جنون ملك الحبشة
جُنَّ جنونُ ملك الأحباش «سيف أرعد» حين تنامى إلى سمعه الكيفية التي انتهت إليها مهمة تلك الجارية التي كانت تغل سمًّا «قمرية»، والتي بلغت ذروتها القصوى منذ لحظة وصولها إلى مدينة التَّبْع اليمني الغازي ذو اليزن، «أحمرا» فبدلًا من أن ترديه قتيلًا بسمها الزعاف الناقع، أوقعته في حبائلها إلى حد إقدامه على الزواج منها.
– أحقًّا ما أسمع؟! يا لها من كارثة.
ارْبَدَّ وجه الملك وهو يسمع ويقرأ تقارير عيونه وبصاصيه، مقارنًا الواحد بالآخر، وأزعجه أنها جميعها تلتقي على الزواج من قمرية، ليخلف منها وريثًا «لعرش التَّبَاعِنَة العظام».
تساءل الملك محطمًا من فوره كل ما تقع عليه يداه في غضب مندفع جارف: عرش التَّبَاعِنَة العظام؟! هنا في قلب أفريقيا هنا؟! على مقربة منا، من إثيوبيا!
لحق به وزيره المقرب الذي يمقت العرب ملهوفًا محاولًا تهدئة ما ألم به من ثورة غاضبة، حين استدار إليه الملك دافعًا إليه بكومة ما تلقاه من تقارير.
– إنها مشورتك، اقرأ يا سقرديون!
– قرأتها بكاملها حرفًا حرفًا.
رفع الملك ذراعه المغطى بالأختام والأساور المصاغة من الذهب الإبريزي الأحمر صارخًا: سيتزوجها التَّبْع تصور، يتزوج من قمرية.
رفع صولجانه مشهرًا مهددًا: ليخلف منها وريثًا لعرش التَّبَاعِنَة، وهنا، هنا عند أعتابنا على أعتاب أسعد يهوذا.
أعاد مسرعًا قراءة أحد التقارير.
– لقد حدد وهو لا يزال في بطن أمه «الأذية» «هيكل» وسيدعونه «سيف»، ليشهره في وجهي، في مقتلي أنا وليس أحد سواي، بالطبع من هو غير أنا؟!
وعلى الفور تصور الملك أرعد، مائدة ملك بعلبك المسمومة، وما انتهت إليه، صارخًا في وجه وزيره المأخوذ سقرديون: هي بذاتها الحكاية القديمة، تطل برأسها من جديد تمامًا، مثلما حدث مع ملك بعلبك وانتهى بقطع رأسه.
تهاوى من فوره جالسًا على عرشه — عرش أسد يهوذا — آخذًا رأسه بين ساعديه.
– الحكاية القديمة، هه، والآن جاء دوري أنا، هنا.
غمغم ساخرًا: فالتَّبْع لا يبغي حربًا، بل انتقامًا.
وكما لو أن أطماع وأحلام ملك الأحباش قد تهاوت كلها دفعة واحدة، كما لو كانت مجرد أضغاث أحلام، استحالت فجأة إلى كوابيس محاصرة مروعة لا مهرب له ولا فكاك منها.
– إلى أين؟
كانت أحلامه وأطماعه لا تقف فقط عند مجرد حكم إثيوبيا وتوابعها، بل كان قد ورث بدوره عن أسلافه السيطرة على النيل ومنابعه حتى مصبه، فكان يمد بصره إلى السودان والقرن الأفريقي والصومال وأريتريا ومراكش بل والمغرب الكبير بكامله وبلاد النوبة ومصر العليا، لتنتهي تلك الأطماع مؤمنة حدوده على مشارف البحر الأبيض المتوسط ومنارته «فاروس»، التي أصبحت الإسكندرية فما بعد.
بل هي لم تكن أبدًا مجرد أحلام وأطماع، توارثها الملك «سيف أرعد» عن أجداده وأسلافه جيلًا إثر جيل، بل كانت أطماعًا شخصية أيضًا عمل فعلًا على تحقيقها، وزاد عليها أطماعه الآسيوية في بلاد التَّبْع ذاته في جنوب جزيرة العرب منبت ومنبع ذلك الخطر الجاثم دومًا على بلاده وأمنها.
