت التفكير فحسب، بل لأني عشت عيشة سيئة، وذلك أشد السببين خطرًا، أدركت أن الحقيقة لم تخف عني لأني أخطأت التفكير بمقدار ما خفيت عني بسبب حياتي نفسها التي قضيتها في ظروف شاذة تلمست فيها إشباع رغباتي على طريقة أبيقور، أدركت أن سؤالي عن حقيقة حياتي وجوابي على ذلك بأنها شر أمر جد صحيح، وموضع الخطأ أن الجواب يُشير إلى حياتي وحدها، ولكني نسبته إلى الحياة بجملتها، سألت نفسي ما حياتي، وظفرت بهذا الجواب: شر وعبث، وحقًّا إن حياتي — وهي حياة الاستهتار في الشهوات — كانت شرًّا وكانت خلوًّا من المعنى؛ ولذا فإن هذا الجواب: «الحياة شر وعبث» كان يُشير إلى حياتي فقط، لا إلى حياة البشر كافة، أدركت هذه الحقيقة التي وجدتها فيما بعد في الكتاب المقدس، وهي «أن الناس يحبون الظلام أكثر مما يحبون الضوء لأن أعمالهم شريرة؛ لأن كل من يفعل الشر يكره الضوء ولا يأتي إليه خشية اللوم على عمله»، ورأيت أنه لكي يفهم المرء معنى الحياة لا بُدَّ أولًا ألا تكون الحياة بغير معنى وألا تكون شرًّا، ثم يُطلب إلى العقل أن يفسرها، وأدركت لماذا حُمت طويلًا حول حقيقة واضحة كل هذا الوضوح، وأن الإنسان إذا كان يريد أن يفكر وأن يتكلم في حياة البشر لا بُدَّ له أن يفكر وأن يتكلم في تلك الحياة لا في حياة أحد المتطفلين على الحياة، كانت هذه الحقيقة دائمًا صادقة كما أن مجموع اثنين واثنين أربعة حقيقة صادقة، ولكني لم أعترف بها من قبل، لأني إن اعترفت بأن مجموع اثنين واثنين أربعة فلا بُدَّ لي كذلك من الاعتراف بأني رجل خبيث، وكان إحساسي بأني رجل طيب أكثر أهمية وضرورة عندي من أن يكون مجموع اثنين واثنين أربعة، ولما أحببت الناس وكرهت نفسي واعترفت بالحقيقة اتضح لي كل شيء.
ماذا لو أن جلادًا يقضي حياته كلها في تعذيب نفسه وحزِّ رقاب الناس — أو لو أن مدمنًا على الخمر لا رجاء فيه، أو مجنونًا ينفق حياته في حجرة مظلمة دنسة ويتصور الموت في تركها — ماذا لو سأل نفسه مثل هذا الرجل «ما الحياة؟» لا شك أنه لا يظفر بجواب عن هذا السؤال غير أن الحياة أكبر الشرور، ويكون جواب المجنون جد صحيح — ولكن فيما يختص به وحده، ثم ماذا لو كنت أنا ذلك المجنون؟ وماذا لو كنا نحن الأغنياء الخالين كهؤلاء المجانين؟ لقد أدركت أننا حقًّا أمثال هؤلاء المجانين، أو على الأقل لقد كنت أنا كذلك بغير شك.
حقًّا إن الطائر قد خلق ليطير ويجمع طعامه ويبني عشه، فإن رأيت طائرًا يفعل ذلك ابتهجت لسروره، والشاة والأرنب والذئب قد خلقت لتُطعم نفسها وتتناسل وتطعم صغارها، فإن فعلت ذلك أيقنت يقينًا ثابتًا أنها سعيدة وأن حياتها حياة معقولة، إذن فما ينبغي للإنسان أن يفعل؟ إنه كذلك ينبغي له أن ينتج ما يعيش عليه كما يفعل الحيوان، مع هذا الفارق: وهو أنه يهلك لو قام بذلك منفردًا، فواجبه أن يحصل على طعامه لا لنفسه فقط ولكن للجماعة كلها، فإن فعل ذلك أيقنت يقينًا لا يتطرق إليه الشك أنه سعيد وأن حياته معقولة، ولكني أسأل نفسي: ماذا فعلت خلال السنوات الثلاثين التي مضت من حياتي التي أحمل تبعتها؟ إنني لم أنتج لنفسي ما يقيم أودها، وما كان أبعدني من أن أنتج شيئًا للمجموع، لقد عشت متطفلًا، وعندما سألت نفسي: ما فائدة حياتي؟ أجبتها: لا فائدة منها، فإن كان معنى الحياة الإنسانية ينحصر في عولها فكيف لي إذن — وقد شغلت نفسي ثلاثين عامًا لا في عول الحياة بل في هدمها في نفسي وفي الآخرين — كيف لي أن أحصل على جواب غير أن حياتي خلو من المعنى وأنها شر؟ … ولقد كانت فعلًا تتصف بخلوها من المعنى كما تتصف بالشر.
إن حياة العالم تسير وفقًا لإرادة ما — أقصد أن إرادة ما تحقق غرضها بحياة العالم بأسره وبحياتنا الخاصة، ولكي يأمل المرء أن يدرك معنى تلك الإرادة يجب عليه أولًا أن يطيعها بأن يعمل ما يُطلب إلينا، فإذا أنا لم أعمل ما يُطلب إليَّ فلن أدرك قط المطلوب، بله أن أدرك المطلوب منا جميعًا ومن العالم بأسره.
إذا التقطنا من عرض الطريق متسولًا جائعًا عاري الجسد، وأتينا به إلى بناء يتصل بعمارة فخمة، وأمددناه بالطعام والشراب، ثم أرغمناه على أن يحرك مقبضًا إلى أعلى وإلى أسفل، فإن عليه — من غير شك — قبل أن يُناقش في سبب التقاطه وقبل أن يسأل لماذا يتحتم أن يحرك المقبض، أو إذا كان البناء كله حسن الترتيب، أن يحرك المقبض، فإذا حركه أدرك أنه يدير مضخة، وأن المضخة تستنبط الماء، وأن الماء يروي أحواض الحديقة، ثم يساق من مكان المضخة إلى مكان آخر يجمع فيه الثمر ويُدخل السرور على قلب سيده، وبتدرجه من العمل الوضيع إلى العمل الرفيع يزداد علمًا بتنظيم العمارة، وما دام يأخذ منها بنصيب فلن يفكر في السؤال عن سبب وجوده هناك، ولا شك أنه لن يلقي على سيده لومًا.
