حصار الشام وفلسطين
وما إن انتهى التَّبْع الغازي حسان اليماني من إعداد سفنه ومراكبه التي وصل عددها إلى بضع مئات لنقل جنوده وكتائبه المحاربة لمحاصرة مدن الشام وفلسطين، حتى تفرغ بمساعدة عمته «الأميرة البسوس» لتنصيب ابنه «الصحصاح» ليخلفه على حكم اليمن وبقية أقوام الجزيرة العربية التي تم له فتحها بحد السيف والخداع.
وهكذا تم إعداد الحملة، وإرسال الرسل إلى حلفاء الملك حسان وولاته في: «السودان والحبشة والصومال» خاصة — ابن أخته — الملك الرعيني، الذي سبق أن نصبه والده — تبع أسعد — لحكم هذه البلاد، قبل إقدامه على حروبه في ربوع آسيا الوسطى والشرق الأقصى وخيانة دليله وحليفه الآسيوي الذي كاد يودي به وبجيشه، فطالب التَّبْع حسان واليه الرعيني بإمداد الجيش بالمؤن والرجال؛ حيث إنه في طريقه إلى بلاد الشام لفتحها.
وفي البداية حاول الرعيني من جانبه إحاطته علمًا بمدى ما تنطوي عليه هذه المخاطرة الكبرى، خاصة وهي تجيء في أعقاب الهزيمة التي سبق أن مُنِيَ بها جيش والده في ربوع الصين، «ودماء قتلانا لم تجف بعد» إلا أن تشدد التَّبْع حسان في مطالبه للرعيني دفعت بالأخير إلى تلبيتها كاملة غير منقوصة.
وهكذا توافدت وحدات وكتائب المحاربين الأفارقة من سودانيين وأحباش وصوماليين على مقر الملك حسان، بعتادها ومؤنها وأسلحتها، مما عضد من عزم التَّبْع حسان، فأمر من فوره كبار قواده باستقبالهم وتهيئة مضاربهم، وإعادة تدريبهم خاصة على أساليب الحرب والحصار البحري الذي هم مقبلون عليه، في ربوع الشام وبلاد «السرو وعبادة» بوادي الأردن وفلسطين.
ومن جديد أقيمت المضارب والثكنات لإيواء القبائل المحاربة المتدفقة والقادمة من حول مأرب.
واستشار التَّبْع حسان وزيره الأول «حنظلة» في مسألة الاستعداد للرحيل البحري، عبر أقصر الطرق والمسالك التي ستقوده وجيشه بصورة آمنة إلى المناطق المطلوب فتحها في الشام وفلسطين، وبأقل خسائر ممكنة، اعتمادًا على عنصري المباغتة والحركة.
ورغم توجس الوزير الحكيم من الإقدام على تلك الحرب، وما تنطوي عليه مغامرتها، إلا أنه آثر — هذه المرة — التكتم الحذر على مشاعره ووجهة نظره حيال إصرار التَّبْع وطموحاته التي لا تنتهي، خاصة وأنه ليس هناك من أسباب حقيقية تدفع إلى اندلاع مثل هذه الحرب — عبر البحار — التي عادة ما تحمل في طياتها الكثير من الأخطار التي لا طاقة لأحد على تحملها.
ولكم حاول الوزير المستشار التوسل بالعقلاء المقربين من الملك حسان لإثنائه عن غرضه، فلم يجرؤ أحد منهم على إعلان رأيه الصريح، مقدمًا مصلحة «حِمْيَر» على أطماع الملك التَّبْع الشخصية وشهوته الجارفة للتسلط.
فحتى عندما أفضى الوزير حنظلة بدفائن مشاعره حول تلك الحملة — المغامرة — للبسوس، عمة التَّبْع حسان، التي لها الكلمة العليا في مثل هذه الأحداث الجليلة من هجرة وحرب، آثرت الصمت بدلًا من الاعتراض أو مجرد التروي وإعادة تدارس الأمر؛ قائلة: أصبح الأمر متأخرًا جدًّا، بعدما عزم التَّبْع على المسير، وبعدما جهز كل شيء.
