ذو اليزن التَّبْع المحتضر
أصبح الموقف عسيرًا مربكًا على «قمرية» والوزير «يثرب» داخل مخدع الملك التَّبْع ذي اليزن بعدما وافته المنية ولفظ آخر أنفاسه في غيبتها، لرد عدوان ملك الأحباش سيف أرعد.
إذ بينما اشتعلت مدينة — أحمرا — حماسًا وتكبيرًا وهتافًا محيطة بقصر الملك الحصين من كل الجوانب مغلقة ساحاته ومنافذه تمجيدًا للملك التَّبْع العائد المنتصر في ذلك الوقت، كان الملك — الحقيقي — قد فارق الحياة.
وما إن امتدت يد قمرية متنكرة تحت عدة حربه ودروعه ولحيته، لتمازحه معيدة الابتسامة الصافية إلى وجهه المسجى السمح، حاكية له من فورها ما أقدمت عليه خلال فترة غيابها عنه، وقاربته لاثمة حتى اكتشفت من فورها انقطاع أنفاسه ومفارقته الحياة، فما كان منها إلا أن شقت ثيابها صارخة: مات!
ولم يتمالك الوزير الحكيم يثرب نفسه سوى الارتماء عليها وكتم أنفاسها، بينما تكبير الجماهير وهتافاتهم تصم كل الآذان مدوية من كل جهة استبشارًا بالنصر الذي حققه مليكهم الرحيم المنتصر المعافى.
بل إن الوزير أسرع من فوره مشيرًا لأقرب الجواري بالإسراع بإغلاق كل الشرفات والمنافذ والأبواب، خشية تسرب كارثة موت التَّبْع ذو اليزن دون أن تغفل عيناه عن قمرية التي أخرجتها فاجعة زوجها وحبيبها عن كل طور، فمضت ناشبة أظافرها في كل ما صادفها، وجهها المجهد، شعرها، دروعها التي هي دروع الملك ذاته ولحيته، هنا صرخ يثرب في حذر: الناس … مشاعر الناس.
فالوزير الحكيم هو الأقدر على معرفة مشاعر الجموع التي أسكرها النصر الساحق على ذلك الملك الحبشي — أرعد — المعتدي المتحين لكل ثغرة ضعف تلحق بالعرب.
إلا أن قمرية التي تقمصت وأدت بمهارة دور الملك، دافعة بأعدائه الطامعين إلى الدمار المحقق، لم تع من فورها تصرف الوزير يثرب واندفعت كالمخبولة لا تبقي على شيء وهي تحتضن الجثمان المسجى الذي أغرقته بدموعها لاهثة مشيرة إلى بطنها.
– ألم تعدني بالانتظار إلى أن ترى وليدنا؟ ها هو يتحرك في أحشائي، ضع يدك، ها هو سيف، وحيدك، اليتيم!
وكلما ارتفع صوتها، حاول الوزير إعادة تعقيلها وتبصيرها مشيرًا إلى دوي تكبير الجماهير وجنونها بالنصر.
– المهم أحزان قمرية وثورتها دفعت بها إلى إزاحة الوزير العجوز يثرب، إلى حد إسقاطه أرضًا، فجلس مكانه منتحبًا باكيًا.
– هكذا.
قاربته قمرية ملتاعة، وهي تسقط إلى جانبه نادبة، فما كان منه سوى احتضانها في أبوة مهدئًا مستوضحًا: ليس هذا أوانه، أنا أكثر منك معرفة بهم، وهذا تصرفك أنت بملابسك ولحية التَّبْع هذه، هذه، تحسست قمرية وجهها، كمن أفاقت فجأة من غفوتها، وما إن حل الصمت، حتى صَمَّتْ آذانها الهتافات المدوية العاتية التي ترددت أصداؤها في أرجاء المدينة الواسعة.
– أتسمعين يا ابنتي؟!
– أسمع.
نطقت بتخاذل وهي تسند نفسها محاولة الوقوف، واضعة وجهها بكامله بين راحتيها: أهكذا تمضي بنا الحياة؟! حتى أحزاني عليَّ أن أقتلها بداخلي!
أردف يثرب: حفاظًا على الملك، حبيبك … ذكراه … الآن … الآن فقط، مجرد ساعات لا غير … ساعات معدودة اسمعيني … لا غير.
هنا أسلمت قمرية مقاليدها للوزير يثرب وجلست على فراش الملك آخذة رأسه مهدهدة بين ساعديها، تندب ما بها بلا صوت.
ثم هبت فجأة فخلعت عنها دروعها وتاج الملك ولحيته متخففة، وتمددت إلى جواره، تنعيه في إعياء واضح.
بينما اتجه الوزير يثرب منسلًّا، إلى الشرفة البحرية، لمواجهة الجموع والأقوام المطالبة برؤية الملك، فناشدهم الهدوء نظرًا لمرض الملك التَّبْع، الذي خلد من فوره للنوم، نظرًا إلى مرضه.
– كما تعلمون جميعكم، فمن أحب ذو اليزن دعا له بالشفاء، ولزم الهدوء.
ومرت بضعة أيام ثقيلة على قمرية، ارتدت فيها ثياب الحداد، ولزمت جثمان التَّبْع لا تفارقه نادبة في همس، إلى أن تسرب خبر موت التَّبْع ذو اليزن إلى أقرب مقربيه، في تَكَتُّمٍ وُفِّقَ في الإبقاءِ عليه الوزيرُ، يثرب، حتى لا يتسرب الخبر إلى الأحباش وملكهم الطامع.
إلى أن حان موعد دفن الجثمان سرًّا بمقابر التَّبَاعِنَة، حسب وصية ذو اليزن ذاته الذي ركز فيها على أن تعتلي قمرية العرش مكانه في حكم حِمْيَر وتوابعها، لحين تسلم «ما في بطنها مقاليد الحكم.»
ويبدو أن أخبار ما حدث لم تغب هذه المرة عن أذن الوزير المعادي للعرب سقرديون، فحانت فرصة استرداد مكانته — المهتزة — داخل بلاط «سيف أرعد» الذي وجدها بدوره فرصة سانحة، للانتقام والتخلص من «قمرية الأذية» وما في أحشائها، خاصة وقد أشار عليه كهنته ومقربوه بضرورة قتل التَّبْع المنتظر — سيف — منذ المهد وقبل أن يستفحل خطوه ضد بلاد الأحباش وتوابعها.
وذلك حين أنشده الشعراء والمتنبئون:
وظل الملك أرعد فترة طويلة مرتعدًا لا يعرف كيف يتصرف، فربما كان ما يسمعه مجرد خدعة تالية من جانب تلك الأذية قمرية، للقضاء على ما تبقى من جيشه وملكه، كما حدث في السابق.
ومن هنا استقر رأي سيف أرعد، على أهمية التروي قبل اتخاذ قرار متعجل بالحرب ودون أن تغفل عيناه على رصد ما يجري ويحتدم داخل عاصمة التَّبْع — أحمرا — عبر عيونه وبصاصيه المنبثين في كل مكان.
حتى إذا ما أجمعت الأخبار والمعلومات من كل صوب على حقيقة موت التَّبْع ذو اليزن ودفنه، وانفراد قمرية بوراثة ملكه المترامي الأطراف لحين وضعها لابنه ووريثه، غمغم لنفسه: هي بعينها النبوءة.
إلا أنه عاد من جديد يندب حظه العاثر، بتبديده لمعظم جيشه وقواته، خلال تلك المهمة التي اضطلعت بها، بنجاح فاق كل توقع، قمرية عن طريق خدعتها الدامية حين تنكرت متخذة هيئته ودروعه وسيفه، وحتى لحيته الكهرمانية اللون، وانْقَضَّتْ كمثل نمر على قواته مطاردة، إلى أن أفنتهم عن آخرهم، وأشرفت وهي على ظهر الشهباء التي لا تخطئها عين، وهي فرس ذو اليزن على أسوار إثيوبيا، فخلعت أبوابها بحرابها إلى حد دفعه هو — سيف أرعد — إلى الهرب بقواته الخاصة، بعدما رسخت في أذهان الجميع أن.
