سيف يتوغل في أصفهان
هكذا وقع خبر اجتياح أحد ملوك أو أمراء الفرس ويدعى «جهينة» ولقبه «الهدهاد» لمصر، على الملك التَّبْع سيف بن ذي يزن، صادمًا مفاجئًا له، بعدما توغل في أصفهان بجيشه العربي.
وفي مثل هذه الأمور والمعضلات المصيرية، لم يكن التَّبْع سيف اليزن يجد معينًا وناصحًا له، سوى زوجته «شامة» التي أشارت عليه بالعودة بحرًا إلى مصر عبر ساحل الشام مرورًا ببانياس، وذلك لمعاونة ابنها — دمر — في صد العدوان الفارسي.
حتى إذا مارست سفنهم ومراكبهم بميناء اللاذقية، استولت على الملك سيف من فوره أنباء المعارك الضارية التي يجريها الفرس في الشام وفلسطين وحتى دلتا مصر، بعدما سنحت لهم الفرصة في غيبته لدخول معظم «هذه الأمصار»، وتزايد تقديره لإحدى الأميرات العربيات التي أوقفت خسائر جسيمة ملفتة بحملة الفرس الغزاة الطامعين، واسمها «سعيدة بنت الملك الأحمر» في محاولة منها لعرقلة تقدمهم في غيبته.
حتى إذا ما أرسل الملك سيف برسله إلى بانياس للوقوف على أخبار ابنه دمر، وعادت الرسل بلا جواب شافٍ، مما أزعج أمه شامة، التي تملكها التساؤل المفزع عن مصير ولدها وما حل به صرخت في فزع.
– ابني … وحيدي … دمر.
إلا أن الأخبار المتضاربة التي وصلتهما من أفواه رسلهما أجمعت على انقطاع أخبار الأمير دمر، منذ خروجه بحملته وكتائبه مطاردًا الجيش الفارسي الغازي، فلم يعد يعلم أحد شيئًا عنه، وما إذا كان لا يزال حيًّا يرزق، أم أنه وقع أسيرًا بأيدي الفرس، بما يرجح قتله استنادًا إلى بعض المصادر.
هنا وقعت شامة — الأم — فريسة لمخاوفها وأحزانها على ابنها الوحيد، وما انتهى إليه مصيره الغامض وسط لهيب الحرب الهمجية المستعرة، التي أرادها الفرس هذه المرة أن تكون حاسمة محققة لأغراضهم في إعادة التسلط على جميع هذه البلاد والأقوام، توغلًا حتى داخل أفريقيا ذاتها، ولقد حاول الملك سيف تهدئة شامة وتبصيرها بالخطر المحدق بالجميع من جانب الفرس وعدوانهم قائلًا: فدمر مثله مثل كل أبنائي القتلى في الشام واليمن ومصر.
وهنا اقتادت المخاوف شامة إلى حد التشكيك في مقولة الملك ذاته مرددة لنفسها: كل أبنائي … القتلى»، إذن فهو قد قتل والملك يخفي عني مصيره!
ولم تهدأ مشاعر الأم شامة إلا عندما استحضر الملك سيف في حضرتها أخلص رسله وبصاصيه، وأرسل بهم إلى كل البقع والأماكن التي يجري على أرضها قتال ضد الفرس؛ لمعرفة مصير الأمير دمر — قبل أي شيء — والعودة بالخبر اليقين في أسرع وقت ممكن.
حتى إذا ما عادت وفود الرسل من جديد دون جواب أو معلومة عن مصيره، اختنقت شامة بدموعها.
– ولدي، لم أفرح بك كأي أم بوحيدها.
وما إن أشرفت سفن الملك سيف على ميناء دمياط وتسلل جنده إلى أرض مصر، حتى استحالت أحزان الأم شامة إلى بطولات لهجت بها الألسن، وهي تطارد بفيالقها — الأفريقية — فلول الفرس الغزاة باتجاه الصحراء، بينما تكفل الملك سيف بمنازلة ومطاردة جيش الهدهاد ذاته، إلى أن أوقع معظمه في أسره، وفر الباقون.
