التعريب داخل أفريقيا
كان الوادي الأخضر هائل الشجر والإثمار الذي استقر رأي التَّبْع ذو اليزن على النزول على رءوس جباله وروابيه السندسية الحانية، وضفاف أنهاره العذبة العميقة الزرقة ذات الخرير الشجي.
وكان الوادي بالإضافة إلى جماله الباهر الأليف يفيض ويموج بمختلف أنواع الحيوانات والطيور وقطعان الماشية من جمال وأبقار وأغنام وأيائل برية.
ورغم خلوه من السكان، إلا من بضعة رعاة فرادى، فإنهم فروا الأدبار هربًا عندما وقعت عيونهم على جيش ذو اليزن الجرار المدجج بالسلاح.
وكان التَّبْع ذو اليزن لا يزال يعاني طيلة الطريق من بعلبك إلى أفريقيا، مما اضطره ودفعه دفعًا إلى تحديات ملك بعلبك ومنازلته إلى أن أرداه قتيلًا بحسامه على مرأًى من أمرائه وأقاربه وذويه، فما فكر على الإطلاق أن ينازله حتى الموت، إلا أنه ما إن رأى رجاله يهوون صرعى نتيجة أكلهم السم في تلك الليلة الليلاء، حتى أدرك الخيانة من قبل ملك بعلبك، فكانت المبادرة بالتحدي والمبارزة معه أسلم الحلول بدلًا من رفع السلاح وإحداث مجزرة رهيبة يسيل لها الدم مدرارًا على السهول والروابي ويذهب ضحيتها الأبرياء قبل الأعداء.
ولقد حاول الوزير «يثرب» كلما حاول الملك مفاتحته في أمر ما جرى، تهوين الأمر عليه، بأن «البادئ بالشر هو عادة الظالم».
بل إن التَّبْع ذاته كان ينوي الرحيل بجيشه عن بعلبك بعد أيام معدودة، دون أدنى أطماع أو نية سيئة تجاه ملكها الكريم الشمائل، الذي رحب بهم في البداية خير ترحيب، إلا أنه سرعان ما استهوته هذه البلاد الحارة المتفجرة بالعطاء الذي تفصح عنه طبيعتها السخية.
وتملكه الحماس أكثر حين تبين له مدى كثرة الماء ومجاريه على طول ذلك الوادي، بما يسهل له ممارسة هوايته وتحقيق أهدافه خاصة بحثه عن «كتاب النيل» الذي يؤرقه البحث عنه وحل طلاسمه وألغازه.
فانشغل الملك ذو اليزن في أبحاثه وأسفاره ما يعن له من ملاحظات حول الماء ومصادره، وكيفية التحكم فيه، خاصة النهر العظيم، نهر النيل.
حتى إذا ما انتهى ركب ذو اليزن من حط رحاله في ربوع تلك البلاد والغابات، أقيمت المضارب والخيام وبيوت الشعر، وبدأ بتشييد قصر التَّبْع ووزيره يثرب على سفوح أعلى الجبال المحيطة بالوادي الفسيح وغاباته الكثيفة.
وانخرط الملك من فوره مستغرقًا في أبحاثه المضنية عن منابع النيل؛ حيث سافر المسافات الطويلة بصحبة حراسه ومساعديه، وسأل كتبته تدوين ملاحظاته وما توصل إليه، بل بعث بإحضار بعض مراجعه ومخطوطاته ومدوناته السابقة من مأرب وسبأ وصنعاء.
وكان كلما سافر ورحل وبحث، زاد تفكيره فيما يطمح إليه، واحتياجه للسنوات الطوال لاستكماله.
فهو الماء؛ الحياة قبل وبعد أي شيء آخر.
إلى أن استقر رأيه الذي فاتح فيه وزيره المقرب «يثرب» وهو ضرورة بناء مدينة، تليق بالملك التَّبْع تقع إلى الجنوب أكثر من المكان الذي نزلوا فيه.
وعلى الفور أمر بإحضار الصناع والمهندسين، فحفروا أساسها وبنو جدرانها وأسوارها وحصونها المنيعة.
وانشغل الملك ذو اليزن بنفسه، في كيفية تحويل المياه إليها فأمر بشق أنهارها العذبة، بما يحقق أبحاثه وما هو منشغل به: كتاب النيل.
واستغرق العمل والبناء في إقامة المدينة الجديدة في أفريقيا الوسطى سنوات، حتى إذا ما اكتملت، أسكن عشائره ومقربيه وسماها بنفسه «أحمرا».
