وصية كاهنة الجبل
اتخذ الملك التَّبْع الجديد حسان وجهته ذات مساء إلى جبل «ضهر» مكدودًا نهبًا لخواطره المتضاربة، كانت أضواء المصابيح والشموع المشعلة تضيء سفوح الجبل العملاق، الذي تغطت متعرجاته وسفوحه وتضاريسه بالمضارب والخيام، يؤمها أتباع تلك السيدة — سيدة الجبل — من مرضى ومجاذيب ومعلولين.
وكانت جوقات الغناء الجماعي ذات المسحة الدينية الشعائرية تعلو من هنا ومن هناك، وهم يستخدمون في غنائهم وإنشادهم إيقاعات الدفوف الطاغية المثيرة لكل المشاعر الجسدية؛ حيث تتمايل عليها الجموع ميمنة وميسرة في غياب كامل عن كل وعي، وهي الجموع من سكان ذلك الجبل، من فقراء وأتباع ومعلولين ومشعوذين ودراويش ومرضى.
وما إن واجه حسان الجبل، حتى توقف بحصانه، لا يعرف أي المسالك يسلك، وأخفى من فوره وجهه بشاله مبعدًا ملامحه عن العيون المستطلعة وأطلق العنان لحصانه راكضًا من حول الجبل المائج بالحركة والغناء والحياة.
استوقفته في بعض الأماكن أصوات ذلك البكاء والعويل على أبيه التَّبْع الراحل مشيرين إلى فرسه الحمراء:
وما إن تلمس طريقه المؤدي إلى حيث مغارة تلك السيدة المنتشية بالدم، حتى مضى من فوره صاعدًا لا يلوي على شيء، إلى أن توقف مستطلعًا ودخل المغارة الموحشة الحجرية، المحاطة بالتماثيل الرخامية والمرمرية العملاقة، كمثل معبد شاهق.
ترجل عن حصانه، وتقدم منه على الفور من اقتاد الحصان إلى طاولته وربطه مقدمًا له الطعام في صمت وقور.
واستغرق التَّبْع حسان طويلًا في تأمل تلك المنحوتات التي صيغت من نفيس الأحجار الصلدة نصف الكريمة، لمعبودات وثنية ورموز وأشخاص، تعرف فيها على جدوده التَّبَاعِنَة اليمنيين الذين حكموا طويلًا تلك البقاع، تعرف على «شداد بن عاد الكبير» وعلى «يشجب بن يعرب بن قحطان»، وعلى الكثير من تماثيل والده التَّبْع أسعد بالذات.
ودمعت عيناه حين شاهد منحوتات إخوته الأربعة الذين أودت بحياتهم تلك الحرب الأخيرة المشئومة في ربوع الصين والشرق الأقصى، فكان موتهم السبب الرئيسي فيما حل بأبيه من أحزان ثقيلة عاتية، أنزلت ببصره وجسده السقوم، خاصة حين كان يجيء برءوسهم — المحنطة — المحفوظة، على أوعيتها الذهبية، ويتأملهم في حسرة نادمًا باكيًا، الليلة بعد الأخرى، حتى إذا نام تحاصره الأحلام والكوابيس دون مهرب، واشتدت عليه أحزانه وأسقامه حتى أودت بحياته قبل الأوان.
وتهاوى حسان جالسًا، وهو يرقب منزلق ذلك الجبل الهائل الذي تبدت له نيرانه المشتعلة على طول سفوحه وأخاديده كجمر هائل متقد.
– يا لها من ليلة … جحيم!
غمغم لنفسه مكتئبًا آخذًا رأسه بين ساعديه الاثنتين في حيرة: الجحيم بعينه؛ حكم حِمْيَر.
وكان قرع الدفوف العملاقة وأنين الرباب يصم أذنيه الاثنتين، وبدا المكان موحشًا إلى حد دفع به دفعًا إلى تحسس حسامه وخنجره، تأهبًا للدخول.
– تلك المرأة اللغز!
طالعته من جديد منحوتات إخوته الفرسان الأربعة الذين التهمتهم نيران الحرب الأخيرة المسعورة الواحد عقب الآخر، كمثل عقد منفرط.
