خديعة التَّبْع المتجبر
كانت خطة الأمير الفلسطيني «كُلَيْب» التي رسم أبعادها وخطواتها مع حبيبته «الجليلة بنت مرة» تتمثل أولًا في قبولها وترحيبها الشديد بالزواج من الملك التَّبْع حسان.
– فليس في الوجود كله، من هي أحسن وأرفع حظًّا مني؛ أن تمتد إلى شخصي الضعيف أنامل «ملك الملوك التَّبْع حسان».
باغت كُلَيْب الجليلة مقررًا.
– وأرجو أن تنسيني تمامًا، وكما لو أننا لم نلتق من قبل.
– كيف؟
– سأختفي عن كل الأنظار.
تساءلت الجليلة، وهي تتطلع ببصرها عبر الأفق اللانهائي غير مصدقة: كل الأنظار … أين؟
قاربها كُلَيْب مهونًا وهو يأخذ أناملها بين كفيه في حنو: سأخبرك يا جليلة في الوقت الملائم بمخبئي وأين سأكون؟
أعادت الجليلة التساؤل: وحدك؟
– لا، بل أنا ورجالي الذين سأعيد اختيارهم هذه المرة بكل حذر.
من جديد قاربته الجليلة فزعة مما يحدث: لكنك تعرف يا كُلَيْب أكثر من غيرك، بمدى الخطر الكبير الذي لا مهرب منه، فالتَّبْع لا ينام الليل بحثًا عنك، ورجاله وعيونه وبصاصوه أصبحوا لا يتركون شبرًا في الأرض بحثًا عنك، وعن رجالك.
ابتعدت الجليلة قليلًا عنه مختطفة حقيبة صغيرة من أحد الأركان، مخرجة مجموعة من الأوراق — الجلدية — دفعت بها إلى كُلَيْب؛ قائلة: وهذا ما توصل إليه رجالنا، وعاد إلى به رسلي من داخل القصر الحاكم ذاته، ولك أن تتصور بنفسك عقب قراءة كل هذه المدونات، مدى ما وصل إليه جنونه للإمساك بك.
تناول كُلَيْب لفة المخطوطات التي دفعت بها الجليلة بنت مرة إليه ليدفع بها بدوره إلى أحد حرسه و«ناطورجيته» الذي تناولها متعجلًا جاريًا معاودًا حراسته وتطلعه عبر جهات الأفق الأربع، معتليًا أعلى ربوة مشرفة على مكان لقائمها في تلك الليلة التي غاب قمرها.
كانا يجلسان على شاطئ البحر، داخل كشك تحيط به حديقة قصيرة الشجر، على ربوة عالية مشرفة على البحر الهادر المتلاطم الذي تحده في شبه قوس مراكب الملك الغازي حسان على طول مرمى البصر ومن الجهات كافة، وجرى لقاء كُلَيْب والجليلة بأقصى درجات «الحيطة والسرية» بعيدًا عن عيون الملك، وبصاصيه المندسين في كل شق، بحثًا — وقبل كل شيء — عن كُلَيْب، بعد صلب التَّبْع حسان لوالده الأمير ربيعة على بوابات «أمية» عاريًا مقلوب الرأس رغم أنه كان نصف ضرير.
كما تم اللقاء بينهما في أقاصي فلسطين، في مدينة عكا بالذات التي قدمت إليها الجليلة سرًّا متخفية ممتطية حمارًا.
– أنساك؟
واجهته بسؤالها هذا في مكمنه وهي تركز أنظارها على فروة رأسه وشعره المجعد الأسود المسترسل على حلقات حول وجهه المتوقد بذلك الذكاء المشع والطافح بعلامات الجمال والرجولة التي لا يكل منها أي نظر.
عادت الجليلة تنقل نظرها بين كُلَيْب وبين سفن التَّبْع الراسية في البحر بأضوائها المنعكسة على صفحة المياه؛ نتيجة النيران التي أوقدها بحارتها التي طاول بعضها عنان السماء في ليلة الصيف تلك؛ كي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، فبدت انعكاسات اللهب أشبه بمليون أفعى مجنونة تلهب ظهر البحر بسياط من ضوء.
وعادت الجليلة تسأل: أنساك يا محفوظ «أحد ألقابه الكثيرة»، كيف؟
ولن أزورك حتى هنا في عكا؟
– لن تجديني في عكا، بعد الليلة.
– سيظل قلبي معك أينما كنت.
– ولكن هكذا سنقتل معًا إن لم يكن اليوم فغدًا.
فوجئت الجليلة بذلك كمن تستيقظ من حبها وسباتها؛ متسائلة: نقتل؟
قاربها كُلَيْب إلى أن احتوى وجهها المعبر اليقظ بين كفيه الدافئتين: جليلة لا تخافي، وبإيجاز دعيني أكرر لك انسي من الآن ما بيننا.
انفلتت من بين يديه جارية نحو الماء، وهي في حالة من الذعر الكامل كمن يعاني من نزيف حاد جاء على حين غرة.
اندفع إليها كُلَيْب مقاربًا موضحًا، وقد عرف قصدها وما يعتريها من اضطراب وسوء فهم.
