انتقام البسوس
استبشرت أقوام اليمن والجنوب العربي باعتلاء التَّبْع الجديد «ذو اليزن» عرش التَّبَاعِنَة، وهو ابن عمرو الذبيح.
وكأن كل ما حدث من كبوات مقوضة لمُلك الحِمْيَريين في السنوات الأخيرة، والتي اخْتُتِمت بمصرع التَّبْع حسان بدمشق، لم يكن أكثر من تكفير عن اغتيال عمرو — والد ذو اليزن — الذي تَسمى بالمُمَزَّق أو الذبيح.
وها هو أخيرًا ابنه الوحيد — ذو اليزن — يحكم حِمْيَر، بعدما أصابها وأدماها من كبوات جسيمة، جاءت متلاحقة كعقاب على ما قد اقترفت يداها.
وهكذا استراح الجميع مستبشرين بذو اليزن أو «ماء المزن»، الذي عرفه الجميع محبًّا أولًا وقبل كل شيء للعلم والبحث في أغوار كنوزه ومخطوطاته التي لا تنضب، لكن وبما لا ينفي فروسيته التي شاعت عنه أيضًا منذ مطلع شبابه، مثل خوضه مباريات الفروسية العربية، والتي لا تبعد كثيرًا عن الطراد والنزال، بل والحرب عامة باعتبارها رياضة العرب القومية.
إلا أن ما اتفق عليه الجميع، هو مدى سماحته وانشغاله بأمور الناس وما يفيد وييسر حياتهم من إنشاءات لسدود وطرق استجلاب الماء وتصريفه وكيفية التحكم في مساره ومجراه بما يحقق الرخاء والاخضرار للناس والدواب.
وهي مشرعات السدود والتحكم في مناسيب المياه باعتبارها مصدرًا لكل حياة ونمو.
فجاء اعتلاء «ذو اليزن» عرش التَّبَاعِنَة أقرب إلى بلسم أراح الجميع، وأخصهم بالطبع أهل العلم الذين التفوا من فورهم حوله معضدين مستبشرين، فلعل في قدوم هذا الشاب الصلد العف ما يحد قليلًا من تسلط تباعنتهم وطموحاتهم التي لم تكن لتقف عند حد، على طول المشرق والمغرب على السواء.
وعادة ما كانت تنتهي تلك الأعمال الكبيرة من حروب وهجرات — والتي تتخذ من طموحاتها مجرد مطايا لبلوغ الآمال، تحت أي شمس وموطن، من مجاهل الصين حتى تخوم مصر — بكارثة لا يعرف لها أحد مدًى تقف عنده، سوى أنها — أي تلك الكبوات والانتكاسات — كانت تصيب الجميع بلا استثناء من كبير إلى صغير.
ومن هنا توسمت القبائل اليمانية في التَّبْع الجديد «ذو اليزن»، شيئًا مخالفًا عمن سبقوه من أسلاف، فلعله سيأخذ بالمشورة أو الشورى التي غابت عن أسلافه التَّبَاعِنَة على طول تاريخهم الغابر، بل إن هذا بذاته ما أصر عليه وزيره وناصحه الأول الذي اتخذه هو بنفسه — ذو اليزن — بمعزل عن عمة أبيه ذاتها، وهو المعلم والشاعر الحكيم «يثرب».
فكانت علاقة ذو اليزن بيثرب أكثر من مجرد التوقف عند النصح وإسدائه، خاصة والتَّبْع الجديد، كان لا يزال حديث السن، لم يتعدَّ التاسعة عشرة من عمره حين وقع عليه الاختيار، ليلعب دور المنقذ في حكم حِمْيَر وسطوتها التي تخطت جزيرة العرب شمالًا وجنوبًا.
فالعلاقة بين التَّبْع الجديد — الشاب — وبين وزيره الشيخ المتمرس يثرب، تخطت دور النصح، لتلتقي عند النظرة الواحدة والرأي الواحد في معظم الأمور التي غايتها إفادة التحالف وتوثيق عراه أكثر فأكثر.
واتضح هذا للجميع منذ الوهلة الأولى، أو منذ أول كارثة واجهها «ذو اليزن» كملك لحِمْيَر، وهي كارثة اغتيال عمه — حسان — وابنه غدرًا، واتساع صدى الدعوة التي تبنتها — قبل الجميع — عمته البسوس مطالبة بالثأر والانتقام.