وجاءت مدينة «أحمرا» منافسة لسابقتها «يثرب» في اجتذاب التجار والصناع وأرباب الحرف والزائرين من كل صوب: من مصر والسودان وقرطاج والمغرب الكبير وبلاد الحبشة وبلاد «بنط» أو الصومال، إلى أن وصلت أخبار الملك التَّبْع ذو اليزن ومدينته التي على مشارف أرض الحبشة، إلى مليكها الجبار بالغ السطوة والجاه والذي ترعد له القلوب عند ذكر اسمه: الملك سيف أرعد.
وهو الذي يحكم بلاد الحبشة وما حولها من بلدان متضمنة السودان؛ حيث تقف حدوده عند مصر العليا.
– يا للغفلة التي لن تغتفر يومًا لأحد، كيف جاء عرب اليمن وتبعهم الكبير ونزلوا بلادنا واستوطنوها، وشيدوا مدينتهم ونحن لا نزال غافلين؟
استشاط ملك الحبشة سيف أرعد غضبًا وصرخ في وجوه أعضاء مجلس حربه، من أمراء وشيوخ قبائل وحكام وقواد ومستشارين.
– كيف حدث هذا؟!
توقف الملك فجأة، حين قدم وفد إلى مجلس حربه الذي كان قد دعا إليه، وكانوا يتوافدون بمراكبهم البحرية، صاعدين من فورهم إلى حيث قصر الملك سيف أرعد.
وكانت مدينة ذلك الملك يقع نصفها في البحر ونصفها الآخر في البر، وكانت حصينة مترامية الأطراف، فيها القلاع والموانئ والمنشآت البحرية ومصانع صنع مختلف الأسلحة التي اشتهرت بها في كل بلدان أفريقيا، التي لم تكن لتهدأ لها حروب ومنازعات، مما جعل تجارة الأسلحة رائجة وضاعف من ثراء مدينة الملك سيف أرعد التي اشتهرت أيضًا بزرع الفتن بين أقوام القارة السوداء المترامية الأطراف.
وكان ملك الأحباش الذي يرفل في الذهب الإبريز ومعه كبار تجار المدينة لا هم لهم سوى الثراء، بغض النظر عن كيفية الحصول عليه، أما أن تصل الغفلة بالجميع إلى حد أن ينزل بلادهم وتخومهم بدو عرب المشرق وتَبْعهم واسع الشهرة والعلم والشكيمة ذو اليزن، فتلك كارثة الكوارث ولا شك، والأدهى أن يجيء نزولهم على هذا النحو، بلا حرب أو معارك أو قتال أو مقاومة، إلى أن يهنأ لهم البال فيشيدوا مدنهم وحصونهم، وها هي «أحمرا» عاصمة التَّبْع، أصبحت تجتذب، عامًا بعد عام، كل الأنظار المتطلعة لمصنوعاتها ومنتجاتها ومبانيها وأنهارها وبساتينها.
– إلى هذا الحد تصل الغفلة بالجميع؟
أهكذا نصل متأخرين جدًّا على الدوام، وبعدما نفذ السهم ليفت من مقتلنا جميعًا الصغير قبل الكبير، دون استثناء؟
وحاول بعض الحاضرين تهدئة ثائرة الملك سيف أرعد، بحجة أن التَّبْع اليمني لم يرفع سلاحًا ضد أحد.
عاود الملك صراخه: تلك هي الكارثة كل الكارثة.
وتدافعت بعض الأصوات مشيرة إلى أن الملك ذو اليزن منشغل بالمياه وكتاب النيل، دون غزو أو قتال، إلا أن الملك أرعد قاطع الجميع قائلًا: الماء … النيل … حياتنا!
هب واقفًا موضحًا وهو يضع قبضته حول عنقه، كمن يعاني اختناقًا حقيقيًّا.
– رقابنا … مقتلنا … الماء … النيل.
وكان لدى ذلك الملك — سيف أرعد — حكيمان أو وزيران؛ أحدهما يدعى «سقرديس»، أما الوزير الثاني فيدعى «بحر قفقاف الريف» أو «أبو ريفة».
كان أولهما وهو «سقرديس» يكره العرب — أولاد سام — الذين لا يحبون أحدًا من ذرية حام أو الحاميين الأفريقيين؛ لذا اندفع سقرديس من فوره متحاملًا ضد التَّبْع ذو اليزن وجيشه ومآربه في أفريقيا التي يسترها ببحثه عن «كتاب النيل» ومنابعه.
