الهجوم الليلي والتخفي بأغصان الأشجار
على ذلك النحو المتآمر الفادح، جاء اجتياح التَّبْع اليمني «ميت القلب والحواس» حسان بن أسعد لقبائل «جديس» سكان اليمامة، سهلًا ميسرًا كمثل نصل سكين يقطع زبدًا.
فمع الهزيع الأخير من الليل المظلم الدامس وبعده قام جيشه بالتخفي من الرأس حتى أخمص القدم بأفرع الأشجار وغصونها من دون بذل أي محاولة لقرع الطبول أو إحداث أية جلبة، وبالصمت الرهيب الذي كان يلف المكان، أطبق حسان على الجديسيين من العرب العاربة وهم داخل مضاجعهم ليطحنهم جيشه الزاحف كمثل غابات وحشية مطبقة من كل صوب وحدب على الأسوار والبوابات والدور والمضارب، وسيوف جند الملك حسان تعمل في الرقاب النائمة، مشعلين النيران والحرائق أينما حلوا.
بل إن التَّبْع حسان وجنده، تعمدوا استدراج كلاب قبائل جديس بالاحتيال عليها فرموا اللحم المسموم لها، حالما قاربوا مضارب أعدائهم وفرائسهم ليلًا؛ مما ساعدهم على اقتناص النصر بأقل الخسائر.
ومن هنا كانت الفاجعة التي حلت بقبائل جديس، ليُذبحوا رجالًا ونساءً وأطفالًا داخل مضاجعهم ليلًا غيلة على ذلك النحو الغادر من جانب ذلك الملك المتجبر وجيشه الزاحف الذي طحنهم طحنًا على مرأًى من أميرتهم «زرقاء اليمامة» التي أعيتها كل حيلة في تبصيرهم، فلعلها الوحيدة التي اعتلت رأس فرسانها وحرسها الخاص، وتصدت للحرب والقتال من جهة، ومن جهة أخرى صارخة في بقية رجال جديس ومحاربيها النائمين والغافلين: يا جديس، يا قوم! لقد سارت إليكم الشجر، وأتتكم حِمْيَر.
لكن من يمكن له أن يسمع ويعي في تلك الساعات السابقة على انبلاج النهار، وقد نفذت أسهم الحِمْيَريين، وعملت سيوفهم في رقابهم، عبر تلك المذبحة الليلية التي عمت، كالطاعون، ساحات مدينة اليمامة وباحاتها ومضاربها ومنازلها وخيامها دون رحمة أو شفقة.
ورغم كل محاولات زرقاء اليمامة وثلة لا تذكر من فرسانها ووصيفاتها من النساء، في التصدي والمقاومة لجيش الملك حسان العارم، إلا أن الهزيمة كانت من نصيبهم.
فماذا تجدي مجرد كتيبة في مواجهة جيش غازٍ متكامل البنيان؟
إلا أن مقاومة زرقاء اليمامة ورجالها أفزعت التَّبْع حسان ذاته في تلك الليلة الحالكة الظلمة، لدرجة دفعت به إلى البحث بنفسه عن مصدر تلك المقاومة الخطرة، برغم كل ما اتخذه من احتياطات سرية، إلى أن تصدى لها بنفسه وصولًا إلى أن أوقعها جريحة تنزف وهي لا تزال تقذفه بأشنع سبابها، تحت سنابك خيله المدججة.
ولكم كانت دهشة الملك الغازي حسان اليماني الكبرى وهو يرنو إليها من أعلى هامة جواده، ليتعرف عليها في لباس الحرب.
– امرأة؟!
– أجل امرأة، أيها المتآمر، المدجج بالليل والأشجار.
ضحك التَّبْع حسان طويلًا، إلى أن استلقى على قفاه.
– لم أضحك منذ زمن!
– غدًا تُضْحِكك الأيامُ والليالي أكثر فأكثر يا حسان.
وحين حاول جنوده الاعتداء على زرقاء اليمامة والإجهاز عليها منعهم بنفسه: دعوها فهي حليلتي!