هنا فقط تطابقت وجهتا نظر كلٍّ من ذو اليزن ووزيره يثرب، وهو ما ضاعف من اشتعال نيران أحقاد البسوس إلى حد إعلان غضبها عليه وعلى وزيره «يثرب».
– يا للخنوع المزري! ماذا دها حِمْيَر؟
حتى إذا ما واجهته البسوس بموقفه السابق، الذي أبدى فيه الرغبة لمرافقتها للنزال وأخذ الثأر من مغتالي عمه التَّبْع حسان وابنه، أجابها ذو اليزن في حزم: أيامها لم أكن تبعًا لحِمْيَر.
– والآن؟
– الآن وفي هذا المكان، تأمرني حِمْيَر.
اندفعت عمته البسوس مواجهة في حدة، شاهرة صدرها له: أنا حِمْيَر!
غمغم الملك: أنت عمتي.
قاربها التَّبْع الشاب ذو اليزن في حنو، آخذًا بساعدها، مشيرًا من شرفات قصره المنفتح على الجهات الأربع: ها هي حِمْيَر، الناس يا عمتي!
ولكم وَخَزَ ذلك الموقف الذي جاء متفجرًا بين البسوس وحفيدها ذو اليزن أعماق قلبها ومشاعرها وجعل منها جرحًا غائرًا لا يبرأ، وهي التي مهدت له حكم حِمْيَر، ليخرج ومنذ أول قرار على رأيها وما تشير به هي أولًا، كما اعتادت على الدوام منذ أن كانت في مثل سنه بل وأصغر؛ لذا فلا بد أن في الأمر شيئًا، زفرت البسوس في حقد: ذلك العجوز الأرقط، يثرب، رأس الأفعى.
وهكذا صبَّت البسوس منذ البداية نيران غضبها وأحقادها على وزير ذو اليزن المقرب «يثرب» دون أن يثنيها شيء عن قرارها الذي أصبح يشويها شيًّا.
– دم حسان.
وشيئًا فشيئًا واصلت البسوس نفض أيديها من التَّبْع الجديد الذي لم يعد يأخذ برأيها في الخروج للحرب انتقامًا لعمه حسان، حتى إذا ما وجدت بغيتها في الانتقام وأخذ الثأر الذي يبدو أن لهيبه اشتعل أكثر في «صنعاء وعدن»، أضرمت هي المزيد من النار إلى أن دفعت بابن عم حسان الأمير المدعو «عمران القصير» إلى تجهيز حملة من «مئة ألف مقاتل، إلى بلاد الشام.»
وكان كُلَيْب قد استعد للحرب والقتال، وخرج للقاء «عمران القصير»، والتقى الجيشان واشتعل لهيب المعارك والحرب، حتى عظمت الأهوال، فظل كُلَيْب يفتك بأفيالهم، إلى أن تمكن من عمران القصير ذاته، فصرعه على ذلك النحو المشين الذي لطخ حكم حِمْيَر وتباعنتها.
– يا لها من كارثة لن يمحوها أي ثأر ودم مراق على روابي دمشق ولبنان وأرض السرو وعبادة وفلسطين، مدى الدهر.
تساءلت البسوس مذهولة كمن فقدت وعيها كله وهي تسير عبر ردهات قصرها على غير هدى: أي دم ذلك الذي سيشفي غليلي يومًا، ليستقر ابن أخي التَّبْع حسان في مثواه الأخير. شردت ببصرها عبر الشرفات المحيطة، متطلعة إلى وفود القبائل شاهرة الرماح والحراب مطالبة بالثأر لدم التَّبْع المغتال، وابنه الصحصاح وابن عمه أخيرًا: عمران القصير.
– الدم … الدم … الثأر … الثأر.
مدت البسوس كفي يديها وكأنها تستشف وتقرأ ما تخبئه الأيام والليالي الثكلى من أحداث جسام حبلى بالثأر المبيت.
– رأس كُلَيْب بن ربيعة.
أرخت فجأة ذراعيها منكسة، كمن أُسْقِط في يدها يائسة، من فداحة الأخبار الأخيرة التي حملها إليها رسلها وبصاصوها الفارون الذين عادوا أدراجهم إثر الانتصار الأخير الجديد الذي أحرزه كُلَيْب بن ربيعة على جيش عدن وصنعاء.
– يا للعار.
