البحث عن كتاب النيل ومنابعه
لكم تمنى الوزير الحكيم «يثرب» أن يطول به المقام في هذه البلاد العاطرة، على مقربة من «بيت الله».
فلقد شعر بالارتياح، الذي شاركه الملك التَّبْع ذو اليزن، الإحساس به عميقًا جارفًا، خاصة وبعدما شفي من بلائه عقب إقدامه على كسوة الكعبة.
بل إن ما ضاعف من انشراح قلب الوزير الأول، هو ذلك النمو المطرد الذي بدت عليه المدينة التي أقدم على تشييدها «يثرب»، والتي تلاحق عمرانها وعمرت أسواقها بكل منتجات بلاد العرب والعجم والهند وبلاد الشام ومصر وقرطاج والحبشة.
فأقيمت المباني وشقت الطرقات وأنشئت الحدائق وملاعب سباق الخيل على ضفاف أنهارها وبساتينها التي اجتذبت الزائرين ووفود الحجيج من كل مكان.
بل إن المدينة وصلت إلى ذروة بهائها وعطائها إلى حد أن الملك التَّبْع نفسه ذو اليزن لم يعد بقادر على فراق يثرب وحلو لياليها وسمرها، ليواصل زحفه على رأس جيشه إلى بقاع لبنان محط آماله عبر رحلة زحفه وفتوحاته، مرورًا ببلاد السرو وعبادة وأرض فلسطين ووصولًا إلى السودان والحبشة.
فلقد كانت تلك الرحلة الشاقة المضنية، هي الحلم الأزلي للملك منذ صباه.
– البحث عن كتاب النيل.
– كيف؟
– مصادر النيل.
سأله الوزير ذات مرة: أتقصد من أين يجيء النهر؟
أجابه ذو اليزن، منكبًّا بكامله على استكمال مخطوطة دُوِّنَت صفحاتُها على رقائق من جلود الأيائل البرية قائلًا: المنابع.
ولعل ذلك الاهتمام من قبل الملك بالماء مصدر كل حياة ونمو، نبت معه كهواية ومنذ صباه المبكر، وكان أيامها في الحادية عشرة من عمره، وهو ما دفع بالوزير يثرب إلى احتضانه إياه، وتبنيه منذ تلك السن، وكما لو كان ابنه أكثر منه معلمه الذي اصطفاه، وهو ابن عمرو القتيل.
فلقد كان الماء ومصادره ومكوناته وطرق التحكم فيه وتطويعه لخدمة الناس هو الاهتمام الأول لذو اليزن أينما حل، فهو موضوعه الذي لا يمل الحديث عنه والقراءة فيه.
– فهو ذو اليزن؛ أي ابن ماء اليزن.
هو كما لو أنه متحد بالماء ذاته، باحثًا عنه، مسخرًا كل ما توصل إليه من مصادر قوة، لإعادة تملكه.
– الماء.
فما كان من مكان نزل فيه، إلا وبحث عن مصادر مائه ومصدر حياته، وإذا لم تتواجد «نجدها بسواعدنا قبل أي شيء»، كما كان يحلو له القول.
وها هو «يمن» ذو اليزن السعيد، ينعم بسدوده ومشاريعه التي فجرته — أي اليمن — بالعطاء، جبلًا وسهلًا.
بل وها هي «يثرب» التي أرسى الملك بنفسه معالمها تبدو، كمثل عروس، عامرة زاخرة بكل ما تشتهيه الأنفس وتستعذبه.
– يثرب، مدينة النور المُنْتَظَر.
وبدا الوزير الأول منتشيًا وهو يرقبها — أي المدينة — من مقره المشرف على أعلى روابيها، كمن لا يطيق فراق حبيبه!
كان الملك التَّبْع ذو اليزن قد عقد العزم على الرحيل، وكانت قد سمعت طبول الرجروج بإيقاعات لها رتابتها المتكاسلة، تنم عن قرب حدوث الفراق، مخالفة بذلك إيقاعها المعتاد كالهدير لدى الإعلان عن الحروب والغزوات.
وذلك بعدما طال مكوث الملك ذو اليزن وجيشه طويلًا في ربوع تلك البلاد ووهادها، مما ساعد على نمو الروابط والعلاقات بين أبناء الجزيرة شمالًا وجنوبًا.
وهي روابط وعلاقات متشعبة المسالك والأغراض والمنافع، ما بين صداقات ومصاهرات وقصص حب، ومصالح تجارية وعمرانية نمت وأثمرت مع بزوغ مدينة يثرب واتساع عمرانها وحوانيتها يومًا بعد يوم.