وإذن فإن أولئك الذين يطيعون إرادة مولاهم، أولئك السذج الجهال من العامة، الذين نحسبهم كالأنعام، لا يلقون على المولى لومًا، أما نحن الحكماء فإنا نأكل طعام المولى ولا نعمل وفقًا لإرادته، وبدلًا من أداء العمل ترانا نجلس في حلقة ونتناقش متسائلين «لماذا يُحرك ذلك المقبض؟ أليس ذلك سخف؟!» وهكذا نصل إلى قرار، وهكذا قررنا أن المولى غبي أو أنه غير موجود، وأننا حكماء، إلا أنا نحس بأننا عديمو النفع فيجب أن نقضي على أنفسنا بطريقة ما.
•••
وقد ساعدني إدراكي للخطأ في المعرفة العقلية على تحرير نفسي من الانزلاق في سبيل التعليل العقلي متراخيًا، وأدَّى بي الاعتقاد في أن معرفة الحق لا يمكن أن تتحقق إلا بالحياة نفسها إلى شك في صحة حياتي، ولم ينجني من هذا الموقف إلا قدرتي على انتزاع نفسي من عزلتي ورؤيتي الحياة الحقيقية للعمَّال السذج، وإدراكي أن تلك الحياة وحدها هي الحياة الحقيقية، وفهمت أني لو أردت أن أدرك الحياة ومعناها، ينبغي لي ألَّا أحيا حياة المتطفل، بل لا بُدَّ لي أن أحيا حياة حقيقية وأن أتحقق منها — بعدما أتخذ لنفسي المعنى الذي تضفيه الإنسانية الحقة على الحياة وبعد أن أزج بنفسي في تلك الحياة.
وفي غضون تلك الفترة حدث لي ما يأتي: في خلال ذلك العام كله حينما كنت أكاد أسأل نفسي في كل لحظة من اللحظات هل أقضي على نفسي — وتنتهي بذلك المشكلة — شنقًا أو رميًا بالرصاص، في خلال تلك الفترة كلها التي ساورتني فيها الأفكار وبدت لي فيها تلك الملاحظات التي تحدثت عنها كان يستولي على قلبي شعور أليم، لا أستطيع أن أصفه إلا أنه بحث عن الله.
أقول إن ذلك البحث عن الله لم يكن بالعقل إنما كان بالشعور؛ لأن هذا البحث لم ينشأ عن تسلسل الأفكار عندي — وإنما نبع من القلب، ولقد كان شعورًا بالخوف واليتم والعزلة في بلد غريب، وأملًا في العون من جهة ما.
وبرغم اقتناعي التام باستحالة البرهان على وجود الله (وقد بيَّن كانت أن هذا البرهان مستحيل، وفهمته تمام الفهم) كنت أبحث عن الله، وكنت آمل أن أجده، وتوجَّهت بالدعاء — مدفوعًا بالعادة القديمة — إلى ذلك الذي أبحث عنه ولم أجده، واستعدت في ذهني ما أدلى به كانْت وشوبنهور من حجج تدل على استحالة البرهان على وجود الله، وبدأت أحقق هذه الحجج وأنبذها، قلت لنفسي إن «السبب» ليس في نوعه فكرة كفكرة «الزمان» أو «المكان»، إن كنت موجودًا، إذن فلا بُدَّ لوجودي من سبب، ولا بُدَّ للأسباب من مسبب، وذلك السبب الأول هو ما يُسميه الناس «الله»، ووقفت قليلًا عند هذه الفكرة، وحاولت بكياني كله أن أعترف بوجود ذلك السبب، وما إن اعترفت بوجود قوة تملكني في قبضتها، حتى أحسست في الحال أني أستطيع أن أعيش، غير أني سألت نفسي: «ما ذلك السبب، أو تلك القوة؟ وكيف لي أن أفكر فيها؟ وما الذي يربطني بذلك الذي أسميه «الإله؟» ولم تطرأ لي سوى الإجابات المألوفة فقلت «هو الخالق والحافظ» غير أن هذا الجواب لم يقنعني وأحسست أني كنت أفقد في نفسي ما كنت أحتاج إليه في حياتي، وأصابني الذعر وبدأت أصلي لمن كنت أبحث عنه وأدعوه أن يُعينني، ولكني كلما ازددت دعاء اتضح لي أنه لم يستمع لدعائي، وتبيَّن لي أنه ليس هناك من أوجِّه إليه الدعاء، وامتلأ قلبي باليأس من وجود الله وقلت: «رحماك ربي! اللهم نجني! اللهم إني أسألك الهداية!» ولكن أحدًا لم يرحمني وأحسست أن حياتي تشرف على الركود.»
ولكني كنت أعود بين الحين والحين من نواح متعددة إلى الاعتراف الأول بأني لا يمكن أن أكون قد أتيت إلى هذا العالم بغير علةٍ أو سببٍ أو معنًى، لا يمكن أن أكون طائرًا مهيض الجناح سقط من عشه كما أحسست بنفسي، وحتى لو كنت كذلك، مستلقيًا على ظهري أصيح بين العشب الغزير، لصحت لأني أعلم أن أمًّا حملتني وأخرجتني من البيضة وأدفأتني وأطعمتني وأحبتني — أين تلك الأم؟ ولو كنت مهجورًا فمن هجرني؟ إني لا أستطيع أن أخفي عن نفسي أن شخصًا حملني وأولاني حبه، فمن عسى أن يكون؟ هل أقول ثانية هو «الله»؟ إنه يعلم ويرى بحثي ويأسي وكفاحي.
قلت لنفسي «إنه موجود»، واعترفت بذلك لحظة واحدة، ثم دبَّت في نفسي الحياة فجأة، وأحسست بإمكان الوجود وبمتعته، ولكني عدت بعد الاعتراف بوجود الله إلى البحث عن العلاقة بيني وبينه، ثم عدت إلى تصوُّر ذلك الإله — الخالق في ثلاثة أشخاص، الذي أرسل ابنه المخلِّص — ومرة أخرى يذوب ككتلة من الثلج هذا الإله المنفصل عن العالم وعني، يذوب أمام عينيَّ فلا يبقى شيء، ويجف ينبوع الحياة في نفسي مرة أخرى، فيستولي عليَّ اليأس وأحس أن ليس لديَّ ما أفعله غير أن أنتحر، وأسوأ ما في الأمر أني أحسست أني لا أستطيع الانتحار.
