زواج ذو اليزن من قمرية
منذ اللحظة الأولى التي التقى فيها الملك التَّبْع ذو اليزن بتلك الفتاة الباهرة الجمال المتوقدة الذكاء «قمرية» التي كانت قد جاءته — متسللة كمغتالة — تبغي أولًا وقبل كل شيء إزهاق حياته، عن طريق ترياقها المُعَجِّل، تخلى عن كل شيء ولم يعد يعرف للنوم طعمًا.
بل إن التَّبْع احتفظ بقارورة السم الزعاف كما هي إلى جانب فراشه، وكان يحلو له في بعض الليالي تناول تلك القارورة المتناهية الدقة والصغر وتأملها مجددًا بعدما استخرجتها قمرية — خلسة — من بين جدائل شعرها العسجدي الضارب إلى الاحمرار، ثم مدت يدها له فتناولتها إياه، بطريقة تلقائية منذ لحظة لقائهما داخل قاعة عرشه ومن دون أن تنطق ببنت شفة.
– استريحي!
إلى درجة دفعت بالملك ذو اليزن إلى عدم مفاتحتها في الأمر رغم تعدد لقاءاتهما، وتعرف أبعاد تلك المؤامرة التي تهدف إلى اغتياله في فراشه، كل ذلك من تدبير ملك الحبشة «سيف أرعد» الذي بدأ علاقته معه على هذا النحو الأثيم، بل إن ذو اليزن تعمد من جانبه تغيير الموضوع بكامله بسؤاله لقمرية عن الملك سيف أرعد قائلًا: كنت أنوي من جانبي الرد على هداياه بأفضل منها، «أطرق مبتعدًا» لكن ما باليد حيلة.
ألجمت «قمرية» بدورها، دون أن يسعفها ذكاؤها الذي اشتهر عنها، أمام نبل شمائل ذلك الملك العربي الراجح العقل إلا أنها تململت مطرقة مغمغمة: ما أنا سوى رسول أيها الملك.
– أعرف.
قالت: ولعل هذا لم يكن قراري منذ البداية.
هبت من فورها مقاومة انفعالاتها متجهة في معاناة إلى حيث الشرفات الفسيحة المشرفة على السهل الذي شيد على قممه المطلة على مدينة «أحمرا» وقصر الملك التَّبْع الحصين.
– أبدًا لم يكن هذا قراري.
– تقصدين اغتيالي؟
– لم أقصد شيئًا سوى أن أراك يومًا.
قاربها التَّبْع منبهرًا من جمالها الطاغي.
لحظتها تدفقت الدموع السخية من عيني قمرية.
– أنا لم أبكِ أبدًا من قبل.
– أعرف.
اندفعت تتأمله في أقصى حالات انبهارها، كما لو كانت على معرفة سابقة كاملة ودقيقة بمعالم وقسمات وجهه.
– أبدًا، لم أعرف للنحيب طعمًا وإحساسًا.
– أجل، أعرف.
سألته في عفوية طفولية طاغية وهي تقاربه أكثر متأملة إياه من تحت أهدابها المبللة: حقًّا تعرف! كيف؟
– مثلك لا يبكي أبدًا يا قمرية.
ضاحكها: الأذية.
هنا لم تتمالك قمرية السيطرة على مشاعرها فاندفعت تضحك من أعماقها، كما لم تضحك أبدًا في حياتها، إلى درجة أسقطت عنها كل أسلحتها، لتعاود براءتها الأولى التي عاشتها يومًا في طفولتها «الأعجمية»، وقبل أن تأخذ طريقها — كجارية مملوكية — ذائعة الصيت تتقاذفها القصور والمؤامرات ودسائس الحكم والسياسة، وحياة الترف والثراء وشهوات التسلط على أعناق ومصائر أعتى الملوك والأمراء، إلى أن انتهى بها المطاف في أعلى الذرى لدى ملك الأحباش «سيف أرعد» الذي بعث بها إلى ذو اليزن.
وهكذا لم تصدقها عيناها، وهي تقف يومًا في مواجهة ملك هذه البقعة الشاسعة من الأرض ذي اليزن بوجهه السمح الآسر العميق المشاعر.
– لعلني ما زلت أحلم سابحة في أغوار هذه اللحظة الدهر، يا مليكي التَّبْع.