– الرحمة!
وما إن تحرك منفلتًا داخلًا إلى أغوار ذلك الكهف الرطب، حتى طالعته صورته المنعكسة على جدرانه الحجرية المشطوفة التي صيغت من نادر الأحجار الملونة والنفيسة، ما بين المرمر الأملس كمثل مرايا عاكسة، واليشب والعقيق والسليماني والياقوت الشديد الاحمرار.
تبدى له وجهه وهيئته منطبعة عبر مئات المستنسخات، التي لم تكن أبدًا تعكس حالته الآنية، بل عبر آلاف مؤلفة من الانفعالات والتبديات التي لم يكن يعرفها أو يشهدها من قبل في نفسه.
– غرائب!
وسريعًا ما انفتحت تلك المغارة المتعرجة المسالك والدروب التي تغطت جدرانها بالرءوس البشرية الحقيقية المسمرة بالجدران، والتي لا يزال بعضها يقطر بما يشابه الدم الأحمر، كما لو أن حادث قتلهم قد وقع لتوه، غمغم حسان لنفسه؛ متسائلًا: أسرى!
بل إن أصوات العواء والنحيب والتوسل، من داخل ردهات الكهف ذاته وصلت مسامعه، طاغية على أصوات الدفوف العملاقة الخارجية.
توقف ملتاعًا مأخوذًا، إلى أن جاءه صوت المرأة.
– حسان؟!
– أجل!
– تأخرت طويلًا!
اندفع داخلًا لا يلوي على شيء، إلى أن وجد نفسه داخل بهو فسيح لا يحده البصر، أحالته ألسنة النيران العملاقة إلى نهار جلي واضح المعالم والتفاصيل.
وفي آخر المكان انتصبت المرأة كمثل عملاق وقد تناثرت جدائل شعرها العسجدي الضارب إلى الحمرة حتى ليكاد يغطي جسدها كله، واقفة على شبه درج يقود إلى عرشها الباهر الذي لا يقل كثيرًا عن عروش التَّبَاعِنَة ذاتهم، بيدها مغرفة، ومن هنا وهناك تخالطت روائح الشواء مع البخور المعبق داخل المكان.
– أقول تأخرت كثيرًا.
نطق سائلًا: تأخرت عن ماذا؟
أجابت بصرامة: عن حكم حِمْيَر.
قال: أنا الآن تَبْع حِمْيَر.
عاجلته نازلة عن صرحها في حزم: لن تحكم حِمْيَر إلا إذا سمعت كلامي ونفذته بكل دقة يا حسان بن أسعد.
وما إن اقتنصت عيناها الواسعتان عينيه في وقفته حتى اعترته رعدة هائلة من قمة الرأس حتى أخمص القدم.
– تعال.
تقدم منها طائعًا كمثل منوم، إلى أن توقف مطرقًا وهي تُسِرُّ إليه: تذكر جيدًا أنه من هنا، من مغارة جبل ضهر «خرج سبعة فراعنة عظام حكموا نيل مصر وديارها.»
أصم العواء الطاغي الذي لم يكن يعرف له مصدرًا أذنيه من جديد.
– أحقًّا!؟
وحين قاربته المرأة أحس دفئًا يشيع في جسده وأطرافه، وأحس بها مثيرة في فرائها الأحمر القاني محاطة بألسنة لهبها وطلاسمها.
– اجلس.
أشارت إلى كرسي بديع التكوين جانبًا، وهاله أن الكرسي يعج بمئات الثعابين والحيات المنتصبة على قوائمها، وقد انفتحت أفواهها وحلوقها، وتمددت ألسنتها، كمن تعاني جوعًا هائلًا منذ دهر.
– اجلس.
تراجع مأخوذًا من هول المفاجأة غير المتوقعة التي واجهته بها تلك المرأة الدموية اللغز.
– أين؟
– هنا على كرسي التَّبَاعِنَة العظام.
استدار من جديد مبتعدًا متحسسًا مقبض سيفه، في ذات اللحظة التي خطت فيها المرأة جالسة بكل ثقلها على الكرسي نفسه وفوق رءوس الحيات الجائعة الزافرة، التي خف فحيحها مستحيلًا إلى مثل خوار خافت.
