ردُّ المؤلف
كان هذا الفصل الختامي الذي دبَّجته يراعة الأستاذ حماد آخر ما كتب تعقيبًا على هذه القصة ما عدا مقدمة الأستاذ لطفي جمعه الذي أطلعته أولًا على رأي الأستاذ حماد، ويرجع إلى حسن ظن الأستاذين حماد وأبي طائلة إتحاف الأدباء بهذا الفصل النقدي الذي يصح اعتباره من خير ما يمكن الحصول عليه من رأيٍ نقدي في مصر؛ نظرًا لما عرف عن الأستاذ حماد من النزاهة والغيرة الأدبية والخبرة المسرحية. فلحضرة الكاتب الناقد ولحضرة الدكتور أبي طائلة الذي عني باستخراج هذا النقد الشكر الجزيل على هذا التعاون الأدبي.
وقد كان مرمى الأستاذ حماد في بادئ الأمر أن تكون ملاحظاته خاصة للاستفادة منها، ولكني استأذنت في نشرها؛ لأني رأيت أن نقده إنما يمثِّل المذهب المحافظ القديم، بينما قد عمدت في هذه الأوپرا إلى التجديد طفرةً وعمدًا لنستفيد من الأطوار التي مرت بها الأوپرا في أوروبا في هذا الزمن الطويل بدل أن نبدأ مراحل التقدم من أولها.
وأظن أن في بحثي الطويل المتقدم في موضوع «الأوپرا والأدب المصري» ما يغنيني عن الرد المسهب على مقال الأستاذ حماد، بيد أنه لا مفر من التعليق على ملاحظاته نقطةً نقطةً بإيجاز معقول مع تجنب التكرار، تاركًا للقارئ الحكم بعد قراءة البحث السابق أيضًا، وبذلك نخدم الأدب والفن معًا بصدقٍ وإخلاص.
(١) وقائع الرواية وزمنها
النزعة الحديثة في تأليف الأوپرا لا تتشبث بالتعلق بأزمنة التاريخ القديم ولا بالمشاهد الغريبة ولا بالأحلام والخيالات، وإن كنت أميل إلى التنويع في التأليف، وسيرى الأستاذ حماد أني لن أخيب حسن ظنه وآماله في تآليفي الأخرى. ولكني لم أر موجبًا للأخذ برغبته في هذه القصة بالذات؛ لأني عمدت من بادئ الأمر إلى اختيار موضوع تاريخيٍ عصري قومي النزعة ذي أثر وطني في الجيل الحاضر، وحاولت الجمع بين الدرامة والأوپرا، وهي محاولةٌ شاقةٌ في التأليف الغنائي وإن بدت ميسورةً لمن لا يعرفون معاناة التأليف الجدي مهما كان الأديب مطبوعًا على قرض الشعر ذا موهبة قصصية.
وليس من الشاق علي الرجوع إلى حكاياتنا المتداولة في (ألف ليلة وليلة) وفي (ألف يوم ويوم) ونحوها لاقتباس مادة الأوپرا، ولكني أوثر الابتكار وأوثر الغرض الأدبي الإصلاحي، ولا أود أن يحكم علينا بجدب القرائح والكذب على التاريخ بعد أن أصبحت قدرة مؤلفينا محصورة في مسخ ما كتبه الإفرنج عنا مقتبسًا من نثر سلفنا أو اعتبار تآليفهم مشقًّا لهم، بدل كد قرائحهم في التأليف الصادق … وقد أخطأ الأستاذ حماد في تصوُّره أن الموضوع لا يهمني، إذ لا فائدة لنا من تكرار مشاهد (عايدة)، وإنما يهمني حقًّا أن تؤدي القصة الخدمة الوطنية التهذيبية المرجوة فضلًا عن التأثير الخلقي المنتظر منها، فإرجاع زمنها إلى عهد الفراعنة يذهب بصبغتها التي أنشدها للتأثير على هذا الجيل أو بمعظمها على الأقل، وما أظن الأستاذ حمادًا ينكر أن معاصرينا أكثر تأثرًا بتاريخ العرب وبالتاريخ الحديث منهم بتاريخ الفراعنة.