لذا واصل الملك أرعد على الدوام إعداد فيالقه المحاربة الزاحفة التي لم يكن ينقطع هجومها وغاراتها الخاطفة على حدود ومدن تلك البلاد، ثم العودة من جديد إلى إثيوبيا، بالأسلاب والأسرى والغنائم من «ذوي البشرة البيضاء»، تمهيدًا لإعداد العدة للزحف الكبير وإحكام قبضة الحبشة عليها شمالًا وغربًا.
وكان يرجئ ذلك الزحف دومًا بانتظار الانتهاء من أقوى وأصلب أعدائه، وهو ذلك التَّبْع اليمني ذو اليزن، الذي بدد منذ نزوله بجيشه وقبائله، أحلامه وأطماعه.
وها هو أخيرًا — أي التَّبْع — قد سد عليه كل المنافذ باكتشافه لأبعاد خطة اغتياله الخسيسة المغلفة بثمين الهدايا ورسائل المودة وحسن الجوار، حين أرسل إليه بسفيرته قمرية.
انتفض سيف أرعد من جديد منتصبًا متحركًا على طول جنبات وردهات قصره، ووزيره المتنمر سقرديون في إثره، يتحين لحظة تهدئة ثائرته، ليفضي إليه بخطته الجديدة حول كيفية التخلص بأسرع الطرق وأنجعها من أولئك العرب الغزاة وشرورهم.
اتجه الملك أرعد من فوره إلى حيث خلوته، عابرًا الجسر الموصل بين مقره وقلعته الواقعة داخل الميناء المطوق من ثلاث جهات، والذي حوله إلى شبه جزيرة حصينة، إلى أن توقف مستديرًا لوزيره سقرديون مفضيًا إليه بهواجسه.
– لا بد أنه عرف بخطتنا.
أجابه الوزير باقتضاب: من قمرية، الحبيبة الجديدة التي أصبح الطريق إليها مفتوحًا لتعتلي عرش التَّبَاعِنَة.
نظر الملك أرعد إلى الماء مغمومًا: لا تقف أطماعها أبدًا عند حد، تلك الجارية البيضاء.
– حية رقطاء، أعجمية.
غمغم الملك مهمومًا بمرارة بالغة: أما من مهرب أبدًا من هذا العالم المليء بالجنس الأبيض وشروره، هه، ها هي قمرية وبعد كل ما قدمته لها زاحفًا عند أقدامها.
عاتبه وزيره: حين أهملت كل تحذيراتي عنها.
– لننس ما مضى، لتذره الرياح.
علا صوت الملك مهددًا: نحن هنا الآن، وفي هذا المكان، التَّبْع لا ينسى ثأره لحظة، مهما تظاهر بالسماحة، وهو أنه لا يبدأ حربًا ولا يمشي أبدًا إلى حيث الخراب.
عبرا ممشى جانبيًّا يقود إلى «ذهبية» عائمة إلى أن أصبحا وسط البحر الملبد بالغيوم المتعانقة مع سفوح الجبال الشاهقة المحيطة، وغابا طويلًا داخل أغوار البحر المحيط.
– جحيم التَّبْع اليمني وانتظاره، جحيم.
أما التَّبْع ذو اليزن، فقد أرجأ على عادته السمحة انتقامه من ملك الأحباش الذي بدأ علاقته به على ذلك النحو الغادر، منشغلًا بحبه الجديد من تلك الفتاة — قمرية — التي جاءته قاتلة ومغتالة، فتملكت من فورها أعماق قلبه، حين ذرفت أمامه دموعها مدرارًا ندمًا على ما أقدمت عليه في البداية، وانتهى إليه أمرها إلى حب عميق ضارب الجذور والأبعاد للملك الضحية البهي الطلعة الذي أسرها أسرًا بسماحته وفروسيته.
ومن هنا تلاقيا معًا منذ البداية — التَّبْع وقمرية — على أرض صلبة من المكاشفة والصراحة، فكانا أن رسخا جذور الحب بدلًا من البغضاء والتآمر.
وكان كلما مر يوم جديد، تكشف للتبع مدى طاقات وقدرات قمرية نتيجة عميق معرفتها الواسعة بالكثير من الأمور والمعارف والأحداث، سواء منها ما كان غابرًا مندثرًا، أو ماثلًا يواصل جريانه وسريانه اليومي ليصل يومًا إلى مثواه ومنتهاه الأخير.
