مراسم عرس التَّبْع
ما إن وصلت وفود المهنئين أفواجًا إثر أفواج إلى عاصمة التَّبَاعِنَة الجديدة — أحمرا — محملين بثمين الهدايا والكنوز للمشاركة في حفل عرس الملك التَّبْع ذو اليزن، حتى أشرف الوزير الأول «يثرب» على نزولهم بقصور الضيافة التي أعدت لهم، والملحقة بقصر التَّبْع.
وجاءت الوفود المشاركة من الملوك والأمراء والحكام وشيوخ القبائل من اليمن والجنوب العربي وشمال جزيرة العرب والشام ومصر والعراق والمغرب الكبير.
وابتهج الجميع بهذا الحدث الكبير، استبشارًا بأن يخلف التَّبْع ذو اليزن من زوجته قمرية التي وقع اختياره عليها وريثًا لعرش التَّبَاعِنَة، كما سبق للملك أن تمنى: هيكل، وكنيته: سيف.
وهكذا ارتفعت الدعوات وعلت الأماني بأن ينال ذلك الملك الرحيم العفوف — ذو اليزن — يومًا مبتغاه، خاصة وقد تكاثرت أطماع الأحباش وملكهم المتآمر المعادي للعرب سيف أرعد ووزيره الشرير «سقرديون».
لذا استبشر الجميع في ربوع اليمن والجزيرة ومصر وما بين النهرين والمغرب الكبير بتلك الخطوة التي أقدم عليها التَّبْع، بعد طول زهد في التفكير في الزواج والإنجاب، ولو من مدخل الحفاظ على ذلك الرمز الذي استقر تحته الجميع كمظلة آمنة تشد أزرهم ضد أي عدوان مبيت.
فالملك ذو اليزن ذاته بدا في سنواته الأخيرة رافضًا للحرب والعدوان، لا يشغله شيء سوى إنشاء مشاريع شق الأنهار واختزان الماء بتشييد السدود والخزانات والمنشآت التي تتيح لتلك الأفواه الجائعة الحياة والنمو والازدهار، بالإضافة إلى أحلامه في نشر العدل والأمن للجميع، حتى لهجت الأفواه من أقاصي الأرض بالحب والثناء له.
– شدد الله ساعد ذو اليزن الرحيم الضارب، وجرت مراسيم عرس التَّبْع باحتفالات باهرة على طول مدينة — أحمرا — وعرضها، وكان أكثر الجميع حبورًا ومباركة لما يحدث، وزيره المقرب «يثرب» عقب تيقنه من حب «قمرية» للتبع ومدى فصاحتها وعمق بصيرتها وعلمها ومعارفها ورجاحة عقلها، إلا أن قمرية ظلت نهبًا لأحزان ثقيلة مخيمة تتصل جميعها بزواجها من التَّبْع ولا تعرف أصلًا ولا سببًا واحدًا.
– لماذا؟
وكانت كلما اجتمعت بالملك ذو اليزن وامتد بينهما الحديث وتعرج، عاود الملك تأكيد وصاياه لها، سواء بالنسبة إلى شئون حكم البلدان المترامية وكيفية تسييسها وإدارة دفتها، أو بالنسبة إلى ذريته المرتقبة منها — ذكرًا كان أو أنثى — أو فيما يتصل بحماية مشاريعه المائية والزراعية، أو في التشدد معها في نصرة المظلوم وتسييد العقل والحكمة، وكانت هذه الأحداث تعيدها إلى أحزانها الغامضة الدفينة التي لا تعرف لها سببًا.
كانت تساءل نفسها في وحدتها: لماذا يتعمد الملك إثارة أحزاني ودموعي التي أصبحت لا تنقطع؟! إلى درجة أنها أصبحت تمقت هذا الضعف في نفسها، وهي التي لم تكن تعرف للبكاء ونزف الدموع طعمًا — كعادة النساء — قبل حبها ذلك الجارف المتفجر.
وسألت، في هذا، الكثير من مقربيه من أمراء وحكماء وشيوخ القبائل حتى وزيره «يثرب»، فلم يزدها الأمر إلا التيه والافتقاد في بحر الغموض الذي تعيشه.
حتى عندما انتهت مراسيم الزواج، حاولت التسلل إلى مكنونات قلبه لمعرفة ما به، لكن هيهات!
فلقد كان كل ما يتعجله منها، هو الخلفة والذرية، مما دفع بها أكثر إلى التوتر ومعاودة التساؤل حول غرابة أطوار ذلك الملك الزوج الذي لا يكبرها كثيرًا، والذي أصبح كمن ينتظر مجهولًا لا قبل لأحد بانتظاره.
فكانت كلما مرت بهما الأيام والليالي، تضاعفت لهفته بانتظار مولودهما.