– اسمع جيدًا ما أقول يا حسان بن أسعد.
جاءه صوت أبيه المحتضر محذرًا بطريقة لم يعهدها من قبل فيه، وكانت تلك آخر كلماته.
– في كل ما تقول لك سيدة الجبل، اسمع جيدًا.
تساءل غير مصدق: ماذا يحدث؟
عم صمت طويل، بدا فيه وكأن المرأة — الكاهنة — تستعرض أمامه قدرتها المعجزة غير العادية في الجلوس على الكرسي المليء بالحيات أمامه وأكداس حليها الذهبية اللامعة، تضوي وتلمع كمثل جمر متقد على أسطح جسدها البرنزي القائم.
جيدها، ذراعاها، خلاخيلها.
بل إن ما ضاعف من اندهاش التَّبْع حسان، هو استسلام تلك الحيات منتصبة الرقاب، فاغرة الأفواه لجلستها على هذا النحو المشع بكل جسارة وتحدٍّ.
– ماذا يحدث؟
تساءل بينه وبين نفسه، في ذات اللحظة التي اعتدلت فيها المرأة على ذلك الكرسي — المرعب — الذي ادعت منذ هنيهة بأنه «كرسي التَّبَاعِنَة العظام»، وأنه ما من حاكم لحِمْيَر، توانى عن الجلوس عليه على ذات رءوس الثعابين والحيات.
– اسمع جيدًا لما أقول.
من جديد اختلط صوتها، بوصية أبيه الواهنة له، والتي ربما كانت آخر ما نطق به من كلمات قبل أن يغمض عينيه، تائها في غيبوبة احتضاره إلى أن تلاشى عن الوجود.
– في كل ما تقول لك سيدة جبل ضهر، اسمع لقولها.
مضت توغل في تأمله طويلًا صامتة، ومتشاغلة بتلميس رءوس حياتها بكف يدها، في حنو.
– تقدم يا حسان بن أسعد.
انتصبت من جديد واقفة متجهة إليه جاذبة في شبه أمر.
– اجلس، قلت اجلس!
تهاوى من فوره جالسًا على الكرسي الذي تهاوت رءوس ثعابينه متراجعة مستسلمة منكسرة، بينما دفعت له المرأة بإناء ليعب ما به من شراب.
– اشرب.
وقبل أن يفرغ الإناء في جوفه عاجلته؛ قائلة: اقتل من فورك أول من تصادفه، حالما تتخلى عني خارجًا من هذا المكان.
انسل حسان ينزف عرقًا، مستندًا بجدران المغارة، بينما طالعته صور وجهه على الأحجار البلورية، أكثر وحشة وتشويهًا، حتى إذا ما قارب مدخل المغارة، استل من فوره خنجره من غمده متقدمًا من أول من صادفه متسللًا داخلًا.
– من؟!
ووصلت دهشته أقصى مداها حين ارتفع ساعده مشيرًا محذرًا صارخًا: أنا عمرو … أخوك … يا حسان … احذر!
اندفع منسلًّا خارجًا باحثًا عن حصانه ملقيًا بجسده بكامله فوقه، مطلقًا له أقصى عدوه نازلًا عن ذلك الجبل المشئوم، بينما طرقات الدفوف العملاقة تحاصر سمعه، كمثل طبول رجروج أو طبول حرب همجية مستعرة.
ما إن أفاق حسان من تلك الزيارة — الكابوس — وأحداثها، تنفيذًا لوصية أبيه التَّبْع الراحل، حتى غمغم طاردًا عنه تصوراته وهواجسه المرعبة السوداء.
– لا، لا.
حتى اندفع داخلًا عابرًا ردهات قصره باتجاه غرفة نومه ملقيًا بنفسه بكامل ملابسه ودروعه على فراشه محمومًا مغمغمًا: أقتل آخر من تبقى من إخوتي عمرو شقيقي، حدقة عيني؟!
