ملك بعلبك يجمع مستشاريه
ما إن انصرف التَّبْع ذو اليزن عقب استعراضه لجند وكتائب وعتاد ملك بعلبك الهائلة العدد والعدة، وذلك التنظيم وحسن المظهر الذي اتسم به أفراد الجيش وقادتهم، حتى أحاطت المخاوف والهواجس من جديد بملك بعلبك؛ متسائلًا: ماذا أفعل؟ دلوني!
وعندما لم يسعفه أحد بجواب شافٍ، اندفع من فوره، غارقًا في مشاعره، مسترجعًا تعبيرات وجه ذو اليزن وهو يطل من فوق البناء المشرف على ساحات جنده وكتائبه في إعجاب وتقدير ملفتين، وفي بعض الأحيان كان يرفع يده بالتحية لجموعهم.
– ترى ماذا يقول؟ ولماذا طلب مني هذا المطلب الغريب، أن يشهد جيشي ومصدر قوتي، لماذا؟
تساءل مسترجعًا لحظة أن أطل بنفسه من أعلى كوة قلاعه مستعرضًا جيش ذلك الملك اليمني التَّبْع، حالما انشق الأفق البعيد عن عسكره وقواته بملابسهم الغريبة وأجسادهم الناحلة الجافة الدقيقة التكوين وأسلحة حربهم، ودقة تنظيم صفوفهم.
– لا بد أن في الأمر شيئًا، ستكشف عن وجهه الخبيء الأيامُ والليالي المقبلة.
من جديد اتجه من فوره إلى جموع مستشاريه طالبًا مشاركتهم ومشورتهم الرأي في ما يحدث ويجري في بعلبك وبقاعها والذي جاء هكذا دون سابق إنذار.
– أخبروني ماذا يحدث، وما الذي يمكن فعله الآن قبل غد، قبل فوات الأوان؟
وهكذا فتح الملك على نفسه فاتحة لا حد لها ولأهوالها، حين حاول كل وزير أو أمير أو قائد من قواده، الإدلاء برأيه ومشورته وخططه.
فمنهم من رأى الملك التَّبْع — ذو اليزن — يبغي شرًّا بهذه البلاد، وإلا فلماذا جاء إلى بعلبك وبقاع لبنان بالذات، ولماذا لم يُيَمِّم وجهته إلى بلاد السرو وعبادة؛ أي وادي الأردن وفلسطين؟
وإذا كان طريقه وغايته بلاد الحبشة وأواسط قارة «أفريقيا»، فلماذا لم يتخذ أقصر الطرق من اليمن وجنوب جزيرة العرب، عبورًا إلى القرن الأفريقي، بدلًا من بعلبك وشمال لبنان؟
وانتهت آراء ذلك البعض إلى أهمية الاستعداد للحرب واتخاذ الهجوم كخير وسائل الردع والدفاع، بدلًا من أن يبدأ هو — أي التَّبْع — هجومه، خاصة بعدما تعرف عن قرب على حجم الجيش وعتاده وأساليب قتاله.
وتزايدت مخاوف الملك بعلبك من الاندفاع والأخذ بهذا الرأي، فمن يدري؟ لعل ذلك التَّبْع اليمني صادق في قوله ونواياه، وأنه حقًّا يشغله بحثه الذي يركب له كل الصعاب والمخاطر، بحثًا عن: كتاب النيل ومنابعه.
تساءل ملك بعلبك: من يدري؟ فقد نخسر كل شيء في حربنا مع اليمنيين، وما عرف عنهم من بأس وجلد على المنازلة والقتال.
وأعاد الجميع إلى الأذهان سيرة تبعهم حسان اليماني وتجبره في حروبه مع «آل مرة» والتغلبيين، وما أقدمت عليه يداه من صلب وقطع رقاب ما تزال تخضب آثارها بوابات دمشق.
ثم ها هي ذي الحرب التي أشعلت فتنتها عمته البسوس، تلتهم الجميع معًا من آل مرة والتغلبيين، وفي كل عام يتزايد أوارها مستعرًا متفاقمًا.
– حرب البسوس.
غمغم ملك بعلبك، متجهًا كالمأخوذ إلى حيث شرفة قصره الشمالية المطلة على فلول مضارب جيش التَّبْع وقبائله النازلة في سهول البقاع: حرب البسوس بين أبناء البيت الواحد ومن يدري؟ لعل لهيبها وشررها سيصلنا هنا في ربوع هذه البقاع.
