حروب النيل
كان ملك الأحباش سيف أرعد، قد وصل به التوجس مما أصبح يحدث له في معاركه المستعرة مع قمرية إلى حد الجنون بعينه، فما يكاد يشتد ساعده وساعد أبنائه الكثيرين من زيجاته — السياسية — المتعددة داخل مختلف أقطار القارة السوداء، حتى يصبح على باب قوسين أو أدنى من وضع يده على أصل الداء، بتقويض — أحمرا — وإعادة مليكتها أسيرته.
هنا تداهمه الأحداث الخطرة غير المتوقعة، حتى من داخل حدود بلاده ذاتها الحبشة وتخومها، التي لا يعرف لها مصدرًا.
والغريب أنها أحداث قد تصل بخطورتها إلى حد إغراق عاصمته ذاتها «إثيوبيا» وتكشف لكل ذي عينين وبصيرة عن مدى تفوق أعدائه من داخل الحبشة ذاتها، وكيفية قدرتهم المتعاظمة على الإلمام والمعرفة بأسرار النيل ودقائق قنواته وشرايينه.
هنا لا يملك سوى الإسراع بالتراجع المشبع بالهلع والهوس، مما يحصل دون أدنى توقع مما يحدث من خلف ظهره، فيتزايد تساؤله وصراخه مما يسمع ويتسبب في إشاعة الرعب بين رجاله.
– هكذا، إن للحرباء أكثر من جلد ولون ووجه.
وكان يقصد بالحرباء — طبعًا — الملكة قمرية وابنها — الغامض — سيف.
وبالطبع لم يخطئ سيف أرعد في ذلك كثيرًا، ذلك أنه كان لسيف بن ذي يزن أكثر من وجه وجلد ولون؛ إذ كان يملك قدرات متعددة، منها قدرته على تغيير مواقعه داخل حدود الحبشة ذاتها وما يجاورها من بلدان وأقوام بأسرع من هبوب رياح الخماسين الشيطانية.
كما أنه كان متملكًا لقدرات إخفاء نفسه وتغيير لونه، والتخفي تحت مختلف الأشكال والهيئات والسحن والوجوه، مضافًا إلى هذا قدرته على النطق باللهجات المختلفة، بل وتغيير إيقاعه بكامله متحركًا مواصلًا طوافه داخل مختلف الأقوام والقبائل الأفريقية، مبشرًا بالأمن والعدل، أينما حل، هو وأتباعه الكثيرون الخارجون على سلطان سيف أرعد وبطشه وظلمه.
فزار مصر العليا والسودان مرارًا، وزار الشمال الأفريقي، وزار موطنه ذاته في اليمن وجزيرة العرب، مواصلًا تجميعه لقواته ومؤنه وقلاعه ومصادر قوته التي تمكنه من إحباط كل محاولات ملك الأحباش المتوعد بتقويض عاصمة التَّبَاعِنَة العرب داخل أفريقيا.
ومن هنا لم تسه عينه الساهرة لحظة واحدة عن — أحمرا — وما أصبحت تعانيه ملكتها من جهد مضن خارق للصمود في وجه سيف أرعد، وأطماعه الداعية إلى تقويض وإحراق وإغراق تلك العاصمة العربية، مهما كلف الثمن.
حتى إذا ما وضع ملك الأحباش خططه وزحفه بمساعدة وزيره سقرديون للوصول إلى أسوار أحمرا وتطويقها التف هو — وجيشه — من جانبه بتطويق عاصمة الأحباش إثيوبيا، لتصبح مجرد فريسة تعاني آخر أنفاسها عند قدميه.
هنا يمضي الملك أرعد يمزق جلد وجهه ألمًا مما يحدث ويسمع وينشر الفزع بين قادته وأبنائه وجنوده، ولا يملك سوى التقهقر المزري عائدًا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من غرق وحرائق، متوعدًا بالإمساك بأعدائه من الداخل دون طائل.
– التَّبْع الجديد وأعوانه، ولا أحد غيرهم.
وكان أقرب أولئك الأعوان بالطبع «ملك مدينة أفراح» الذي تربى فيها — سيف — وأمضى طفولته ومطلع صباه.
وكان وزير الملك المقرب «سقرديون» يضرم في كل مناسبة، وعقب كل واقعة نيران حقد أرعد أكثر فأكثر على ملك أفراح وابنته العاشقة للتبع «شامة» إلى حد رفضها الزواج بيانًا جهارًا من ابن الملك سيف أرعد الأكبر، الذي يحبها بدوره إلى حد الجنون.
وهنا توافق قرار الملك سيف أرعد مع وزيره سقرديون، في أهمية التأني في تخريب عاصمة التَّبَاعِنَة — أحمرا — وأسر ملكتها قمرية، إلى حين الانتهاء من تطهير بلاد الحبشة ذاتها من الجيوب المقوضة والمتآمرة، التي تحسن الطعن في الظهور إلى حد القتل.
– خونة، وأولهم هنا ملك أفراح وابنته التي قد تقودهما إلى موطن «التَّبْع الخفي».
– سيف.
هنا سأل الملك ممرورًا وزيره سقرديون وهو ينهض ليواجه أمواج النيل المتلاطمة أمامه: ما العمل؟ أنعاود من جديد قطع الماء عن أفراح؟
أجابه سقرديون في حزم: ليعيده من جديد التَّبْع ويتزايد حب الناس في تلك البلاد لمنقذهم من العطش والجفاف، وبالتالي ستتزايد شعبيته أكثر فأكثر.
واجهه الملك منفعلًا: إذن ماذا ترى يا سقرديون؟
– أرى اقتطاع شامة ذاتها.
– كيف؟
– اختطافها لمعرفة أسراره ومكمنه بكل الوسائل.
وكانت شامة ابنة ملك أفراح قد قللت في الأيام الأخيرة من اتصالاتها بسيف بن ذي يزن، كما اعتادت في السابق، وذلك استجابة لطلب ومخاوف أبيها الذي تضاعفت عليه مؤامرات سقرديون وملك الأحباش، خاصة عقب رفضها الزواج من ابن «سيف أرعد» ووريثه.
ووصل بها الغضب إلى حد إعلانها الانضمام إلى سيف ورجاله عيانًا جهارًا؛ إذ لم يكف والدها عن مطالبتها بالرضوخ والزواج الأقرب إلى الأسر من ابن ملك الأحباش، مما قد يدفع بها أيضًا إلى حرق نفسها.
– فسياط النيران ستكون أكثر رحمة على بدني وروحي من ذلك الزوج المدلل الفاجر.
وإزاء هذا التهديد الذي يعرفه الأب عن ابنته — شامة — كما يعرف قدرتها على تنفيذه، لم يملك سوى التراجع، وإبلاغ سقرديون برفضها.
ولما كانت شامة مدركة لأبعاد ومخاطر رفضها لمثل هذا الزواج، ومدى ما سيجلبه تعنتها هذا من أحداث انتقامية بشعة ستحط بكاملها على كاهل والدها المثقل، بل المدينة جميعها عن بكرة أبيها، فقد حطت عليها الأحزان الثقيلة السوداء، وهي التي تنتظر دون طائل أو حتى بصيص أمل الزواج يومًا بمن يهفو إليه قلبها، منذ أن تفتحت عيناها عليه.
– سيف اليزن.
إلا أن عين سيف بن ذي يزن، لم تغفل يومًا عن إحاطة شامة بكل حماية ورعاية.
فلم تنقطع عنها رسله ورسائله إليها، يخبرها بمكامنه ومخابئه المتغيرة الجديدة أولًا بأول، وبحنينه الجارف إليها: «فمن أجل عينيك يا شامة، أحارب الشر.»
مجددًا على الدوام عهده لها بالزواج منها قائلًا: «عقب خلاصنا من أرعد وعدوانه معًا.»
وكانت شامة في وحدتها الجديدة التي فرضتها على نفسها، تحلم طويلًا باليوم الذي يحقق فيه حبيبها — سيف — انتصاره على ذلك الكابوس الشرير الظالم سيف أرعد، لكي يصبح لحبهما مكان في هذا العالم الواسع.
«فكيف لأزهار الحب ووروده أن تنبت وتينع في مستنقع سيف أرعد وإذلاله وظلمه.»
تساءلت ممددة على فراشها تعاني آلامها وحسرتها مما يحدث ويجري: حقًّا، كيف لأي نبت أن يزهر مع ناشر الجوع والعطش ذاك؟ إلا أن «شامة» سرعان ما كانت تعاود تفاؤلها واستبشارها، كلما وصلتها أخبار الانتصارات المتواترة التي أصبح يحرزها سيف بن ذي يزن ضد سيف أرعد ووزيره العجوز المتآمر سقرديون.
وكانت تشارك جماهير مدينتها السرية من أرعد ورعونته وجنونه الذي يصل به إلى حد ضرب وزيره «بالنعال»، كلما تفوق عليه سيف ورجاله من داخل حدود الحبشة ذاتها، وهو ما أحاله إلى معجزة ومنارة أمل أصبح ينشدها الجميع في كل مكان وموطن.
فكانت شامة تراسله ناقلة إليه مدى حب واستبشار الناس — بسيف وأتباعه — رافعة من معنوياته مشددة من ساعده الضارب، متشوقة لرؤياه.
هنا كان يبعث إليها سيف، بكتيبة من رجاله، تنقلها إليه إلى أقرب مخابئه من مدينة أفراح، ليلتقي بها مسرعًا، فيمضيان معًا، لحظات خاطفة تعود هي بعدها منشدة لنفسها:
«يا مظني الشوق أنا قلبي صبح عن الدم آدي سنه حول، وأنا اللي عيشتي على الدم، جاني طبيبي وسمعني الكلام ع الدم وإن أذن الله، طابت مني أنا الجروح حا ألبس ثياب الهنا تشع منه الروح، وإن جا عزولي أقوللو: من هنا قوم روح فتحت لجروح وكانت كاتمة ع الدم.»
وتنشد لنفسها:
شيَّع حبيبي وقال لي:
إلا أن عين سقرديون المشعة بالشر دومًا لم تغفل عن تدبير الانتقام الدامي من ملك أفراح وابنته شامة، التي سبق أن تجاسرت على رفض ابن الملك أرعد ووريثه في اعتلاء عرش «ليوث يهوذا».
فتوعد ابن الملك بتحقيق آماله من شامة، فقط حين يحين موعد أعياد: «وفاء النيل.»
حتى إذا ما حان أوان موسم العيد، أوعز لمساعديه وكهنته بإيقاع «قرعتهم» لهذا العام على أميرة أفراح «شامة» مردفًا: وهي رغبة الملك سيف أرعد، كما تعلمون، قبل أن تكون رغبتي.
حتى إذا ما وقع الاختيار على «شامة»، واستعدت مدن الحبشة وأفراح وتوابعهما لذلك الاحتفال — الشعائري — الذي كان يجري حدوثه في وقت واحد من كل عام، في كل موقع وكيان يواصل نهر النيل عبرهما جريانه كالحبشة وأوغندا والسودان وبلاد النوبة ومصر.
وتجمعت الجماهير من كل صوب احتفالًا بعيد ذلك العام، متجهة مشرئبة صاعدة إلى تلك القلعة المهجورة فوق أعلى جبال المدينة التي ازدانت بالزينات والأعلام وفرق الموسيقى والطرب والألعاب الشعبية ونحر الذبائح.
ووصلت مع الغروب كوكبة من فرسان الملك سيف أرعد مدججة بالسلاح، يعقبها وفد الكهنة والمنجمين إلى قصر ملك أفراح، وهم يسوقون إليه — بشارتهم — بوقوع اختيار «القرعة» ثلاث مرات متتالية على أميرة البلاد الجميلة.
– صاحبة الصون، أفراح.
هنا سقط الوالد من طوله مغشيًّا عليه، بينما صعدت كتيبة الجند لا تلوي على شيء، إلى حيث جناح «شامة» فأحاطوا بها من كل جانب وهي تقاوم وتبصق في وجوههم.
– ابعدوا يا قتلة، يا لصوص الظلام والخرافة.
وعم الصمت جماهير المدينة عن آخرهم وهم يشهدون مشدوهين كيفية أسر أميرتهم، وهم يصعدون بها الجبل الشاهق المشرف على النهر، إلى أن اختفوا بها وهي صارخة مقاومة: قتلة … لصوص … عصابات.
حتى إذا ما ألقوا بها مقيدة عند قدمي ابن ملك الحبشة سيف أرعد العاشق لها، والذي سبق لها رفضه، خلع من فوره قناعه — هائل الحجم — عن وجهه ضاحكًا من أعماقه مقهقهًا: شامة … حبي!
هنا هوت ذراع ضاربة على أعلى عنقه، ففصلت رأسه عن ذلك الجسد «الخرافي» المتهتك.