تسللت إليه ابنته الوحيدة المقربة «تدمر» التي اعتاد استشارتها في كل صغيرة وكبيرة، فجذبها في حدة محتضنًا إياها مسرًّا إليها بأحداث تلك الزيارة الموجعة التي نفذها بكل الدقة حسب وصية الوالد الراحل، إلى أن وصل بها إلى جد إقدامه — منذ هنيهة فقط — على قتل أخيه الوحيد الحبيب «عمرو».
– لا، لا، لن أفعل وليذهب عرش حِمْيَر إلى الجحيم.
انفلتت ابنته «تدمر» من بين أحضانه وهي تخفي عينيها بأناملها العشر، كمن لدغ مانعة شرًّا جائعًا.
– عمرو، عمي، لا.
هبت من فورها مبتعدة، إلى أن استدارت سائلة والدها: هل كانت «السيدة» على علم بموعد قدومك إليها؟
– أبدًا، لا أحد يعرف، حتى أنت يا تدمر، فأنا لم أخبر أحدًا إطلاقًا هذا النهار.
واجهت تدمر الجدار وهي تدقه بقبضتها في عصبية.
– وما الذي أتى بعمرو تلك الساعة؟
– لا أعرف.
عم صمت ثقيل داخل المخدع.
وحين تناهى إليهما — حسان وابنته — سماع اقتراب أصوات خارجية وحفيف أقدام زوجته وجواريها، اندفعت تدمر من فورها خارجة مغلقة باب المخدع، مانعة الجميع، حتى أمها، من الاقتراب من غرفة الوالد التَّبْع، وهو على تلك الحال؛ نهبًا لهواجسه التي تطحن رأسه، صارخة في صرامة: أبي ليس مريضًا ولا شيء من هذا، لكن حذار من الاقتراب الآن! ابعدوا جميعًا.
عادت من فورها، إلى حيث أبيها المتوعك الذي من فوره مضى متقلبًا على فراشة، كمن يعاني ألمًا معويًّا يمزق أحشاءه.
– ابعدوا الآن.
اندفعت تدمر جارية باحثه عن طست وإبريق الاغتسال المصاغ من الذهب الإبريز، دافعة به تحت ذقنه وفمه لتلقي «القيء» الذي تزاحم في حلقه وفمه مسترجعًا.
– شربت من يدها، لا أعرف ماذا شربت من يد تلك السيدة المرعبة.
عاد الملك يتلوى من جديد معاودًا القيء وكأنه يستخرج أحشاءه عن آخرها.
– علقم!
جرت تدمر باحثة عن قطعة من الليمون ولما لم تجد.
– ليمونة، ليمونة.
اندفعت متجهة إلى الباب المفضي إلى المطبخ الملحق بالمخدع، ومرة أخرى عادت تصرخ في وجه كل من حاول الاقتراب من غرفة أبيها: حذار، الليلة، أبي ليس مريضًا، ابعدوا.
عادت إليه بعصير الليمون وبعض الأعشاب فتناولها التَّبْع شاربًا، مكومًا كل وسادات المخدع من فوق رأسه ووجهه الغارق في بحار العرق، لإيقاف الصداع والألم، وسرعان ما علا غطيطه وصراخه: لا.
ما إن أفاق الملك — التَّبْع — الجديد حسان بن أسعد اليماني، من كابوسه ومرضه وما ألم به عقب زيارته المشئومة لمغارة سيدة جبل ضهر، تنفيذًا لوصية والده الراحل، حتى مضى من فوره مستشيرًا أصدقاءه ومقربيه وكل من يثق فيه من قريب أو بعيد بما أشارت به تلك المرأة الطاغية.
– ماذا أفعل؟
هل أنفذ الوصية؟
أأقتل أخاي عمرو؟
أنفذ الوصية!
مستحيل، مستحيل، لن يحدث أبدًا.
– ماذا في أيدينا، لا مهرب، إنها الوصية.
– الوصية … أخي … لحمي.
– الوصية.