ولم أبلغ هذه الحالة مرة أو مرتين أو ثلاثًا، بل عشرات المرات ومئاتها: أشعر أولًا بالسرور والحيوية، ثم باليأس وإدراك استحالة العيش.
أذكر أني مرة في باكورة الربيع كنت وحيدًا في الغابة أستمع إلى ما يتردد فيها من صوت، استمعت وفكرت في نفس الموضوع الذي كنت أفكر فيه دائمًا خلال تلك السنوات الأخيرة الثلاث، فكنت أبحث عن الله مرة أخرى.
قلت لنفسي: «حسنًا، ليس هناك إله، ليس هناك من ليس من خيالي بل حقيقة واقعة كحياتي كلها، إنه غير موجود، وليس هناك من المعجزات ما يُثبت وجوده؛ لأن المعجزات من نسج خيالي فوق أنها غير معقولة.»
ثم سألت نفسي: «من أين لي فكرتي عن الله، ذلك الذي أبحث عنه؟» وارتفعت في نفسي مرة أخرى أمواج الحياة البهيجة عندما خطر لي هذا السؤال، ودبت الحياة في كل ما حولي واكتسبت معنى ما، غير أن سروري لم يدم طويلًا، واستمرَّ ذهني في حركته.
قلت لنفسي: «إن فكرة الإله ليست بالإله، إنما الفكرة شيء يحل بنفسي، وفكرة الله شيء أستطيع أن أُثيره وأستطيع أن أتجنب إثارته في نفسي، وليس هذا ما أبحث عنه، إنما أبحث عن ذلك الذي بغيره لا تكون حياة»، وبدأ كل ما حولي وما في نفسي يموت مرة أخرى، وأردت مرة أخرى أن أقتل نفسي.
ولكني عدت وحدَّقت ببصيرتي في نفسي، وفيما كان يدور بخلدي، وتذكرت تلك المئات من المرات التي نضب فيها عندي معين الحياة ثم عادت إليَّ بعدها الحياة كل مرة، وتذكرت أني إنما عشت في تلك الأوقات وحدها التي كنت أعتقد فيها في وجود الله، وكما كان الأمر من قبل، هو كذلك اليوم، يكفي أن أدرك وجود الله لكي أعيش، ويكفي أن أنساه أو ألَّا أعتقد فيه لكي أموت.
ما هذا الإحياء وما ذلك الموت؟ إنني لا أعيش إذا فقدت العقيدة في وجود الله، ولولا أنني كنت أتعلق بأمل غامض في وجود الله لقتلت نفسي من زمان بعيد، إنني أحيا — بل وأحيا حقيقةً — حينما أُحس به وأبحث عنه فقط، وصاح من داخلي صوت يقول: «عن أيِّ شيءٍ تبحث بعد هذا، هذا هو، إنه ذلك الذي لا يستطيع المرءُ بدونه أن يعيش، إن معرفة الله والحياة شيء واحد، أو قل الله هو الحياة.»
«عِش باحثًا عن الله، وإذن فلن تعيش بدون الله»، وقد أضاء كل ما بنفسي وكل ما حولي أكثر من أيِّ وقت سبق، ولم يبارحني الضوء بعد ذلك.
ونجوت من الانتحار، ولا أستطيع أن أقول متى أو كيف تم هذا الانقلاب، وكما أن دافع الحياة في نفسي قد تلاشى تدريجًا وبدرجة غير محسوسة حتى استحالت عليَّ الحياة وأردت إنهاءها بالانتحار، فكذلك عاد إليَّ هذا الدفاع إلى الحياة تدريجًا وبدرجة غير محسوسة، ومن العجيب أن قوة الحياة التي عادت إليَّ لم تكن مستحدثة — بل قديمة جدًّا — وهي تلك القوة عينها التي سيرتني في باكورة حياتي.
وعدت تمامًا إلى الحالة التي كنت عليها في صباي الباكر وفي شبابي، عدت إلى العقيدة في تلك «الإرادة» التي أوجدتني والتي تتطلب مني شيئًا ما، عدت إلى الاعتقاد في أن الهدف الرئيسي الوحيد لحياتي هو إصلاح نفسي — أي أن أعيش وفقًا لتلك «الإرادة»، وعدت إلى الاعتقاد في أني أستطيع أن أجد التعبير عن تلك الإرادة فيما أنتجته الإنسانية لإرشادها — وهو ما خفي عليَّ في الماضي البعيد: أي أني عدت إلى الاعتقاد في الله، وفي الكمال الخلقي، وفي التقاليد التي تحمل معنى الحياة، ولم يكن هناك سوى فارق واحد، وهو أنني كنت فيما مضى أقبل كل ذلك بغير وعي مني، في حين أني الآن أعلم أني بدونه لا أستطيع أن أعيش.
إن ما حدث لي شبيه بما يأتي: لكأني وُضعت في زورق (ولا أدري متى كان ذلك) دُفع بي من ساحل مجهول، ثم اطلعت على اتجاه الساحل المقابل، وبين يدي مجاديف لم أمرن على استعمالها وقد تُركت وحدي، فجدفت جهد استطاعتي وانطلقت إلى الأمام، ولكني كلما تقدمت نحو منتصف النهر زادت سرعة التيار وحملني بعيدًا عن مرماي، وقابلت كثيرًا من أمثالي حملهم كذلك التيار، وقل من المجدفين من واصل التجديف، ومنهم من طرح عنه المجاديف كلية، ومن الزوارق ما كان ضخمًا عظيمًا يحمل ركابًا عديدين، ومن الناس من كان يكافح في وجه التيار، ومنهم من استسلم له، وكلما شططت في المسير ورأيت تقدم أولئك الذين كانوا على سطح الماء في اتجاه التيار، نسيت الاتجاه الذي وجهته، وفي وسط التيار تمامًا بين زحام الزوارق والأفلاك التي كان يدفعها التيار ضللت وجهتي تمامًا وألقيت مجاديفي. وحولي من كل جانب كان الناس ذوو الأشرعة والمجاديف مدفوعين مع التيار، وكلهم يؤكد لي ولغيري — وهم مرحون مبتهجون — أنه ليس في الإمكان أي اتجاه آخر، وصدقتهم وطفوت معهم على متن التيار، وبَعُد بي الزورق حتى سمعت هدير الجنادل التي لا مناص لي من أن أتحطم على صخورها، ورأيت بعض الزوارق التي تحطمت عليها من قبل، فاستجمعت قواي العقلية ولكني لبثت طويلًا لا أستطيع أن أدرك ما حدث لي، ولم أر أمامي غير الهلاك الذي كنت أندفع إليه والذي كنت أخشاه، ولم أجد لي منقذًا للخلاص، ولم أدر ما أفعل، ولكني صوَّبت بصري إلى الوراء فوقعت عيناي على عدد لا يُحصى من الزوارق التي تنطلق عبر النهر بقوة وبغير انقطاع، وتذكرت الساحل والمجاديف ووجهتي، وشرعت أتقهقر صوب الساحل ضد التيار.
