المنظر الأول
(أمين بك في غرفة حقيرة هي سكن خادمه القديم الحاج رضوان، وذلك
إثر رجوعه من الحبشة بعد غياب خمس سنوات في الأسر، ويراعى إظهار أثاث الغرفة نقشًا
على الستارة الخلفية لمناسبة تقسيم هذا الفصل إلى منظرين، كما يراعى أن يكون النور
وسطًا.)
أمين بك
(ينشد حزينًا وهو جالس على كرسي حقير في جانب
الغرفة)
:
أكذا تكونُ نهايةُ الإيمانِ!
أكذا تحولُ صَدَاقةُ الِخلَّانِ؟
أيُشيعُ موتي مَنْ مَضَى بمحبتي
لم يكفه أسري وَطُول هواني
قُتِلَ الرِّفاقُ وفَرَّ وهو مدنَّسٌ
بالعار من جُبنٍ ومن خذلانِ
كان الممالئ للعدوِّ، فيا لَهُ
من خَائن دَنِسٍ وأيِّ جبانِ
وأنى فهدَّ أخي بسمٍّ خاتلٍ
وا حسرتاه على الشباب الفاني
مات القتيل بسمِّه فسُلاله
وكأنَّما أكفانهُ أكفاني!
بئس التحاسدُ والتحايلُ والأذى
والغدرُ … يا لقَساوةِ الإنسانِ!
الحاج رضوان
(واقفًا على مقربة من سيده تجاهه)
:
هوِّنْ عليكَ فسوف يلقى خُسْرَه
والموتُ مُشتَقٌّ من الحدَثانِ
فاحفظْ حياتَكَ للدِّفاع عن التي
تُركَتْ ضحيَّة مَا جناهُ الجانيِ
ذكرى أخيك وذكرُ مَبْكِيِّ المُنَى
بعد الشبابِ لقلبك الولهانِ
فقدتْك أْعوامًا ولم يهنأ لها
عَيْشٌ، وها مات الرجاءُ الثاني
وكأنما كان الزواجُ بلاءَها
وردى أخيك، فَهدِّم الاثنان
أمين بك
(متعجبًا متأثرًا)
:
أيُّ انتفاعٍ لي، وقد ذهب الرَّدى
بأخي، إذا لقيَ العقابَ الجاني؟
(يفاجآن بسماع صوت مستجد مصحوبًا بصوت ابنته.)
الشحاذ وابنته
(ينشدان معًا في الخارج)
:
المالُ والله فان
مهما اغتنى الإنسانْ
والذكر أبقَى الأماني
بالبرِّ والإحسانْ
أمين بك
(مخاطبًا الحاج رضوان)
:
خُذْ أَعْطِهِ هذا القليـ
ـلَ لَعلَّه فألٌ لخْيرْ
ما أظلمَ الإنسانَ للـ
إنسانِ في بُؤسٍ وَضيْرْ
الحاج رضوان
(ذاهبًا لإعطاء الشحاذ النقود مخاطبًا أمين بك)
:
شكرًا لكم ألفَ شكرٍ
من الفقيرِ الضريرْ
والله ربِّي سميعٌ
إلى ثناء الفقيرْ
بنت الشحاذ
:
أدعو دعاءً وفيًّا
من كلِّ قلبي الكسيرْ
لكم ثوابٌ جزيلٌ
من الإلهِ القديرْ
(يعود الحاج رضوان إلى الغرفة.)
الحاج رضوان
(يخاطب أمين بك وهو مطرق حزين)
:
هكذا الدنيا عَنَاءٌ في عَنَاءْ
للذي يَنْسى تصاريفَ العَزَاءْ
والحكيمُ النَّفسِ لا يبكي على
ضائعٍ لن يُرْتجَى بعد البُكاءْ
أمين بك
(متأثرًا منه)
:
أكذا يكون وفاءُ خلِّ وافِ؟
أنسيتَ حقَّ البرِّ والإنصافِ؟
أنا ما نَسيِتُ، فإنْ نسيتَ فخلِّني
أشقى كمَا يشقى الحبيبُ الوافِي!