اندفعت البسوس من فورها صارخة في وصيفاتها: أين الجثمان؟
– بالقاعة الغربية يا مولاتي.
مضت من فورها متشحة بخبائها الأسود عابرة صفوف المعزين من رجال ونساء، إلى أن وصلت إلى حيث التابوت الحجري الجرانيتي الذي ووري فيه جثمان الأمير «عمران القصير» مشيرة للحراس برفع الغطاء حتى إذا وقعت عينا البسوس على الجثمان المسجى بلا رأس، تراجعت كالمشدوهة من رهبة المشهد: أين الرأس؟
– سَمَّره كُلَيْب على بوابات دمشق إلى جوار رأس التَّبْع حسان.
صرخت من فورها: والرجال، أين الرجال في حِمْيَر؟! أين؟! أين؟!
عم صمت طويل، لم يقطعه سوى نهنهة النساء وعويلهن في خفوت وتحسر.
عادت من فورها إلى مضجعها، عاقدة العزم على تنفيذ انتقامها المبيت من جميع التغلبيين الفلسطينيين وآل مرة اللبنانيين.
– أشفي غليلي من كُلَيْب وتلك الملعونة، الحية الرقطاء، الجليلة بنت مرة.
وهكذا بدأت البسوس تخطط لانتقامها المقبل، ومن المعروف أنها كانت تحمل العديد من الأسماء والألقاب منها: سعاد، وتاخ يخت، وهند، والبسوس، بالإضافة إلى الاسم الذي يرد في الأدب العربي الكلاسيكي «الهيلة».
وقد قامت ملاحم التَّبَاعِنَة لتنسج عن البسوس ملاحم كثيرة أضفت عليها هالات أسطورية وحَّدتها مع المتنبئة الشاعرة الطروادية «كاساندرا»، مثل قصة حبها وزواجها المشابهة لما وقع بين «أبولو وكاساندرا» وانتهى بزواجهما في النهاية.
فلقد كانت سعاد أو البسوس منذ مطلع شبابها فاتنة باهرة الجمال فصيحة اللسان شديدة البأس دائمة الترحال.
كانت تركب الخيل في الميدان وتبارز الفرسان، واشترطت ألا تتزوج إلا من يقهرها في ميدان القتال.
وكان أن سمع بخبرها ملك عظيم اسمه سعد اليماني وكان ملك بلاد السرو — أي الأردن — فركب إليها وبارزها، إلى أن اقتلعها من فوق سرجها فأقرت له بالغلبة، وتزوجها وأقام لها حفلًا عظيمًا لمدة سبعة أيام.
بعدها عاد بها إلى بلاده، وظلت تحكم معه البلاد عشرة أعوام، إلى أن أصيب «سعد اليماني» بالعمى وفقدان البصر، فأصبحت هي الملكة، وكلمتها هي العليا في بلاد السرو وعبادة.
إلا أنها آثرت العودة بزوجها الضرير إلى بلادها خلال فترة تغيُّب أخيها التَّبْع أسعد وحروبه في أقاصي الشرق، إلى أن وقعت الأحداث الأخيرة الدامية، التي دفعت بها إلى التصدي للانتقام بنفسها، والعودة إلى ربوع بلاد الشام، التي سبق لها أن عاشت وحكمت فيها سنوات عشرًا.
لذا فإن البسوس على دراية واعية دقيقة بمجريات الأمور بالشام وبلاد السرو وفلسطين، بما يسر لها سبل تحقيق أغراضها من أوسع الطرق وأقصرها للانتقام بشكل رهيب وبشع وبصورة أكيدة لا يخالجها أي شك.
فما إن حددت يوم رحيلها سرًّا، حتى ركبت هي وبعلها الأعمى وبيتها وبناتها وثمين ممتلكاتها وسارت إلى أن حطت رحالها في بيروت والبقاع بالقرب من «حلة بني مرة».
وعلى الفور أرسلت وفودها بغالي الهدايا للأمير «جساس بن مرة»، حتى إذا ما استحسن جساس رفيع هداياها إليه، طلب مقابلتها، فسعت إليه — البسوس — وأنشدته أبلغ أشعارها: «بدوام أيام الأمير جساس بن مرة، ورفع على ملوك قدرك ومكانك، ونصرك على حسادك وأعدائك.»
وما إن تعجب جساس من فصاحتها وسألها عن حالها حتى قالت: «أنا شاعرة أطوف القبائل والعشائر، أمدح السادات وذوي الجود والأكابر.»
