الحرب الضروس في القرن الأفريقي
اندلعت نيران الحرب الضارية المستعرة بين «سيف أرعد» وأرملة الملك التَّبْع ذو اليزن «قمرية».
وهي الحرب التي امتدت رحاها على طول أواسط أفريقية وقرنها الموصل إلى اليمن والجنوب العربي.
كما أنها حرب كانت قد تأجلت طويلًا، نظرًا إلى الظروف والملابسات الفاجعة التي مرجعها المرض المفاجئ للتبع ذو اليزن، عشية زواجه من قمرية التي كانت قد انشغلت بدورها بحملها المتعثر بابنه سيف، الذي دفعت به إلى الوجود يتيمًا بعد حدث موت ذو اليزن الفاجع في غيبتها، وهي تدفع فلول الأحباش الذين شارفت كتائبهم المتربصة المخربة أسوار «أحمرا» ذاتها.
وهكذا نجحت قمرية في إجهاض عدوان سيف أرعد المبيت بعد إشاعته — الكاذبة — لموت ذي اليزن، متصورًا هو ووزيره المتآمر المعادي للعرب «سقرديون» أن الطريق قد أصبح أمامهما مفتوحًا لتقويض عاصمة التَّبَاعِنَة بوسط القارة السوداء التي نبتت كمثل شوكة ترمي إلى تعريب أفريقيا مبكرًا.
إلا أن سيف أرعد لم تغفل عيناه عن مرماه بتخريب أحمرا والانتقام الأسود المبيت من جاريته — أو مملوكته — قمرية التي خانته قبل أن تخون الملك ذو اليزن، حينما جاءته مغتالة، فاستحالت إلى محبة أنهت مهمتها بالاقتران به.
ترنم أرعد في حقد: تلك الذئبة، صحيح؛ لأن أباك «ديب».
حتى إذا ما استوثق سيف أرعد من مواراة التَّبْع اليمني — كما كان يدعوه — الثري، بذل المستحيل باتجاه إعادة تكوين نواة جيشه، مشجعًا وداعيًا قومه إلى الإكثار من النسل والإنجاب، ومستقدمًا بعض فلول كتائبه من البلاد التي كان يحدوه حلم أسلافه «أسود يهوذا» بتملكها بدلًا من أن تسقط في أيدي العرب — الساميين — بدءًا من مصر العليا، والسودان وبلاد النوبة، وانتهاءً بالمغرب الكبير، وبخاصة تلمسان التي كانت شبه خاضعة لسيطرته وتمدد نفوذه السرطاني.
في تلك الأثناء، لم تخمد نيران مؤامرته المتكررة هو ووزيره الشرير سقرديون، لاختطاف أو قتل أو اغتيال سيف بن ذي يزن الطفل والرضيع ثم الشبل.
إلى أن تراءى لقومه، أن الحكمة تقتضي رعايته وتربيته في الخفاء بعيدًا عن العيون حتى أمه ذاتها، متنقلًا من موطن وكيان، وقبيلة ومدينة إلى أخرى، بمأمن عن أذرع سيف أرعد السرطانية الطويلة المتوغلة في تلك القارة السوداء الغارقة في سباتها، أفريقيا.
وهي الأيدي التي تمددت كأخطبوط، وكان على قمرية مواجهتها — إن لم يكن اليوم فغدًا — لإعادة استئصالها، وإلا لضاع كل شيء من ميراث التَّبَاعِنَة، سواء في أفريقيا، أو في ربوع جزيرة العرب جنوبًا وشمالًا على السواء.
ومن هنا أهابت بجميع الأقوام التابعة ضرورة الصحوة وجمع الشمل ونبذ الأحقاد، مسافرة متنقلة محرضة بنفسها.
فزارت سبأ وحضرموت وصنعاء وعدن وعمان والبحرين ويثرب وإخميم ومصر وقرطاج وتونس وبعلبك ولبنان؛ محذرة من سيف أرعد وأطماعه، جامعة فلول جيش التَّبَاعِنَة والمبادرة بالحرب دون غفلة.
حتى إذا ما نشبت الحرب، أبلت قمرية البلاء الحسن إلى حد الاستبسال الذي أخرس كل الألسنة الطامعة في النيل منها كامرأة أنثى، وهي الأقرب إلى أن تكون «أعجمية» منها إلى أن تكون عربية رغم اقترانها بالتَّبْع الراحل وخلفها منه.
بالإضافة طبعًا إلى التصورات الغيبية التي ربطت بين دخولها على ملكهم الحكيم الحبيب ذو اليزن، وبين قضاء التعجيل بمنيته، تحت ثقل مرضه العضال، ومن هنا كان ولا بد من مواجهة خطر الأحباش المعادين للعرب جنسًا ولغة وحضارة، باعتبارهم ساميين طامعين في جيرانهم ومتاخميهم الحاميين: «ذوي البشرة السوداء، أبناء اللعنة.»
ومن هنا حقق سيف أرعد نجاحاته في جمع شمل أقوامه الأفارقة، مثيرًا ومذريًا مشاكل وقضايا، عنصرية وعرقية، تتصل باللون واللغة وركام مخلفات العصور — الأسطورية والخرافية — القديمة المتأججة تحت الجلد منذ الأزل، وساعد ملك الأحباش أرعد، في هذا وزيره — العنصري — الحاقد سقرديون، نظرًا إلى ثقافته الهلينية اليونانية الدخيلة على العرب والأفارقة معًا.
كما أن هذا المدخل المستنفر للدعوات «العنصرية واللونية» قد ساعد بالفعل سيف أرعد في تدعيم حشوده ضد العرب والتعريب، وأضاف إلى هذا ادعاءاته لأقوامه وحلفائه أن هدف ذي اليزن واهتمامه بمصادر الماء مصدر الزرع والاخضرار وكل حياة، من سدود ومجاري الماء و«كيميا» التربة وكيفية تخزين وتصريف المياه، مرجعها رغبته في السيطرة على شريان أفريقيا بأسرها وهو نهر النيل: ومن هنا كان تستره — أي التَّبْع الراحل ذو اليزن — وراء بحثه وكتاباته — الخفية السرية — عن: كتاب النيل.
ودعم سيف أرعد دعوته العدوانية هذه، مرسيًا قوائمها، مستثيرًا حمية الأقوام وقبائل أفريقيا السوداء وتجميعها تحت راياته في إثيوبيا، مواصلًا حملاته على عاصمة التَّبَاعِنَة ذاتها.
واستخدم أرعد في هذا كل وسائل الإسراع المعجل لتقويضها، بالحرب وقطع شرايين أنهارها وتخريب سدودها وإضرام النار في منشآتها وحصونها التي كان قد عانى ذو اليزن في إيجادها وتأمينها حتى آخر لحظات عمره القصير، ومن هنا أيضًا جاءت معاناة الملكة قمرية في الصمود والدفاع عن حصون العرب التَّبَاعِنَة في وجه ملك الأحباش المدجج بكل وسائل القوة والخداع والتآمر، باللجوء إلى وسائل الحرب الخاطفة واختراق كل ثغرة تتيح للأحباش إحداث الخدوش الدامية — بأحمرا — والفرار دون مواجهة، مما دفع بقمرية إلى وصف تلك الحرب المخادعة بأنها شبحية.
ورغم ذلك نجحت قمرية في تغيير أساليب حربها بدورها، وردع أعدائها بقدرة فائقة لم تكن تخلو من خداع — أنثوي — ماهر، كثيرًا ما دفع بسيف أرعد إلى الغليان، إلى حد الهذيان وملازمة الفراش واستدعاء حكمائه ومطببيه دون انقطاع، صارخًا في وجوه الجميع، حتى وزيره سقرديون.
– أنا لست مريضًا، أنا فقط مسقوم من حية أحمرا، الرقطاء، التي ربيتها ورعيتها هنا بنفسي في إثيوبيا، فاستدارت اليوم مغيرة جلدها، لتلدغني أنا في المقتل، يا لسمومها المستشرية!
كانت قمرية تعرف كيف تلدغه في المقتل، وأينما يوجع، كلما عَنَّ له الهجوم الغادر.
– واقعة بواقعة.
وكثيرًا ما كان — ابنها — سيف اليزن، يضطلع هو بنفسه بإطباق الفك الثاني للكماشة القاتلة على سيف أرعد، من داخل بلاد الحبشة ذاتها، وكأنه إنما يستكمل لأمه قمرية — دون أن يعرفها — إحكام وإطباق خططها دون علم منه أو منها ومن دون أية اتصالات جارية بينهما سوى أن كلًّا منهما، إنما يسدد سهامه وخططه في جسد — ومقتل — عدو واحد.
فكان كلما أقدم الملك سيف أرعد على استخدام سلاح قطع مياه النيل عن أحمرا وتوابعها، أجهض سيف اليزن من الداخل محاولاته، سواء بإعادة تلك المياه إلى مجاريها، أو بإغراق بعض مناطق الحبشة ذاتها.
وهو ما ضاعف من جنون أرعد وتوجسه أكثر فأكثر، عقب كل واقعة تحدث.
– يا للخيانة المستشرية، يا للدناءة!
كما أن كليهما — أي سيف وأمه قمرية — كانا على دراية ومعرفة أكثر بالنيل ومنابعه ومناطق فيضه وشحه وانقطاعاته؛ نتيجة لاطلاعهما معًا على مشاغل وأبحاث الملك التَّبْع الراحل ذي اليزن، التي استغرقته السنين الطوال منكبًّا بالأبحاث والقراءات والأسفار الطويلة والمخاطر الهائلة للوقوف على أدق أسرار الشريان العظيم.
– النيل: بدءًا من منابعه في الحبشة وأواسط أفريقيا وحتى منتهاه ومصبه على ساحل «فاروس» ومناراتها التي أصبحت الإسكندرية فيما بعد.
كانت قمرية تحفظ للملك الراحل ذو اليزن وصاياه بالحرص على مدوناته وكتاباته التي سبق أن أفنى فيها عمره وخيرة سنوات شبابه.
وذلك منذ أن تربى ذو اليزن — بدوره يتيمًا — في ربوع سبأ ومأرب وسدودهما التي كانت أعجوبة العالم القديم، وحققت لليمن حضارتهما التي أوصلتها إلى ربوع آسيا وما بين الرافدين وحتى مجاهل الشرق البعيد أو الأقصى.
وكان يحلو لقمرية، خاصة عقب الموت المعجل الذي أودى بحياة ذو اليزن، استخراج كتاباته ورسوماته التخطيطية الملونة على خرائط من جلود الأيائل البرية، والمنقوشة على العاج ورقائق الذهب، لتعاود فك طلاسمها وملغزاتها قارئة في استغراق وتلهف.
كما كان يحلو لها أن تنقل معارفها هذه موصلة بين الأب وابنه الوحيد — سيف — عندما كان لا يزال في كنفها قبل منفاه.
بل وكثيرًا ما اقتادت سيف — الطفل — إلى حيث مخازن وكنوز وخزائن الملك التَّبْع التي كانت تخفيها عن العيون في أعمق أعماق قلاعه السرية؛ حيث أودع ومنذ أن داهمه المرض.
– كتاب النيل.
فتروح قمرية تلاعب ابنها — سيف — بقلائده وسواراته الذهبية وأحجار والده القيمة التي جمعها أسلافه وأضاف إليها هو الكثير، خاصة حجره القاتم الزرقة الذي اشتهر باسمه في التاريخ «لابس لازلي» وهو حجر ذو اليزن الذي قد يفوق الياقوت والزمرد قيمة.
إلى أن تجذب قمرية اهتمام ابنها سيف — وقبل أن تدفع به إلى المنفى — إلى كتابات الملك وخرائطه ومدوناته عن الماء والتربة، ونهر النيل.
وكان سيف الطفل بدوره يبدو سعيدًا فرحًا متوقد الذكاء منفتحًا على المعرفة والاستزادة، بل وكثيرًا ما طالب هو أمه الانسلال معًا، وبعد أن ينام كل من في القصر والمدينة وحتى أقرب المقربين إليهما، إلى حيث يحفظ كتاب النيل.
فكانت قمرية تحرص بالذات على مخطوطات ذو اليزن، حول النيل ومكوناته وأسراره حرصها على حدقتي عينيها هي، فلم تطلع أحدًا على خزائنها حتى وزيرها الأول «يثرب» حفاظًا على وصية الملك بإيصالها إلى ما في بطنها حسب أمنيته.
– هيكل، سيف، ولدي.
حتى إذا ما شب الغلام — سيف — وأصبح قادرًا على القراءة، بدأت قراءاتها معه لمدونات والده الخطية، وهي تصب الكلام في أذنيه صبًّا ليحفظه ميسرًا عن ظهر قلب.
كانت في كل حالاتها تتحسب لذلك اليوم المرتقب الذي سينتزع الطفل فيها من بين أحضان صدرها، ليُرَبَّى في الخفاء بعيدًا عن بطش سيف أرعد وأذرعه الطولى على طول غابات أفريقيا ومنافيها.
وكان كثيرًا ما يستبد بها الشوق والحنين إلى رؤية وليدها التي حرمت منه منذ طفولته وصباه، كأي أم بسيطة.
– سيف، وحيدي.
وكان يشتد بها ذلك الحنين الطاغي، خاصة في أيام الشدة والضيق بسبب عدوان ملك الأحباش، وذلك التحدي الكبير الذي فرضه عليها فرضًا؛ بسبب الانتقام — الشخصي — منها.
– حية أحمرا الرقطاء.
وفي مثل تلك اللحظات العصيبة، لم تكن قمرية تجد مخرجها إلا بإعادة السؤال — لوزيرها يثرب — عن ولدها ومصيره وأخباره المنقطعة عنها منذ سنين.
– سيف، أما زال حيًّا يرزق.
– هنا يقاربها يثرب بهدوئه وما عرف عنه من حكمة وبعد نظر قائلًا: اهدئي أيتها الملكة، اهدئي فالأمير سيف يحيا في أحسن حال.
– أين؟
هنا يستبد الصمت بالوزير الحكيم فلا يقدر على الإفصاح حتى لها هي، أمه، بمكانه ومخبئه.
– أين؟!