ودخل الملك سيف بجنده عاصمته — مصر — دخول الأبطال مخضبًا بالدم الأحمر النازف كالأرجوان، ولحقت به زوجته — المحاربة — شامة، ومن جديد أقيمت الأفراح وعلقت الزينات وصدحت الموسيقى بأغاني النصر والتحرير للملك التَّبْع العائد المنتصر.
أما شامة فما إن خلعت عنها عدة حربها، حتى تجددت على الفور أحزانها حول مصير ابنها دمر وأخباره التي ظلت كما هي غامضة متضاربة، وإن كان المرجح هو وقوعه — أي دمر — في أسر ذلك الملك الفارسي — الهدهاد — الذي عاد به مقيدًا إلى «ما وراء نهر بلخ» مما أوعز صدر الملك سيف، وأبدل أفراح النصر إلى أحزان، فلم يهدأ له بال، إلا وهو يعد العدة من جديد للعودة إلى مدنه السبع — أو المدائن — ببلاد الفرس للانطلاق منها ومواصلة القتال لتحرير ولده الأسير واستئصال الداء من جذوره على حد كبير.
وطالت حروب الملك سيف بتلك البلاد أو الآفاق، دون أن يشفي غليله بوضع يده على ابنه الأسير لبعث الطمأنينة في أمه شامة، التي أصيبت في سنواتها الأخيرة واتشحت بأردية الحزن السوداء، دون أن تكف لحظة عن مفارقة ملابس وممتلكات ولدها دمر، تشمها وتتحسسها باكية مولولة الليل بطوله.
– يا مين يعملني — يا دمر — في قبرك سحلية.
أمسح جبينك يا ولدي في كل صبحية.
حتى إذا ما شاهدها الملك في أحزانها تلك جاشت من جديد أحزانه ورغبته في الثأر والانتقام مطيلًا أمد الحرب، محاصرًا المدن الفارسية، لكن دون طائل.
وكان من عادات حرب الملك سيف، حينما يقرر لجيوشه اجتياح مدينة أو حصن أن يبعث كتيبة من جنده لتحرير ما تكتظ به سجونها ومنافيها من أسرى ومسلحين وقطاع طرق وخارجين على القانون.
فكان الملك يجمعهم ويخطب فيهم ويعيد تأهيلهم وتدريبهم على طرق وأساليب الحرب والقتال التي اشتهرت عنه، ثم يغدق عليهم العطاء ويلحقهم بجنده … قائلًا: أخلص أبنائي … الأشقياء، أما شامة فكانت بدورها تروح تتفرس وجوه أولئك الأسرى — والأشقياء — فلعلها تستطلع وجه ولدها — البكري — «دمر» بينهم، دون طائل.
– ولدي … وحيدي … أين؟!
إلى أن استسلمت في النهاية لعميق أحزانها فحلت عليها السقوم وضعف بصرها، ورغم ذلك ظلت تقاوم رغبة الملك سيف في ترحيلها عن مصر إلى بلادها ولو للراحة والعلاج.
ذلك أنها أصبحت أيضًا تكره الحرب وتوالي أنباء المعارك وسيول الدم النازف الذي تربت وشبت عليه.
– دم … دم … ولا مهرب من أكوام الجثث العفنة والمدن المشتعلة بالنيران والخراب، «لا مهرب أو مغيث في هذا العالم الوحشي المظلم.»
حتى إذا ما حاول الملك التحايل عليها بإبعادها عن ساحات المعارك، رفضت باكية معاودة ندبها ونحيبها وبكائياتها الذاتية: وولدي … أأترك ولدي؟ … حدقة عيني!
متشبثة باكية بأطراف أردية الملك سيف ذاته الذي يروح من فوره يحنو عليها محتضنها، محاولًا تبصيرها بقوانين تلك الغابة التي لا مكان فيها لكائن وادع أو مستسلم، فما أصدق التَّبَاعِنَة القائلين: أيها الرجال إنكم إن لم تحاربوا الناس حاربوكم … وإن تَسْبُوهم سَبَوْكم.