ذلك الساحل هو الله، وتلك الوجهة هي التقاليد، والمجاديف هي الحرية التي أُعطيت لي لكي أسير نحو الساحل وأتحد مع الله، وهكذا تجددت عندي قوة الحياة، وبدأت أحيا من جديد.
•••
انصرفت عن الحياة التي يحياها قرنائي، وأقررت أن العيشة التي نعيشها ليست هي الحياة، إنما هي شبه حياة، وأقررت أن الوفرة التي ننعم في ظلها تحرمنا من فهم الحياة، وأني إن أردت أن أفهم الحياة ينبغي لي ألَّا أفهم تلك الحياة الشاذة التي كنا نحياها نحن المتطفلين على الحياة، وإنما تلك الحياة تحياها الجموع العاملة الساذجة (أولئك الذين يخلقون الحياة) وذلك المعنى الذي يضفونه عليها، وجموع الناس السذج العاملين الذين كانوا حولي هم الروس، فالتفت إليهم وإلى معنى الحياة عندهم، وهذا المعنى — إذا استطعنا أن نُعبِّر عنه بالكلمات — هو أن كل إنسان قد أتى إلى هذه الدنيا بإرادة الله. وقد ركب الله الإنسان على صورة يستطيع معها إما أن يقضي على روحه أو أن ينجيها، وهدف الإنسان من الحياة هو أن ينجي روحه، ولكي ينجيها لا بُدَّ له أن يعيش عيشة ترضي الله، ولكي يفعل ذلك ينبغي له أن ينبذ كل ملاذ الحياة، وأن يعمل، ويتواضع، ويكابد المشاق، وأن يكون رحيمًا، وهذا المعنى يستخرجه الناس من تعاليم الدين التي تنحدر إليهم عن طريق رعاته وعن طريق التقاليد الشائعة بين الناس، وقد اتضح لي هذا المعنى وحلَّ بقلبي، ولكن إلى جانب هذا المعنى الذي آمنت به الجماهير التي لا تنتمي إلى طائفة دينية بعينها والتي كنت أعيش بينها، كان هناك شيء كثير شديد الالتصاق به نفرت منه ولم أستطع تفسيره، كالطقوس الدينية والصلوات الكنسية والصوم وعبادة الآثار القديمة وصور القديسين، ولا يستطيع الناس أن يفصلوا ذلك المعنى من هذه الأشياء، ولم أستطع أنا كذلك أن أفعل هذا، ومهما تكن هذه الأشياء التي تغلغلت في عقائد الناس عجيبة في نظري، فقد قبلتها كلها، فأديت الصلاة وركعت خشوعًا في الصباح والمساء وصمت وتأهبت للقاء القربان المقدس، ولم يعترض عقلي في أول الأمر على شيءٍ من هذا. والأشياء التي كانت فيما سبق تبدو لي مستحيلة لم تبعث فيَّ الآن هي عينها أي اعتراض.
إن صلاتي بالإيمان كانت في آخر الأمر شديدة الاختلاف عن صلاتي به في أول الأمر، كانت الحياة نفسها فيما سبق تبدو لي مليئة بالمعنى، وكان الإيمان يتبدَّى كأنه قواعد مفروضة على الناس اعتباطًا وهي عندي لا ضرورة لها، ولا تنطبق على العقل بل وعديمة الصلة بالحياة، ثم سألت نفسي: ما معنى تلك القواعد؟ ولما اقتنعت بأنها تخلو من المعنى نبذتها، أما الآن فعلى نقيض ذلك عرفت تمام المعرفة أن حياتي بغير ذلك ليس لها معنى، ولا يمكن أن يكون لها معنى، ولم تبد لي قواعد الإيمان البتة غير ضرورية — بل على العكس من ذلك أدت بي الخبرة التي لا شك فيها إلى الاعتقاد في أن هذه القواعد التي يفرضها الإيمان هي وحدها التي تكسب الحياة معنى، وكنت فيما سبق أنظر إليها إلى لغو من القول لا ضرورة له البتة، أما الآن فإن كنت لا أفهمها فإني أعرف أن لها معنى، فقلت لنفسي لا بُدَّ لي أن أتعلم فهمها.
واقتنعت نفسي بأن معرفة الإيمان — كالإنسانية كلها وما لديها من عقل — تتدفق من ينبوع عجيب، ذلك الينبوع هو الله، أصل الجسم الإنساني والعقل الإنساني، وكما أن جسمي هبط إليَّ من الله فكذلك هبط إليَّ عقلي وإدراكي للحياة، ومِن ثَمَّ فإن المراحل المختلفة لتطور ذلك الإدراك للحياة لا يمكن أن تكون باطلة، كل ما يعتقد فيه الناس مخلصين لا بُدَّ أن يكون صادقًا، نعم إنه يمكن التعبير عنه بصيغ مختلفة، ولكنه لا يمكن أن يكون أكذوبة، وإذن فإن بدا لي أكذوبة، فلا يعني ذلك إلا أني لم أفهمه، وقلت لنفسي فوق ذلك أن خلاصة كل عقيدة تنحصر في إكسابها الحياة معنى لا يهدمه الموت، ومن الطبيعي أن الإيمان لكي يقدر على الإجابة عن مشكلة الملك الذي يموت من الترف، والعبد المسن الذي يُعذبه إرهاق العمل، والطفل الشاذ، والشيخ الحكيم، والمرأة العجوز التي بها مس، والزوجة الشابة السعيدة، والشاب الذي تؤرق جنبيه العواطف، والناس أجمعين في ظروف الحياة المتنوعة وضروب التربية المختلفة — إن كان هناك جواب واحد عن السؤال الحيوي الأبدي الوحيد: «لماذا أعيش، وماذا عساه ينجم عن حياتي؟» وإن اتحدت في روحها. من الطبيعي أن الإيمان لكي يقدر على الإجابة عن هذه المسائل لا بُدَّ أن تكون إجابته — وإن اتحدت في روحها — متنوعة في صيغتها تنوعًا لا نهاية له، وكلما آلت الأجوبة إلى التوحيد وكانت أدنى إلى الصدق وإلى العمق، كان من الطبيعي أن تبدو عجيبة شائهة في محاولتها التعبير لكي تتفق وتربية كل فرد ومركزه، بيد أن هذا التسلسل الفكري، الذي كان يبرر في نظري غرابة الكثير من جانب الطقوس في الدين، لم يكف أن يسمح لي في ذلك الموضوع الأوحد الخطير في الحياة — وأقصد الدين — أن أؤدي أعمالًا تبدو لي مدعاة للسؤال، ووددت بكل نفسي أن أكون في مركز يُهيئ لي الاختلاط بالناس، وأن أقوم بطقوسهم الدينية، ولكني لم أستطع أن أفعل ذلك، وأحسست أني إن فعلت ذلك أكذب على نفسي وأسخر مما كان لديَّ مقدسًا، وعندئذٍ أسرع إلى إنقاذي كُتَّابنا الدينيون الروس المحدثون.
