التَّبْع حسان يفني قوم زرقاء اليمامة
دوت طبول «الرجروج» العملاقة التي كان يشارك في قرعها ثمانية من الرجال الأشداء.
احتفالًا بذلك الحدث الكبير الجلل، وهو جلوس الملك حسان اليماني على عرش التَّبَاعِنَة.
وسرى الخبر أول الأمر من جبل ضهر المتاخم لصنعاء، ومنه إلى بقية بقاع حِمْيَر، في عدن وحضرموت وسبأ وذي الرمحين وصرواح وإرم ذات العماد.
– الآن أصبح حسان اليماني حقًّا، تَبْع حِمْيَر المهاب، ارتفعت الرايات والبيارق والزينات، وامتدت حلقات الرقص والسَّمَر، ونُحِرَت الذبائح من نوق وجِمال وماعز.
كل ذلك كان يحدث مدويًا في أذني التَّبْع الجديد حسان كعويل، وليس أبدًا إيذانًا واحتفالًا باعتلائه عرش «التَّبَاعِنَة» العظام.
فلم يكن قد أفاق بعد من هول أحزانه الدفينة التي تزايدت منذ إقدامه على قتل أخيه الوحيد المريض «عمرو» في فراشه، وعلى مشهد من زوجته وطفله الوحيد «ذو اليزن» يبكي في حرقة على صدرها.
– «أأقتل أخي عمرو، بيدي هاتين؟»
ظل التَّبْع الجديد لأيام لا يذوق للنوم طعمًا، بل حاول جاهدًا ألا يمس بيديه الاثنتين، الملوثتين بدم الشقيق، أي شيء.
ورفض استقبال أي من المقربين منه فيما عدا ابنته «تدمر» التي حاولت بكل ما أوتيت من حكمة ورجاحة عقل التخفيف عن والدها، مدعية أن لا دخل له يذكر فيما حدث، بل إن عمها الراحل الحبيب «عمرو» كان من جانبه يسعى إلى الموت سعيًا، شأن كل الضحايا والقتلى.
وراحت «تدمر» تلثم في حنان كفي والدها طريح الفراش — حسان — وساعديه في حنو، وهي تدرك ببصيرتها الصائبة ما أصبح يعانيه من فعلته الشنعاء التي شارك الجميع في دفعه إليها دفعًا.
– أخي عمرو ماذا بقي لي؟
بل إن الأميرة تدمر، شاركت والدها مقاطعة كل ما يحدث من احتفالات تنصيبه، وتوافدت الوفود ما بين ملوك وأمراء وشيوخ قبائل وفرسان من كل صوب وحدب باتجاه قصر الملك التَّبْع حسان إلا أنه رفض استقبال الجميع.
وزين قصر عمته البسوس بالزينات البهيجة، وعزفت الموسيقى داخل ردهاته وعمت الأفراح كل كيانات حِمْيَر في اليمن والجنوب العربي وشواطئ بحاره الجنوبية ابتهاجًا باليوم المنشود الذي لا بد، وأن ينعم فيه الجميع بدفء الأمان المعزز دومًا بسطوة «التَّبَاعِنَة» وملوكها منذ شداد بن عاد الكبير.
ومن هنا تجددت التحالفات، وبدأ فرسان القبائل يأخذون طريقهم إلى الميادين لمواصلة تمارينهم استعدادًا لإعادة انتصاب الرايات التي نكست طويلًا، منذ موت التَّبْع أسعد وتنفيذ ابنه ووريثه حسان لوصيته — المفزعة — أيًّا كانت، حتى وإن تمثلت في قتله لأخيه الأصغر عمرو الحبيب.
فالآن فقط يمكن لحِمْيَر أن تسلم قيادها للتَّبْع الجديد المتجبر القاسي القلب، يقودها إلى حيث يشاء دون كثير عناء.
أما عن حال التَّبْع الجديد «حسان» فقد لازمته الأحزان القاتمة التي وصلت إلى أعمق أعماقه عقب إقدامه على قتل أخيه الأصغر — الوحيد — عمرو، وهو راقد على فراش المرض، بخنجره المسموم، وذلك بقطع رأسه من الوريد إلى الوريد، ووضعها على «طست» من الذهب مغطى بالرماد، مثلما فعل أبوه — أسعد — مع رءوس أبنائه الأربعة يبكيه أحر البكاء كلما عم المساء.