أشار ذو اليزن بذراعه عبر شرفات قصره: نحن ما زلنا في وضح النهار، أيتها الأمير قمرية.
ومرة أخرى انهمرت عينا قمرية الباهرتا الجمال دموعًا مدرارة، متسائلة مدهشة: أميرة؟
هنا علا رنين جرس الاستئذان بالدخول، وانفتح باب قاعة عرش التَّبَاعِنَة على مصراعيه، واندفع الوزير الأول «يثرب» داخلًا في مهابته، إلا أنه توقف وقد أدهشه مشهدها المفصح دون كثير عناء عن الكثير من الأمور الجليلة.
– ماذا يحدث؟
غمغم يثرب متسائلًا لنفسه، وقد جمد في مكانه حيث يقف، إلى أن أشار الملك التَّبْع له بالدخول: صديقي الوفي يثرب.
تقدم الوزير يثرب مسرًّا للملك بموعد الحفل: وصلت مواكب الوفود.
تطلع الملك إلى السماء وكأنه يقرأ الوقت: وصلوا، أشار الملك لمساعديه منسحبًا مربتًا على يدي قمرية، وأحاط على الفور أربعة من مساعديه فألبسوه تاجه وعباءته وطيلسانه، وحين انتهوا من مهمتهم، اتجه ذو اليزن إلى حيث تقف «قمرية» مادًّا لها ذراعه في استئذان نبيل: لم لا تحضرين هذا الحفل معنا الليلة يا قمرية؟
ارتعدت قمرية من الرأس حتى القدم من هول مفاجأة الملك التَّبْع لها على هذا النحو، وحاولت بسرعة السيطرة على حواسها وهي تمسك بيد الملك التي مدت لها.
أما الوزير يثرب فقد غالب اندهاشه معلقًا قائلًا: إنه حفل الأسلاف التَّبَاعِنَة الذي يحل موعده الموافق لهذا الشهر القمري من كل عام، ويحضره الملوك والأمراء والسفراء من سبأ وحضرموت ويثرب ومصر وبلاد النبط وفارس وبلاد بنط ودمشق والمغرب الكبير.
ولم يكمل الوزير يثرب حديثه عن الحفل؛ إذ طغت موسيقى تتخللها الهتافات المدوية بحياة الملك التَّبْع، في ذات اللحظة التي انفتحت فيها قاعات القصر، التي بدت وكما لو كانت قاعات دائرية مسحورة تدور في بطء وديع مهدهد مع اتجاه حركة الشمس في الأفق البعيد التي بدت حمراء قانية.
وبدت القاعات الفسيحة المتناهية الروعة غاصة بالوفود المشرئبة بأعناقها باتجاه الملك ذو اليزن، وقمرية إلى جانبه متأبطة ذراعه غير مصدقة ما يحدث، ولكنها أدركت في النهاية مغزى اصطحاب الملك التَّبْع لها جهارًا على هذا النحو، إلى درجة دفعت بها إلى القول في جدية بالغة: إذا تخليت عني بعد اليوم فسأتجرع سمومي!
– لن يحدث.
وحين بدأ الملك النزول عن أولى درجات عرشه، انحنت هامات الوفود رجالًا ونساءً وصدحت الموسيقى، ودارت أطباق الطعام وكئوس الشراب وتقدم الملك ذو اليزن محييًا مرحبًا بالجميع ممازحًا إياهم في حنو بالغ معلنًا تقديمه «لقمرية» في بساطة وهو يضاحكها على مرأًى من الجميع قبل أن يطلب يدها بعفوية بالغة: أتقبلينني زوجًا؟
فما كان من قمرية إلا أن تراجعت منزوية خجلًا من روعة وصفاء ذلك الملك البهي الطلعة الذي لم يدرك أبعاد الصدمات المتتالية التي أحدثتها هذه الليلة العاتية المتلاحقة الأحداث «لقمرية» التي تمتمت بخجل بالغ؛ قائلة: يبدو أنك أيها الملك الذي ستعجل باغتيالي الليلة، قبل الأوان.
أجابها ذو اليزن؛ مازحًا: واحدة بواحدة.
إلى أن واجهها بغتة في جدية: أتقبلينني؟
– أقبلك!
ثم أطرقت خجلًا.