– الأول نخلص بأقل خسائر من ذلك الطاغية، حسان.
واجهته: وبعدها؟
– نحكم هذا العالم معًا، يا جليلتي.
تطلعت الجليلة ببصرها نحو البحر الهادر والأفق الرحب وهي تشعر بحب غامر وشوق عارم نحو ابن عمها كُلَيْب وكأنها في تيه حقيقي.
فلقد كانت الجليلة بنت مرة تجمع بين دفتي شخصيتها إلى جانب ذلك الجمال الأنثوي الباهر، المجلل باتساع المعرفة فيما أنشدته وعرف عنها من أشعار ومعلقات، انتشرت إيقاعاتها بين جموع البشر وبكل ما عرف عنها من رصانة أقواها ومنظوماتها:
لم تكن لطموحات الجليلة بنت مرة حدود تقف عندها؛ لذا آثرت الاكتفاء بما قاله كُلَيْب لها؛ حيث اعتبرته نوعًا من الضمانة التي بموجبها ستواصل مسيرتها المحفوفة بالأخطار؛ كي تنفذ غاياتها كافة والتي منها الاستحواذ على سلطة ذلك التَّبْع الطاغية.
أما كُلَيْب المنكوب في مصرع أبيه أمير بني ربيعة والفار من وجه سلطة الطاغية فهو بالطبع الأكثر حيلة ودهاءً، وبالتالي مناورته للخلاص من نير الظلم الذي حل بربوع هذه البلاد، بجبالها ووهادها وبحارها، إثر الغزوة الضارية المفاجئة التي حلت مثل كابوس ثقيل لا قبل لأحد به، وهما على مشارف الأسابيع الأخيرة لعرسهما وزواجهما الذي كان قد طال أجله.
وهو الزواج الذي تعاهد عليه القومان — بني مرة في لبنان، وبني ربيعة في فلسطين — ليكون آخر المطاف ونهاية لتلك الحروب والمنازلات والغزوات التي كانت مستعرة بينهما، لسنوات طويلة سوداء، عانى منها الفريقان الأمرين.
أما ما غاب عن أذهان الجميع، خاصة والديهما — ربيعة ومرة — حين تعاهدا على ذلك الزواج — السياسي — هو حكاية حبهما الجارف معًا الذي ولد معهما — الجليلة وكُلَيْب — منذ مطلع شبابهما، على مشارف بيروت، ووهاد صور، ومروج البقاع؛ حيث كان يتم لقاؤهما معًا، وكأنهما بهذا إنما يتحديان تلك الحروب والمناوشات والغزوات الملفقة بين قوميهما.
إلى أن حانت مناسبة الاتفاق على زواجهما فضحكا معًا طويلًا، بل إن كُلَيْبًا داعب والده وشيوخ قبائله في البداية برفضه ذلك الزواج المصطنع؛ إذ كيف له الرضوخ وتقبل الزواج من فتاة — بيروتية — لم يرها أو يسمع بها أو يهفو إليها قلبه.
وهنا دبر له بعض شيوخ قومه وأبناء عمومته أمر لقائه بالعروس الشاعرة الباهرة الجمال التي تلهج الشفاه والأفواه بمحاسنها على طول البلاد وعرضها، حتى إذا ما تيسر لقاؤهما ضحكا طويلًا معًا حتى استلقيا على ظهريهما.
بل إن الجليلة بنت مرة استعذبت تلك اللعبة طويلًا، التي تتيح لها في كل مرة الالتقاء — بحبيبها — كُلَيْب على مرأًى من الجميع، حتى ترضى عن اقتناع من الزواج وربط مصيرها الأزلي به.
– فأنا لست سلعة أو بضاعة لإيقاف رحى الحرب على جثتي!
حتى إذا ما افتضح في النهاية أمر لعبتهما وعبثهما تنفس الجميع الصعداء مستبشرين بوضع حد لتلك الغزوات والمنازعات بين أبناء «البيت الواحد»، فأنشد الشعراء الجوالون وتغنوا بقصة حب الجليلة بنت مرة وكُلَيْب، المرادفة للسلم بدلًا من الحرب والعدوان.
إلى أن حل بالجميع ذلك العدوان الغاشم الذي قاده التَّبْع حسان اليماني، فجاء ضاريًا مؤذيًا بأمن الجميع.
كان والد الجليلة الأمير «مرة» المتعاون مع التَّبْع قد أعطاه كلمته بتجهيز الجليلة له وها هي الجليلة ستزف إليه.
هنا انتصبت الجليلة كمن تحتضن هواء البحر بأكمله؛ قائلة لكُلَيْب: ها أنا جاهزة.
استدارت في أقصى كمدها مقاربة كُلَيْبًا المتنمر في إثرها معلنة.
– العروس.
واجهها كُلَيْب بدوره قائلًا: إذن فلن يعرف أحد.
غمغمت: سوى العروس!
هنا اجتذبها كُلَيْب من يدها إلى ذلك الكشك المزين بأشجار الورود والرياحين جنبًا إلى جنب مع اللبلاب بعيدًا عن العيون ليزف إليها بتفاصيل الخطة.