(٢) الجهد الغنائي
وأما عن الخوف من إرهاق المغنين والمغنيات، فلا موجب له بشهادة رئيس إحدى الفرق الغنائية التمثيلية الكبرى في مصر (فرقة الأزبكية)؛ لأن مادة القصة متناسبةٌ مع الأدوار، والذي لا يستطيع احتمال هذا الجهد الغنائي المتوسط ليس بصاحب حنجرة جديرة بغناء الأوپرا … وكان نقد رئيس الفرقة المشار إليه محصورًا في قصر الأدوار والرُّوح الحزينة المتسلطة على القصة بينما الجمهور المصري أكثر ميلًا إلى الطرب … فكان جوابي أن (إحسان) على إيجازها أطول من أوپرات أخرى كثيرة، وإن تمثيلها بعناية وإتقان — إذا أعطي الغناء والموسيقى حقهما — لن يقل عن ساعتين؛ لأن مطالعة القصة تستغرق أكثر من نصف ساعة. وأما عن وضع الكلام المرسل في الأوپرا فلا أوافق عليه إلا نظمًا وشعرًا، ولا بأس من إسقاط القافية أحيانًا، ورسالة حسن بك لصديقه أمين بك هي في نسقها أقرب للنثر منها إلى النظم، فقد اخترت لنظمها بحر الخفيف ومن عادتي نظم شعري غنائيًّا، فما وجدت صعوبةً عند النظم في إنشاء هذه القطعة مقسمة لتناسب قراءة «الآسف الحزين المتردد في تلاوتها»؛ لعلمه بأنها تحزن (إحسان) وهي تتشبث بأن يقرأها عليها.
وأما عن المشهد الأول من الفصل الثالث، فلا أعتبره طويلًا بل لعل الأصلح أن يكون أطول من ذلك لولا رغبتي في الإيجاز، وإخراج القصة في ثلاثة فصول قصيرة فقط. وسبب ذلك أن مسافة الزمن بين الفصلين الثاني والثالث هي زهاء خمس سنوات وقعت في خلالها حوادث تهم أمين بك، ولا غنى له عن الإشارة إليها والاسترشاد بوفاء خادمه القديم الحاج رضوان. وبغير هذا المشهد تتفكك القصة ولا تطابق الوصف النثري مع أني حرصت بطبيعة الحال على هذه المطابقة إما تمثيلًا أو إشارةً، وأعتقد أنه لم يفتني شيءٌ من هذا القبيل.
(٣) الفرق المنشدة
وأما عن اهتمام الأستاذ حماد بالفرق المنشدة، فأوافق عليه في حدود، ولا أوافق عليه في مواقف مثل هذه الأوپرا التي للدرامة النفوذ الأول بها، ولا ترتضيها نزعتي المحافظة على صحة التاريخ وصحة الصورة الاجتماعية بقدر الاستطاعة. وإني لم أنس ولم أتناس إراحة المغنين والمغنيات فاكتفيت بالإيجاز وأسلوب الحوار، وما أعتقد أن هذه المواقف أطول من نظيراتها في كثير من الأوپرات الغربية. وأين التعب للمغني المتفوق أو المغنية الممتازة في مثل هذا الجهد إذا قورن بالصياح الفظيع نصف ساعة مثلًا على تخت، مرددين بمختلف الأنغام وفي أنفاس طويلة ما لا جدوى منه ولا فن فيه من أبيات أو كلمات سقيمة أو طقطوقة؟!
(٤) النظم
وأما عن بحور القصة فهي مختلفةٌ منوعةٌ، ومن عادتي غالبًا — كما أشرت سالفًا — أن أنظم متغنيًا، فنظمي نتيجة ميلي الغنائي، وليست العبرة بطول البحور أو قصرها، وإنما بمناسبتها للمواقف وبجريان الألحان بسلاسة وعذوبة عند إنشادها. ونسبة البحور الطويلة في القصة عند مقارنتها بغيرها ضئيلة على كل حال. وإذا تأملنا مبدأها مثلًا وجدناها مستهلة ببحر الكامل، وهو من ألطف البحور الغنائية في الشعر العربي وكثيرًا ما أبدع فيه المرحوم الشيخ سلامة حجازي وكذلك الشيخ إبراهيم الأسكندري والسيدة منيرة المهدية والشيخ أحمد الشامي، وسواهم من مشاهير المغنين والمغنيات على خشبة المسرح.
(٥) المعاني الشعرية
وأما عن المعاني فهي وليدة العواطف والمواقف، وأشكر للأستاذ حماد رضاءه عن الأساليب التي اتبعتُها في وقت يشقُّ على الأديب إرضاء الأذواق المتباينة سواء لغويًّا أو أدبيًّا. فبينما يجد مثلًا محمد إبراهيم بك هلال صاحب مجلة (النواب) يعتبرني مفسدًا للأذواق وللغة، يجد الأب الكرملي صاحب مجلة (لغة العرب) يعدني خادمًا مجددًا لها لن تجحد خدمته …! وكيفما كانت حسناتي وسيئاتي فجهدي جهد المخلص الذي ينتقد نفسه بنفسه قبل أن ينقده غيره، ويعمل دائمًا — في غير قناعةٍ — لبلوغ أقصى ما يستطاع من إتقان دون جمود أو تقليد؛ لذلك أشكر للأستاذ حماد أيضًا لفته نظري إلى البيت (روحي فداؤك …) الذي فاتني وفات غيري من الأدباء الذين اطَّلَعوا على القصة، وقد نقحته هكذا: