الرحيل إلى مصر العدية
جاء موت القائد الأفريقي «الميمون» القريب من الملك سيف فاجعًا له عقب زيارته لليمن والجنوب العربي؛ لإخماد لهيب الفتنة التي نشرها الفرس في ربوع جزيرة العرب مطالبين بتخلي التَّبْع عن مصر، والعودة لعاصمته موطن التَّبَاعِنَة في اليمن، بما ييسر لهم — أي الفرس المجوس — إعادة اجتياحها.
وكان أول ما تبادر إلى ذهن الملك سيف هو زوجته ورفيقة صباه وكفاحه «شامة» ومدى فداحة وثقل الخبر عليها حين تصلها مكاتيبه ورسله، وهي التي كانت قد اتخذت من الميمون أبًا وكبيرًا لقادة جيشها، عقب افتقادها لوالدها الذي صلبه «سيف أرعد» معلقًا على أشجار إثيوبيا لتنهشه جوارح الطير، وهو ما تحقق بالنسبة إلى شامة حين وصلها النبأ، فشقت ثيابها حسرة، واتشحت بأردية الحزن السوداء، وتقبلت العزاء في أميرها «الميمون» بقصرها، وهي تعد العدة للسفر إلى ديار مصر العدية، بعدما غلبها التشوق الجارف لرؤية الملك سيف والسؤال عن ابنهما البكر «دمر» وعزاء ورعاية أسرة «الميمون».
حتى إذا ما حان صباح يوم الرحيل إلى مصر حسب رغبة الملك التَّبْع سيف، أرسل من فوره بسفينته البحرية الملأى بأخلص حرسه إلى أقرب مواني بلاد الحبشة لتقلع منها بشامة إلى مصر العليا.
حتى إذا ما وصلت شامة بركبها — البري — من بلدها إلى ذلك الميناء الحبشي وجدت في استقبالها «مقلقل» الأصغر ملك الأحباش الجديد الذي عينه الملك سيف اليزن عقب دخوله إثيوبيا؛ ليخلف والده سيف أرعد الذي سبق أن قطع سيف بن ذي يزن عنقه بيمينه.
واستقبل شامة، وهو يجيئها جاثيًا محملًا بثمين هدايا «عرش يهوذا» من ذهب وجواهر ومال لها ولزوجها.
– ملكنا الحكيم الملك التَّبْع، أبو الأمصار.
وتقبلت شامة هدايا ملك الحبشة — مقلقل الأصغر — شاردة مفكرة مسترجعة في رأسها ومخيلتها أحداث تلك الرحلة السابقة الخطرة الطويلة، بين بلادها — الموالية للعرب — وبين الحبشة وملكها السابق — سيف أرعد — وكيف شاركت هي في ذبح ابنه — مع سيف — داخل قلعة الجبل ليلة الاحتفال بعروس النيل التي كان مقدرًا فيها ليلتها الاعتداء عليها وإغراقها في مياه النيل حية لحيتانه البحرية وتماسيحه وأفراس مائه.
تذكرت شامة كل ذلك طيلة رحلتها النيلية وهي شاردة ساهمة تتطلع عبر كوة سفينتها، وهي تشهد وتنصت لطرقات مجاديف النوتية، تضرب صفحة الماء الرصاصي اللون المطعمة بسياط فضية مبعثها ضوء القمر النصف المكتمل، منغمة على أصواتهم وغنائهم الشجي الجماعي المشبع بالأحزان.
تذكرت أحداث ومتعرجات رحلتها مع سيف بن ذي يزن، منذ أن تعودت على الاجتماع به مع مطلع شمس كل صباح ﺑ «الكتاب الملكي» يتيمًا وحيدًا مطاردًا، يعيش حياته حذرًا متوقدًا يقظًا لكل شاردة وواردة قد ترد من جانب الأحباش المتملكين لهذه البلاد.
فيا له من خطر محدق لا مهرب من أظافره المشهرة أن تتربى وتنمو ويشتد ساعدك على أرض الأعداء.
– وعيونهم الراصدة ورماحهم المشهرة.
على حد تعبير سيف الذي كان شبلًا أيامها، وهكذا تذكرت شامة وهي تغادر حدود وأطلال بلاد الحبشة التي دخلتها منذ فترة حاكمة، كزوجة لسيف بن ذي يزن وأم بكره.
– دمر.
حاكم سوريا العليا — أو بلاد أشوريا — من قبل الملك سيف الذي غلبها الحنين لرؤيتهما معًا كما في السابق؛ حيث كانت تطغى ضحكاتهما معًا الصافية المبددة لمعاناة رحلة حبهما وكفاحهما، وكذا المصائد التي وقعا فيها معًا، منذ آثرا الكفاح لتخليص بلادهما من عبودية سيف أرعد.
– مبتكر حروب العطش والمجاعة.
– كانت أيام!
زفرت شامة وهي تشرف — بذهبيتها — المحاطة بزوارق ومركبات الجند، على أهرامات مصر، وهي تسد الأفق.
– أرض مصر.
يا له من حلم كثيرًا ما استغرقها مع سيف أيامًا وليالي، وهما يحلمان معًا بأن يتخذ يومًا من أرض مصر العدية موطنًا وموطئًا لحكم بقية الأمصار، يا له من حلم ساخر!
انتبهت شامة فجأة مستطلعة.
– ها هي أشرعة سفن الملك التَّبْع سيف بن ذي يزن، تشق فضاء النيل.
وكان تقدم أسطول الملك يثير رهبة محبيه تسري عدواها في كيان شامة كله كلما اقترب موكب الملك النهري أكثر فأكثر.
كان التَّبْع قد أقبل في موكبه النيلي لاستقبال حبه ومطلع صباه.
– شامة … حبي … هنا في ربوع مصر.
عانقها طويلًا وهو يغفو مستريحًا على كتفها كمثل مخلوق بشري يعاني إرهاقًا يؤججه الجلد ثقيل الأعباء.
– اشتقت إليك طويلًا طويلًا يا شامة.
أشار إليها بذراعه محتضنًا مسرًّا.
– ها هي مصر العدية تهفو لاستقبالك.
ها هي حلمنا القديم معًا.
تطلعت منبهرة من ضخامة المباني والمنشآت المحيطة بالنيل، الذي تحف به الزهور البرية النضرة، وسط ذلك الإشراق الكبير الذي يطبع قطاعات الحياة في موطن الأسلاف الفراعنة.
– أطال الله بقاءك وأمجادك؛ فأنت زوجي وأبي بعد الأمير الميمون.
وحين رست سفينتها على مربض أحد القصور المشرفة المتعالية البنيان والروعة، أنزلها الملك سيف آخذًا بيدها على مشهد من أمراء مصر وشيوخها وكبرائها، الذين قدموا من كل صوب لاستقبال الملكة محملين بالزهور وسنابل القمح وثمين الهدايا والفنون الباهرة التي اشتهرت وعُرِفَت بها مصر في العالمين.
خاطبها الملك سيف قائلًا مرحبًا: أهلًا بك في بلدك وقصرك يا شامة.
حتى إذا ما انتهت مراسيم واحتفالات الاستقبال والتعارف التي أقيمت لها، تذكرت من فورها خطتها التي جاءت بها، والتي لازمتها كحلم عذب طوال الفترة السابقة، وهو أن تستفرد بالملك سيف عبر رحلة إلى بلاد الشام لزيارة ابنهما، فعاجلته: ألم يتملكك الحنين لرؤية ولدنا دمر بعد طوال غياب؟
هنا زفر الملك، وكأنه يتخفف من أعبائه: أجل يا شامة، قريبًا سنشد الرجال معًا إلى بانياس لنعرج بعدها معًا إلى زيارة «البيت الحرام» ويثرب.
ضاحكها وهما يتحدثان متسامرين في آخر الليل.
– أقصد صفي أبي العجوز، يثرب.
وبالفعل عجل الملك سيف بإنهاء واجباته بمصر، وأهمها بالطبع مواصلة تدريباته لجيشه بجبله، الذي يحمل اسمه إلى اليوم، «الجيوشي»، وكان قد ترامت إليه الأخبار عن الحملة الانتقامية التي يقوم الفرس بإعدادها لغزو مصر من جديد.
لذا آثر الملك سيف إجراء مراسيم زيارته لسورية العليا وبانياس سرًّا ودون أن تصل تفاصيلها إلى أقرب مقربيه.
إلا أن خطته لم يقدر لها النجاح هذه المرة، فما إن انتهت على عجل زيارته مع شامة، لبكريهما دمر، وعرجا إلى مكة المكرمة ويثرب، حتى نزلت عليه الأخبار نزول الصواعق.
– ملك الفرس ينزل على الأهرام بجيشه الجرار في غيبة عن التَّبْع سيف بن ذي يزن.
وهكذا أسرع الملك سيف عائدًا إلى عاصمته، إلا أنه وقع في أسر أحد أمراء الفرس واسمه «بلامه»، ولقبه «الهدهاد».
هنا حلت الكوارث الثقيلة من جديد على ديار مصر والشام معًا.
إلا أن بصيص الأمل جاء هذه المرة من جانب «شامة» التي استطاعت الإفلات من كمين «بلامة الفارسي» وخلعت من فورها لباس الملكة الأم، مرتدية عدة حربها، مجمعة مع ابنها دمر نواة جيش استقدمت معظمه من بلادها ومن جيش دمر السوري، ونجحت في اقتحام مخبأ الملك سيف وفك أسره، وهو على شفا الصلب المحقق على أيدي الفرس، فقتل الملك سيف بلامه الفارسي، وواصل تجميع جيشه من اليمن ويثرب وأفريقيا متخذًا طريقه إلى مصر لفرض الحصار على الفرس الغزاة عابرًا النيل، مواصلًا تقدمه إلى أن واجههم موقعًا الذعر في صفوفهم حتى واحة سيوة وبرزخ السويس.