فما كان من زرقاء اليمامة إلا أن زحفت إلى أن قاربته، بعد أن راقت في عينيه نظرًا إلى جمالها الباهر وذكائها المتوقد، وذلك التحدي البديع الذي يغطي ملامحها وخلجاتها.
حتى إذا ما حاول التقرب منها، طعنته بخنجرها إلى حد جرحه ونزف دمه.
عندئذٍ عملت سيوف حرسه وفرسانه في جسدها إلى أن قضت الزرقاء نحبها على تراب مدينتها اليمامة ترويه بدمها.
وجاء انتصار حسان اليماني الساحق على اليمامة المطلي بالخديعة والغدر، وبالتالي كسر شوكة «جديس» على طول جزيرة العرب، مجرد فاتحة طريق لشهيته المتعطشة للدماء والتفوق على الآخرين، ومن ثم الحفاظ على سلطة أسلافه «التَّبَاعِنَة».
فاجتاح نجران ودان له بحر العرب والعجم، وأفنى أقوامًا وقبائل من العرب، التي عُرِفَت فيما بعد بالبائدة، وكانوا اثنتي عشرة قبيلة وكيانًا منهم جديس، وجُرهم والعماليق ورائش وبقايا فلول طسم.
ولم يكتفِ بهذا، بل تطلعت أنظاره الشرهة التي لا تعرف الاكتفاء إلى مواطن الزرع والضرع أو أرض «اللبن والعسل» في الشام وفلسطين، حرصًا منه على الإبقاء على رايات السبئيين، ومن انحدر من نسلهم من «التَّبَاعِنَة» ملوك حِمْيَر وكهلان، الخفاقة مشرعة خفاقة.
فمن نسل حِمْيَر جاء ملوك بني قضاعة والكلابيين، أما من الشق الثاني للتحالف؛ أي كهلان، فقد انحدرت سبع بطون، تضخموا إلى قبائل وأقوام، وهم: طيء ومذحج، وهمدان، وكِندة، ومراد، وأنمار، والأزد.
ومن الأزد انحدر فيما بعد الغساسنة — ملوك الشام — عقب خراب سد مأرب، كما انحدرت منهم قبيلتا: الأوس والخزرج ملوك يثرب — أو المدينة المنورة — كذلك انحدرت قبائل خزاعة، سدنة أو «كهنة» الكعبة فيما قبل الإسلام.
فمن الأسلم التعرف على تلك البنية القبائلية القرابية التي انتظمت تحت رايات ذلك التَّبْع الغازي حسان اليماني، قبل إقدامه على نقل حروبه وفتوحاته خارج جزيرة العرب في الشام وفلسطين وأفريقيا التي ستكون من نصيب ذو اليزن الذي رأى مصرع أبيه وشهده بعينيه منذ أن كان رضيعًا بين أحضان أمه، مصرع والده «عمرو»، حين جثا على أنفاسه أخوه الأكبر التَّبْع حسان، لائمًا محتضنًا في البداية، إلى أن استل خنجره من غمده وذبحه من الوريد إلى الوريد، وبعدها انقاد الملك التَّبْع حسان لذلك الجنون الغاضب، فمضى يمزق ملابسه (الملكية) ويهتك عرشه — أي عرش التَّبَاعِنَة — بعدما امتدت يد الغدر والاغتيال لرقبة أخيه الوحيد المقرب «عمرو».
ذلك أن الملك حسان، وبعد أن انتظمت تحت راياته معظم تلك القبائل والأقوام بدأ يشاور وزيره الحكيم «حنظلة» سائلًا، بعد أن رضيت عنه حِمْيَر واعتلى عرش «التَّبَاعِنَة» كاملًا ودانت له أقوام وكيانات الجزيرة العربية: هل هناك أعظم مني في الأرض؟
فأجابه وزيره حنظلة متحرجًا: يوجد خارج البحار عرب من أهل الشجاعة، يقال لهم «بنو قيس» أو القيسيون، وهم من بنى مضر.
فاستشاط الملك حسان هائجًا قائمًا عن عرشه ثائرًا في وجه وزيره المنكمش الذي تراجع منزعجًا من صراحته للتبع حسان، وهو الذي لم يضلله يومًا مخادعًا، استرضاءً لمروءته: عفوًا يا مليكي، إنها الحقيقة ليس إلا.
