مقدمة الجزء الثاني
آخر التَّبَاعِنَة: الملك سيف بن ذي يزن
توقفت بنا أحداث السيرة المندثرة للملوك التَّبَاعِنَة عند رحيل الملك التَّبْع ذو اليزن، إلى أفريقيا بحثًا عن كتاب — أو منابع — النيل، وإقدامه على بناء مدينته التي شق أنهارها وشيد قلاعها وبنى أسوارها وسماها، أحمرا أو «الحمراء».
لحين نشوب ذلك الصراع بينه وبين ملك الأحباش «سيف أرعد» الذي أفزعه، إلى حد الجنون، نزول الملك ذو اليزن بجيشه العربي بالقرب من بلاد الحبشة، وتهديد سطوتها ويدها الطولى المهيمنة على منابع النيل، وعلى معظم الأقوام والكيانات والقبائل الأفريقية، سواء في شرق أفريقيا المتضمن للقرن الأفريقي، أو شمالها في السودان وبلاد النوبة وصعيد مصر والمغرب.
فكيف لملك الحبشة «أرعد» أن يهدأ بالًا، وهو يشهد تعالي سطوة العرب وتبعهم ذو اليزن وازدهار مدينتهم الجديدة التي تضاءلت بجانبها عاصمته إثيوبيا، كما ورد في معلقات الوزير الحكيم «يثرب».
فما كان من سيف أرعد سوى اللجوء إلى الحيلة والمكائد للتخلص من الملك التَّبْع ذو اليزن الذي عمت شهرته آفاق أفريقيا، فأرسل بأخلص وأجمل وأذكى جواريه «قمرية» محملة بسِمِّها الزعاف لتقضي عليه.
إلا أن الجارية التي بُهرت من روعة وحضور وفروسية الملك ذو اليزن، سرعان ما وقعت في حبه منذ أول لقاء، فأفضت إليه بخطتها باكية عند قدميه.
وهنا توطدت الصداقة بين الملك التَّبْع الزاهد المنقطع لأبحاثه العلمية لإنشاء المشروعات المائية من سدود وخزانات هدفها الاخضرار وخير الناس، وبين الجارية الباهرة الجمال والذكاء التي جاءته لتقتله.
وكان المرض المفاجئ قد بدأ يغزو جسد الملك الكهل، دون أن يخلف وريثًا لحكم التَّبَاعِنَة من بعده، فقرر الزواج من قمرية، ليخلف منها، وقبل فوات الأوان، وريثًا لحِمْيَر، هو: «هيكل، وندعوه سيف»؛ مولد آخر التَّبَاعِنَة.
وفي أعماق القارة السوداء ولد «هيكل» أو سيف بن ذي يزن يتيمًا بعدما فارق والده الملك ذو اليزن الحياة، مفضيًا لزوجته قمرية بوصيته التي موجزها أن تعتلي هي عرش التَّبَاعِنَة لحين اشتداد ساعد ولده الوحيد سيف (أو هيكل) لتسلم سلطاته.
– ليحكم بالعدل بين الأقوام والقبائل.
وكذلك أوصى له الملك الوالد، بمخطوطاته ومدوناته وأبحاثه حول: كتاب النيل.
إلا أن مولد سيف صاحبه الكثير من المخاطر الهائلة التي أضرم لهيبها ملك الأحباش المتجبر سيف أرعد، ووزيره المعادي للعرب الساميين «سقرديون»، فما كان من الأم قمرية، إلا أن ربته في الخفاء بأحراش وغابات أحد البلدان الموالية سرًّا للعرب (من المرجح أن يكون السودان أو الصومال) وتدعى مملكة «أفراح».