بل لقد وصل الحماس من قبل القبائل والعشائر العربية الشمالية في نجد والطائف وينبع وعسيران، إلى حد دفع بشبابهم إلى التطوع والالتحاق بفيالق جيش التَّبْع ذو اليزن، الذي حل عليهم ونزل حليفًا أكثر منه غازيًا أو طامعًا في بلدانهم.
وهو ما لم يعتادوه مع من سبقوه من جدود وأسلاف — تباعنة — حسان بن أسعد، وتلك النكبات التي لن تغيب يومًا، والتي أحدثها حسان على طول بلدانهم ومضاربهم، وكما حدث مع قوم «زرقاء اليمامة» وإفناء قبائل جديس، وتهديم مدينتهم اليمامة إلى حد لم يسبق له مثيل.
من يمكن له تناسي أهوال حسان وسبيه لأميرتها الشاعرة المحبة منفتحة الحس والبصيرة «الزرقاء» مكبلة في قيودها، وهي تلعنه وتصفعه بقيودها في إقدام.
– غدًا تسقيك الأيام والليالي الحبالى يا حسان، من ذات الكأس.
– غدًا، ذلك الذي أراه، تجز رأسك عن عنقك المتكبر، بذات أسلوب الغدر.
ولعله هو بذاته ما حدث وانتهى إليه مصير عمه الملك التَّبْع حسان.
لكن شتان ما بين ذلك الملك السمح البناء ذو اليزن، وبين عمه حسان.
ومن هنا كان ذلك الحماس الجارف الذي تفجر فجأة، كمثل نهر جارف مكتسح بين جموع القبائل في يثرب وما حولها، حين سمعت طبول الإيذان بالرحيل تجيء دقاتها بطيئة على استحياء وكأنها تود الاستئذان، لاستكمال مهام الرحيل والزحف، وهو ما لم يصدقه أحد من سكان يثرب وتخومها من العرب الشماليين، حين سرى الخبر سريعًا حول إقدام التَّبْع ذو اليزن وجنده على الاستعداد للرحيل عن يثرب وشمال الجزيرة، لاستكمال رحلة أهدافه في ربوع الشام ومصر «العدية» حتى أواسط أفريقيا.
وبدت الجموع كمن تستيقظ من غفوتها بعدما توثقت الروابط وازدهرت العلاقات والمصاهرات.
بل إن ما أحزن الجميع لفراق ذو اليزن، هي تلك المشاريع الجزيلة العطاء والفائدة التي خلفها ذو اليزن ووزيره الحكيم «يثرب» وبقية حاشيته ومقربيه، من تكريم لبيت الله، وإنشاء مدينة يثرب، وشق الأنهار والترع على طول البلاد.
وكانت قد تجمعت الوفود بمشاعلها المتوهجة مودعة ذو اليزن وجيشه معبرة عن مرارة الفراق والغياب.
– تصحبكم السلامة.
وهكذا واصل ذو اليزن، على رأس جيشه، الزحف الذي استغرق أيامًا إلى أن شارفوا مدينة «بعلبك»، بأسوارها وقلاعها الحصينة التي تقطع بضخامتها الفراغ المحيط، مشرئبة ببواباتها النحاسية العالية التي يعلوها الحراس المدججون بالسلاح وخوذات الحرب المعدنية اللامعة.
ولم يشأ التَّبْع اليمني إعلان الحرب أو غزو بعلبك مفضلًا الحكمة على العدوان.
كذلك لم يصدر عن ملك بعلبك مبادرة إعلان حرب أو قتال، حين وصلته أخبار نزول جيش ذي اليزن الجرار بالسهول والتلال البعيدة الغور عن تخوم المدينة.
إلا أن الملك — واسمه أيضًا «بعلبك» — وقف مشرفًا من أعلى روابي المدينة، مسلطًا عينًا لا تخيب بصيرتها على ذلك الزحف الذي لا قبل لمخلوق به، والمقترب من المدينة، لكن دون أن يشهر أحد سلاحًا.
– هذا ضيفي!
نطق بذلك الملك بعلبك متراجعًا قليلًا عن جدار النافذة العليا المشرفة على قمة «برج البروج»، مرتجًّا من هول الكارثة التي لا قبل له من قبل بمثلها.
– كل هذا الجيش والعتاد.
كان الملك بعلبك قد أمضى يومه بكامله مستطلعًا لقطعان الخيول العربية المطهمة والعربات الملكية وقوافل الجمال، وفيالق جيش المشاة، وقطعان المؤن التي لا تنتهي من رءوس الأبقار والجمال والماعز.
