العرس الدامي
لعلها كانت أصعب عملية اضطلع بها وزير التَّبْع حسان، تلك التي كلفه بإنجازها منذ أن التحق بخدمته، وهي عملية الإعداد لمراسيم زواجه تلك الليلة الليلاء.
فمنذ مطلع النهار، وطلبات الملك وأوامره المتسمة بالعصبية والقسوة لوزيره «حنظلة» لا تنتهي ما بين اختيار المدعوين من ممثلي القبائل والعشائر والأمراء والقواد، والتوقف طويلًا أمام كل اسم ولقب وقبيلة وقوم، واستقبال الوفود المحملة بالهدايا، ونحر الذبائح وإعداد قصور الضيافة، واستقدام كبار الفنانين، من شعراء ومغنين ومنشدين وراقصين لإحياء الحفل، من مصر وسورية وفلسطين وربوع اليمن.
ناهيك عن مطالب العروس ذاتها، وأهلها — بني مرة — التي أصبحت في الأيام الأخيرة لا تقف عند حد ومطمع.
والملفت في الأمر أنها مطالب غريبة تدفع إلى كل سخط وشك، إلا أن «التَّبْع» لم يعد يسمع لأحد نصحًا أو مجرد رأي بسيط سواها.
– الجليلة بنت مرة ومراسيلها ومعلقاتها الطاغية.
تلك الأميرة — اللبنانية — التي سحرته بشعرها ومعسول قولها، قبل محاسنها، فكان أن أحبها التَّبْع من قبل أن يراها أخذًا بالقول المأثور: «والأذن تعشق قبل العين أحيانًا.»
حتى إذا ما سنحت — للتبع العاشق — رؤيتها بطريقة مباغتة ساحرة للمرة الأولى، أردته من فورها صريع هواها وعشقها.
ذلك أن الجليلة بنت مرة — وكجزء من خطتها — في تملك قلب التَّبْع حسان، دبرت خطة ذكية مفاجئة ولا تخلو من أخطار، لتلتقي به متنكرة على هيئة أمير فارس شاب مع مطلع نهار خرج أثناءه التَّبْع محاطًا بفرسانه وكوكبة قوداه المقربين للصيد والقنص في أحد مروج لبنان.
وهنا تحينت — الجليلة — تلك اللحظة للالتقاء بالتَّبْع، وهو يطارد أحد الحيوانات البرية، فبرزت له من بين الأشجار، بعد أن أردت فريسته بسهمها، فما كان من الملك التَّبْع سوى الترجل مندهشًا من مواجهة ذلك الفارس الماهر المجهول الذي قاربه مواجهًا: من أنت؟
– أنا قدرك، أيها الملك.
وبعدما فاق التَّبْع حسان من هول المفاجأة على هذا النحو استل حسامه، كما لو كان على موعد مع لحظة اغتيال غادرة مباغتة.
– قدري؟!
– أجل، يا مليكي.
حتى إذا ما كشفت خباءها عن وجهها الباهر الجمال مرخية خصلات شعرها العسجدي الضارب إلى الحمرة، متقدمة في حياء مغمغة: أنا، الجليلة بنت مرة!
– أميرتي الجليلة؟
– أجل.
وضحكا طويلًا وهما يطلقان لخصيانيهما العنان إلى أحد المروج المهجورة.
توقف الملك حسان منبهرًا في أقصى نشوته من تلك المفاجأة العذبة التي أرادت بها الجليلة أن تدخل السرور على قلب الملك.
– متى ينتهي كل شيء لنسعد معًا يا جليلة طيلة عمرنا؟
– أنا طوع يمينك يا مليكي.
ومنذ تلك اللحظة والملك حسان، لا ينسى مقدار السعادة التي غمرته كما لم تغمره من قبل إثر لحظة الفرح تلك التي جعلته ينتشي بالحياة وحبورها الذي يضفيه الحب قبل أي شيء آخر.
ولم يطل لقاؤهما، ذلك أن الجليلة تعمدت إنهاء ذلك اللقاء الخاطف المفاجئ، حين ودعته معاودة تنكرها بعدما خلع عليها قلادته الملكية فأطلقت عنان حصانها مسابقة ريح الصباح، مختفية، تاركة التَّبْع العاشق، ليلحق بركبه وفرسانه، كمثل طائر هائم محلق بين أرز لبنان الساحر المتعانق في شموخه إلى عنان السماء.
حتى إذا ما لحق فرسان الملك حسان به ظل يضحك في فرح منتشيًا، مما أثار فضول مرافقيه، عندما فاجئوه مع غروب الشمس تمهيدًا للعودة إلى دمشق محملين بأسراب صيدهم!
– نريد أن نعرف صيد التَّبْع اليوم.
– أروع صيد.
إلى أن نطق أحدهم هامسًا في أذن الملك، مما ضاعف من سعادته: لعلها الأميرة، الجليلة؟!