ونما سيف بن ذي يزن بمنفاه يتيمًا مطاردًا من سيف أرعد وعيونه الموجودة على طول الأقوام والبلدان الأفريقية، وفي الوقت نفسه بات سيف أرعد مرتعدًا خائفًا من مولده وعيشه المدهش في الخفاء:
وهكذا واصل ملك الحبشة أرعد مطارداته وحروبه خلال طفولة سيف بن ذي يزن، فغزت الحبشة اليمن وشمال الجزيرة العربية، وتوغلت في صعيد مصر، حتى هاجر اليمنيون أنفسهم إلى تلمسان تحت حكم عبد الودود والمنذر، إلى أن اشتد ساعد سيف اليزن، فجمع كوكبة من أخلص فرسان القبائل المعادية للحبشة وتسلطها وخاض سلسلة من المخاطر والمغامرات على طول البلدان والقلاع المهجورة شرقًا وغربًا في أفريقيا، وأحب بنت ملك أفراح «شامة»، التي اصطحبته بضع سنوات عبر مخاطراته تلك في ربوع أفريقيا واليمن، إلى أن تزوج بها عقب إنقاذه لها من بين مخالب ابن ملك الحبشة الذي كان يبغي الزواج بها، ولعب سيف بن ذي يزن أبرز أدواره كبطل شعبي، حين تسلل بأتباعه وفرسانه إلى داخل بلاد الحبشة ذاتها، فأقدم مليكها سيف أرعد على حصار عاصمة التَّبَاعِنَة في أفريقيا — أحمرا — ذاتها، بهدف تخريبها وأسر ملكتها قمرية.
وتمكَّن سيف (أو هيكل) من تخريب سدود ومنشآت النيل داخل الحبشة، إلى حد تمكُّنه من تخريب الحصار ذاته حول أحمرا، وفك أسر أمه، ثم طاردا معًا جيش الأحباش وملكهم سيف أرعد إلى أن أوقع به وقتله.
وهنا أصبح سيف بن ذي يزن: تَبْع حِمْيَر المنتظر.
وعمت الأفراح وتوثق الأمن والأمان في ربوع اليمن والجزيرة العربية بأسرها، بالإضافة إلى بقية البلدان التي يجمعها نهر النيل، وأهمها بالطبع «مصر العدية»؛ حيث توافدت الوفود على أحمرا من ربوع مصر، مطالبة بزيارة الملك سيف — أبو الأمصار — لمصر التي بها اسْتُقْبِلَ استقبال الأبطال الفاتحين، بعدما أراح أهل مصر من ملك الحبشة وتهديده لرقابهم وأرضهم؛ نتيجة لتحكمه في مناسيب النهر الأسمر داخل الحبشة وتخومها، ففي مصر، التي أعطت لسيف بن ذي يزن، أقصى طاقات حبها واحتضانها له ولأفكاره ومشاريعه العمرانية، وجد الملك سيف مبتغاه الأخير، فأقام بها طويلًا، بعدما أحاطه المصريون بحبهم المتدفق والجارف، فأطلقوا عليه: أبو الأمصار.
وحين أنشأ بجبل المقطم القلاع والحصون لجيشه لحمايتها، خاصة من أخطار الفرس الطامعين، أطلقوا على الجبل «الجيوشي» وتعارفوا على الملك سيف ذاته ﺑ: أبو الجيوش.
واصطحب الملك سيف بن ذي يزن زوجته ورفيقة صباه ابنة ملك «أفراح» شامة، وابنهما الذي سمياه «دمر»، إلى مصر فأقاموا بها طويلًا وبدأ استعداده لحماية مصر من الطامعين، حتى إذا ما تجددت أطماع الفرس في حكمها، واصل حروبه ومطارداته لفلولهم داخل خراسان، بعدما توغل في أصفهان بجيشه العربي الذي كان قد أحسن تدريبه بنفسه بالجبل الذي يحمل اسمه إلى اليوم، «جبل الجيوشي».
وكان يحلو له التنكر ومواصلة أسفاره ومخاطره السرية، لاستطلاع نوايا الفرس، بحجة بحثه عن كنوز جدته بلقيس ملكة سبأ والملك سليمان.
وعندما كبر ابنه من شامة — دمر — نصبه حاكمًا لسورية الشمالية، واتخذ من ميناء بانياس عاصمة له، إلا أن غزوات الأقوام الفارسية الطامعة تمكنت من أسر دمر، مما أوقع الأحزان الثقيلة بأمه شامة، إلى حد أفضى بها إلى الجنون.
وهنا لم يجد الملك التَّبْع سيف بن ذي يزن مهربًا من مطاردة الفرس ومنازلتهم عبر آسيا الصغرى والأناضول وشبه القارة الهندية، وهي حروب طويلة ومضنية، ضد ملك يدعى «الهدهاد» الذي واصل تعقبه إلى «ما وراء نهر بلخ» و«عاد فدخل دلتا مصر عن طريق دمياط مظفرًا بالنصر، مخضبًا بالدم النازف على جبينه كأرجوان.»