أعاد حسان صراخه المدوي في ردهات قصره، معترضًا على ما تجرأ وزيره على البوح به في مجلسه: أتقول الحقيقة؟
لحظتها لاذ الوزير العجوز بالصمت، بينما اندفع الملك حسان مقررًا الحرب والخروج إلى ما وراء البحار؛ منشدًا:
وحين حاول حنظلة الانسحاب استوقفه؛ ليطرح عليه مدى أخطار ما هو مقبل عليه في تلك الحملة؛ ذلك أن التغلبيين من بني ربيعة سكان تلك البلاد، وكذلك أبناء عمومتهم «بني مرة» الذين عُرفوا بالبكريين، ما هم سوى شعوب بحرية، ولن يتم الوصول إليهم إلا عن طريق البحر وهم سادته منذ أقدم العصور.
ومرة أخرى استشاط التَّبْع حسان غضبًا في وزيره المعارض لرغباته وطموحاته على ذلك النحو الصادم المحبط.
فما كان من الوزير حنظلة، إلا أن شرح له أمر أولئك الأقوام، ومدى وعورة الطريق إليهم، وهم الذين جابوا ربوع العالم القديم ببحاره ومحيطاته شرقًا وغربًا، بسبب تجارتهم الواسعة وعمق معرفتهم بالبحر وأغواره.
وواصل الوزير العليم إخبار التَّبْع بكل ما يعرفه ووصل إلى علمه عن «سكان الثغور» ومدى تفوقهم واتساع علمهم بكل صغيرة وكبيرة مجالها البحر وأخطاره.
يضاف إلى ذلك قدرة تلك الشعوب من «تغلبيين وموارنة» على القيام بالخدع والحيل، التي أكسبتهم من قبلُ النصر على كل طامع في بلادهم وثرواتهم.
وفي النهاية تفهم الملك حسان مغزى حديث وزيره حنظلة، وهو أهمية الإعداد البحري لتلك الحملة التي سيسيرها إلى الشام وفلسطين لحصارهما، بالإضافة إلى حاجته الملحة والضرورية في الاستزادة بالمعرفة اليقينية لظروف وطباع ومدى بأس تلك الأقوام التي هو مقبل على غزوها.
وأبقى الوزير الحكيم حنظلة على تحذيره من ذلك الخطأ الجسيم، وذلك في الإقدام على غزو أقوام ومحاربتهم لا تكتمل معرفته بها، كما حدث في حروب الآسيويين على مشارف الصين، ومدى ما تكبده الجيش اليمني من إحباط وخسائر.
وبهذا القول الحصيف تمكن الوزير من كبح جماح رغبات التَّبْع حسان وطموحاته وحتى «لا تقع الفأس في الرأس» كما حدث في السابق.
ومن هنا أرسل حسان برسله إلى تلك البلاد ليأتوه بأخبارها ودقائق مسالكها وحكامها.
كما أمر التَّبْع حسان من فوره بالانكباب على تجهيز السفن والمراكب البحرية التي ستحمله وجنوده وعتاده، إلى ربوع الشام ولبنان وفلسطين، حتى إذا ما استكمل بناء السفن والمراكب، وعاد رسل الملك محملين بالأخبار والمعلومات عن كل صغيرة وكبيرة في ربوع الشام وفلسطين، وأرسل الملك حسان بنفسه إلى ابن أخته — الملك الرعيني — المعين من قِبله على الحبشة والسودان، يخبره بأهمية تجهيز المؤن والرجال لإمداد حملته في الشام وفلسطين، وبعد ذلك أصبح الطريق مفتوحًا أمام الملك للخروج بحملته، بعد أن استقر رأيه الذي رجحته عمته البسوس، بتعيين ابنه الأكبر — الصحصاح بن حسان — ليخلفه مكانه على حكم حِمْيَر، في غيابه.
وانشغلت البسوس بتعليمه وتلقينه نصائحها وتعاليمها بما يسهل عليه ملء فراغ أبيه في غيبته.
وكانت البسوس قد أولت كل رعايتها لابن ابن أخيها الأمير عمرو المقتول وهو ذو اليزن الصغير.