– سيف، درعي القادم، أين؟
ويمضي يتفوه بتلك الكلمات التي عرفت عن تباعنة اليمن وحكمائهم إزاء شعورهم باقتراب الأجل مثل الحكيم لقمان بن عاد صاحب النسور أو لقمان «ذي النسور» الذي ربط بين موته وفناء آخر نسوره السبعة، وكانت أسماء تلك النسور على التوالي؛ هي: المصون، وعوض، وخلف ومغبغب، واليسر — أو الميسرة — وإنسي؛ لذا كان يتسمى بلقمان الإنسي، وكان سابعهم هو النسر «لبد».
وحين وافت المنية ذلك النسر السابع «لبد» فسقط مشرفًا على الموت، ولم يقدر أن ينهض، و«تفسخ ريشه» كما يقولون، ناداه لقمان.
– انهض لبد، أنت الأبد.
ولما لم ينهض ويَطِرْ من جديد محلقًا بجناحيه، أنشد لقمان يبكي نفسه:
فكثيرًا ما تندر لها ذو اليزن بأشعار التَّبَاعِنَة — الدهريين — في وحدتيهما، كما ذكر لها ما قاله امرؤ القيس بن حجر المقصور بن الحارث آكل المرار الكندي وهو يرثي ذا القرنين الصعب بن ذي مراتد الحِمْيَري:
ثم ينشد متغنيًا:
بل إن ما آلم قمرية وهي ما تزال بعد عروسًا وضاعف من تمزقها وأحزانها وعذاباتها، وهو التحول السريع المتلاحق الذي حل بالملك، وزهده في الحكم موكلًا أمر العسير من قرارته الجوهرية، إليها هي وحدها.
– عليكم بالأميرة.
وكانت كلما واجهته متعثرة نهبًا لمشاعرها الحزينة الآسية، بعدم معرفتها بأصول الحكم أجابها: وِلمَ لا؟ أنت زوجتي تعلمي، تمرسي، أنا لست بخَالِد.
صحيح أنها كانت تلجأ في مثل هذه الحالات إلى منجدها، وهو الوزير الأول يثرب، ولكن أين لها بقرارات تتصل بالحرب والسلم وعقد المعاهدات وتسيير الجيوش وشق الطرق والسدود في شمال الهند، وأندونسيا والتركستان ومصر والمغرب الكبير ووادي الرافدين وحضرموت ويثرب ودمشق؟
أين هي من كل هذا لِتحكم وتنهى، وهي التي جاءته يومًا تحت أستارها وأقنعتها محملة بسمومها المعجلة ساعية للقتل والاغتيال.
إلى أن تحقق حدث «قمرية» وحل وهن المرض بالملك ذو اليزن، فلم يمهله طويلًا؛ إذ ألزمه فراشه لا يبرحه.
وجاء توقيته متوافقًا وكأنه على موعد مع تحرك ابنه — كجنين — في أحشاء أمه قمرية، وكم كانت فرحته الكبرى وهو معلول ذابل الوجه على فراشه، حين قاربته زوجته، وهي تسعى إليه على ركبتها وهو راقد على فراشه آخذة يده الحنونة الرحيمة لاثمة قبل أن تضعها على بطنها.
– ماذا يا قمرية؟
– ابنك.
– أحقًّا ما تقولين؟
– هيكل، سيف، ها هو يلهو معاتبًا ويود لو يلثم جبهتك الأبية.
علت وجهه ابتسامة واهنة وهو يعاني من آلامه المبرحة مجاهدًا على نفسه لتقبل لحظة فرح.
– ابني، ليتني فقط يمتد بي العمر إلى أن أراه، آهٍ سيف، وحيدي!
أغمض عينيه مستسلمًا في أحلامه قبل أن يأخذه النوم العميق.
بعدها لم تعرف قمرية كيف تتصرف، وهي تشهد بعينيها انزواء الملك واكفهراره تحت ثقل علته العاتية التي حيرت جميع حكماء ومطببي الأرض.
استقدموا له حكماء مصر والشام واليمن والهند، الذين تزاحموا على قصره من كل صوب، ولكن لا من دواء شافٍ.
وظل ذو اليزن تائهًا عبر غيبوبة مرضه العضال الأيام والشهور الثقيلة لا يسأل عن شيء إلا عن ابنه المنتظر.
– لن أموت قبل أن تكتحل عيناي برؤيته بين أحضانك يا قمرية.
وهذا الجواب لم يكن يسعف قمرية أو يروي أحزانها فكانت تلجأ للدموع: ها هو يضحك لك من أعماقي.
ابتسم الملك في وهن.
– سيف، سيف، متى؟
اكْفَهَرَّتْ قمرية وغاب عنها لونها، وهي تشهد الملك الذي أحبته من أعماق أعماق قلبها يعاني آلامه المبرحة على هذا النحو، خاصة بعدما سمعته يتعجل رؤية وحيده على هذا الشكل الملح.
– متى؟
قاربته محتضنة في انفعال، وهي تمسح عنه بكف يدها الحانية، خيوط عرقه النازف على وجهه وجبهته العالية المشرئبة في سمو، قائلة وهي تضاحكه مخفية عنه آلامها ومعاناتها مما سمعته وأصبحت لا تقدر على الإفصاح عنه.