كان يضغط على رأسها بين ساعديه معيدًا إليها السكينة، مسرًّا بصوته الهادئ: ولعلك يا شامة، شهدت بنفسك أحداث حربين عدوانيتين على بلادنا؛ من جانب الأحباش مرة، ومن جانب أولئك الفرس الطغاة الطامعين ثانية.
وكثيرًا ما يصل الإجهاد بالملك سيف ذاته إلى حد تأمل كفي يديه في تساؤل كظيم: ماذا أفعل؟ دلوني!
عندئذٍ تتعرف شامة على ما يعتمل في أعماق الملك الذي كُتِبَ عليه القتال والمطاردة منذ صباه، بل طفولته اليتيمة في بلادها.
فتبادره مواصلة تصميمها: أبدًا لن أتخلى عنك هنا.
إلا أن المهام الجسيمة التي تطلبتها الحرب داخل بلاد الفرس، وفيما وراء نهر بلخ، دفعت بالملك سيف إلى التخلي عن شامة موكلًا حراستها والسهر على راحتها لأقرب مستشاريه وحراسه.
وكانت كلما تشعبت معارك وحروب الملك التَّبْع سيف بن ذي يزن، تدهورت أكثر فأكثر حالة شامة الصحية والعقلية معًا، مما كان يضاعف من أحزان الملك ومخاوفه عليها، وهو بعيد عنها منشغل بكامله في حروبه في بلاد الفرس التي كثيرًا ما تبدت له عاتية لا أول لها ولا نهاية.
– كمثل قدر أسود.
لذا رأى الملك أنه من الأسلم ترحيل شامة والعودة بها إلى ديار مصر، ما دام أن الفرقة بينه وبينها أصبحت واقعًا ماثلًا لا مهرب منه، إلى حد استحالة التخلي عن مهامه والعودة إلى زيارتها، ولو سرًّا وبشكل سريع خاطف.
حتى إذا ما شارفت جيوشه ذات مساء حدود أصفهان قرر تجميد حصاره والتسلل سرًّا إلى حيث توجد شامة — بالمدائن — فزارها ليلًا، وهي في فراشها مريضة تلهج باسم ابنها ومصيره الغامض.
– دمر … ولدي … قتلوه … أعلم لا تخفوا عني شيئًا … ولدي!
وهكذا لم يجد الملك سيف مفرًّا من ضرورة ترحيلها والعودة بها إلى مصر للراحة والعلاج.
فرتب بنفسه رحلة عودتها — البحرية — إلى مصر مشددًا على أقصى درجات الأمن المرافق لها؛ تخوفًا من اختطافها وهي على تلك الحال من الإعياء والهذيان والمرض، حتى إذا ما تحرك ركبها ودعها الملك سيف متذكرًا ما سبق أن أسدته تلك السيدة من بطولات أصبحت في عداد الخوارق، حفاظًا عليه من كل كبوة وواقعة، مغامرة ومضحية بأبيها ومملكتها وكل طاقتها من أجله، زافرًا وهو يودعها في أسى: حقًّا فمثلك نادر بين النساء يا شامة، تصحبك السلامة يا حبيبة القلب مدى الحياة.
وعاد متسائلًا إلى جبهة قتاله الضاري على تخوم أسوار أصفهان: ترى متى نلتقي ثانية؟
وجدت أحداث مغايرة من جانب ابن ملك أصفهان — بهرام — بعدما تشدد الملك سيف في حصار بلاده، فأرسل إليه الأول طالبًا الصلح والهدنة على ألا يعود عماله المعينون من قبله على أقاليم وكيانات بلاد الفرس إلى مهاجمة مصر مرة أخرى، ومهما تعددت الأسباب.
وطالت المراسلات والمفاوضات بين الملك سيف وابن الملك بهرام إلى أن تقبل الملك سيف شروط الهدنة، وعلى رأسها إطلاق سراح ابنه دمر الأسير.
حتى إذا ما تحقق اللقاء بينه وبين ابن ملك ملوك الفرس بهرام، أقسم له الأخير بشرفه ولحيته بعدم معرفته بمصير ابنه وما إذا كان مختطفًا أو مقتولًا، وأنه فعل المستحيل في هذا الصدد دون طائل.