لكن سرعان ما اندلعت من جديد الحرب بينه وبين الملك الفارسي «بهرام»، إلى أن حقق الملك سيف نصره الأخير، الذي انتهى بهدنة، أقدم الملك التَّبْع سيف بن ذي يزن خلالها على الاقتران بابنة بهرام الباهرة الجمال «مهردكار» وعاد بها إلى مصر، دون إدراك لأبعاد المؤامرة التي دبرها الفرس للتخلص منه بأقل الخسائر؛ حيث اضطلعت زوجته «مهردكار» بوضع السم الزعاف في طعامه خلال رحلة بحرية لهما على شاطئ النيل، هربت بعدها عبر أحراش الدلتا، فلم يعثر لها على أثر.
وفُجع المصريون بموت مليكهم المنقذ المحبوب — سيف — فبكوه أيامًا في الطرقات والشوارع.
وكُفِّنَ الملك سيف بن ذي يزن ودُفِنَ بمدفنه وكنوزه بالجبل الذي كان قد أعطاه اسمه الجيوشي وانتهت فاجعة موته الغادرة وسيرته العاطرة، «فركب على مصر أربعة ملوك من أرض خراسان العجم، ووقعت الحروب الطاحنة بينهم وبين دمياط ودمنهور الوحشي، وهرع لنجدتهم أسيوط ملك إيليا وفلسطين»، حسب نص مخطوطة السيرة المحفوظة بمكتبة المتحف البريطاني المرفقة.
السيرة بين التاريخ والفولكلور
ولعل أبرز ما تؤرخ له هذه السيرة الملحمية التي يتعاقب فيها الشعر والنثر، هو امتداد الصراع بين الساميين والحاميين، ثم تلك الحروب القبائلية الطاحنة التي اتخذت من الشام ميدانًا، وبالتحديد منطقة بعلبك والبقاع بلبنان مرورًا بفلسطين ومصر إلى حيث أفريقيا الوسطى والحبشة والسودان، بالإضافة إلى القرن الأفريقي، بهدف تعريب هذه الأقوام.
وهنا تنتهي حقيقة حدود مناطق النفوذ العربي الجنوبي، وهي ما تؤيده النقوش والمدونات التي عثر عليها علماء اللغات السامية، سواء في اليمنين، أو على طول الطريق التجاري الممتد من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها، مارًّا بمكة المكرمة ويثرب ومدائن صالح وتيماء وتبوك ومعان حتى دمشق.
كذلك أثبتت الاكتشافات الحفائرية — الأركيولوجية — في بلاد الحبشة وتخومها، أن هذه البلاد كانت خاضعة يومًا ما للنفوذ التجاري أو الثقافي أو السياسي اليمني.
فالحروب الطاحنة بين العرب والأحباش أكدتها المصادر التاريخية الإسلامية، فالسيرة في حديثها عن تلك الحروب: تستطرد في عرض الحياة وأعمال البطولة، وهي صادقة في هذا العرض، إلى حد كبير، فسيف بن ذي يزن، الذي ولد لأبيه في أفريقيا، والذي تربى في البراري في الفلاة، وأتى منذ صباه بالكثير من أعمال البطولة وبعد النظر، كشخصية تاريخية ماثلة محققة، هو التَّبْع اليمني الذي قاد الجيوش العربية الجنوبية، وطرد الأحباش وأنهى سطوتهم من بلاده، وقد تحدث «ابن هشام» عنه، وذكر الكثير من الأشعار والمعلقات التي تنسب إليه أو قيلت عنه، كما تعرض لحروبه ضد الفرس الطامعين، ودوره وحروبه ومآثره في شبه القارة الهندية، وانتساب الكثير من الأسر الحاكمة الآسيوية إليه، فهو الجد السالف للأسرة الحاكمة في «بوروناي»، وبطل من أبطال ملاحمهم.
وأخيرًا يبدو أن راوي هذه السيرة، خبير بمصر التي احتفت بسيف بن ذي يزن وخوارقه وبطولاته في صد أطماع الأحباش من جانب، والفرس من جانب آخر؛ حيث يذكر من جغرافيتها، ولغتها وعاداتها أدق تفاصيل ملامح بلدانها مثل أسوان وإسنا وإخميم وأسيوط ومنفلوط وملوي وأهناسيا وحلوان والجيزة، وحارة الوطاويط، وقلعة الجبل والروضة، وجبل الجيوشي، الذي تسمى باسمه «أبو الجيوش» الملك سيف، ومدفنه به إلى اليوم، وذلك أيضًا حسب نص مخطوطة المتحف البريطاني.