غمغم الوزير متوجسًا: على هذا النحو يجيء مصير حِمْيَر وأرواح رجالها وأقدارنا جميعًا.
قالت: لعلك الأقدر من غيرك على معرفة معاندة التَّبْع حسان وتصلبه.
عندئذٍ تنهد الوزير الأول: إذن ليكن ما يكون.
حتى إذا ما دقت طبول الحرب واعتلى الملك حسان اليماني سفينة المقدمة، مودعًا الجماهير الغفيرة التي لا يحدها بصر، انطلقت السفن باتجاه ساحل الشام وفلسطين بغرض فرض الحصار البحري وإعلان الحرب على التغلبيين من بني ربيعة وبني مرة.
قال الراوي: وكان ربيعة — أي أمير بني ربيعة — في ذلك الزمان من كبار أمراء العربان، وكان أخوه «مرة» — انتسابًا إلى بني مرة أو الموارنة — من الأمراء والأعيان.
«وكانت منازلهم في أطراف بلاد الشام، وكانا — أي ربيعة ومرة — يحكمان قبيلتين من العرب هما بكر وتغلب، وقد ولد لربيعة خمسة أولاد مثل الأقمار، وهم: كُلَيْب الأسد الكرار، وسالم البطل الشهير الملقب بالزير، وعدي ودرعان وغيرهم من الشجعان.»
وأما أخوه الأمير «مرة» فله بدوره عدة أبناء شجعان، منهم: همام وسلطان وجساس، وبنت نبيلة جميلة يقال لها «الجليلة».
وعلى عادة ما هو متبع بالنسبة إلى التزاوج القبائلي — وبالتالي السياسي — المتبادل بين القبائل المتحالفة وأبناء العمومة، فقد تزوج الأمير همام بن مرة ﺑ «الضباع» من بني تغلب.
وأحب كُلَيْب الجليلة بنت مرة، وكان يجري التجهيز لزواجهما، بعد أن فاتح والده — ربيعة — والدها — أي والد الجليلة — الأمير مرة في أمر زواجهما، حين انتقل إليه من فلسطين ووادي الأردن، إلى بيروت والبقاع.
فما كان من «الأمير مرة» إلا مباركة الأمر سوى أنه لزم الصمت مفكرًا في كيفية حمل الخبر إلى ابنته — الجليلة — وإقناعها.
فهو يعرف عن ابنته الكبرى الجليلة، مدى صلابة شخصيتها ودقة اختيارها لمصيرها خاصة إذا ما كان الأمر متصلًا بما يهفو إليه قلبها من حب وزواج.
حتى إذا ما أقدم على مفاتحتها، رحبت من كل قلبها بالزواج من الأمير كُلَيْب بن ربيعة محتضنة والدها في حنو بالغ. إلى أن فوجئ الجميع بذلك الخبر الدامي المفزع الذي روعت له بلاد الشام وفلسطين، وهو اقتراب الحشود البحرية التابعة للملك التَّبْع حسان اليماني الذي يعمل تحت إمرته عشرة من ملوك جزيرة العرب الأشداء.
وهكذا وقع خبر الغزوة البحرية للتبع حسان كصاعقة مفاجئة صادمة للجميع، وبخاصة لكُلَيْب بن ربيعة التغلبي وحبيبته الجليلة بنت مرة، وهما يتأهبان لعقد القران الذي أصبح حديث البشر من عامة لخاصة في ربوع لبنان ودمشق وفلسطين.
وتوالت أخبار الجيش الغازي فيما بعد، وكيف أنه انقسم إلى قسمين كبيرين؛ ميمنة وميسرة، متملكين خلال زحفهما على طول الشواطئ ما يقابلهما من مدن وبقاع «بحد السيف المهند، حتى إنهم ملكوا معظم البلاد وأطاعتهم العباد.»