وتقضي الخطة بأن يجري تجهيز العروس الفاتنة ذائعة الصيت والجمال وزينة كل النساء بحيث تأتي من بيروت إلى حيث عاصمة التَّبْع حسان في دمشق، محملة بهوادجها وخيولها المطهمة وصناديقها الثقيلة مع جوقة من وصيفاتها وغلمانها، بما يسمح بتسلل الكثير من رجال كُلَيْب المقاتلين الممتازين، في الوقت الذي سينتشر معظم جيش — من التغلبيين — على التلال المحيطة بدمشق، وسيتم كل شيء كما يريد له التَّبْع أن يجري ويتم بطريقة طبيعية.
– طبيعي.
سوى أن كُلَيْبًا سيفتعل معركة على مشارف دمشق، تسمح من جهة بتسلل رجاله إلى داخل صناديق محتويات العرس وأثاثاته العملاقة، وتسمح في ذات الوقت بتسلل كُلَيْب ذاته، باعتباره مضحك أو مهرج أو خصي الأميرة الجليلة المقرب، الذي يضحك الحجر قبل البشر، متنكرًا بكامله تحت هلاهيله وجلود الحيوانات والأصباغ، متخذًا اسم «قشمر بن غرة» الذي يلعب بالبيضة والحجر في ذات الآن.
يضاف إلى ذلك، اضطرار التَّبْع حسان إلى إرسال معظم حرسه الخاص ورجاله لتخليص العروس الجليلة من أيدي قطاع الطرق وعصاباتها لتأديبهم.
هنا سيخلو لنا الجو للتسلل إلى حفلة العرس لتسلية التَّبْع الذي لا ينام الليل حبًّا في اللهو والسمر.
– وهذه ليلة عمره.
بُهِرَت الجليلة من خطة كُلَيْب إلى حد دفع بها إلى القول بثقة ودون تردد: التي فيها سنقصف عمره.
استدارت لكُلَيْب مشجعة: انتقامًا للدم الذي أهدره في بيروت والبقاع ودمشق والقدس وأسدود في فلسطين، واجه كُلَيْب الجدار كمن يكبت مشاعره في صعوبة بالغة.
– أبي عريان مقلوب الرأس معلق على بوابات دمشق.
قاربته الجليلة: أعمامي وأولاد أعمامي، وأربعون فتاة من آل مرة.
أخذت الجليلة بيده معاهدة: في كل بيت مأتم، منذ وصوله.
استرد كُلَيْب يقظته وحلمه الكبير ذاك قائلًا في حزم: إذن فهي فرصتنا الوحيدة يا جليلة.
– لا تخف.
واجهها كُلَيْب مطوقًا رأسها، حتى إنه أسقط خباءها عن رأسها: أنت الشيء الوحيد الخائف عليه.
لكزته الجليلة ضاحكة مسرة: لا تخف، فلقد أصبح لا ينام ليله، وفي كل يوم تصلني هداياه من قطعان الجمال والأفيال، مما تشتهيه النفس.
ضاحكها كُلَيْب: هكذا الأمر إذًا.
داعبته: أليس هذا ما تطالبني به؟ أن أسحره سحرًا بكل ما أوتيت وهكذا أصبح التَّبْع — المفترس — حسان بن أسعد مجرد خاتم في إصبعي.
– هائل.
واستطرد كُلَيْب مع الجليلة شارحًا بكل دقة تفاصيل خطته ومسالكها خلال مراسيم هذا العرس الدامي المرتقب وكيفية إعداد رجاله ببالغ السرية والكتمان، وحتى كيفية تصميم صناديق جهاز العرس وخصوصيات العروس الجميلة.
وكذلك حادثها عن مدى إعداده لكتائبه المرابطة على طول الطريق بين بيروت ودمشق بسرية مطبقة.
وكانت الجليلة كثيرًا ما تستوقفه مستوضحة طارحة مختلف ظروف الاحتمالات، ومنها إمكانات الانكشاف والفشل لخطتهما بالغة السرية على نحو يثير كل حمية كُلَيْب وتوقده وإحكامه لاحتمالات الوصول إلى رأس التَّبْع الطاغية الغازي؛ ليجزها جزًّا متخذًا مكانه إلى جانب الجليلة في حكم الشام وفلسطين، وإنهاء سطوة ذلك الغازي الذي أتت جيوشه على كل أخضر ويابس في بلادهم، والذي يصل به تسلطه إلى حد التفريق بين حبهما وهما اللذان سبقا أن تحديا به كل الحروب والعداوات بين قوميهما.
حتى إذا ما شارف اللقاء بين الجليلة ومحفوظ أو كُلَيْب بن ربيعة نهايته وطواهما الصمت الطويل داخل ذلك الكوخ المشرف على البحر المتلاطم قاتم الزرقة، وهما هائمان في أبعاد خطتهما وتفاصيلها، احتضن كُلَيْب الجليلة مودعًا إلى أن حملها حملًا بين ذراعيه، ليركبها حمارها المطهم، عبر الصمت والظلام المخيمين.