كانت على معرفة واسعة بجزيرة العرب شمالًا وجنوبًا، وما يعتمل فيها من أحداث وصراعات وهجرات قارية وحروب ومنازعات قبائلية وعرقية وعشائرية.
بل هي استفاضت معه الليالي إثر الليالي، أو خلال رحلاتهما معًا للصيد والقنص والتريض واللهو عبر بساتين وقلاع وحصون «أحمرا»، وما بدأ يستجد حولها من مدن ومضارب وليدة، يتحادثان معًا حول تاريخ جدوده التَّبَاعِنَة وسيرهم وأخص سماتهم وحروبهم وغزواتهم وشعائرهم ومآثرهم وما قيل فيهم من أشعار ومراث أو قبوريات، بدءًا من جدهم السالف «يعرب» الذي ينسب إليه أنه كان أول من تكلم العربية، «قبل حادث بناء مدينة بابل وبرجها الكبير، وتبلبل الألسنة بها»، وبها — أي بالعربية — نطقت بقية القبائل؛ مثل: عاد وثمود وطسم وجديس — قوم زرقاء اليمامة — والعماليق ورائش.
واستفاضت معه قمرية مطولًا خاصة عن مدينتي عاد وثمود، اللتين يسميهما الأحباش مدينتي مرقسيا وبرجيسيا، وكيف أنهما كانتا عامرتين؛ إذ كان لكل مدينة عشرة آلاف باب.
وكانت قمرية على دراية معجزة بالأنساب العربية — بل وغير العربية من أعجمية — بدءًا من أبناء يعرب ملوك سبأ، وكان أولهم الملك التَّبْع عبد الشمس بن سبأ، الذي سُمِّيَ سبأ؛ لأنه كان يسبي أعداءه، ومن نسله انحدر ملوك حِمْيَر وكهلان، ومن كهلان جاءت أشهر بطونها، قبائل الأزد، الذين تفرقوا عقب خراب سدود اليمن، وكان أهمها سد مأرب، وسد الخانق بصعدة وسد ريعان الذي أعاد بناءه الملك ذو اليزن قبل مجيئه إلى هذه البلاد، وسد سنان وعنس وجيرة، بالإضافة إلى بقية السدود التي أعاد الملك ذو اليزن بناءها أو تعليتها أو مضاعفة منسوباتها من المياه، مثل سدود: «سحر وذي سمال، وذي رعين، ولحج، ومفاضة، وهران، والشبعاني، والمنهاد، ولطاف.»
كان أكثر ما يثير إعجاب الملك التَّبْع ذو اليزن في قمرية، هو قدرتها الخارقة على حفظها الدقيق للمراحل التاريخية الغابرة، لمثل هذه السدود والمنشآت المائية التي أسهم في بنائها أو ترميمها ذو اليزن، مضيفة الكثير من المعارف والمعلومات التي غابت عنه — كبناء — قبل أن يكون متبحرًا بخلفيتها التاريخية.
وهكذا أفاضت معه قمرية في الحديث حول ثلاثة وثلاثين سدًّا، لدرجة دفعت به إلى إعادة الاهتمام والتحقيق من كلامها بإرسال رسله لاستكمال العمل في بعضها حتى إنه أطلق على أحدها سد قمرية.
حتى إذا ما تعرج الحديث بينهما حول منحى آخر جديد، تزايد إعجاب الملك بها، خاصة في مخزون معلوماتها ومعارفها عن معتقدات العرب الغابرة أو المندثرة مثل الموحدين وغيرهم، وأهمهم الشاعر أمية بن أبي الصلت وخالد بن سنان العبسي، والشاعرة طريفة، والشق بن أنمار، وإسماعيل بن ثابت بن قيدار، والحارس بن معاف، والأخير هو القائل عقب هزيمة قبائل جرهم أو الجراهمة لقومه:
ولكم تمنت قمرية على الملك ذو اليزن أن ييسر لها زيارة «البيت» في مكة المكرمة، فوعدها ذو اليزن بذلك، حالما الانتهاء من إتمام مراسيم زواجه منها، وهو الزواج الذي أصبح يتعجله بصبر نافد، إلى حد الاستعجال الواضح.