حتى إذا ما قارب دخول الليل التالي وهو ما زال مأخوذًا بارد الأطراف من هول ما يشهد، وما لم يشهد من قبل، عاد مؤكدًا لنفسه بصوت واضح النبرات لمن حوله من كبار قواده ومستشاريه وعيونه المسلطة.
– هذا ضيفي!
واستمر الوضع على هذا الحال أيامًا امتدت إلى أسابيع، لم يرفع فيها أي سلاح.
– ويلي، ويلي!
صحيح أن الملك «بعلبك» لم تغفل له عين من هول ما رأي من ضخامة جيش التَّبْع اليمني، ومدى حرصهم، وعدم تحرشهم بأحد، إلا أن ما أصبح يبحث عنه هو.
– كيف التصرف؟
وهكذا أمر الملك بعلبك من فوره بإرسال واجبات الضيافة وإعدادها بكثرة تفيض عن حاجة ذلك الجيش، من رجال وما يليق بهم ومن في معيتهم من زوجات وأمهات وشيوخ وأطفال.
وما إن انشغلت المدينة عن بكرة أبيها بإعداد كل ما يلزم من واجبات استضافة جيش التَّبْع الذي لم يبدر منه عدوان إلى الآن «ربما يمر مرورًا ببلادنا وبلاد جيراننا وغيرنا من أقوام»، كما أمر الملك، حتى حمل الحرس المكون من كتيبة مسالمة في هيئة رسول وآلاف الذبائح المطهية للترحيب بالتَّبْع الملك «ذو اليزن» من قبل الملك «بعلبك» لضيوفه العرب النازلين.
وعادوا من فورهم محملين بشكر التَّبْع ذو اليزن للملك بعلبك، واستمر هذا الحال في تقديم «العشاء» من قبل ملك بعلبك بضعة أيام، إلى أن قرر ملك بعلبك الانتقال بنفسه لملاقاة التَّبْع.
– لنعرف ما الخبر؟ وما يحدث؟
وهكذا انتقل إليه ملك بعلبك في حرس بسيط، فهب الوزير يثرب لاستقبالهم إلى أن أدخلهم على الملك ذو اليزن الذي رحب به شاكرًا حسن ضيافته، وهو في طريقه بحثًا عما يشغل باله وفكره عن مصادر الماء، وخاصة.
– كتاب النيل.
غمغم ملك بعلبك متحسسًا جبهته كمن يمنع نفسه من الإغفاء، بعد طول عناء: النيل.
قاربه الملك ذو اليزن في مودة وهو يأخذ بيده ليعتلي عرشه إلى جانبه: منابع النيل.
وما إن دارت أقداح القهوة العربية، حتى استجمع ملك بعلبك كامل توهجه، وكان ضخم البنيان، كث الشوارب والحاجبين، محبًّا للحياة ومباهجها، وبدا للحظة مفتونًا من مشهد الملك التَّبْع ذو اليزن وصفاء ذهنه وما يشغله من موضوع، هو في الحقيقة قوام كل حياة في الوجود من سلمٍ وحربٍ وسياسة.
– الماء ومصادره.
اندفع من فوره محييًا ذو اليزن.
– يا له من موضوع يليق بالملك.
وامتد الحديث بينهما عذبًا يفيض صفاءً وتدفقًا حول عالم البحار والأنهار وأسراره التي سيظل موضوعها يشغل كل بال.
إلى أن تفهم ملك بعلبك، حسن غاية التَّبْع، فعرج بالحديث مستوضحًا هدفه من النزول على تخوم بعلبك، فأخبره الملك ذو اليزن مازحًا بصوته العميق الذي يشيع كل طمأنينة في آذان سامعيه: لَمِ لا يعرف كل منا صاحبه؟
ثم أعاد ذو اليزن طمأنة الملك بعلبك قائلًا له: ولعلك الآن تعرفت علينا وأدركت حقيقة نوايانا.
هنا فهم ملك بعلبك غرض التَّبْع ومرماه، وكيف أنه الآن — أي ملك بعلبك — على معرفة بحجم جيش التَّبْع وعتاده.
فبادره ملك بعلبك ممتنًّا مرحبًا: هذا مطلب يشرفنا حقًّا أيها الملك الحكيم التَّبْع.
قال ذو اليزن: «مرادي أن أنظر عسكرك.»
– هذا شرف كبير لنا حقًّا.
وقبل أن يهب ملك بعلبك مودعًا التَّبْع ذو اليزن منصرفًا، اتفقا على استعراض عسكر الأول في اليوم التالي.
– فلعلك أيها الملك الكريم، تبارك جيشنا وترعاه.