«هكذا ضرب التَّبْع المستبد الغازي حصاره البحري حول بلاد الشام، فأحاط بها من جميع الجوانب بالمراكب والكتائب.»
إلا أن تملك العاصمة السورية دمشق قد جرى إتمامه برًّا، وكان واليها من قبل الملك ربيعة، يدعى «زيد بن علام»، الذي قاتل قتالًا مريرًا، وألحق الكثير من الهزائم بجند التَّبْع حسان، الذي حاول بكل الطرق والوسائل استمالته ومحالفته دون جدوى.
كما أن التَّبْع حسان بعدما عانى طويلًا في حصار دمشق، أرسل لرأس بني ربيعة طالبًا مفاوضته، إلا أن الأمير ربيعة رفض تمامًا الدخول معه في مفاوضات أو حتى مجرد اللقاء به، ما دام أن التَّبْع اليمني قد جاءهم غازيًا، وواصل حربه واختراق حصاره وإلحاق أفدح الخسائر بجنده وعتاده البحري، مما دفع بالتَّبْع الغازي إلى اللجوء إلى الحيلة والمكيدة فاتجه من فوره إلى بني مرة — في لبنان — لاستمالتهم مقدمًا تنازلاته المرضية للقيسيين في الحجاز ولبنان، فعين الأمير «مرة» والد جساس واليًا على تلك البلاد، وكان «يسكن مع قومه في نواحي بيروت وبعلبك والبقاع.»
وجعل واليه الأمير القيسي «عبس» أميرًا على فلسطين وبلاد السرو وعبادة، وهي مملكة النبطيين أو العرب الأنباط الأردنيين.
كما أقام التَّبْع الغازي حسان، واليه الأمير المسمى «عدنان» على الفرقة أو الجزء الثالث المتبقي من جيشه الغازي، على «أن يقيم في العراق بتلك المنازل والآفاق.»
وهكذا تفرغ التَّبْع الغازي لمحاربة التغلبيين من بني ربيعة فشتت فلولهم في السهول والوهاد، مجندًا كل طاقاته وأياديه الطولى للحاق برأسهم المدبر، وهو الأمير ربيعة وولده الأمير كُلَيْب.
إلا أن التَّبْع تمكن من أسر «ربيعة» والد كُلَيْب، حين أمر رجاله بإلقاء القبض عليه «ومن معه من بني قيس الطناجير، فقيدوهم في الحديد والجنازير، وشنق الأمير ربيعة وصلبه على بوابات دمشق».
وأمر حراسه وعيونه بإلقاء القبض على من يبكيه مصلوبًا، أو يرثيه ببيت أو شطر من شعر.
عندئذٍ فقط وبعد تخلصه من رأس المقاومة وهو الأمير التغلبي «ربيعة»، «صفا بال التَّبْع حسان، فشيد لنفسه قصرًا حصينًا مرتفع البنيان، جعل أبوابه من الذهب والفضة.»
وهكذا استرخى طويلًا وعن رضاء معتليًا كرسي التَّبَاعِنَة العظام، لا يشغل باله سوى البحث والغوص في مختلف اللذائذ التي تفيض بها وتطرحها بلاد الشام وفلسطين؛ أرض اللبن والعسل.
وهو ما لم يرض عنه أبدًا وزيره الحكيم «حنظلة»، الذي كثيرًا ما تسلل إليه بالنقاش بهدف محاولة إثنائه عن الاسترخاء الذي أصبح فيه التَّبْع حسان، فمن الأفضل وبعد تحقيق هدف الحملة، العودة إلى ربوع اليمن والجنوب العربي، على ألا تغيب العيون الساهرة على الحفاظ على ذلك الفتح وتعزيزه في هذه البلاد والوهاد.