حينئذٍ استبد الجنون بالملك الذي أخذ منه الخوف والفزع كل مأخذ ليس فقط من الوصية والجلوس على رءوس الأفاعي الكاشفة عن أنيابها، بل من كل ما أصبح يحيط به، وما هو مقبل عليه، وتلك المهام الجسام، التي وجد نفسه فجأة مطالبًا بها، منذ رحيل والده التَّبْع أسعد عقب كارثة ضياع جيشه وتيهه في ربوع الصين.
– أخي.
كان يمضي متفرسًا في الوجوه المحيطة به، التي تدفع به دفعًا، إلى حيث هوة الانتشاء بالدم، ودم من، آخر من تبقى من إخوته الخمسة، وبعد أن فقد إخوته الأربعة الذين التهمتهم الحرب المستعرة في أقاصي المعمورة.
هنا يحل الصمت بالجميع وكأنهم يتخلون عنه، لائذين بذلك الصمت المستسلم الكتوم المتآمر.
وحتى ابنته المقربة «تدمر» وعمته «البسوس» لاذتا كلتاهما بذات الصمت المطبق دون نطق أو محاولة مد يد العون لغريق يهذي وحده على مرأًى من الجميع.
وكأن الأمر لا يعني أحدًا غيره، وهو الذي ما زال ينزف ليل نهار باكيًا افتقاد إخوته الأربعة.
وظل حسان هكذا أيامًا امتدت لشهور لا يذوق للنوم طعمًا، بل بدا هزيلًا إزاء مهماته كتبع وريث لعرش التَّبَاعِنَة القساة القلوب والسواعد والأطماع.
هكذا بدا حسان في نظر نفسه وسيدة «جبل ضهر» التي لها على الدوام الكلمة العليا، على حد قول والده تبع أسعد، قبل أن توافيه منيته.
– في كل ما تقول لك سيدة جبل ضهر، اسمع لقولها.
– كيف … أخي؟
وتعمد حسان عدم الالتقاء بأخيه عمرو، والتطلع في حدقتي عينيه كمثل مذنب أثيم، بعد أن صادفه للحظة على عتبات مغارة جبل ضهر، إلى أن حانت لحظة التقائه به حين تسلل إليه عمرو بنفسه عن طريق عمته البسوس التي لم يكن يرجئ لها مطلبًا.
فتقدم منه عمرو متضرعًا معاتبًا في حنو؛ سائلًا: لماذا تخفي نفسك عني، هل حدث مني ما يسيء يا أخي حسان؟
فما كان من حسان إلا أن انتفض واقفًا معانقًا شقيقه الأصغر، متحسسًا بيده اليمنى مكمن خنجره.
متراجعًا: حبيبي عمرو، أنت في عيني، أنت حدقة عيني.
بل إن حسان أثقل على عمرو بالرجاء في أن يتقدم ليأخذ مهام الملك الجديد بدلًا منه.
عندئذٍ بكى عمرو على صدر أخيه الأكبر حسان أحر البكاء وأشقه، متصورًا أن أخاه الأكبر إنما يفتقد ثقته ويتخيله طامعًا في حكم حِمْيَر، وهو الذي يحفظ له كل تقدير وإعزاز مدى العمر.
وحاول حسان جاهدًا إفهام أخيه ثقل ما هو فيه وما يجثم على كاهله، ولكن دون جدوى إلا أن «عمرو» بدا كمثل ضحية وديعة مستسلمة تأخذ طريقها إلى محرقتها صاغرة.
– أنت أخي … أخي.
وتعقد الموقف بين الشقيقين، وهو الموقف الذي كانت عمتهما «البسوس» تنتظر نتائجه بفارغ الصبر، من خلف خبائها داخل أستار قصرها الذي جرى فيه اللقاء بين الملك حسان وأخيه الأصغر. كانت البسوس مثلها مثل سالف التَّبَاعِنَة لا شيء يعنيها في ذلك العالم الواسع سوى الاستبداد وغاياته في حكم تلك القبائل المترامية على شواطئ الخليج العربي والجزيرة واليمنين.
وهكذا فشلت خطتها هذه المرة أيضًا في استعجال وحسم أمر «تاج حِمْيَر» الذي لن يكتمل نصابه إلا عقب الالتزام بالوصية، مهما ثقلت المهام إلى حد إراقة الدم الواحد، وهي التي كان يروق لها أحيانًا إشعال نيران المحارق في الأجساد من بهائم وطيور وبشر.