– أتقول متى، تراهنني على أنك ستشفى حالًا من آلامك العابرة هذه، وفي عزك ومجدك سيتربى سيف وينمو.
غمغم ذو اليزن بفروسيته المعهودة متقبلًا تحديها له: أجل، أراهنك بعرشي كله.
– أنا لا أبغي عرشًا ولا مجدًا في هذا العالم سوى أن أنمو إلى جانبك مجرد نبتة، ويمكن القول زهرة برية في أحضان سنديانة، أرزة تعادي الفناء.
– الفناء، الفناء.
تساءل معاودًا تحسس بطنها وذلك النابض في أحشائها: ومن قدر له قبل الإفلات من قبضتيه الفناء الدهر، ذلك الغول الختور الذي يلتهم الرجال.
عندئذٍ استدارت عنه قمرية برأسها متجهة إلى حيث مدخل القاعة الشرقية، وحيث كان يقف منكمشًا الوزير «يثرب» ومن خلفه كوكبة من الأمراء والسفراء والرسل الذين كانوا في انتظارها على أحر من الجمر.
واصلت تحسس جبهته، وتحسست بيدها الأخرى تلك الرسالة المطوية بين طيات ملابسها، كمثل حية.
– الجميع بانتظارك من كل صوب.
أغلق الملك عينيه مشيحًا، لا يعرف له جوابًا.
عندئذٍ حاولت قمرية استجماع شجاعتها وما عرف عنها من إقدام لتفضي إليه بمحصلة تلك الأنباء الخطيرة التي حملها الرسل.
لا منقذ لشعبك ورعيتك سواك.
– أنا، كيف … على هذا النحو … آه … ليتني بقادر يا قمرية.
وحين أسلم جفنيه للنعاس انسلت قمرية في نعومة مبتعدة عن الفراش.
– نام.
أرخت من فورها ستائر الشرفات، وأشارت بيدها دون صوت إلى جوقات الموسيقيين والمنشدين، الذين يتغنون بمآثر الملك في تنسيق رتيب أصبح في أيامه الأخيرة لا يخلو من الحزن الذي تحول إلى إيقاعات المراثي والبكائيات، فأخفتوا من فورهم من غنائهم الجماعي وإنشادهم، حتى تلاشت أصواتهم تمامًا.
واندفعت قمرية مغلقة باب قاعة مخدع الملك التَّبْع، متجهة من فورها إلى حيث يقف يثرب وكبار رجالات البلاط والأمراء، ورهط هائل من رسل البلدان والأقوام التابعة والحكماء وشيوخ القبائل والعشائر، وقد حط على رءوسهم الطير جميعهم بانتظار ردها.
استخرجت المكتوب المطوي من بين طيات ملابسها مشيرة له في أقصى كمدها وحيرتها.
– لم أقدر.
– وما العمل؟
قاربها يثرب: لن ينقذ الملك وينقذنا جميعًا سوى التحدي.
اختلى بها باتجاه الشرفات الجنوبية للقصر، القلعة، مشيرًا مهددًا.
– من هنا يمكن أن تشهدي بعينيك ما نحن فيه: بيارق الأحباش.
زفرت في أقصى حنقها وتمزقها: ذلك الخسيس أرعد.
رفعت ذراعيها عاليًا صارخة في أقصى حالات غيظها: ذلك المتسلق، الطحلب.
تمالكت قمرية نفسها وهي تكبت آلامها مشيرة باستقبال الرسل، وتلقي جديد معلوماتهم، وكيف أن جيوش ملك الأحباش «سيف أرعد» لا تكتفي بمحاصرة مدينة «أحمرا» بل إن طلائعها وصلت أعالي النيل متوغلة في ربوع السودان وبلاد النوبة إلى أن شارفت مصر العليا.
وتزاحم الرسل حولها بالتقارير وجديد المعلومات عن توغلهم في المغرب الكبير ونزولهم «تلمسان»، بعدما أشاعوا فيما بينهم خبر موت الملك ذو اليزن.
صرخت من أعماقها: يا للغدر الدنيء، الملك التَّبْع معافًى وفي أحسن حال.
وفي الغد سيمتطي ظهر — الشهباء — ويغيبهم عن هذه الأرض.
كانت تعرف أنها إنما تكذب بادعائها هذا، فما كان منها إلا أن انْسَلَّتْ لا تلوي على شيء، وفي أعقابها الوزير يثرب، إلى أن وصلت جناحها نازعة عنها ملابسها، مرتدية عدة حرب ذي اليزن وهيئته بل ولحيته ودروعه متمثلة مشيته، منسلة من جديد إلى حيث مخدعه، فانتزعت سيفه المعلق، خارجة على الجموع المنذهلة التي جثت داعية للملك التَّبْع.
ومن فورها أشارت بدق طبول الحرب «الرجروج» واستعد الجميع للخروج من خلفها، بعد أن سرى خبر شفاء التَّبْع وحلول المعجزة واستعد الجيش للخروج من — خلفه — لملاقاة عدوان الأحباش وملكهم سيف أرعد الجبار المعتدي.