وكان الإرهاق الواضح القسمات قد استبد بجسد الملك سيف، عشية تنفسه الصعداء بعد الانتهاء من مطاردة آخر فلول الفرس عن مصر؛ نتيجة لما عاناه حين وقوعه في أسرهم الغادر ولضراوة المعارك التي خاضها ضدهم على طول مصر الوسطى والدلتا، رغم عدم التكافؤ بين نواة جيشه الذي جمعه على عجل، وبين جيشه الحقيقي بجبل الجيوشي.
حتى إذا ما عاد إلى حصونه تدافعت فيالق وكتائب زوجته «شامة» التي استطاعت استجلابها من بلدها وبقية البلدان والأقوام الموالية في أفريقيا واليمن.
مما عضد من ساعد الملك سيف، الذي كَرَّ راجعًا باتجاه «مسبوتاميا» أو «بلاد الرافدين» مطاردًا وموقعًا الهزائم في صفوف الفرس إلى أن دخل «المدائن» أو «السبع مدائن» بعدما طال حصاره لها فترة من الزمن.
وبعث من فوره برسله لإحضار زوجته شامة وابنه دمر من بانياس، اللذين شاركاه احتفالات النصر التي عمت المدائن عقب صك الملك سيف، لشروط الصلح التي تتيح له حكم تلك المدن الفارسية «السبع» وما يتبعها.
ومرة أخرى وصل الانبهار بشامة لحظة مشاركة الملك اعتلاء عرش الأكاسرة الفرس، على مشهد الجموع المتلاطمة التي قدمت من كل صوب لتقديم فروض الطاعة للملك التَّبْع سيف بن ذي يزن.
هي لحظة لن تغيب أصداؤها عن مخيلة شامة ما حييت.
– أجل ما حييت في هذا الجسد.
إلا أن الملك سيف، وكما لو كان يقرأ أعماقها حين استطلع ذلك البريق الخاطف في عينيها السوداوين الباهرتين، «فبادرها مسرًّا مكرمًا مقدار مساعدتها له وفك أسره ومواصلة الحرب.»
– إنه نصرك أنت يا شامة، فلولا دأبك وجسارتك؛ لكنت الآن …
انتفضت شامة في وقفتها إلى جانبه على مشهد من الجموع، وقد أدركت غرضه الأخير؛ أي بإنقاذها له من أسره، ثم مؤازرته بكتائب جندها، التي شددت من ساعده في تعقب فيالق الفرس الفارين الغزاة حتى هنا.
– للقضاء على منبت الداء.
وطال حكم الملك سيف للمدائن، حتى بعد عودة شامة إلى بلادها، وابنهما — دمر — إلى موطنه بسوريه العليا «بانياس» فقاد سلسلة من الحروب — الوقائية — في كثير من عواصم «الشعوب الفارسية» والهند، متوغلًا باتجاه أواسط آسيا على عادة أسلافه التَّبَاعِنَة.
وكان كلما استغرقه الحنين الجارف إلى رفيقة صباه وحبه وموضع سره ومكنونه «شامة» بعث في طلبها، لتشاركه انتصاراته الجديدة، ولتشاركه أيضًا المشورة فيما يَسْتَجِدُّ من أمور، سواء في مصر أو الحبشة أو السودان أو اليمن أو سورية العليا.
أما شامة فكانت على دراية بأهداف الملك التَّبْع، الذي لا يبغي حربًا ولا تملكًا، بقدر ما يرغب في صد العدوان إثر العدوان، خاصة دسائس الفرس الطامعين وأساليب غدرهم التي تعتمد أول ما تعتمد على عنصر المباغتة، كما حدث في تلك الحملة الأخيرة التي باغتتهما معًا إثر زيارتهما السرية لولدهما في بانياس والعروج بعدها إلى يثرب.
من هنا استبد التوجس بالملك سيف إلى حد دفع به إلى التوغل حتى أصفهان، كمن يدفع عن بنيه وقومه شرًّا وعُدْوانًا مبينًا، سرعان ما باغتاه من جديد، حين حملت له الأخبار التي جمعها عيونه وبصاصوه وصول ملك فارسي آخر يدعى «جهينة» ويلقب أيضًا ﺑ «الهدهاد» إلى نيل مصر، في غيبته، للقضاء أولًا وقبل كل شيء على جيشه وعتاده بجبل الجيوشي كما حدث في الحملة السابقة.
ووقع الخبر ثقيلًا منهكًا على الملك سيف، حتى إذا ما استشار فيه زوجته شامة، أشارت من فورها بالعودة إلى أرض مصر للتخلص من ذلك الشر المبيت من جانب الفرس.
سألها شاردًا غائبًا عن كل ما يحيط بها: كيف؟ ثم استفاض شارحًا الموقف لشامة.
– والطريق البحري إلى مصر، أصبح مقطوعًا بعدما نجح الفرس في التسلل من خلف ظهرينا، ضاربين بشروط الهدنة الأخيرة عرض الحائط.
قاربته شامة في حنوها مهدئة: التسلل … لعله المنفذ الوحيد الآن.
غمغم ذو اليزن: أجل.
أردف معدًّا العدة للرحيل والعودة — سرًّا — إلى مصر: مكاننا هناك مع الناس … الأهل!