كانت البسوس أو سعاد التي تعرف بأسمائها المتعددة، قد آثرت في سنواتها الأخيرة التفرغ الكامل لرعاية شئون عرش «التَّبَاعِنَة» وما يتطلبه ذلك من تدخل في أدق المشاكل والقضايا التي لا تنقطع، كتلك التي عادة ما تنشب وتستجد بين القبائل والعشائر والبطون والأقوام المترامية على طول الجزيرة العربية شمالها وجنوبها، والتي يضمها ذلك التحالف القبائلي الحِمْيَري أو القَحْطاني.
ومنذ شبابها المبكر كانت شديدة الحماس حفاظًا على تقاليد عرش التَّبَاعِنَة؛ لذا آثرت رغم زواجها من أحد أمراء بلاد «السرو وعبادة»؛ أي «الأردن اليوم» واسمه «سعد»، وانتقالها منذ البداية للعيش في بلاده، والعودة معًا للعيش في سبأ، بعد أن شق عليها الابتعاد عن متابعة ما يستجد من مشاكل حكم حِمْيَر وصراعات أقوامها، وفي البداية رفض زوجها «سعد» مطلبها ذاك وهو الانتقال ببيته وكيانه وممتلكاته للعيش في وطن الزوجة، إلا أن مرضًا ثقيلًا ألم به فجأة في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاة أخيها التَّبْع أسعد، عقب كارثة تشتيت جيشه في ربوع الصين.
هنا استسلم لها الزوج واستجاب لأطماعها ومنطقها في رعاية شئون حكم حِمْيَر بعد موت التَّبْع، فوافق على الانتقال معها إلى سبأ والعيش بها، ووصل الاندهاش — بالعمة — البسوس أقصى مداه، وهي ترقب من خلف ستائرها وخبائها، ما يحدث بين الأخ وأخيه من تعاطف.
وأفزعها أكثر ذلك التراخي الذي يبديه الأخ الأكبر حسان نحو أخيه الأصغر محتضنًا إياه مارين على طول ردهات القصر، في ذلك الأصيل الذي بدت فيه الشمس الغاربة، عبر الشرفات والنوافذ، قانية الاحمرار كمثل جمر نار متأجج.
وأدهشها ضعف حسان وهو يتوسل إلى شقيقه الأصغر «عمرو» في التقدم ليأخذ مكانه ويعتلي عرش «التَّبَاعِنَة» معبرًا بكل جوارحه عن شقائه وما أصبح يعانيه من آلام ليس في مقدوره احتمالها.
– أنت أخي.
غمغمت البسوس وهي تفح في غل: عشنا وشفنا.
قالت لنفسها: أعلى هذا النحو من الرقة والسماحة يجيء تَبْع حِمْيَر، المنتظر!
وواجهته البسوس بهذا القول — المزري — ساخرة إلى حد أن حسان انسل خارجًا من قصرها دون رجعة.
– عمتي، اتركيني.
واستبد بالبسوس الغضب من تصرفات ابن أخيها حسان على هذا النحو — الحنون — الأرعن، حتى إنها لم تحاول أن تثنيه عن عزمه في الخروج من قصرها رافضًا غاضبًا على هذا النحو، وكل ما قالته له هو: انتظر، أنت ملك حِمْيَر.
وهي التي ما دبرت هذه الوليمة التي استدعت إليها — الضحية — أخاه الأصغر عمرو، إلا بناءً على طلب، كليهما، من قاتل وقتيل إن صح القول.
خاصة عمرو، الذي أصبح في أيامه الأخيرة يعاني وحدة قاسية أقرب إلى الذنب من إشاحة أخيه الأكبر عنه على ذلك النحو.
وهو — أي عمرو — الذي اتخذه على الدوام صديقه ومثله الأعلى، وكان أكثر أهل حِمْيَر حماسًا وتوقدًا بتنصيبه ليعتلي عرش «التَّبَاعِنَة» مكان أبيهما الراحل أسعد.