– التَّبْع اليمني لم يمت، وها هو يتحدى الجميع.
ومن هنا تزايدت مكانة وزيره المقرب «سقرديون» بعدما علم بتفاصيل الخدعة، إلى حد دفع بالملك إلى الاعتذار له علنًا، بعدما رد إليه الاعتبار وأصبح لا يسمع سواه.
– والآن ماذا ترى يا سقرديون الحكيم؟
– أرى أن فرصتنا الذهبية قد حان أوان قطافها اليوم قبل غد، تساءل الملك: وجيشنا على هذا الوضع من الضعف والتشتت.
– لِمَ لا نسترجع كتائبنا من أعالي النيل والنوبة والمغرب الكبير ولو إلى حين؟
هب الملك أرعد عن عرشه خائفًا مفكرًا: نتخلى إذن عن حكم هذه البقع، ونستسلم لثوراتها المؤيدة للعرب.
واجه الوزيرُ سقرديون الملكَ في ثبات: هدفنا الآن هو قتل أو اغتيال أو اختطاف قمرية وإجهاض التَّبْع مهما كلف الأمر.
اندفع سقرديون يواصل الطواف حول الملك وهو يصب الكلام في أذنيه، بعدما استسلم له كفريسة مستكينة هذه المرة.
– قمرية الآن حامل في شهورها الأخيرة، ومن هنا فهي أضعف مخلوق يمكن تصوره، هي أضعف من فراشة.
أردف سقرديون ممازحًا: تلك الحية.
مضى سقرديون يشرح للملك وكأنه يشرح له معادلة معقدة أشبه بالمعضلة: هي حية رقطاء، استحالت تحت حملها وما في أحشائها إلى فراشة، وعلينا تصيدها هكذا.
– كيف.
ضحك سقرديون طويلًا، حتى استلقى على قفاه، من مشهد الملك المحبط المستسلم له.
– أقول كيف؟ دع الأمر لي.
حتى إذا ما أحبطت قمرية ثلاث مؤامرات متتالية من جانب سيف أرعد، لاختطافها، وعلى أسوأ الأحوال إجهاضها، في أسبوع واحد فقط، غمغمت في سخط وغل دفين من خسة «سيف أرعد» ووزيره سقرديون قائلة لنفسها: أنا لست فراشة ضوء هشة كما يدعون.
ومن هنا بدأت وهي تعبر شهر حملها الثامن تحسب لكل خطوة وفعل وقرار ألف حساب، ليس خوفًا على حياتها، بل ولا على ما في أحشائها، بل على وصية الملك التَّبْع الراحل الذي أحبته، ولم تمكنها الأيام والليالي من أن تسعد إلى جواره.
وبحسب وصية ذو اليزن، تملكت قمرية كل السلطة، بل وكثيرًا ما كانت توقع مكاتباتها ومراسلاتها باسمه وخاتم ملكه، لحكام وشيوخ قبائل وأمراء وقادة جند البلدان التابعة لحكم حِمْيَر أو الحليفة، في دلتا مصر، والسودان وبلاد النوبة وبعلبك وفلسطين وصور، ومجمل كيانات جزيرة العرب شمالًا وجنوبًا، والكثير من البلدان الآسيوية حتى الشرق الأقصى وتخوم الصين.
وكانت في كل خطواتها تجري استشاراتها مع وزراء الملك — الراحل — وأخصهم وأقربهم إلى قلبها الوزير الحكيم يثرب.
وأحاطت قمرية قرارتها الكبرى والمصيرية بالكثير من السرية والحرص، حتى ولو تطلب الأمر عقد اجتماعاتها داخل مخدع التَّبْع الراحل، وهي ممددة على فراشها.