وبناءً على التفسير الذي يقول به رجال الدين هؤلاء فإن مجموعة العقائد الأساسية لديننا ترمي كلها إلى أن الكنيسة لا تُخطئ، وإذا سلمنا بذلك فلا مناص من التسليم بصدق كل ما تزعمه الكنيسة، فأصبحت الكنيسة باعتبارها مجموعة من المؤمنين الصادقين يؤلف بين قلوبهم الحب — ومِن ثَمَّ فهي تملك المعرفة الصحيحة — أساس عقيدتي، وقلت لنفسي إن الحق السماوي لا يتيسر للفرد منفصلًا عن المجموع، إنما يتكشف فقط لمجموع الأفراد بأسره الذين يُوحِّد الحب بين قلوبهم، فلكي يظفر المرء بالحقيقة ينبغي له ألا ينفصل، وينبغي له أن يحب وأن يتحمل أشياء قد لا يوافق عليها.
وكنت حينما أؤدي طقوس الكنيسة أخضع عقلي وأسلِّم للتقاليد التي تملكها الإنسانية جمعاء، واتحدت مع أسلافي: أبي وأمي وجدودي الذي أحببت، إنهم وكل من سبقني كانوا يعتقدون وكانوا يعيشون، وهم الذين نجلوني، وكذلك اتحدت مع ملايين العامة الذين كنت أبجلهم، وفوق ذلك فإن تلك الأعمال لم تتضمن شرًّا من الشرور (فلقد كنت أعتبر «الشر» في استرسال المرء في شهواته)، وكنت عندما أستيقظ مبكرًا لصلاة الكنيسة أعلم أنني أفعل خيرًا، على الأقل لأني أضحي براحتي البدنية كي أُذل كبريائي العقلي، في سبيل الاتحاد مع أسلافي ومعاصري، وفي سبيل العثور على معنى الحياة، وكان الأمر كذلك عندما كنت أتأهب للتناول، وعندما كنت أقرأ دعواتي كل يوم متضرعًا، وكذلك عندما كنت أحافظ على أيام الصيام، ومهما تكن هذه التضحيات تافهة فقد كنت أقوم بها في سبيل الخير، فلقد كنت أصوم وأتأهب للتناول وأؤدي صلواتي في أوقاتها في البيت وفي الكنيسة، وكنت أثناء الصلاة في الكنيسة أصغي لكل كلمة وأُكسب هذه الكلمات معنًى كلَّما استطعت ذلك، وفي صلاة الجماعة كانت أكثر الكلمات أهمية عندي هذه العبارة «ليحب أحدنا الآخر ولتتحد قلوبنا» أما هذه الكلمات: «إننا نؤمن بالاتحاد، وكذلك بالأب والابن والروح القدس»، فقد كنت أمر بها مرًّا سريعًا لأني لم أستطع أن أفهمها.
•••
كان إذن لزامًا عليَّ أن أعتقد في الدين لكي أعيش، فأخفيت عن نفسي — دون أن أشعر — ما تحتويه أصول الدين من متناقضات ومسائل غامضة. ولكن قراءة المعاني هذه في الطقوس كانت لها حدودها، فلئن ازدادت لي وضوحًا الكلمات الرئيسية في الدعاء للإمبراطور، ولئن كنت قد عثرت على تفسير لهذه الكلمات: «إننا إن ذكرنا سيدتنا المقدسة أم الإله وكل القديسين، إن ذكرنا أنفسنا وذكر أحدنا الآخر، فإننا بذلك نقدم حياتنا كلها للمسيح ربنا»، ولئن فسرت لنفسي تكرار الدعاء لقيصر وآل بيته من حينٍ إلى آخر بأنهم أشد تعرضًا للإغراء من أي قوم آخرين؛ ولذا فهم أشد حاجة إلى أن يُدعى لهم — إني إن فهمت ذلك فإن الدعوات الخاصة بإخضاع أعدائنا وإخضاع الشر تحت أقدامنا (حتى لو حاولنا أن نقول إن الرذيلة هي العدو الذي ندعو ضده)، هذه الدعوات وأشباهها مثل «نشيد شاروبيم» وكل الطقوس المتعلقة بالفداء، أو «المحاربين المختارين» إلخ — وهي تبلغ ثلثي الصلوات كلها — إما بقيت غير مفهومة تمامًا، أو إن حاولت تفسيرها على أية صورة جعلتني أعتقد أني أكذب، وبذلك تهدم علاقتي بالله هدمًا كاملًا وتحرمني كلية من إمكان الاعتقاد.
وقد حدث لي أكثر ذلك عندما كنت أشترك في الطقوس المألوفة التي تعد ذات أهمية كبرى: مثل التعميد والتناول، هنا كنت ألتقي بأعمال لا أقول إنها غير مفهومة بل أقول إنها جد مفهومة، فهي أعمال تبدو لي أنها تؤدي إلى الإغراء، فوقعت في حيص بيص — إما أن أخاتل أو أن أنبذها.