بل وحتى عندما حاول الأخ الأصغر عمرو اللحاق بأخيه، وقبل وصوله إلى رَكْبه عند البوابة الخارجية، منعته عمته البسوس محتضنة إياه وهي تداعب بأناملها خصلات شعره الفاحم المجعد.
– ارجع يا عمرو يا حبة عيني.
فلم تكن البسوس تكن كرها أو حقدًا للأخ الأصغر، بل هي الوصية.
– أنا لن أرتقي يومًا حكم حِمْيَر.
هكذا صرخ في لوعة.
فالأمير الصغير الهائم دومًا عمرو، كان على الدوام الأكثر قربًا من البسوس، أرضعته صغيرًا إلى أن شب ونما بين صدرها وجوانحها تحنو عليه الليل بطوله.
– الوصية!
بكت بين ساعدي عمرو، الذي بدا لها — على عادته — تائهًا لا يدري ما يجري ويحدث من حوله منذ افتقاد التَّبْع الأب.
– ما الخبر؟ ألعلني آخر من يعلم؟
حاول ثانية الانفلات من عمته البسوس وابنة أخيه «تدمر» والجميع.
– ماذا دها أخي حسان؟ سأذهب إليه الليلة بقدمي هاتين.
– لا يا عمرو.
– لماذا … تمنعونني عن أخي … صديقي؟
مضى عمرو في انفعاله وثورته يتطلع إلى الوجوه المشدوهة من حوله دون أن يعي ما يعتري الموقف كله من غموض، مما ضاعف من إحساسه الدفين بأنه هو وحده وليس أحدًا غيره السبب الرئيسي لكل ما يجري من نزاع وتطاحن، فما كان منه إلا أن انفلت خارجًا مسرعًا مصممًا على اللحاق بأخيه واستجلاء سبب غضبته وانسحابه على هذا النحو المكفهر.
امتطي ظهر فرسه — سحب — مطلقًا العنان لكوكبة فرسانه في إثره، إلى أن وصل قصر أخيه التَّبْع الحاكم حسان، مترجلًا مقتحمًا ردهات القصر الذي أصبح يشيع فيه الصمت المحمل بالأسى، نتيجة لأحزان التَّبْع الجديد وصراعاته.
إلى أن لحق بأخيه حسان داخل مخدعه، وكان ساعتها يستبدل في إعياء أرديته ولباسه، استعدادًا للإغفاء دون أن يراوده النوم كالعادة.
حتى إذا ما طرق عمرو الباب فاتحًا داخلًا، استدار إليه حسان مرتعدًا محملًا بكل غضب صارخًا مخفيًا وجهه بين كفيه كمن يعاني ألمًا دفينًا يطحنه طحنًا: ابتعد عني، ابتعد!
تراجع عمرو كالمشدوه من قسوة طرد أخيه له من بيته على هذا النحو الفادح.
– أبتعد عنك يا حسان، يا أخي، تطردني؟!
– اذهب، اذهب عني، لا ترني وجهك!
صرخ الملك التَّبْع ملتاعًا: امنعوه.
هنا اندفعت جوقة الحرس التي انشقت عنها الجدران محيطة بعمرو المرتعد وهم يسحبونه في رفق إلى حيث البوابة الخارجية لقصر التَّبْع.
فهو متعب هذه الليلة.
وبدأت حالة الأخ الأصغر عمرو الصحية تسوء تباعًا، وكان شاعرًا رقيق الشمائل ظل طيلة سنوات شبابه منكبًا على الأسفار والترحال في متاهات العالم القديم مشرقًا ومغربًا، بحثًا عن كنوز المعرفة ودفائنها والاستفادة من كل ما يجيء به من إبداعات.
فهجر نابذًا منذ صباه صراعات القصور تلك، متخليًا هائمًا لا يبغي من عالمه سلطة أو جاهًا سوى مصادقة المخطوطات التي كان قد احتمل لتملكها كل الصعاب، ولو كانت في متاهي الأرض.
لذا لزم عمرو فراشه داخل قصره عقب تطاول شقيقه الأكبر عليه إلى حد طرده دون رجعة من مخدعه.