استدار من جديد عائدًا حيث وفد مستشاريه وقواده، ساترًا بكفه جانب وجهه المكفهر عن تلك العيون المحيطة المتطلعة إليه، وكأنها إنما تتطلع مشدوهة إلى إنسان آخر غيره، فهم لم يعتادوا من قبل أن يروا مليكهم على هذا النحو من الاكفهرار والتخاذل وهو يكرر تساؤله المؤرق: من يدري؟!
بل إن ما ضاعف من شكوك ملك بعلبك أكثر فأكثر هو مجيء التَّبْع بجيوشه إلى البقاع، بدلًا من نزوله وجيشه إلى دمشق وفلسطين لأخذ ثأر عمه من كُلَيْب بن ربيعة وآل مرة، ثم انفجر ملك بعلبك غاضبًا حين تسرع أصحاب الرأي المتصلب المطالب بالهجوم قبل أن يبدأه اليمنيون صائحًا: نحن لسنا في لعبة مراهنة، فأين نحن — حراس الأرز — من حِمْيَر وتباعنتها؟
هب الملك عن كرسيه، كمن يعاني اختناقًا من هول ما يحدث، متذكرًا هيئة أمير بني ربيعة مصلوب الرأس إلى أسفل على مدخل دمشق، وقد غاب عنه دمه المنحبس في عروقه، جاحظ العينين غارقًا في صمته وآلامه المبرحة.
وما إن استرد ملك بعلبك عافيته حتى عاوده صفاء ذهنه، فطالب نَاصِحِيهِ بالتروي والعمل في صمت وضبط النفس إلى حين عودة عيونه وبصاصيه المنبثين بين جموع اليمنيين ومضاربهم في آخر الليل ومعرفة حقيقة ما يحدث.
– ما الخبر؟
وفي آخر الليل كان قد تجمع لديه كل ما طلبه من أخبار، إلا أنه لم يجد فيها أبدًا مبتغاه، وهو ما ينبئ عن اقتراب رحيل التَّبْع ذو اليزن عن البقاع، بل وعن لبنان والشام بأكمله، صرخ الملك من جديد وقد اعترته النوبة: ألم يَطِبْ لأولئك البدو الغزاة الإقامة والمقام في بلاد الله الواسعة، سوى هنا وعلى عتبات بواباتنا؟
استدار ضاربًا كفًّا بكف: أتكتم أنفاسنا ليل نهار على هذا النحو؟
كان ملك بعلبك قد أصدر أوامره لعماله وحكامه بالصمت، منذ نزول التَّبْع وجيشه فلم يعد يسمع في كل جنبات المدينة لهوها وصخبها وما اشتهرت به من أفراح ودبكات ورقص وغناء حتى مطلع كل فجر.
لذا بدت المدينة في الأيام الأخيرة صامتة مترقبة، يشيع في جنباتها التوجس المطبق ولا شيء غيره.
– إلى متى؟
تساءل الملك متفرسًا في وجوه المحيطين منه من وزراء ومستشارين وقواد: إنه الحبس، الأسر بعينه، ما أصبحنا وأمسينا فيه داخل أسوارنا.
مرة أخرى عاوده هدوءه وتماسكه معاودًا التساؤل: أما من حيلة؟
– حفلة على شرف التَّبْع.
تفوه الملك مفكرًا: مسمومة!
وأخذًا بمقولة خير البر عاجله اندفع الملك من فوره معدًّا كل شيء بدقة وحذر شديدين.
حتى إذا ما أشرف بنفسه على دقائق خدعته الجديدة، توجه من فوره إلى حيث يربض حرسه عاقدًا عزمه على المسير إلى مضارب التَّبْع ذو اليزن لدعوته للحفل، ودعوة وزرائه وكل قواده وأمرائه وحتى كبار جنده لحفلة العمر التي ستشهدها سهول بعلبك تلك الليلة.
– ليفرح الجميع، وتتوثق عرى الصداقة والمحبة، الليلة!
وسريعًا ما استحال ليل روابي ومنحدرات وقصور وبساتين بعلبك، إلى نهار جلي وواضح، بعدما انتشرت محارق نيران الشواء والطهي وأضيئت الفوانيس والمشاعل والشمعدانات ذات الأفرع الثمانية، وعمت البهجة الجموع وانتشرت حلقات الرقص الجماعي العملاقة (الدبكة) وعلت الموسيقى وصاحت المغنيات، ومدت السماطات والأبسطة والموائد الخشبية والنحاسية والمرمرية.
