تحقق نبوءة زرقاء اليمامة
طغى الملك التَّبْع اليمني حسان بن أسعد، عقب استيلائه على ربوع الشام ووادي الأردن ولبنان وفلسطين، في حملة مباغتة غادرة، أراد بها أن تكون مجرد مهرب ليس إلا من ذلك الذنب الغائر عميق الجذور الذي تسلط عليه عقب إقدامه على قتل شقيقه الوحيد عمرو.
كذلك جاءت هذه الحملة في أعقاب اجتياح جنوده ليلًا متخذين من أغصان الأشجار خباء، لقوم «زرقاء اليمامة» وما أحرزوه من نصر اختلسه التَّبْع حسان اختلاسًا، والناس نيام.
من هنا حق له وبعدما خفتت كل الأصوات المعارضة في دمشق وفلسطين من التغلبيين، وبعد مهادنته «لبني مرة» في ربوع لبنان، أن يتضاعف عسفه وطغيانه، وانحرافه في ملذاته المتسمة بالجشع.
ومن هنا أيضًا جاءت استرخاءة التَّبْع الغازي حسان اليماني، التي أقلقت إلى حد الفزع وزيره الأول حنظلة الذي حاول جاهدًا تبصيره بمغبة تلك الحالة التي استسلم لها التَّبْع وسرت عدواها بالتالي في جسد جيشه الغازي، بل ومن بقاء لا طائل منه ولا نفع في ربوع تلك البلاد.
كان الوزير الأول واسع المعرفة — على أقل تقدير — بطبائع المهزومين، خاصة على طول تلك البلاد والوهاد، وما يمكن أن يدبروه ويحيكوه في الخفاء، ستفصح عنه الأيام والليالي الحبالى بسحب توقع أميرة اليمامة «الزرقاء» وسبابها حين واجهته جريحة تنزف تحت سنابك خيله في دروب اليمامة ليلًا.
– غدًا تريك الأيام والليالي الحبالى يا حسان الكثير من خباياها.
كان الوزير على دراية بمدى فداحة الكارثة التي تنتظر التَّبْع ورجاله، في دمشق ولبنان وفلسطين مسرًّا لنفسه: أحقًّا ما يحدث، يا لها من كارثة.
فهي فعلًا كارثة لا بد وأن يصادفها — يومًا — كل غافل، أو مغفل.
– مثلما حدث تمامًا لأبيه التَّبْع أسعد حين واصلت جيوشه الزاحفة مشارف الصين إلى حين استسلامه مسلمًا مقاليد أموره، لأحد الملوك الآسيويين الأسرى الذي اتخذه دليلًا وحافظًا لأسراره يسيره على هواه، فما كان منه إلا أن ضلله وضلل جيشه لسنوات في ربوع الشرق الأقصى، فكان انسحابه وموته المبكر حزنًا وكمدًا.
وها هو التاريخ يعيد نفسه تمامًا مثلما حصل مع الأب أسعد الذي غرق في غفلته وترك دليلة «مقطوع اللسان» يتحكم فيه كما شاء، ثم ليغرق الابن — حسان — في غفلة مماثلة مع قبيلة بني مرة التي أسلم قياده لها طالبًا مصاهرتها بالزواج عنوة من أميرتها «الجليلة بنت مرة» ضاربًا عرض الحائط بقصة حبها، التي باتت مضرب الأمثال، لابن عمها الفلسطيني كُلَيْب بن ربيعة الذي صلب والده على بوابات دمشق عاريًا مسمرًا على مرأى ومشهد من سكانها الدمشقيين.
– ما الجدوى؟
وهو — أي التَّبْع — يعرف أكثر من غيره مدى دموية أولئك الأقوام في دمشق وفلسطين وتربصهم للانتقام مهما طال الزمن.
منذ أن عزم التَّبْع حسان على مصاهرة «آل مرة»، وبعد أن فشلت محاولات الوزير حنظلة في تغيير رأيه، عقد النية على مجرد تلبية كل أوامره ورغباته التي أصبحت لا تنتهي.
– ما يأمر به، مشيرًا!