– أبعدوه! وبكته زوجته — وابنة عمه — الصغيرة، حاملة بين صدرها وليدهما الطفل الصغير «ذو اليزن» دون أن تدري لمرضه المفاجئ سببًا واحدًا يشفي غليلها، سوى تلمس بعض شذرات تجيء من هذيانه الليل بطوله.
– تطردني يا حسان، يا أخي.
ودون علم منه قررت الزوجة الحزينة حمل وحيدهما الرضيع «ذو اليزن» وزيارة أخيه الأكبر — تبع حسان — وإبلاغه بما وصلت إليه حالة أخيه الأصغر عمرو، الذي أصبح معلولًا شاحب الوجه لا يقوى على مجرد المشي أو الكلام.
حتى إذا ما استقبلها التَّبْع الجديد وعلم بما انتهت إليه حالة شقيقه الأصغر المعلول، تضاعفت همومه وعصفت به أحزانه الدفينة من جديد، إلى حد أنه مضى في ثورة غضبه يمزق حلته الملكية وتاجه وأرديته وهو يطؤها بقدميه الاثنتين كمثل مخبول على مرأًى من حرسه وحجابه وأهل بيته.
ولم تفهم الزوجة الوادعة سبب انفلات ثورته على هذا النحو، دون أن يقدم على قرار زيارة أخيه أو استدعاء طبيب مداوٍ قادر على شفاء علله.
فما كان منها سوى البكاء دفاعًا عن زوجها عمرو فهو ليس خائنًا أو متآمرًا.
– فلماذا يتآمر الجميع عليه؟
وهنا لم يجد حسان له مهربًا، سوى امتطاء حصانه والتوجه إلى «جبل ضهر» واقتحام غار سيدته الدموية تلك، وإعادة طرح قضية أخيه عليها، وكيف أنه الآن طريح الفراش يعاني سكرات الموت.
– أجل الموت المحقق.
واجهها محتدًا جاثيًا على ركبتيه: كل ما أطلبه منك، هو إعفائي من الوصية.
قالت مشيرة إلى يديها الاثنتين: لا أملك.
سألها: وإذا ما انقضى أجل عمرو؛ أخي؟
أجابت في حزم: لا مكان لك في إرث التَّبَاعِنَة.
اندفع غاضبًا لا يلوي على شيء خارجًا، إلى أن قفز هائجًا على ظهر حصانه، نازلًا متعرجات جبل ضهر ومسالكه، ودقات الدفوف العنيفة تجيئه مهيجة لكل حواس وكأنها صادرة من رأسه ذاتها.
زار عمته البسوس محاولًا إيجاد مخرج لما هو فيه، فتلقى منها ذات كلمات سيدة جبل ضهر، وكأنهما — المرأتين — وجهان لعملة واحدة.
– لا مكان لك في حكم التَّبَاعِنَة.
اندفع حسان صارخًا بأقصى قواه، معاودًا تمزيق أرديته على مرأًى من عمته البسوس وابنته «تدمر».
– لا مكان لي في إرث أبي، إلا بإراقة دم أخي الوحيد، لحمي، إنها الوصية الدهر.
وهكذا أعاد إليه أصدقاؤه ومقربوه ذات المعنى، إلى حد أنه أقدم في إحدى سورات غضبه على إشهار سلاحه في وجه ثلاثة منهم وإراقة دمائهم.
– لا مهرب.
– الوصية.
اندفع من جديد ممتطيًا حصانه ضاربًا عرض الحائط بكل ما سمع مقررًا زيارة أخيه عمرو المريض المعلول.
وما إن وقعت عيناه عليه، شاحبًا معلولًا يهذي عبر بحار عرقه على فراشه، حتى تقدم منه حسان لاثمًا محتضنًا بكل قواه، وكان ساعتها يجاهد في أخذ أنفاسه الأخيرة دون نطق.
وسريعًا ما استل حسان خنجره من غمده، وذبح أخاه «عمرو» من الوريد إلى الوريد، صارخًا في أقصى جنونه على مرأًى من زوجته المحتضنة لوليدها ذو اليزن: عمرو، أخي!