ولن أنسى ما حييت ذلك الشعور الأليم الذي أحسست به في اليوم الذي تلقيت فيه القربان المقدس للمرة الأولى بعد عدة سنوات، فلقد كانت الصلاة، والاعتراف، والدعوات جد مفهومة عندي، وبعثت فيَّ إحساسًا سارًّا بأن معنى الحياة قد تكشَّف لي، وقد فسرت التناول بأنه عمل نؤديه لذكرى المسيح، ويدل على التطهر من الإثم وعلى قبول تعاليم المسيح كلها، ولئن كان هذا التفسير متصنعًا فإني لم ألاحظ هذا التصنع: ولكم كنت سعيدًا لأني أخضع نفسي وأذلها أمام القسيس — وهو رجل من رجال الدين ساذج ريفي متواضع — وأخرج كل ما بنفسي من قذارة وأعترف بما اقترفت من ذنوب، وكم كنت منشرح الصدر لأني أشترك بفكري مع الآباء المتواضعين الذين كتبوا الدعوات الدينية، وكم كنت أبتهج لاتحادي مع كل من آمن ومن يؤمن اليوم، حتى إني لم ألاحظ التصنع في تفسيري، ولكني عندما اقتربت من أبواب المذبح، ودفعني القسيس إلى أن أقول بأني أعتقد بأن الذي أوشك أن أبتلعه هو لحم ودم فعلًا، أحسست بالألم يحز في قلبي، فلم يكن ما طلب إليَّ باطلًا فحسب، وإنما كان مطلبًا قاسيًا تقدم به شخص من الأشخاص من الجلي أنه لم يعرف قط ما الإيمان.
وأسمح لنفسي الآن أن أقول إنه كان مطلبًا قاسيًا، ولكني لم أحسبه كذلك في ذلك الحين، إنما كان شديد الألم على نفسي إلى درجة لا يحيط بها الوصف، فلم أعد في المركز الذي كنت فيه أيام الشباب، حينما كنت أحسب أن كل ما في الحياة واضح، فإنني في شبابي قد آمنت حقًّا لأني — بعيدًا عن الإيمان — لم أجد البتة شيئًا غير الدمار؛ ولذا كان من المستحيل أن أنبذ ذلك الإيمان، فسلمت، وألفيت في نفسي شعورًا يعينني على تحمله، ذلك هو الشعور بالتواضع وإنكار الذات، فأذللت نفسي وتناولت ذلك اللحم والدم دون إحساس بالعيب في ذات الله، بل برغبة قوية في الإيمان، غير أن الواقعة قد وقعت، ولما كنت أعلم ما ينتظرني لم أستطع أن أذهب مرة أخرى.
ولم أنقطع عن أداء طقوس الكنيسة، وما برحت أعتقد أن التعاليم التي اتبعتها تنطوي على الحق، وبقيت كذلك حتى وقعت لي واقعة أفهمها الآن، ولكنها بدت لي حينذاك أمرًا عجيبًا.
كنت أصغي إلى حديث فلاح أمي حاج عن الله والإيمان والحياة والخلاص حينما تكشف لي العلم بالإيمان، واقتربت من الناس، وأصغيت إلى آرائهم في الحياة وفي الإيمان، وزدت إدراكًا للحق، وحدث لي مثل ذلك عندما قرأت مجموعة «حياة القديسين»، وقد أصبحت أحب الكتب إلى نفسي، ولما غضضت الطرف عن المعجزات واعتبرتها خرافات توضح بعض الآراء كشفت لي قراءة هذه الكتب عن معنى الحياة، قرأت حياة مكاريوس العظيم، وقصة بوذا، وكلمات القديس حنا خريسستم، وقصص المسافر والبئر والراهب الذي وجد بعض الذهب، وبطرس صاحب الحان، وقرأت قصص الشهداء، وكلها تعلن أن الموت لا ينفي الحياة، وقرأت قصص الرجال الأغبياء الجهلاء الذين لا يعلمون شيئًا عن تعاليم الكنيسة ولكنهم برغم ذلك قد ظفروا بالخلاص.
ولكني عندما قابلت المعتقدين في الدين من العلماء أو تناولت كتبهم ثار في نفسي الشك والسخط والجدل والحنق، وأحسست أني كلما تعمقت معنى كلام هؤلاء الناس، ازددت بُعدًا عن الحقيقة وقاربت شفا هوة سحيقة.
•••
ولكم غبطت الفلاحين على أميتهم ونقص معارفهم! فإن تلك المزاعم التي تشتملها المذاهب المختلفة التي كانت في رأيي سخافات واضحة، كانت في رأيهم حقائق لا شك فيها، وكان بوسعهم أن يقبلوها وأن يعتقدوا في صدق ما اعتقدتُ فيه، غير أني — أنا ذلك التعس الشقي — كنت أرى بجلاء أن الحق يختلط بالباطل وتربط بينهما خيوط دقيقة؛ ولذا فلم أستطع أن أقبله في تلك الصورة.
وهكذا عشت نحو ثلاث سنوات، وفي أول الأمر عندما كان يربطني بالحق رباط واهٍ باعتباري طالبًا للتنصر، وعندما كنت أتحسس فقط ما كان يبدو لي شديد الوضوح، كانت هذه الأمور تصادفني لا تصدمني صدمة قوية، فإذا ما استعصى عليَّ فهم أمر من الأمور قلت لنفسي «هذا خطأي، وإني لآثم»، ولكني كلما تشبعت بالحقائق التي كنت أتعلمها، صارت أساسًا مكينًا لحياتي، واشتدَّ عسف هذه المصادفات وإيلامها، واشتد وضوح الخط الفاصل بين ما لا أفهم لأنني لا أستطيع فهمه، وما لا يُفهم إلا أن يكذب المرء على نفسه.
