الباحِث والمُتعبِّد
إذا ذهبتَ إلى مكتبة عامة أو مَتْجَر لبيع الكتب بنِيَّة العثور على كتاب حول الهندوسية، فإلى أيِّ قسم ستتجه؟ هل إلى قسم «علم الاجتماع» من أجْل الكتب التي تتناول النظام الاجتماعي للهندوس؟ أم إلى قسم «الفن والعمارة» حتى تتعرَّف على المعابد والنقوش واللوحات المدهشة التي تجسِّد الميثولوجيا الهندوسية؟ أم إلى قسم «اللغات» حيث الكتب التي تتحدَّث عن اللغة السنسكريتية وغيرها من اللغات الهندية؟ أم إلى قسم «الأنثروبولوجيا» حيث المعلومات عن الهند الريفية ومجتمعها وثقافتها؟ مع أنك سوف تَجِد في الأغلب مصادر قيِّمة في هذه الأقسام، فإنك قد تتجه إلى قسم «الأديان»؛ لأن الهندوسية في الدول الغربية تُعتَبَر دينًا مثل اليهودية والمسيحية والإسلام والبوذية.
أحد الموضوعات الرئيسية التي سيتم تناولها في هذه المقدمة القصيرة هو مدى صحة هذا الزعم. هل الهندوسية دين كباقي الأديان؟ وما السمات الرئيسية التي تُميِّزها؟ في كل فصل من الفصول التالية، إلى جانب التطرق لموضوع محدَّد، سوف أتطرَّق أيضًا إلى ما يمكن أن يُخبِرنا به هذا الموضوع عن طبيعة الهندوسية، التي هي دين الهندوس. على سبيل المثال، في الفصل التالي، سوف نتطرَّق إلى مدى أهمية مجموعة من النصوص الدينية المعروفة باسم «فيدا» وثقافة البرهميين — طائفة الكَهَنة — بالنسبة إلى الهندوسية. (ثمة مَسرَد مصطلحات في نهاية الكتاب يضمُّ معانيَ أهم المصطلحات الهندوسية.) وفي الفصل قبل الأخير، سوف ننظر في إمكانية ازدهار الهندوسية خارج الهند، وإمكانية اختيار شخص ما ليكون هندوسيًّا. هل الهندوسية دينٌ يمكن أن يَعتَنِقه أي شخص؟ أم إنه مقصور على هؤلاء الذين وُلدوا في عائلات هندوسية؟
في الفصل الأخير، سوف أعود مجددًا إلى الحديث عن طبيعة الهندوسية وتعريفها، وعلى وجه التحديد مسألة الوحدة والتنوع. يُشِير لفظ «الهندوسية» إلى نظام موحد، وبعض الدراسات الحديثة من جانب الهندوس وغير الهندوس يصفها على هذا النحو. رغم ذلك، يقول آخرون إن الهندوسية لها صور متعددة، هناك أوجه تَلاقٍ متعدِّدة فيما بينها، غير أنها تختلف في نواحٍ مهمَّة. فهل يمكننا البتُّ في صحَّة هذين القولين، وتقديم تعريف جامع مانع للهندوسية؟ حتى الفصل الأخير من الكتاب، سوف أتَّبع الاستخدام المتعارَف عليه وأُشِير إلى الهندوسية بوجْه عام.
(١) النظر للهندوسية من زاويتين مختلفتين
عودةً إلى النقطة التي يرتكز حولها هذا الفصل، سوف أبدأ بطرح سؤال منهجي ذي صلة. والسؤال المنهجي هو الذي يسأل عن «كيفية» فعل شيء ما؛ في هذه الحالة، كيف يَدْرُس الناس الهندوسية، وسؤالي هو: «هل مَن يعتنقون الهندوسية يَرَوْنها بالطريقة نفسها التي يَرَاها بها الباحثون فيها؟» لتبسيط الأمور، سأُشير إلى هاتين المجموعتين باسم «المتعبِّدين» و«الباحِثِين»، رغم أنه سيتضح لنا لاحقًا أن الصورة أكثر تعقيدًا مما يوحي به هذا التمييز.
ما الذي يجعلنا ندرُس هاتين الزاويتين المختلفتين الخاصتين بالمتعبِّدين والباحثين؟ هناك سببان لذلك؛ الأول: أنه كي تختار بين الكتب المتعدِّدة المُتاحة في قسم «الأديان» في المكتبة العامة أو مَتجَر بيع الكتب، من المُفِيد أن تَفهَم أوجُهَ الاختلاف بين ما يكتبه الباحثون والمتعبِّدون. فعادةً ما يختلف المقصِدُ من وراء الكتابة لدى المجموعتين، ويختلف جمهور القُرَّاء أيضًا؛ فالباحثون قد يكون مقصِدُهم الرئيسي التثقيف، أما المتعبِّدون فيكون مقصدهم الحثَّ على الارتقاء الروحاني. يقف السبب الثاني وراء تأليف كتابنا هذا؛ فمَعَ أن هذا الكتاب مقدمة قصيرة، فإنه ينضمُّ إلى فئة الكتب الخاصة بالباحثين؛ فليس الغرضُ منه تزكية ممارسات أو أفكار هندوسية، ولا تقديم وجهة نظر هندوسية محدَّدة، بل تعريف القُرَّاء المهتمِّين — هندوسًا وغيرهم — ببعض السمات الأساسية للهندوسية.