هنا رحب جساس بها للعيش في دياره وحمايتها من كل معتدٍ.
وهكذا بلغت البسوس مرادها، فمضت من فورها تنشر الفتنة بين «البكريين من آل مرة»، وحكامهم التغلبيين أو بني ربيعة وملكهم المتجبر كُلَيْب.
– ذلك الذي حرم عليكم الماء والكلأ.
وعندما بلغت ذروتها في تحريض القبائل، ووصل الأمر إلى مسامع أميرهم جساس بن مرة، بعدما أوغرت صدره ضد التغلبيين وتعديها على قومه، طالب بضرورة الاجتماع بزوج أخته الجليلة — كُلَيْب — وإعلامه «بتعديات أقوامه وجورهم وجورها.»
إلا أن فتنة البسوس كانت قد استفلحت إلى أن وصلت أسماع الملك كُلَيْب ذاته، وتبني بني مرة لها، فأرسل إلى جساس يطالبه بإيقاف الفتنة وإخراج العجوز الشاعرة من القبيلة.
وهكذا تحقق الانقسام، ونمت المخاوف وأزهرت التوجسات بين الطرفين.
حتى إذا ما أقدم كُلَيْب يومًا على قتل ناقة البسوس المطلسمة — التي كان يُدَّعى أنها من سلالة ناقة النبي صالح والملقبة بسراب، حين اقتحمت — الناقة — بستانه البهيج وسط غوطات دمشق، الذي يقال إنه كان «من أحسن متنزهات الدنيا» مما دفع بكُلَيْب إلى إطلاق سهمه نحو ضرع ناقة البسوس — السائبة — ليستقر معتدلًا في ضرعها وليشخب ﺑ «الدم واللبن».
حتى إذا ما أدركت البسوس ما حصل وتلفحت بجلد ناقتها وتخضبت بدمها دخلت نائحة على جساس بن مرة وألقت بجلد الناقة الذبيحة بين يديه، هنا استبد بجساس الغضب.
حتى إذا ما حاول جساس تهدئة البسوس وتعويضها بما تطلب فداءً لناقتها؛ أجابت: أريد واحدًا من ثلاثة أشياء:
وهكذا خرج الأمير جساس قاصدًا مقر الملك كُلَيْب بدمشق، وما إن استقبله كُلَيْب قادمًا عليه بكامل عدة حربه، حتى تَعَرَّفَه، إلا أن جساس راوغه زاعمًا له أنه كان في طريقه للصيد، وما إن مر بدمشق حتى جاءه مسلمًا ومعاتبًا لقتل رعيانه لناقة ضيفته ونزيلته «العجوز الشاعرة وبعلها الأعمى.»
حين طيب كُلَيْب خاطره، عارضًا عليه أربعمئة ناقة عوضًا عن ناقة العجوز الضيفة، واصل جساس خداعه مغيرًا الموضوع قائلًا: «مرادي أن ألعب معك سباقين بالجريد.»
وضحكا ولعبا طويلًا في صفاء إلى أن تَحَيَّنَ جساس لحظة مباغتة لاغتيال الملك من ظهره، «وهز في يده الرمح وطعنه في صدره حتى خرج يلمع من ظهره.»
فسقط كُلَيْب يتخبط في دمه، فندم جساس وتقدم إليه وقبله في لحيته وعارضيه، وضمه إلى صدره، ووضع رأسه على ركبتيه، وقال: «سلامتك يا أبا اليمامة، فقد حلت بي الندامة.»
فطالبه كُلَيْب بشربة ماء وأنشد مرثيته متحسرًا:
وما إن فرغ الملك القتيل — كُلَيْب — من شعره الدامي، حتى ارتعد جساس وذبلت أطرافه وهو يبعده عنه ليسقيه مروعًا، ثم تركه مجندلًا هاربًا، لعبد البسوس المختبئ، الذي تقدم من الجثمان ليجز الرأس ويعود به إلى سيدته «الهيلة» أو البسوس التي حققت انتقامها من قاتل التَّبْع حسان، وأشعلت فتيل حربها الشهيرة بين آل مرة والتغلبيين، تلك الحرب القبلية الانتقامية التي استمرت لمدة ٤١ عامًا، والتي اشتهرت باسمها حتى اليوم: حرب البسوس!