– ألا سحقًا ليوم يأكل فيه بعضي بعضًا، أيها الحبيب عمرو.
وهكذا فرض الملك حسان حصارًا صارمًا حول نفسه في عزلته داخل قصره الحصين فلم يعد يكلم أحدًا، حتى ابنته تدمر التي هي أقرب إليه من نفسه ذاتها.
حتى إنه لم يسمح لوفد من آلاف الوفود التي سعت إليه لتقديم الهدايا وفروض الطاعة بمقابلته، مشيعًا أنه مريض ملازم لفراشه حسب مشورة الأطباء.
إلا أن الوحدة الصارمة التي فرضها على نفسه، كانت قد أحدثت مفعولها من حيث التحولات التي حدثت داخله، ليخرج بعدها على شعبه وقبائله، حسانًا آخر جديدًا، عابس الوجه ضائقًا مستهدفًا للبطش، أينما ساقته إليه قدماه.
وهكذا بدأ أولى خطواته الانتقامية بقتل جميع من أشاروا عليه بتنفيذ تلك الوصية المشئومة بقتل شقيقه عمرو.
فلم يستثن منهم واحدًا، مهما تعاظمت درجة صداقته وقرابته منه.
كان يبعث إلى الواحد منهم بسيَّافه طالبًا مقابلته، وقبل أن تعبر قدماه عتبة الديوان الثالث داخل مقر الحاكم يكون قد قضى نحبه.
وكان هذا سببًا رئيسيًّا في تزايد بطشه وهيبته التي أصبح يحسب لها كبراء حِمْيَر قبل صغارهم كل حساب.
وكانت أخبار بطشه بأقرب مقرَّبيه، تصل مسامع عمته البسوس أولًا من عيونها المنبثة عليه حتى داخل قصره ومضجعه، فيصل بها الانتشاء أقصى مداه!
– ها هو رأس حِمْيَر الحقيقي شديد البأس.
بل لكم تمنت البسوس أن يزداد انتقام ابن أخيها التَّبْع حسان أكثر فأكثر، حتى ولو أصابها هي ذاتها الدور، إلا أنها أكدت وصيتها لمقربيها وهي الحفاظ على ذلك الوليد الصغير الذي لا يزال بَعْدُ رضيعًا — ذو اليزن — ابن الأمير — الضحية عمرو، والتي كانت البسوس قد انتزعته انتزاعًا من صدر أمه، قبل أن تعود إلى قبائلها بوادي الحجاز باكية فجيعتها في افتقاد كل من الزوج والابن.
وهكذا عكفت البسوس على تنشئة الرضيع ذو اليزن في كنفها مولية له رعايتها القصوى، بعيدًا عن العيون، وبخاصة عيني — عمه — التَّبْع حسان، وبعدما اعتراه من تحولات ورغبة جامحة في الارتواء بالدم المراق، نازعًا عنه كل بادرة لرحمة، حتى قيل عنه إنه أصبح لا يرحم حتى نفسه ذاتها.
– هكذا تريدونني!
فلقد كان دائم السخرية المريرة لنفسه.
– كل ما أبتغيه هو أن أحوز طاعتكم قبل إعجابكم، فهكذا أرادت حِمْيَر بي المسير. وشيئًا فشيئًا تخلى التَّبْع حسان اليماني عن عزلته واصطفائه لنفسه فقط يحادثها مناجيًا بلا عون أو صديق.
فخرج على قومه أكثر صلفًا وتجبرًا، وبدأ بإعطاء القسط الأكبر من جهده لإعادة تنظيم ورص صفوف قوات جيشه التي أوهنتها وأودت بمعظم فيالقه الحروب الطويلة المضنية التي خاضها والده — التَّبْع أسعد — في أواسط آسيا والشرق الأوسط.
واتخذ لنفسه وزيرًا حكيمًا يدعى «حنظلة» أجمعت مشورة الجميع، وأولهم ابنته ومكمن سره «تدمر» عليه.
وكان ذلك الوزير الحكيم «حنظلة» على معرفة واسعة بقبائل وعشائر اليمن والجنوب العربي، وتحالفاتها العلنية والسرية، كما كان حنظلة على معرفة بالقبائل والأقوام المجاورة والمتاخمة — لحِمْيَر — وما تطمح إليه في إضعاف الحِمْيَريين وتفكك تحالفاتهم بانتظار اليوم الموعود للوثوب عليهم، وخاصة عقب كارثة إحباط جيوشها التي قادها التَّبْع أسعد حين أوصله طموحه إلى «نطح» أسوار الصين ذاتها.
– «قد دعتني نفسي أن أنطح الصين.»
ثم ما انتهت إليه تلك الغزوة المغامرة التي تسبب فيها ذلك — الدليل — الآسيوي الخائن الذي أسلم له الملك أسعد مشورته وقياده، فأفقده اتجاهه إلى حد التيه الكامل هو وجيشه في غياهب تلك البلاد والوهاد لسنوات ثم اتخاذ قرار العودة إلى جزيرة العرب في غفلة منه.
وانتهت تلك الحملة بانتقام التَّبْع أسعد من دليله وحليفه الخائن بقطع لسانه والمرض كمدًا حتى الموت.
وهكذا مضى ذلك الوزير حنظلة، يسوق للتبع حسان ما يستجد من أخبار القبائل والأقوام الطامعة، متعرفًا على مكامن ضعفه باستثارة التحديات.
إلى أن نجح أخيرًا في إقناعه بالتخلي عن عزلته ودفائن أحزانه والاستبصار بالأخطار المحيطة والمحدقة بأمن حِمْيَر، وأهمها تلك القوة الضاربة التي بدأت تدب بين قبائل «جديس» وهم من العرب البائدة وأميرتهم الحكيمة عميقة البصيرة «زرقاء اليمامة».
وكيف أن قبائل جديس نجحت أخيرًا عقب حروبها الطويلة مع قبائل «طسم» في إحداث النصر الساحق لجديس إلى حد فنائها لقبائل «طسم» وتشتيت فلولهم على طول جزيرة العرب شرقًا وغربًا حتى قيل فيهم: «لعبت بهم أيدي جديس»، وكانت زرقاء اليمامة أكثر استبصارًا بالخطر ومدى استفحاله منذ المهد.
كانت على الدوام مدركة خطر حِمْيَر وتبعها الجديد «الفتى» الذي لم يكن يرغب أبدًا أول الأمر أن تعلو هامته سواء داخل أقوام وكيانات جزيرة العرب، أو فيما يتاخمها من أقوام في الشام وما بين الرافدين وأفريقيا.
وكانت زرقاء اليمامة — وكما تروي سيرتها — لا تنام الليل، منذ أن علمت ووصل أسماعها أخبار اندحار الحِمْيَريين وتقهقرهم من أقاصي آسيا، بعدما حدث من خداع لملكهم التَّبْع أسعد.
وكانت على دراية بأن ما حدث لحِمْيَر، ليس أكثر من كبوة أو عثرة طريق، تمهيدًا لإعادة جمع الشمل والالتئام توثبًا لإعادة التطاول ومواصلة الغزو والتفوق واستهداف الحروب الدموية، التي لا بد وأن تسحق يومًا أول ما تسحق عشائرها وبني جلدتها، خاصة وأن «جديس» وبعد امتصاصها لطاقات مناوئتها «طسم» أصبحت الآن تشكل قوة فتية ضاربة على طول جزيرة العرب بشقيها الشمالي والجنوبي.
فها هي مدينة اليمامة الآن عامرة مزدهرة، ملء السمع والبصر.
ومن هنا فلن يهدأ للحِمْيَريين وملكهم الجديد حسان بن أسعد بال، قبل أن تطأ جيوشهم الجرارة أرض جديس، لا سيما وأنها عادت محملة بكل جديد من حروبها الآسيوية، التي لم تطحنها، بقدر ما أعادت فتح شهيتها من جديد للفتح والدم المراق.
ولكم نبهت زرقاء اليمامة الأذهان والعقول لما يحدث ويجري من حولهم، مطالبة بعدم انتكاس السلاح والخلود إلى لذائذ غنائم حربهم مع طسم التي انتهت باستئصالها من الوجود.
– فعجلة حِمْيَر لن ترحم، وهذا قدرنا.
لكن من يسمع ويرى، والجميع تأخذهم نشوة النصر المعجل الساحق في جديس.
من يمكن له أن يصدق يومًا، بل لحظة انتكاس الرايات الخفاقة داخل مدينة اليمامة إثر النصر الساحق على جديس.