ودخل الملك سيف بن ذي يزن، عاصمة بلاد الفرس — أصفهان — في ذلك الوقت، وكانت عروس مدن الشرق التي هبت عن بكرة أبيها لاستقباله، فقد سبقته شهرته التي عمت الآفاق.
وأقام بهرام حفلة كبيرة لتكريم بن ذو اليزن، قدم له فيها ابنته — مهردكار — وكانت بادرة الجمال متوقدة الذكاء، فلم يجد الملك سيف مهربًا من تقبلها كزوجة وفقًا للظروف والشروط التي كانت تملي الزواج السياسي، والذي كان من أهدافه، بناء جسور الثقة بين المتحاربين.
وجرت احتفالات الزواج، والملك سيف نهبًا لخواطره وأحزانه حول مصير ابنه دمر، وتلك الأمراض التي حلت بزوجته ورفيقة صباه وجهاده «شامة» نتيجة أحزانها الجارفة، وما انتهى إليه أمرها.
أما زوجته الجديدة — مهردكار — ابنة بهرام، فقد حاولت جاهدة منذ انتقالها إلى قصر الملك سيف، التقرب منه وملاطفته لإخراجه من أحزانه وهواجسه، دون أن تحقق ظفرًا يذكر برغم جمالها المتوقد الطاغي، وبرغم معرفتها الواسعة بتاريخ التَّبَاعِنَة، بل وبلغه العرب القدماء وأشعارهم ومآثرهم.
وكانت ثقافتها هذه نتيجة لدراستها — المنظمة — العليا للعربية وآدابها ولهجاتها، وخاصة اللغة السبئية، لغة حضرموت التي نشرها الملوك اليمنيون — المعروفون بالملوك السكاسك في الحبشة وغرب أفريقيا — وهي بذاتها اللغة أو اللهجة التي يمارسها نطقًا وكتابة الملك سيف.
فكانت مهردكار تبعث إليه بين وقت وآخر ببضعة أبيات من أشعارها أو كتاباتها وخواطرها مدونة باللغة السبئية ومزينة بالرسوم والأشكال والزخارف الفارسية — المنتور — لعل الملك يلاحظ ما بها من تأجج إليه.
إلا أن أحزان الملك سيف التي أغرقته من كل جانب نتيجة لما حل بابنه دمر من حبيبة صباه المبكر شامة، وما انتهى إليه أمرها، من تدهور سريع لصحتها الجسدية والعقلية، أنسته كل شيء، خاصة ما وصل إلى سمعه عن آخر أخبارها وهي تتنقل ما بين مصر وبلادها — أفراح — المتاخمة لحدود الحبشة … ثم بانياس، دون أن تغفل لحظة عن البحث عن ابنها المفقود — دمر — ومصيره ذاك المبهم الغامض:
أين … ولدي … أين؟
ولقد حاولت مهردكار بنفسها في أكثر من مساء مفاتحة الملك عن أحزانه تلك، في محاولة منها لاستشفاف مكنون أمره وأغواره الدفينة، وهل هذا الحزن الثقيل بسبب افتقاده لابنه، أم بسبب تدهور حالة زوجته — شامة — وما أصابها من خبل يصل إلى حد الجنون المطلق.
إلا أن الملك التَّبْع سيف كان يرمقها عبر صمته العميق وجرحه البليغ، مكتفيًا بالتحديق طويلًا في عينيها الباهرتين المشعتين بذكاء الشباب ونزقه وتوقده، ودون الإفصاح عن جواب شافٍ لتساؤلاتها وهي أرفع نساء الفرس شأنًا.
مما دفع بأبيها ذاته الذي أصبح فيما بعد — الكسرى بهرام — إلى استدعائها مساءً للزيارة وفاتحها في الأمر: ألم يعرك بعلك، ثم التَّبْع اهتمامًا يُذْكَر، بَعْدُ يا مهردكار؟
أشار إليها والدها بهرام، فتقدمت جاثية عند مخدعه، ثم أطبق بيديه الاثنتين على عنقها صارخًا: ما أنت سوى وصيفة.
ثم استطرد مهددًا متوعدًا: سألقي بهذا العنق الأرقط إلى النيران … إلى النيران … هل تسمعين؟!