وبرغم شكوكي وآلامي ما برحت متمسكًا بأهداب الكنيسة الأرثوذكسية، ولكن بعض مشاكل الحياة نشأت أمامي ولا بُدَّ من البت فيها، والبت في هذه المسائل عن طريق الكنيسة — وهي تناقض أسس العقيدة التي عشت عليها — اضطرني أخيرًا إلى أن أنبذ التناول على المذهب الأرثوذكسي وأعده أمرًا مستحيلًا، وهذه المسائل هي: أولًا علاقة الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية بالكنائس الأخرى — بالكاثوليك وبمن يسمون أنفسهم بالطائفيين، وفي ذلك الحين اتصلت بالمؤمنين بالعقائد المختلفة وذلك نتيجة لاهتمامي بالدين، فاتصلت بالكاثوليك والبروتستنت وبالمؤمنين الراسخين وبأولئك الذين لا يعتقدون في الطقوس والتقاليد، وبغيرهم، وقابلت بينهم رجالًا كثيرين ذوي أخلاق رفيعة كانوا متدينين حقًّا، وأردت أن أآخيهم، فماذا حدث؟ إن تلك التعاليم التي تبشر باتحاد الجميع في عقيدة واحدة وحب واحد — تلك التعاليم نفسها في شخص خير ممثليها خبرتني أن أولئك الناس كانوا يعيشون في أكذوبة، وأن الذي أعطاهم قوة الحياة هو إغراء الشيطان، وأننا نحن وحدنا نملك ما يحتمل أن يكون حقًّا، ورأيت أن كل من لا يعترف بإيمان يتفق وإيمانهم يعتبر زنديقًا عند الأرثوذكس، كما أن الكاثوليك وغيرهم يعتبرون الأرثوذكس زنادقة، ورأيت أن الأرثوذكس ينظرون بعين العداوة إلى كل من لا يعبر عن عقيدتهم بنفس الشارات الخارجية والكلمات التي يستعملونها هم أنفسهم (وإن كانوا يحاولون إخفاء ذلك)، وهذا أمر طبيعي: أولًا لأن إقرارك بخطئك وصوابي أقسى ما يعترف به إنسان لآخر، وثانيًا لأن الرجل الذي يحب أبناءه وإخوانه لا يسعه إلا أن يكون معاديًا لأولئك الذين يحبون أن يردوا أبناءه وإخوانه إلى عقيدة خاطئة، وهذه العداوة تزداد بالنسبة إلى زيادة معارف الإنسان بعلوم الدين، واتضح لي — وأنا أعتقد أن الحق ينحصر في الاتحاد عن طريق الحب — أن علوم الدين كانت تهدم بنفسها ما كان ينبغي لها أن تبنيه.
ووافقني محدِّثي على رأيي، ولكنه أخبرني أن مثل هذا التسامح يجلب اللوم على أصحاب السلطات الدينية لأنهم يتخلون عن عقيدة أجدادنا، وهذا يسبب الانقسام، وواجب أصحاب السلطة الدينية أن يحافظوا على نزاهة العقيدة الأرثوذكسية الروسية اليونانية الموروثة عن أسلافنا.
ثم وجهت نظري إلى ما يُعمل باسم الدين واشتدَّ جزعي، وكدت أقسم أن أتخلَّى عن الأرثوذكسية بتاتًا.
والعلاقة الثانية للكنيسة بمسألة من مسائل الحياة هي فيما يتعلق بالحرب والإعدام.
وكانت الروسيا في ذلك الحين في حالة حرب، وبدأ الروس باسم المحبة المسيحية يقتلون إخوانهم، وكان من المستحيل ألا أفكر في ذلك وألا أرى أن القتل شر تنفر منه المبادئ الأولى لأي إيمان، وبرغم ذلك كانت الصلوات تُقام في الكنائس لنجاح جيوشنا، وأقرَّ رجال الدين عندنا أن القتل عمل ينجم عن الإيمان، وإلى جانب القتل أثناء الحرب رأيت خلال الاضطرابات التي أعقبت الحرب أن علماء الدين ورجاله وكبار الرهبان وصغارهم يوافقون على قتل الشباب العاجز المخطئ، ودوَّنت كلَّ ما يعمله الرجال الذين يزعمون اعتناق المسيحية، وكان ذعري شديدًا.
•••
ولم أعد أشك، واقتنعت اقتناعًا تامًّا أن ليس كل ما يتعلق بالدين الذي أعتنقه صادقًا، وكنت فيما سبق أقول إن كله باطل، ولكني لا أستطيع أن أقول ذلك الآن، إن مجموعة الناس لها علم خاص بالحقيقة، وإلَّا ما استطاعوا العيش، وهذا العلم — فوق ذلك — ميسور لي؛ لأني أحسست به وعشت عليه، ولكني لم أعد أشك في أن به كذلك شيئًا من الباطل، وكل ما كان فيما مضى ينفرني يتضح أمام عيني الآن بجلاء، ومع أني رأيت أن الأكاذيب التي تتخلل العقيدة الصادقة والتي أنفر منها هي بين الفلاحين أقل منها بين ممثلي الكنيسة، فقد رأيت أن الباطل يمتزج بالحق، في عقيدة الناس كذلك.
ولكن من أين جاء الحق ومن أين جاء الباطل؟ إن ما يُسمونه التقاليد المقدسة والكتاب المقدس يحتوي الحق والباطل على السواء، وكلا الحق والباطل قد تحرر عن طريق ما يسمونه الكنيسة.
وسواء رضيتُ أو لم أرض اضطررت إلى دراسة الكتاب والتقاليد والبحث فيها، وقد كنت حتى آنئذٍ أخشى البحث فيها.
ثم اتجهت إلى فحص علوم الدين نفسها التي نبذتها من قبل وازدريتها باعتبارها غير ضرورية، وكانت فيما سبق تبدو لي سلسلة من السخافات التي لا ضرورة لها، حينما كانت تتحوطني من كلِّ جانب مظاهر الحياة التي كانت تبدو لي واضحة مليئة بالمعاني، والآن كان يسرني أن أنبذ ما لا يقبله العقل السليم، ولكني لست أجد لي ملاذًا، على هذه التعاليم تقوم العقائد الدينية، أو على الأقل بهذه التعاليم ترتبط ارتباطًا وثيقًا المعرفة الوحيدة بمعنى الحياة الذي وجدته، ومهما بدت نابية لعقلي القديم الثابت فهي الأمل الوحيد في النجاة، ويجب أن تُفحص بعناية وانتباه لكي تفهم، ولا يكفي أن أفهمها كما أفهم فروض العلم: إنني لا أبحث عن ذلك، ولا أستطيع أن أبحث عنه، بعد ما عرفت خصائص العلم بالإيمان، ولن أبحث عن تفسير كل شيء، فإني أعلم أن تفسير كل شيء — كبدء كل شيء — يجب أن يتوارى في اللانهائي، ولكني أريد أن أفهم بطريقة تؤدي بي إلى ما لا مناص من عدم تفسيره، أحب أن أُقرَّ بأن أي شيء يستعصي على التفسير إنما يستعصي لا لأن مطالب عقلي خاطئة (فهي صحيحة، ولا أستطيع أن أفهم شيئًا بعيدًا عنها) وإنما ذلك لأني أعترف بحدود قوتي الذهنية، أحب أن أفهم بطريقة تجعل كل شيء يستعصي على التفسير يبدو لي مستعصيًا بالضرورة، ولا يبدو لي شيئًا أنا مضطر إلى الاعتقاد فيه اضطرارًا.
كتبت ما سبق منذ نحو ثلاث سنوات وسوف أقوم بطبعه.