وهو ما كان يدفع بقمرية إلى التساؤل، وإطالة التفكير وحدها في لحظات خلوتها دون التوصل إلى جواب تشفي به تعطشها.
– لماذا العجلة بالزواج؟
بل إن الملك بدأ في أيامه الأخيرة يستفيض معها في الكيفية المثلى لمواصلة حكم حِمْيَر والبلاد المفتوحة، مشددًا على أهمية سيادة العدل والحكمة، وكأنه إنما يوصيها هي بذلك قبل غيرها.
– لماذا هي بالذات؟! وما الذي يبغيه؟!
لقد أصبحت، ومنذ لحظة لقائهما الأول، لا تفكر في مخلوق آخر سواه، فما هو — ذو اليزن — سوى الماء الحي الذي يروي صحراءها العطشى المجدبة، وفي انقطاعه عنها، موتها المحقق كما سبق أن ذكرت.
– إذا ابتعدت عني بعد اليوم فسأتجرع سمومي.
تساءلت أمام مراياها العاكسة كالمذهولة: تراه يتصورني طامعة في ملكه.
أضافت: أنا حقًّا طامعة فيه ولا شيء آخر في هذا العالم الفاني يغنيني عنه، وسواء أكان ذو اليزن أو صيادًا معدمًا فهو عالمي الوحيد، جلي، وفي هذا الكفاية لشفاء ظمئي المتحرق منذ لحظة اللقاء الأول التي لن أنساها ما حييت.
حتى إذا ما ضاق بها الخناق يومًا دون أن تعثر على جواب شافٍ لتساؤلاتها هذه التي لا جواب لها، اتجهت يومًا إلى وزيره الأول وصفيه «يثرب»، مختلية به؛ سائلة: كثيرًا ما يراودني التساؤل، حول سوء فهم الملك لي، وكأنني إنما جئته طامعة في ملكه، أقول لك الحق أنا فعلًا طامعة، لكن فيه هو ذاته، وما عداه سراب.
عندئذٍ هدأ الوزير يثرب من روعها، إلا أنه ولدهشتها أعاد إليها ذات التساؤل: أنا حقًّا لا أعرف ما الذي اعترى التَّبْع في هذه الأيام؟ تطلعت إلى الوزير في أقصى دهشتها: أنت أيضًا!
قال في غموض: لا أعرف!
– كيف لا تعرف؟
أضاف أكثر غموضًا: يخيل إليَّ أنه يخفي شيئًا عنا جميعًا.
قاربته قمرية مناشدة: ما هو الشيء الذي يخفيه عنا؟
أضاف يثرب: أصبح في الآونة الأخيرة كثير الحديث عن وريث لملكه المترامي.
شردت قمرية غائبة في تفكيرها.
– فعلًا، أصبح لا حديث له، سوى … أجهشت بالبكاء فجأة وهي تدق في عصبية الجدار المواجه.
يا لنكبتي! يا لنكبتي!
قاربها الوزير يثرب في حنو: هدئي يا أميرتي من روعك وحاولي ما استطعت إبعاد مثل هذا الخاطر، لا شيء سيحدث سوى كل خير، والملك شديد الاستبشار بك منذ حللت في حياته التي كانت موحشة، فأنت أعرف الناس بزهده عن النساء.
مضى يجفف لها دموعها الغزيرة بمنديله قائلًا: حاولي ما استطعت إسعاد الملك التَّبْع الذي أعطى كل حياته للناس ولم يفكر لحظة في نفسه هو، حاولي.
اتجهت إليه معاودة التساؤل من خلف دموعها التي انهمرت مجددًا: كيف؟
فكري في عرسكما معًا؛ قالت: أنا رهن إشارته، ولا أريد أي عرس لا أريد سواه في هذا العالم المظلم.
واصلت البكاء والنحيب في حدة.
– لماذا؟ لماذا؟
فتح الباب فجأة وتوقف الملك ذو اليزن قائلًا بصوته الهادئ النبرات: ماذا؟ أتبكيانني من الآن؟
تقدم منها ممازحًا: ها أنا الآن ما زلت في هذا الجسد.
أدارت قمرية وجهها ثانية غارقة في دموعها.