بل لقد توسل الوزير حنظلة لتعزيز رأيه ذاك بعمته البسوس، التي رجحته إلى حد أنها كررت عليه طلب العودة إلى ربوع اليمن، ولكنها عبثًا حاولت لإصراره على عدم العودة.
فلقد كان حنظلة على شاكلة زرقاء اليمامة، التي أرداها التَّبْع تحت سنابك خيله، وهي تكيل له السباب.
– الغلبة لله، أيها الخصي.
كان مستبصرًا بالخطر الكامن المستتر البادي في الأفق الذي أصبحت — تبيته — هذه البلاد الشاسعة المتضاربة التضاريس، ما بين البحر الهائج المتمرد، والبوادي وحياة المدن والجبال الشاهقة، والتي لن يهدأ لأهلها بال إلا بطرد الغزاة واسترداد أراضيهم وكياناتهم، مهما طال البقاء للتبع وصفا باله وزمانه.
وكان للوزير الحكيم كل الحق في تصوره الذي تمرد عليه التَّبْع المفتون بما حققت سواعده.
ذلك أن التغلبيين ومجاوريهم من بني مرة، كانوا قد عقدوا النية والمقصد على الانتقام لموتاهم وتحرير بلدانهم من مدخل «الحيلة والخداع» الذي تشرعه وتبيحه كل حرب، بدلًا من المواجهة غير المتكافئة مع التَّبْع الغازي وجيشه والتي أصبح لا طائل منها.
وهكذا تربصوا في الخفاء للانتقام، بينما أظهروا الخضوع ومداهنة التَّبْع علنًا وفي وضح النهار.
وجاءتهم فرصتهم سانحة دون كثير عناء ذات يوم حين وصلت إلى أذني التَّبْع حسان أخبار ذلك الزواج — السياسي — بين الأمير كُلَيْب بن ربيعة الذي اغتال التَّبْع والده صلبًا على بوابات دمشق، وبين ابنة عمه الأميرة الجليلة بنت مرة، التي تحدث الشعراء بجمالها وفتنتها الآسرة.
فما كان من التَّبْع إلا أنه استشاط غضبًا وطلب عدم إتمام الزواج مهما كلف الأمر من تضحيات.
بل أرسل من فوره يخبر والدها باستعداده هو ذاته — حسان — للزواج من الجليلة، بدلًا من ذلك «العاصي» المدعو كُلَيْب.
من هنا حانت ساعة انتقام «كُلَيْب» من التَّبْع واقتراب موعد تنفيذها بكل حرص، معلنًا للأمير «مرة» والد الجليلة، مدى حرصه على أهمية التعجيل بهذا العرس — العجب — بين خطيبته وحبيبته الجليلة وبين ذلك الملك حسان المنتصر، معلنًا في تهكم: أين نحن من عتبات الملك حسان؟! وتزايد عجب الأمير مرة أكثر، حين طالبته الجليلة ذاتها، التعجيل بإرسال موافقتها على الزواج من التَّبْع حسان.
– بل هما — أي كُلَيْب والجليلة — وضعا خطتهما لإتمام ذلك العرس، ودعما خطتهما بإرسال مختلف الشعراء والدلالين الذين لا همَّ لهم سوى التحدث بمحاسن الجليلة ومفاتنها وصوتها الشجي النادر الذي تحن له طيور السماء الصداحة قبل البشر.
- أولهما: الحيلولة دون إتمام ذلك الزواج بين الجليلة ابنة الأمير مرة حليفه وواليه على بيروت وطرابلس والبقاع، وبين ذلك «المارق» الذي سبق له صلب والده ربيعة.
- وثانيهما: هو الاستحواذ على تلك الأميرة الباهرة الجمال والشمائل الجليلة بنت مرة، ما دام أنه عقد النية على حكم بلدانه الشاسعة من مقره الذي راق له بدمشق في بلاد الشام.