وتوقف ملك بعلبك يشهد بنفسه من كوة أعلى أبراج قلاعه، غبار موكب الملك التَّبْع في جبروته محاطًا بهوادجه وكواكب فرسانه، وفي إثره موكب وزيره، العاقل الحكيم يثرب.
وهنا تدافعت دقات قلبه مما سيحدث هذه الليلة الليلاء، التي قرر أن يضع فيها حدًّا لهواجسه ومخاوفه.
حتى إذا ما قارب موكب الملك التَّبْع ذو اليزن مشارف الحصون الأمامية للمدينة نزل ملك بعلبك مسرعًا متبوعًا بحاشيته ومقربيه، وقد نشر الزينات والأعلام اليمانية شمالًا وجنوبًا مرحبًا بالتَّبْع ذو اليزن.
– شرفت ديارك.
واصطحبه من فوره إلى حيث اعتلى معه عرشه الهائل وأجلسه أعلى منه منزلة.
ومدت موائد الطعام والشراب، وعذب السمر، وخلال كل ذلك ازداد الملك بعلبك شحوبًا حتى إنه لم يجرؤ على أن يشير للتبع مرحبًا إلى حيث موائد الطعام.
وتزايد اكْفِهْرارُه أكثر، حين لاحظ أن الملك ذو اليزن ووزيره يثرب أو أيًّا من مرافقيه لم يقرب أيضًا طعامًا أو شرابًا.
بل إن الوزير «يثرب» نادى أحد مقربيه وأسر له بشيء لم يسمع، تواتر من فوره إلى جموع الضيوف في ذات الصمت الحازم.
هنا تزايدت هواجس الملك المضيف، وهو يرقب ما يحدث، من دون أن يعرف فحواه، وتساءل: تراهم قد عرفوا بأهوال هذه الوليمة المسمومة!
وحاول دفع الملك ذو اليزن إلى المشاركة في الغناء والطرب، جاذبًا اهتمامه إلى مهارة حلقات الراقصين وهم يدقون الأرض في تناسق متناغم عرف عنهم منذ القدم، وجاءت به الكتب والأسفار القديمة، وشاركه التَّبْع ذو اليزن مؤكدًا، في صفاء عن مدى مهارتهم وحسن غنائهم وإيقاعهم.
وعم الحفل لحظة وجوم امتدت ثقيلة إلى أن قطعها سقوط بعض اليمنيين صرعى بعدما تسرعوا وأكلوا الطعام المسموم يعانون في صمت وأصوات مكبوتة، مما دفع بالتَّبْع ذو اليزن، إلى مقاربة ملك بعلبك مسرًّا في أذنه قائلًا: مرادي أن أنازلك أيها الملك في الميدان!
ثم انسحب التَّبْع الملك ووزيره يثرب وبقية المدعوين من أمرائه وقادة جيشه وحاشيته، بعدما اتفقا على المنازلة في اليوم التالي على مشارف تلال بعلبك.
وفي اليوم المحدد مع مطلع النهار، اجتمعت جموع عظيمة لا يحدها بصر من الجانبين مبكرين لمشاهدة النزال بين ذو اليزن وملك بعلبك.
وحين تواجها صالا وجالا في الميدان طويلًا، بين «صدٍّ وردٍّ وطراد ومهارشة»، حتى انبهر كل من شاهدهما.
وظلا هكذا إلى أن غربت الشمس دون غالب ومغلوب، فتصافحا وافترقا على اللقاء في اليوم التالي وجرت المبارزة بعدما داخلها خبرة كل منهم بخصمه، وظلا يتلاقيان ويتباعدان، ويكمنان ويفران طيلة اليوم إلى أن حطت الظلمة أعالي جبال بعلبك وروابيها، وافترقا على لقاء جديد.
وامتدت المنازلة بينهما سبعة أيام.
وفي اليوم الثامن كان ذو اليزن قد داخله الوهن والتعب، إلا أنه تمكن من ملك بعلبك الهائل الجثة فأرداه قتيلًا، وأشرف بنفسه على دفنه في مهابة وتكريم.
وبعدها قرر الملك ذو اليزن بمشورة وزيره المقرب يثرب الرحيل عن تلك البلاد، بعدما أخذ عشرين حملًا من مال ملك بعلبك وجواهره وذهبه الإبريزي وفضته الفينيقية.
وارتحل ذو اليزن بجيشه طالبًا أرض الحبشة وبلاد السودان، إلى أن نزلوا واديًا ذا أشجار.