الحاج رضوان
(في صوت المعاتب)
:
يا سيِّدي رفقًا بنفسك ولتكنْ
ملَكًا بإحسانٍ إلى (إحسانِ)
قد نال منها السُّقْمُ أيضًا فاتَّئدْ
واذَهبْ لتنقذَها من الأحزانِ
في ذمَّة الله الذي عانَيتَهُ
في البرِّ بالخلَّانِ والأوطانِ
أمين بك
:
صدقتَ … للحيِّ حقٌّ
عليَّ هيهات يُنْسَى
إنْ جلَّ همِّي فحسبي
أن أُنقذ اليومَ نَفْسَا
أغلى مرارًا لنفسي
من نفسِ رُوحي المؤسَّى
هَلُمَّ كيما نَراها
قد يدفعُ اليأسُ يأسَا
يرعاكِ يا نُورَ قلبي
ربِّي إذا الدهرُ قسَّى!
(يخرجان فيطفأ النور سريعًا، ويبعد الكرسي عن المسرح، ثم
يرفع الستار الممثل لظهر الغرفة السابقة، فتظهر غرفة إحسان وهي على فراش المرض،
ومعها مربيتها ووالدها والطبيب.)
المنظر الثاني
(في غرفة إحسان وهي على فراش المرض مشرفة على الموت، وبقربها مربيتها جالسة على
كرسي، ونور الغرفة متوسط حيث يوجد مصباحان وفيهما شمع مضاء والوقت غروب، ويوجد
بالغرفة أيضًا الطبيب ووالد إحسان.)
عمر بك — والد إحسان
(حزينًا ينشد بصوت متهدج مخاطبًا الطبيب)
:
أتظلُّ في غيبُوبةِ التَّعذيبِ؟
قلْ يا طبيبُ فأنت خيرُ طبيب!
هي كلُّ ما أبقى الزمان من المُنَى
والآن أذوي مثلها بلهيبي!
سامحْ نُضوبَ الصبر منِّي بعدما
هُدِّمْتُ في دمعي وُطولِ نحيبي!
(يسمح دموع عينيه ويستند إلى بعض الأثاث.)
الطبيب
:
هي لا تُحِسُّ بحالها، ولَرُبما
عادتْ ليقظتها فكنْ كطبيبِ!
إنَّ الشجاعة كالدواء لذي ضَنى
فكن الشجاعَ تكنْ أبرَّ رقيبِ
فوصيَّتي أن لا تشاهدَ
١ ما أرى
مِنْ مدمعٍ أو زَفرةٍ ووجيبِ
(يسمع صوت سعالها ثم تأوهها.)
الطبيب
:
حاذرْ! فخيرُ البرِّ نحو مودِّعٍ
صبْرُ الشجاع ورَحْمَةُ التَطبيبِ
عمر بك
:
جَزَعي عليك بُنيَّتِي جزع الذي
يَفنى من التقْطيع والتَّعْذيبِ
أواهُ من آهاتِكِ الحَسْرى ومن
كَمَدٍ أُذِبْت به وكان مُذيبي!
(يسمع صوت سعالها.)
إحسان
(بصوت ضعيف مؤثر راقدة فيقترب إليها الطبيب
ووالدها)
:
يا حياتي أيُّ قَلْبٍ لي هَلكْ
ماتَ مَوْتَيْنِ بنار وَحلك!
يا غرامي عن غرام ضائعٍ
فاتني الحظَّان: مَلْك ومَلَكْ!
لَيْتَني ما جئتُ في الدنيا ويا
لَيْتَها رَدَّتْ تصاريف اَلفَلَكْ!
قتلْتني نكبةٌ قد أسْلَفَتْ
قسوة أوْحَتْ إلى مَنْ قتَلكْ!