– إنه مجرد قناع خادع لتغطية أطماعه.
ثم عاد يؤكد: ومن الأفضل لنا المبادرة بحربه وقتله وإفناء جيشه العربي الغازي، الذي استباح بلادنا في غفلة منا جميعًا — على حد قول الملك أرعد — ومن الأفضل لنا القضاء على تلك المدينة — أحمرا — التي شيدها التَّبْع اليمني، وجلب إليها الماء من كل مكان، فالخطر، كل الخطر، من تلك المدينة التي أصبحت مضرب الأمثال في الأمن والأمان، حتى اجتذبت التجار والزائرين من مشرق الأرض ومغربها.
هنا قاطعه الملك أرعد مشيرًا في رثاء عبر شرفات قصره: ألا ترون ما انتهت إليه مدننا وتجارتنا من جراء إنشاء تلك المدينة العربية التي امتلأت ساحاتها في غمضة عين بورش الحدادة وصهر الحديد وصنع السلاح وتربية الخيول العربية حتى أصبحت اليوم ترسانة وحربة موجهة إلى صدورنا؟ صرخ الملك أرعد، وقد احمرت عيناه وتبدلت سحنته عن آخرها، فجرى إليه خدمه بالماء.
– ألا ترون وتشهدون؟
وكان الوزير — عدو العرب — سقرديس، على دراية كاملة بتاريخ التَّبَاعِنَة وحروبهم في الشرق البعيد، وتجبرهم وفتوحاتهم، فأعاد إلى الأذهان أساليب التَّبَاعِنَة في الغزو القائم على الخداع، مثلما حدث مع التَّبْع حسان اليماني — عم ذو اليزن — حين اجتاحت جيوشه المتسترة بالأشجار مدينة اليمامة وأسرت أميرتها الزرقاء التي حذرت قومها الغافلين طويلًا دون جدوى، وهو بذاته ما يحدث الآن.
أما الوزير الحكيم الثاني للملك سيف أرعد، وهو «أبو ريفة» فقد رفض ذلك المنطق وآثر التروي وتدبر الأمر قبل الاندفاع بالقتال والحرب مع سليل «تباعنة اليمن» وما عرف عنهم من بأس.
كان «أبو ريفة» وأصله من بلاد الحجاز، ما يزال لسانه عربيًّا، وما كان يعبد «زحل» كالأحباش، وكان محبًّا للعرب متقربًا منهم؛ لذا آثر منذ البداية رفع صوته والإدلاء الهادئ برأيه للملك أرعد، محبذًا عدم المبادرة بالهجوم والحرب ضد العرب النازلين.
– فلعل النازل، يرحل يومًا، بلا حرب وويلات وأنهار دماء.
ولما كان الوزير الحكيم «أبو ريفة» مقربًا من الملك أرعد، فقد أسلم له أذنيه منصتًا لمشورته، في هذه الظروف العصيبة التي حلت بالأحباش وبلادهم وهيمنتهم على مشارف أفريقيا.
إلا أن الوزير الأول، لم يطق على نزول العرب صبرًا، واندفع من فوره يزين للملك سرعة الحركة والمبادرة ضد التَّبْع ذو اليزن، ما دامت الحرب هي في ذاتها خدعة، فلِمَ لا تلجأ إلى المكيدة والخداع؟
– كيف؟
– نرسل له بالجارية «قمر» حليلة.
هنا استكان الملك أرعد لرأي وزيره «سقرديس» منصتًا مفكرًا: ولعلك أيها الملك الأقدر على معرفة «قمرية، سكة الأذية» أكثر من غيرك.
فهي جارية نادرة، بديعة الجمال باهرة الحضور والغناء والكلام، كما أنها داهية الدواهي كمثل أفعى، بل هي أفعى أودت بحياة الكثيرين بمنقوع سمها الزعاف.
وحين انتشى ملك الأحباش سيف أرعد، من مكيدة وزيره «سقرديس»، هب من عرشه مشيرًا إلى خدمه بإخلاء طريقه إلى حيث يقيم حريمه للاجتماع بتلك الجارية المسمومة قمرية.
وحاول الوزير الثاني أبو ريفة اللحاق بالملك سيف أرعد، للحيلولة دون تدخل تلك الجارية — الداهية — شديدة الطموح والتلون والناطقة بكل لسان ولهجة، في ذلك الأمر الخطر، إلا أن سيف أرعد لم يعطه آذانًا مصغية، هاتفًا وهو يقارب ديوانها: قمرية، أيتها الأذية.