والآن منذ بضعة أيام عندما كنت أراجعه، وعندما استعدت سلسلة الفكر والمشاعر التي تملكتني حينما كنت أعيش خلال ذلك كله رأيت أثناء النوم حلمًا، هذا الحلم يُعبر في إيجاز عن كل ما خبرت وكل ما وصفت؛ ولذا فإني أظن أن وصف هذا الحلم لمن فهموني سيُجدد لهم ويوضح ويوحد كل ما قدمت بإسهاب في الصفحات السابقة، وهذا ما رأيت في الحلم:
رأيت أني كنت مستلقيًا فوق الفراش، ولم أشعر براحة أو تعب، وكنت مستلقيًا على ظهري، ولكني بدأت أفكر كيف وعَلامَ كنت مستلقيًا — وهو سؤال لم يطرأ لي حتى آنئذ، ولما نظرت إلى سريري ألفيتني مستلقيًا فوق وسادات من الأوتار المضفورة متصلة بجوانب السرير، ترتكز قدماي على إحدى هذه الوسادات، وساقاي على أخرى، وأحسست أن قدميَّ وساقيَّ مُتعَبَة، وكأني كنت أعرف أن تلك الوسادات متحركة، فبحركة من قدمي دفعت الوسادة القصوى التي كانت عند قدمي؛ وتصورت أني بذلك أكون أكثر راحة، غير أني دفعت الوسادة بعيدًا جدًّا وأردت أن أمسها ثانيةً بقدمي، وقد ترتب على هذه الحركة أن انزلقت الوسادة الأخرى من تحت ساقي، وباتت ساقاي معلقتين في الهواء، ثم حركت جسمي كله كي أتزن في سريري، وأنا على يقينٍ تامٍّ أنني أستطيع أن أفعل ذلك توًّا، غير أن الحركة سببت انزلاق الوسادتين الأخريين من تحتي، واختلطتا بغيرهما، وسارت الأمور على غير ما يرام، وانزلق الجزء الأسفل كله من جسمي وظل معلقًا ولو أن قدمي لم تمسا الأرض، ولم يمسكني بالفراش سوى الجزء الأعلى من ظهري، ولم يكن هذا الوضع متعبًا فحسب بل لقد أزعجني، وحينئذٍ فقط سألت نفسي عن أمر لم يطرأ لي من قبل، سألت نفسي: أين أنا، وعَلامَ أنا مستلق؟ وبدأت أتلفت حوالي وأنظر قبل كل شيء في الاتجاه الذي كان جسمي معلقًا فيه، وفي الناحية التي أحسست أني لا بُدَّ أن أسقط سريعًا فيها، نظرت إلى أسفل ولم أصدق عيني، لم أكن فقط على ارتفاع يُضارع ارتفاع أعلى البروج أو الجبال، ولكني كنت على ارتفاع لم أكن أتصوره.
ولم أستطع حتى أن أتبين إن كنت أرى شيئًا إلى أسفل في تلك الهوة السحيقة التي كنت معلقًا فوقها، وإلى أي اتجاه أنجذب، وانقبض قلبي وحل بي الرعب، إن النظر في ذلك الاتجاه كان مرعبًا، إني إن نظرت هناك أحسست بأني لا بُدَّ أن أنزلق في الحال من فوق الوسادة الأخيرة، ويكون في ذلك هلاكي، ولم أتجه ببصري إلى هناك، ولكن عدم النظر كان أسوأ من النظر؛ لأني فكرت ماذا عساه يحدث لي عندما أسقط من فوق الوسادة الأخيرة، وأحسست أني أفقد سندي الأخير بسبب الخوف، وأن ظهري ينزلق تدريجًا إلى أسفل، ولا بُدَّ بعد لحظة أن أسقط، ثم عنَّ لي أن هذا لا يمكن أن يكون حقيقيًّا، إنما هو حلم، فلأتيقظ! وحاولت أن أنهض ولكني لم أستطع، فماذا عساي فاعل؟ وأسأل نفسي هذا السؤال وأشخص ببصري إلى أعلى، وفي أعلاي كان هناك كذلك فضاء لا يحد، ثم نظرت إلى السماء العريضة وحاولت أن أنسى اتساع الهوة السفلى، ونسيتها فعلًا، إن الهوة السفلى تنفِّرني وتبعث فيَّ الرعب، والفضاء العلوي يجذبني ويشد أزري، وما زالت تحملني فوق الهوة الوسادات الأخيرة التي لم تنزلق من تحتي، وأعرف أني ما زلت معلقًا، ولكني أنظر إلى أعلى فقط فتنقشع مخاوفي، وكما يحدث في الأحلام، ناداني صوت قائلًا: «انتبه إلى هذا، إنه هو!» ثم أنعم النظر في اللانهاية التي فوقي وأحس بالهدوء، وإني لأذكر كلَّ ما حدث، وأذكر كيف حدث، وكيف حركت ساقي، وكيف تدليت، وكيف امتلأت نفسي رعبًا، وكيف نجوت من الخوف بالنظر إلى أعلى، ثم أسأل نفسي: والآن ألست معلقًا كذي قبل؟ ولا أتلفت حولي بقدر ما أحس بكلِّ جسمي نقطة الارتكاز التي تمسكني، وأرى أني لم أعد معلقًا كأني على وشك السقوط، بل أراني ثابت الارتكاز، وأسأل نفسي كيف أنا معلق هكذا، وأتحسس حولي، وأتلفت هنا وهناك، وأرى أن ليس تحتي — تحت جذعي — وسادة واحدة، وأني عندما أنظر إلى أعلى أستلقي عليها في وضعٍ مأمون الاتزان، وأنها وحدها كانت تسندني من قبل، ثم تصورت — كما يحدث في الأحلام — الطريقة التي كانت تمسكني: وهي وسيلة طبيعية جدًّا، معقولة، أكيدة، وإن كانت وسيلة لا معنى لها في عين الرجل المتيقظ، بل لقد أدهشني حتى في الحلم أني لم أفهمها من قبل، بدا لي كأن عند رأسي عمودًا، وهذا العمود النحيل مأمون لا يُشك فيه وإن لم يكن هناك ما يستند إليه، ومن هذا العمود يتدلى حبل ملتوٍ بطريقة سهلة تدل على العبقرية، وإن استلقى امرؤ بخصره في هذا الحبل الملتوي وشخص ببصره إلى أعلى فليس هناك خطر من سقوطه، وقد اتضح لي هذا كله، وسررت وهدأت نفسي، وبدا لي كأن أحدًا يقول لي: «تذكر هذا دائمًا.»
ثم تيقظت.