بدءًا من تحضير قوافل الجمال والخيول المحملة بأكياس وصناديق الهدايا التي كانت تنوء بثقلها الجمال، بحيث آثر الجميع استخدام الفيلة المجلوبة من مجاهل الهند والبنغال والتركستان، مرورًا بالعزائم والحفلات والاستقبالات التي لا تنتهي تكريمًا لآل مرة، وانتهاءً بالعرس المرتقب الذي لن يقتصر الأمر فيه على الحفلات وإعداد المأكولات والمشروبات، بل سيشمل أيضًا بناء القصور والسرايا وتأثيثها وتزيينها احتفالًا «بعرس التَّبْع» الذي أصبح يترقبه الجميع في دمشق وبيروت وعمان والقدس واليمامة وتدمر ووادي الحجاز، ناهيك عن اليمن ومدنها في حضرموت وسبأ وتعز ومعين وقيتبان.
فها هي الجموع تتطلع متلهفة إلى عرس التَّبْع من الجليلة بنت مرة التي كان الصغير والكبير يتحدثان عن ندرتها وفروسيتها بين نساء العالم:
وهكذا أسلم الملك حسان كل حواسه، لمن يأتيه بجديد عن مدى حسن عروسه المرتقبة الجليلة بنت مرة وروعتها.
لذا توافدت الوفود من كل صوب على قصر التَّبْع تلهج متغنية بمحاسن الجليلة ومآثرها التي لا تقتصر بحال عند الجماليات البدنية، بل من حيث رجاحة عقلها وصائب حكمتها وشِعرها وغنائها وفروسيتها في الصيد والقنص، عبر غابات أَرْز لبنان ومُروجه المُكْتَظَّة بالأشجار.
وهكذا تغنى الجميع بالعروس المرتقبة على عتبات قصر التَّبْع الغازي:
وخلال تصاعد تلك الحمى المستعرة بالغناء والإنشاد للإعلاء من شأن الجليلة بنت مرة ومحاسنها، كل ليلة على بوابات وأعتاب قصر التَّبْع، لم يجد الوزير الحكيم «حنظلة» منقذًا لإعادة اجتذاب اهتمامات الملك لشئون حكم تلك البلاد المترامية الأطراف.
ومن هنا تزايدت المشاكل، متراكمة بلا حلول، سواء على طول ربوع بلاد الشام، أو ما يستجد من صراعات في اليمن وجنوب الجزيرة والسودان والقرن الأفريقي.
بل إن التَّبْع آثر تكثيف وقته بكامله للاستعداد لإقامة عرسه المرتقب وتلبية رغبات العروس التي لا تنتهي، فهي لم تعد مقصورة على الهدايا وإقامة القصور والبساتين وشق الطرق، بل تعدت كل هذا لتصل إلى أخص خصائص الحكم ذاته، بتعيين مقربيها على طول المدن والثغور والبوادي والحصون، إلى درجة دفعت بالوزير «حنظلة» إلى التساؤل الملح، عن أحقية تلك المرأة في مد وإرساء أصابعها العشرة في كل شئون الحكم، وهي ما تزال بعد خارج جنبات هذا القصر — الحاكم — تساءل: ترى ما الذي ستفعله يومًا، حين تتربع على هامة عرش التَّبَاعِنَة؟
من يدري، بل من يمكن له مجرد النطق بأهوال الكارثة المنتظرة المخيمة التي ستحل على رءوس الجميع.
غمغم الوزير لنفسه متحسرًا: من يدري بأبعاد وأهداف سيطرة بني مرة عن طريق تدعيم رجالهم وأعوانهم على طول البلاد وعرضها، ثم ذلك الفشل الذي مني به التَّبْع والجميع على مدى الشهور الأخيرة، لاستطلاع ما حل بخطيبها السابق.
– كُلَيْب بن ربيعة!
ذلك اللغز الكبير الذي تقطعت أخباره على حين غرة، فلم يعد اسمه الذي لم يكن لينقطع له دوي يسمع أو ينطق به أي لسان.
– ما الذي يحدث في الخفاء؟
على هذا النحو واصل الوزير «حنظلة» طرح تساؤلاته بينه وبين نفسه، دون أن يفصح عنها للتَّبْع حسان لا من قريب ولا من بعيد بعد أن أَعْيَتْه كل الحِيَل في تبصيره، بما أصبحت حقًّا تخبئه الأيام والليالي، على حد قول تلك الأميرة المقتولة: زرقاء اليمامة.
وهكذا أعطى الملك حسان سمعيه — وقبل كل شيء — لكل من يجيئه بأخبار الجليلة ورجاحة عقلها وشعرها ومعلقاتها المتداولة عنها، حتى إذا ما كتبت تخاطبه مرة، أطارت صوابه برصانة شعرها وموسيقاه، والأدهى من ذلك صوتها ومدى نقائه وطلاوته، كما حدثه بهذا الجميع:
لكم حلم التَّبْع حسان بأن يسمعها «أي الجليلة» تغني له ليلًا معلقتها عنه بصوتها الشجي الذي يشمخ في نبرته شموخ أرز لبنان.