الطبيب
(بعد أن يتأمل وجهها ويجس نبضها)
:
أضغاثُ أحلامٍ فليـ
ـستْ يقظَة الذِّهن البصيرْ
عمر بك
(حائرًا وجلًا)
:
لكنْ إذا عادتْ إلى الرْ
رُشْدِ المُرجَّى لو يحينْ
أتُجيزُ أن تبقى هُنا
وتجيزُ رؤيتها (أمينْ)؟
لا سيَّما بعد الفرا
ق وحزنِها الحزنَ الدفينْ
فلقد علمتُ بأنه
آتٍ إلينا بعد حينْ
ولقد أُشيعَ كما علمـْ
ـتَ مماتُه الخمسَ السِّنينْ
وهو الذي كان الخطيـ
ـبَ لها، وكان بها الضَّنينْ
فقدَتهْ ثم أخاه فقـ
ـدانًا يُجَنُّ به الحزينْ
وأصابها الداء المكيـ
ـنُ فهدَّم الحسنَ الثَّمينْ!
(يُسمع دق على الباب يدخل أمين بك متلهفًا متجهًا نحوها،
فيمنعه الطبيب وعمر بك، ويسمع سعالها في الوقت ذاته …)
الطبيب
:
صَهْ! لا تجَازفْ! إنها
لم تَدْرِ أنك هاهُنا …
واعلمْ بأنك سوْف تشـ
ـهدُ موتها موتَ الضَّنى
أشْفقْ عليها لا تُنِرْ
أحزانَ ما لا يُجْتَنَى!
(يحاول رؤيتها فيمنعه الطبيب ووالدها.)
أمين بك
(منشدًا في اضطراب وجزع بصوت الحزين المتهدم)
:
يا عَزائي عزَّ لي فيكِ العزاءْ
حينما ألقاكِ لا يُرْجَى اللِّقاءْ!
يا مُصَابي فيكِ لم أعرفْ له
حدَّ تعذيبٍ وبُؤسٍ وشقاءْ
حَرَماني مِنْ نعيمي بعدما
كنتِ لا تأْبَيْن لي حظًّا أشاءْ
كيف أُغضي الآن عمَّن نُورها
في سُبَاتِ الموتِ من ربِّ السماءْ؟!
أنصفيني يا حياتي! كذِّبي!
قسوة الطبِّ ووعظَ الحكماءْ
أسمعيني صَوْتَكِ الحيَّ الذي
يُرجع الموْتَى ولا يرْضى الفناءْ
أنتِ مِثْلُ البدر في صُفرتِهِ
عندما يُشْجَى بأحزانِ المساءْ!
(يسمع سعال إحسان ثم تأوهها، فيذهب إليها الطبيب فاحصًا
نبضها، وتنشف مربيتها الباكية عرق جبينها بمنديل، ويمنع والدها أمين بك من
الدنو منها.)
إحسان
:
يا موتُ صَفْحًا فإنِّي
أطَلْتُ يوم ودَاعي!
(تفتح عينيها وتتأوه.)
الطبيب
(مواسيًا وهو يجس نبضها)
:
تبسَّمي يا فتاتي
لا تُسرفي في التياعِ
أرجو شفاءَك لكنْ
لا تُهْملِي في الدِّفاعِ
تحمَّلي دونَ خوفٍ
وأمِّلي باتِّباعي
إحسان
(بصوت ضعيف)
:
يا موتُ صَفحًا فإنِّي
أطلتُ يوم ودَاعي!
أمين بك
(بائسًا باكيًا ومحاولًا الدنو منها بينما والدها في
أشد حالات الجزع)
:
لم يبقَ لي إلا الودا
عُ فكيف أُحْرَمُ من وَداعِ؟!
من يَبْكها فلْيَنعَني
إنِّي الأحَقُّ بكلِّ ناعِ
(إحسانُ)! روحي! مهجتي!
رُدِّي على الصَّبِّ المُضاعِ!
إحسان
(ترفع رأسها فاتحة عينيها في ضعف ودهشة ناظرة إلى أمين
بك)
:
(بصوت أعلى)
أمين بك
(متجهًا نحوها مندفعًا إليها) (يرد فورًا)
:
(فتقع رأسها على وسادتها مائتة.)
الطبيب
(بعد أن يجس نبضها فيجدها مائتة ويغطي وجهها)
:
(وحينئذ يرمي أمين بك رأسه على سريرها، مقبلها، راكعًا
باكيًا فتنزل الستار العامة فورًا.)