والصوت الوحيد المحذر لزرقاء اليمامة، يجيئهم بلا صدى مبنيًّا في اعتقادهم على مجرد دلائل وظواهر لا أساس لها من جانب حِمْيَر وتَبْعها الجديد حسان، وهو الذي لم يفق بعد من ضربات الآسيويين، التي أودت بأمرائهم وفيالقهم.
لكن من يسمع ويرى؟!
ذلك الذي يدبره الحِمْيَريون وملكهم، حسان لهم في الخفاء من اجتياح وعدوان، وهو ما حدث بالفعل من جانب التَّبْع حسان الذي بدأ في أيامه الأخيرة صحوته وعيناه الاثنتان تحطان على جديس وعاصمتها اليمامة التي أصبحت مضرب الأمثال بين العرب؛ نظرًا إلى ما تتمتع به من ثراء وسطوة.
لذا آثر التَّبْع حسان اليماني ووزيره الأول المقرب «حنظلة» اللجوء إلى الحيلة، وهما يعدان العدة لاجتياح اليمامة عاصمة جديس، خاصة وأن قبائل حِمْيَر بجيشها لم تفرغ بعدُ من استكمال استعداداتها وتوحدها لاستئناف القتال، بعد الخسائر التي كانت منيت بها في حروب الآسيويين.
وخاصة أكثر أن هذه الغزوة المقبلة تجيء كأولى غزوات «حسان» كحاكم جديد لحِمْيَر وتوابعها، ومن الأسلم أن تجيء وما يترتب عنها وعليها، بأقل الخسائر الممكنة.
لذا فمن الأرجح في مثل هذه الحالة، مهادنة «جديس» وحاكمتها الزرقاء وإخفاء نوايا العدوان، الذي آثر التَّبْع حسان أن يجري ليلًا، وبطريقة مفاجئة لا تسمح للعدو لشحذ قواته وكتائبه، خاصة وأنها — أي قبائل جديس — لا تزال تشرع أشرعتها، عقب الانتصار الساحق على مناوئيهم من قبائل طسم.
وهكذا أجرى الإعداد للعدوان سرًّا، مصحوبًا بالنوايا الحسنة المعلنة لسكان اليمامة وأميرتها الزرقاء، وهو ما أدركته زرقاء اليمامة ببصيرتها النافذة.
فما من رسالة — معسولة — أصبحت تتلقاها من حكام حِمْيَر، إلا وأثارت سخطها وطاقتها في استنهاض الهمم، بإزاء الخطر المرتقب القادم، الذي أصبح يطرق كل بيت وخباء ومضرب في جديس، لكن من دون طائل يرجى.
– خذوا حذركم الليلة قبل الغد.
ولا من مجيب أو سميع يرجى.
ذلك أن جيوش الملك حسان وإمعانًا في السرية والمفاجأة، منعت قرع طبول «الرجروج» التي غالبًا ما كانت تسبق زحفها.
بل هي اقتلعت خلال زحفها ليلًا أشجار غابة بكاملها بحيث تستر الجيش الزاحف تحت فروعها وهو يواصل تقدمه في بطء شديد دون أدنى جلبة.
حتى إذا ما شاهدت زرقاء اليمامة خدعة الجيش المدجج الزاحف، أهابت بقومها صارخة معتلية أعلى قلاعها: يا جديس، يا قوم! لقد سارت إليكم الشجر، وأتتكم حِمْيَر!
لكن صرخات زرقاء اليمامة المحذرة جاءت متأخرة جدًّا، وبعد فوات الأوان.
ويقال إن حسان اليماني أذل جديس حتى العظم إلى أن أفناها عن الوجود، وضاعت سدًى تحذيرات زرقاء اليمامة لسنوات ويقظتها في التنبيه بالخطر الجاثم المهدد لقومها ومدينتها، منذ أن استقام من جديد عرش «تباعنة» اليمن، عقب الموت الكمدي المفاجئ للتَّبْع أسعد اليماني، وتولي ابنه الأكبر حسان مكانه.
لكن من كان يسمع ويعي، والجميع في اليمامة قد أعماهم النصر السابق المعجل على بقية مناوئيهم من قبائل طسم إلى أن حلت الكارثة ووقع ما كانت تحذر منه زرقاء اليمامة.