فكان كلما اقترب موعد وصول موكب العروس وتوابعها من بيروت إلى دمشق، كلما تضاعفت أعباء الوزير — حنظلة — نتيجة أثقال الملك التَّبْع المتوتر عليه بالمطالب واستكمال الاستعدادات.
– ألن ننتهي اليوم؟ أما من مهرب؟
حتى إذا ما تدافعت وفود الرسل المذعورة الغارقة في سيول دمائها قبل عرقها، بل ومنهم من قطع لسانه من جذوره، عائدين معلنين الأنباء السوداء عن تعرض موكب «العروس» لعصابات قطاع الطرق، ونهب كنوزها، بل وأسرها على طريق بيروت دمشق ووصل توجس الوزير إلى أقصى مداه.
– كيف حدث هذا، الجليلة؟
وهاج الملك التَّبْع حسان وماج على طول جنبات قصره وقلاعه حين وصله الخبر، إلى حد التطاول بل والتعدي بالقتل لبعض مساعديه وحاشيته، فلم يسلم من غضبه الجارف أحد، حتى الوزير حنظلة ذاته.
– لزوجتي، حليلتي، يحدث كل هذا!
بل إن حنظلة وجدها فرصة ذهبية لمواجهة التَّبْع الغازي، وتبصيره بما ينتظره من ألاعيب أهل هذه البلاد من آل مرة والبكريين والتغلبيين، فمن الواجب عليه — أي التَّبْع — التنبه والحرص ولو على الدم الذي أُرِيق وسُفِحَ على مشارف تلك التلال والوديان والبقاع وصحاري الأدوميين، حتى استتب له الأمن بعد فتحها وحكمها.
إلا أن الملك لم يتح لوزيره كلمة عاقلة واحدة مواصلًا هياجه كمثل جمل منتقم مفلوت العيار، وهو يسعى إلى حتفه سعيًا، بكل ما أوتي من جبروت.
– كيف يحدث ما حدث لزوجتي؟!
صادرًا من فوره أوامره ونواهيه لكبار قواده وفيالقه وحرسه الخاص، وكل من طالته يداه، لإنقاذ العروس وإحضارها أينما كانت.
والأدهى من ذلك أن تغيب كل قوة وحامية بسرعة الريح، ثم تمضي الساعات ولا تعود بخبر.
– ما الخبر؟
هنا يشتعل غضب التَّبْع وانتظاره أكثر فأكثر مرسلًا بمجموعة أخرى في أعقابها.
– ثلاثة قواد يرحلون، ولا يعود منهم أحد بالخبر اليقين؟
حتى إذا ما حط المساء جاثمًا، وضجت مدينة دمشق عن بكرة أبيها متندرة بعرس التَّبْع الغازي الذي استحال إلى كارثة.
– فضيحة!
انشقت الأرض فجأة عن العروس وموكبها الهائل، في حالة من الذعر والفوضى الشديدين.
حتى إذا ما تسلل موكبها من جمال وخيول بأحمالها إلى داخل عتبات قصر التَّبْع الحصين دون أدنى رقابة ارتمت العروس من فورها بين أحضانه باكية كمثل مراهقة غريرة.
وأمام انبهار التَّبْع حسان من جمالها وروعتها وكامل زينتها وإيماءاتها العذبة وتدللها، أمر من فوره بإدخال صناديق عرسها ووصيفاتها وتوابعها من خدم وحشم، مشيرًا: أقيموا الأفراح.
وعلى الفور علت الزغاريد والغناء ودقت الدفوف، وامتدت سماطات وموائد الطعام، ولهجت الألسن بكل لهجة ولكنة ولسان بمحاسن العروس والعُرْس، إلى أن اختلط الحابل بالنابل، في تلك الليلة التي اعتراها التوتر والمفاجآت منذ مطلع النهار، بما ينبئ عن اختتامها بحادث جلل.
هكذا بدا الأمر للوزير وهو يرقب مجريات أمور هذا اليوم الرهيب وما سينتهي إليه.
تساءل الوزير وهو يرقب متطلعًا في وجوه أهل العروس وأقاربها وخدمها وحشمها ومهرجيها؛ متسائلًا: كل هذا الجيش!
مضى يرقب ما يحدث على مشارف مخدع التَّبْع، الذي استسلم للجليلة، إلى حد إجلاسها إلى جانبه على «عرش التَّبَاعِنَة» ويستغرق من فوره من تتبع مضحكيها وسمارها الستة وهم يقفزون متراقصين عابثين هنا وهناك على أصداء الموسيقى الصاخبة.
وعن للوزير السؤال عن أحدهم وكان أبرزهم حركة وقربًا إلى قلب العروس الجليلة بنت مرة.
فقيل له إن اسمه «قشمر بن غرة» وهو مضحك الأميرة.
انسحب الوزير محاولًا جذب انتباه التَّبْع لما يجري فما كان منه إلا أنه أغلظ له القول، إلى حد الإقلال من شأنه أمام الجليلة التي بدت للوزير ساعتها وعيناها لا تغفل عن مهرجها «قشمر بن غرة» مما دفع بالوزير إلى الانسحاب حفاظًا على ماء وجهه، وهروبًا بجلده مما يحدث.