وها هي الجليلة بذاتها أصبحت في الطريق إليه محملة بمئات الصناديق من هداياها وممتلكاتها وخيولها وهوادجها، لتحط على عتبات قصر التَّبْع.
وهكذا انشغلت العاصمة دمشق عن بكرة أبيها تبيت وتصحو على انتظار العروس وما تحمله، ليأتي العرس بعدها بصخبه وسموه ومباهجه التي لا تنتهي.
– تلك الليلة الليلاء، المرتقبة.
ولعلها فعلًا ستكون ليلة ليلاء بعدما أصبحت هاجس أفكار الوزير حنظلة، دون أن يعرف لذلك سببًا واضحًا.
– هل حقًّا ما يحدث ويجري، أن تصفو القلوب بين الأغنام والذئاب على هذا النحو؟!
تساءل الوزير وهو يدور في جنبات القصر الشاهق صادرًا تعليماته وأوامره التي تلقاها من التَّبْع بحيث يجري تنفيذها بكل دقة وحزم، مع مراعاة اليقظة الكاملة لخبايا تلك الليلة المنتظرة التي أصبح يتوقعها الجميع على أحر من الجمر.
فالتَّبْع الغائب عن كل وعي وإدراك، أصبح لا حلم له على طول ملكه المترامي سوى انتظار تلك الليلة التي ستأتيه بالجليلة بنت مرة.
وهنا يكون قد حقق هدفين بحجر واحد، أولهما استحواذه على الجليلة بنت مرة بجمالها ومواهبها ومدى الشعبية الجارفة التي تتمتع بها على طول هذه البلاد التي جاءها غازيًا فاتحًا.
ثانيهما هو نجاحه في ضرب وفرط عقد ذلك التحالف بين «بني مرة» وبين «بني ربيعة» التغلبيين الفلسطينيين.
– وهو ما لم يدركه الجميع.
هكذا أسر الملك حسان لنفسه، مبررًا مدى انكبابه على استعدادات التحضير لعرسه وزواجه من ابنة آل مرة.
بل وبهذا المنطق المتعقل نفسه واجه التَّبْع حسان وزيره المقرب «حنظلة» في محاولة لتبصيره بأهدافه من إنجاح خطوات ومراحل هذا الزواج بالشكل اللائق، واعدًا ومتعهدًا بالتفرغ لحل كل ما استجد من مشاكل، وعلى رأسها بالطبع تشتيت فلول «بني ربيعة» وأميرهم المتمرد في شعاب الجبال المحيطة.
– كُلَيْب بن ربيعة، وشقيقه الأصغر الملقب بسالم أو الزير سالم.
فكيف للملك حسان، أن يغفل لحظة عن كُلَيْب، وذلك الانتقام المبيت له، خاصة وهو الذي — أي حسان — سبق له صلب والده ربيعة على بوابات دمشق.
بل إن التَّبْع أرسل فعلًا بقواده وعيونه من كل حدب وصوب لترصد أخبار كُلَيْب وتصيده أينما كان، في لبنان أو وادي الأردن وفلسطين أو شمال الجزيرة العربية.
لكن الغريب هو انقطاع أخبار كُلَيْب وكل أثر له من كل تلك البقاع والوهاد، خاصة عقب إعلان التَّبْع الزواج من الجليلة — خطيبة كُلَيْب السابقة — وموافقة أهلها وموافقتها هي ذاتها على ذلك.
وهكذا فشلت كل محاولات التَّبْع حسان للإيقاع بكُلَيْب، أو حتى مجرد معرفة ما حل به، سواء عقب مقتل والده، أو عقب تخلي الجليلة بنت مرة عنه، مفضلة الارتباط والزواج بالملك الغازي المنتصر.
– فلعله الآن، نهبًا لأحقاده ينهشه الندم.
لكن كيف للتبع حسان أن يهدأ بالًا، ما دام كُلَيْب بن ربيعة حرًّا طليقًا، هو ورجاله من بني ربيعة.
كيف له أن يهدأ ويصفو بالًا، وهو الذي سبق له التمثيل بأبيه وإخوته باستثناء هو وها هو اليوم يسلبه حبيبة قلبه، الجليلة بنت مرة، التي أصبح ينام ويصحو على أخبار محاسنها، وهي في الطريق إليه إلى دمشق وغوطتها الساحرة.