قال موجهًا حديثه هذه المرة لكبار مدعويه من مختلف بقاع الأرض، بأزيائهم الغريبة الشديدة الاختلاف والتنوع المتضاربة الألوان والمجوهرات: أتمنى أن يتحقق أملي يومًا لأخلف من قمرية وريثًا لعرش التَّبَاعِنَة، مجرد أمنية.
تنهد الملك جانبًا مخفيًّا ما اعترى وجهه من تعبير يفيض بالأسى ثم أردف؛ قائلًا: قبل فوات الأوان.
صفق المدعوون، وعلت الموسيقى والغناء وتبارى الشعراء في تمجيد الملك التَّبْع، بينما اندفعت قمرية تبذل أقصى طاقاتها للسيطرة على مشاعرها إلى أن أخرجها الملك من أحلامها.
– لعلني أخلف منك يومًا وريثي، «هيكل».
هنا سرى الاسم بين الجموع متلاحقًا من مجموعة إلى أخرى ومن فم إلى آخر إلى أن عم الصالات الواسعة الغاصة بالشموع والمشاعل وموائد الطعام والشراب والشواء، ومختلف الفرق الموسيقية والأكداس المكدسة من ثمين الهدايا النادرة والمجوهرات.
– هيكل، هيكل.
قال الملك ذو اليزن، موضحًا: هو «هيكل»، وسأدعوه «سيف».
وتدافعت الوفود أكثر من كل حدب وصوب وهي تتطلع مرة إلى وجه الملك التَّبْع، ومرة إلى قمرية وقد اعتراها الذهول الذي أفصحت عنه الملامح اللاغطة المحبة لذلك الملك الذي لم يعهدوه أبدًا يخطو بمعزل عن الخير: هيكل، سيف، أحقًّا ما نسمع ونرى، هيكل، سيف!
تساءل الجميع في همس هنا وهناك: أحقًّا ما يحدث؟!
إلا أن قمرية اعتراها حزن غريب عميق الأغوار لم تعهده أبدًا، وهي التي قضت حياتها بكاملها داخل ساحات ومحارم قصور مشابهة دون أن تصدم يومًا من الأيام بمثقال ذرة كما صدمتها هذه الليلة المتلاحقة الأحداث.
– ما الذي اعترى الملك الليلة، ليصدم الجميع على هذا النحو من الغرابة التي قد تفضي إلى توقف القلب عن نبضاته والدم عن سريانه، وتؤدي إلى الموت الزؤام، الموت اندهاشًا، لماذا؟
لقد مشت تشد على يد الملك حيث يتوجه قلبها، أو لعله سيقفز منخلعًا من بين جوانحها، لقد جاءته منذ أيام معدودات متآمرة مغتالة تتأبط سمها الزعاف لترديه قتيلًا في غمضة عين، ثم ها هي الآن أميرة ممسكة يده التي لو حدث وتخلت عنها، لفارقت الحياة بأسرها من فورها.
– ما معنى هذا، الليلة!
– هيكل وسأدعوه: سيف!
تساءلت: من جاريتك قمرية؟
أجاب دون تردد ممسكًا يدها برفق: أجل.
شردت ببصرها: لو أن الشمس الغاربة لتوها أعادت إشراقها الآن حالًا لما تساءلت: لماذا، ولَمَا كانت عثرت على جواب شافٍ.
حتى إذا ما سنحت لحظة قاربهما فيها وزيره وصفيه المقرب «يثرب» اتجهت إليه قمرية بسؤالها الأزلي معبرة بكل وجهها وخلجاتها: لماذا؟
أجابها الوزير يثرب: لأنه ذو اليزن.
استكانت لحظة مطلقة عنان أفكارها لذلك الحب الطاغي المكبل الذي اعتراها فجأة ودون سابق إنذار من الرأس حتى القدمين مرددة بعده: ذو اليزن.
هنا تدافعت الوفود المتطلعة إليهما من كل جنبات القاعة العملاقة مهنئة مهللة، وهي تلقي بنادر الهدايا تحت أقدامهما، النساء قبل الرجال يخلعن عنهن أساورهن وأقراطهن الذهبية المرصعة بالياقوت والزمرد والرجال خناجرهم الإبريزية وما يحملونه من ثمين الأحجار الكريمة مهنئين.
– حان الوقت، وحل الأوان، مبروك يا أميرتنا، وعلى الفور علا اسمها: قمرية، قمرية!