ومما دفع بها إلى اللجوء إلى ذلك الأسلوب من السرية والتكتم، حرصها الشديد على إتمام شهور حملها، خاصة وأن بعض العناصر الحاقدة بدأت تظهر على المسرح، والتي رفضت أن تحكم حِمْيَر امرأة.
وقد حاولت الرد على ادعاءاتهم لاجئة إلى محصلتها التاريخية التي اشتهرت عنها، معيدة إلى الأذهان حكم شهيرات النساء لحِمْيَر، من بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل وحكمها المترامي لحِمْيَر وتوابعها، وانتهاءً بالملكة «تدمر» ابنة التَّبْع حسان بن أسعد، الذي اغتاله ليلة عرسه الدامي — بالحيلة — كُلَيْب بن ربيعة، وخطيبته الجليلة بنت مرة؛ بقولها: وها هي حرب البسوس الانتقامية التي نشبت بسبب ذلك الاغتيال، تدور رحالها على مشارف الشام وفلسطين والبقاع.
بل هي كثيرًا ما أشهرت وصية التَّبْع ذو اليزن ذاته، التي يوصي فيها بأن تحكم «امرأتي الأميرة قمرية لحين أن تسلم الحكم ما في أحشائها.»
وكم من مرة أيضًا أعادت إلى الأذهان حكم الملكة «سميراميس» لبابل وآشور معًا؛ أي في وادي الرافدين وآسيا الصغرى بكاملها، وفي بعض الأحيان، تصل بها ثورتها إلى حد المطالبة بإحلالها من وصية التَّبْع الراحل، لتصبح في حِل من كل هذا.
كانت تعرف — من طرف خفي — أن تلك الفتن والمكائد والمنغصات التي أصبحت تثار ضدها حتى داخل بلاطها الحاكم نفسه، مصدرها إثيوبيا وملكها «سيف أرعد» ووزيره «سقرديون»، لإجهاضها والإيقاع بها عن طريق استخدام مختلف الطرق والمصائد.
وكل ذلك يجري لها وهي حامل في أيام معاناتها الأخيرة، دون رحمة ودون تفهم لأبعاد ما يحاك ضد عاصمة التَّبَاعِنَة الجديدة — أحمرا — من مؤامرات، يستعر أوارها ليل نهار دون هوادة، أو حتى خجل إزاء ما يقع وينكشف أمره تباعًا من خداع لقتلها واغتيالها، أو إجهاض ما في داخل أحشائها، بينما هي تحرص عليه حرصها على عينيها ذاتهما لكي تسلم الأمانة كاملة غير منقوصة.
وكان الوزير يثرب أحرص الجميع على قمرية وسلامة حملها؛ لذا أوصد عليها بنفسه دواوين القصر، الواحد بعد الآخر، عن طريق بث عيونه وأخلص جنده وأشجع فرسان حِمْيَر وقحطان في الأماكن الحساسة لرصدها.
إلى أن جاء اليوم الموعود، فتزايدت آلام قمرية بسبب محاولة المولود الخروج ورؤية النور، ووضع حد لمعاناتها.
حتى إذا ما حل مساء اليوم التالي، ومع انبلاج الفجر، تجدد الطلق الشديد على قمرية، لدرجة كادت أن تودي بحياتها ذاتها، وهي محاطة بالوصيفات و«الدايات» من كل جانب في حين ملأ صراخها جنبات القصر.
إلى أن علا صراخ المولود الذي غطى على صراخها فعلت الزغاريد طاغية من كل جانب، إلا أن قمرية أشارت إلى حاجتها الشديدة إلى النوم.
واستسلمت من فورها إلى نوم عميق بعدما وضعت أمانتها.
وحين استيقظت في ضحى اليوم التالي، استدارت في لهفة لترى وليدها للمرة الأولى، ولكنها لم تجده.
صرخت: ابني وحيدي، سيف!