وراحت الجليلة تروي على التَّبْع نكات ومداعبات مهرجيها وتهكماتهم الذكية وخاصة هذا «القشمر»، مشيرة إليه بساعدها الخمري اللون البض الملمس.
فاندفع «قشمر بن غرة» من فوره قافزًا راقصًا هازلًا تحت رقع ثيابه، متمنطقًا جلد النمر ومتقلدًا سيفه الخشبي وسوالفه مدلاة كمثل «كبش».
– من يناديني … من … من؟
– اسمع يا قشمر.
– سيدتي، مولاتي.
مضى المهرج مشهرًا سيفه الخشبي، ممتطيًا عصاة الجريد كمثل فارس مغوار يجري في هزل.
وحين أغرقت الجليلة في الضحك إلى حد الارتماء امتدت يد التَّبْع ساندة لها في حنو: حقًّا إنه يضحك طوب الأرض يا جليلة.
– حقًّا بهلول نادر.
– يزيل الغم ويفرج الكرب.
واندفعت تحادث التَّبْع المنتشي عما حدث لها من رعب خلال الطريق، إلى أن ضاقت بها السبل فأعادها إلى حيث البهلول والمرح والغناء وليلة العمر هذه.
– لننس ما مضى يا جليلة يا حبيبتي.
هنا كان المهرج قشمر قد أوصل الجليلة والجميع إلى أقصى حالات الاستغراق في الضحك الذي لم يخلُ من مجون، إلى أن تجرأ معبرًا عن نفسه بعد تصنعه الخوف والهلع طويلًا من التَّبْع وهيبته وتاجه.
«فمضى من فوره راقصًا بسيفه الخشبي، وكان تارة يبحلق عينيه، ويدق الأرض برجليه ويديه، وتارة يقول: أين الفرسان الفحول؟ أين ابن عطبول؟»
«وكثيرًا ما يرقص ويضحك بلا سبب، وهو راكب الفرس القصب، إلى أن اندهش التَّبْع من أعماله، واستغرب أحواله وأقواله.»
بحث التَّبْع فجأة بعينيه عن وزيره حنظلة فلم يجده، هنا شاغلته الجليلة وهي تلاطفه: تعبانة.
عندئذٍ تدخل «قشمر» عابثًا مضاحكًا قائلًا: إن كنت تريد الطرب الآن، فمُر سيدتي الجليلة تغني لك، فإن صوتها مليح ولفظها فصيح.
وطلب التَّبْع منها أن تغني، فهو ينتظر على أحر من الجمر سماع صوتها وأشعارها وإنشادها.
هنا واصلت الجليلة تدللها مدعية الحياء والخجل من جموع الموجودين، مطالبة بإغلاق الأبواب حتى لا يسمع أحد.
وما إن انسحب المدعوون بإيماء من عين التَّبْع، حتى تطوع قشمر بالحنجلة هنا وهناك مغلقًا أبواب المخدع بنفسه في هزل.
ثم عاد مقدمًا قيثارة مذهبة للجليلة التي ارتفع صوتها مغنيًا شجيًّا ساحرًا:
وحين وصل الطرب بالتَّبْع إلى أقصى مداه، زاد به الوجد والغرام، إلى حد مطالبة الجليلة بالغناء دون توقف، إلى أن عاجلها قائلًا: مثلك حقًّا يا جليلة نادر بين النساء فقد زاد سرورنا هذا المساء.
هنا أيقن — كُلَيْب — المتنكر تحت جلد وأصباغ وهيئة مضحك الأميرة «قشمر بن غرة» أن الوقت قد حان، فمضى يواصل هزله، مومئًا للجليلة سرًّا بمشاغلة التَّبْع الغائب عن وعيه.
ثم انسحب باتجاه صناديق العرس والجهاز، فاتحًا في سرعة وخفة مخرجًا فرسانه المختبئين.
إلى أن عثر على سيف التَّبْع ذاته، فخرج إليه به وقد تقلد درعه.
وهكذا «خرج كُلَيْب فجأة إلى الملك الأكبر، وقد احمرت عيناه، حين تذكر أباه، فصال وجال في وجه التَّبْع الذي ألجم من هول المفاجأة.»
«ثم قفز كُلَيْب مقاربًا التَّبْع هاجمًا، إلى أن تعرفه التَّبْع وأيقن بالهلاك، والوقوع في شرك العقال.»
واندفع كُلَيْب جاريًا داخل مخدع التَّبْع من دون أن تتوقف الموسيقى أو الغناء، فهب التَّبْع كالمجنون وقد تعرفه منشدًا مرثيته الشهيرة الكبرى:
ولم يمهله كُلَيْب بن ربيعة ليكمل مرثيته، فهجم عليه صارخًا: «لا بد من قتلك كما قتلت والدي، فأكون قد أخذت بثأري.»
وتقدم منه ودق عنقه وشهر رأسه عاليًا على أسنة رماحه!