من بين الكتب البحثية، هناك ما يكتبه الهندوس وغير الهندوس. في الغرب على سبيل المثال، توجد مقدِّمات للهندوسية كَتَبَها أشخاص دَرَسوا دينَهم وكتبوا عنه، أمثال كيه إم سين، وأنانتاناند رامباشان، وأرفيند شارما. وهناك كتب أخرى كتبها أشخاص قَضَوْا سنوات عديدة يدرسون الهندوسية، لكنهم لم يَدِينوا بها، أمثال كلاوس كلوسترماير وجافين فلود. هل هناك فارق بين ما كتبه الهندوس أمثال سين ورامباشان وشارما وما كتبه غير الهندوس أمثال كلوسترماير وفلود؟ وإلى أي مدًى تؤثِّر قناعات الشخص الدينية على ما يكتبه عن دِين ما؟
الواقع أن كل كتاب عن الهندوسية يختلف عن غيره من الكتب حول الموضوع نفسه باختلاف خلفية كاتبه ووجهة نظره، فبعض الكُتَّاب الهندوس قد يكونون أتباعًا مخلِصِين للهندوسية؛ بينَما قد يَرَى آخَرون أن الدِّين لا يُشكِّل أهمية كبرى بالنسبة إليهم. بالمثل، نجد أن الالتزام الديني لدى بعضٍ من غير الهندوس (حتى وإن كان لدِين آخَر) قد يُثرِي بقوة بحثَهم، بينما يظنُّ آخَرون أن ترك المعتقدات الدينية الفردية جانبًا نقطة انطلاق مهمَّة. ليس معنَى ذلك أن الكُتَّاب يُطلِعون قُرَّاءهم دائمًا على موقفهم في هذا الصدد. في الماضي، ظن كثير من الباحثين الغربيين أنه من الممكن تقديم رؤية بالغة الدقة والموضوعية عن الهندوسية مثلما يفعل علماء الطبيعة مع ملاحظة البيانات وتسجيلها. واليوم يُقِرُّ أغلب دارسي الأديان — كما هو الحال مع بعض فروع البحث العلمي الأخرى — أن الاختلافات الفردية تؤثِّر على البحث والكتابة. فما يختار الباحثون تضمينَه داخلَ كُتُبهم أو استبعادَه منها، والأمثلة التي يطرحونها، وكيفية تنظيمهم للمادة المطروحة؛ كلها قرارات ذاتية من جانبهم.
كيف إذن يمكن أن تَختَلِف روايتِي عن الروايات التي يقدِّمها غيري من كُتَّاب الكتب التقديمية حول الهندوسية؟ لأن هذا الكتاب عبارة عن «مقدمة قصيرة جدًّا»، فإنني لم أتطرق للكثير من الأمور؛ على سبيل المثال، قررتُ أن أتطرق للأشكال والصور المعاصِرة للهندوسية أكثر من التطرق إلى تاريخ الهندوسية ومعتقداتها وممارساتها الأولى. وبصفتِي باحثةً، فقد حاولتُ التأكُّد من إعطاء النساء الهندوسيات وغيرهن من المجموعات الأقلِّ تمثيلًا الاهتمام الكافي. وبصفتي مواطنة بريطانية بيضاء اللون، فإنني أنتَسِب تاريخيًّا لمستعمِرِي الهند، ليس في وُسعِي أن أغيِّر تاريخي، لكنني حاولتُ أن أفكِّر تفكيرًا نقديًّا في الأثر الذي تركتْه بريطانيا على الهندوسية المعاصِرة. علاوة على ذلك، فإنني لستُ هندوسية، بل أنتَمِي إلى جمعية الأصدقاء الدينية (الكويكرز)، وما سأكتبه هنا لم تؤثِّر فيه على نحو مقصود هويتي الدينية، ولا يَقِف وراءَه أيضًا وجهة نظر هندوسية. ولأنني لا أنتمي إلى الهندوس، فسوف أعرض وجهة نظر مختلفة. لا يمكنني الاعتماد على مصدر معرفة هندوسي داخلي؛ لذا فإنني اعتمدتُ على الاستماع إلى العديد من وجهات النظر والآراء الهندوسية في فهْم هذا الدِّين بكل تعقيداته. وأتمنَّى أن يتضح ذلك للقُرَّاء فيما سَيَرِد لاحقًا في الكتاب.
لكل كاتب وجهة نظره الخاصة، ولكل قارئ أيضًا. فمَن يختارون قراءة كتاب كهذا على سبيل المثال لا بد أن لديهم بعضَ الأفكار بالفعل عن الدِّين بوجْهٍ عام، وربما عن الهندوسية على وجه التحديد. بعض القُرَّاء سيكون من الهندوس، وبعضهم يتبع دينًا آخَر أو لا يتبع دينًا على الإطلاق. بالمثل، مَن سيقرأ هذا الكتاب من الطلاب لا بد أن يكون لديه اهتمامٌ بحثيٌّ بالهندوسية، بينما هناك طلاب آخرون لن تكون مطلوبة منهم كتابة مقالات عن الهندوسية أو دراستها من منطلَق تحليلي، لكنهم يريدون التعرُّف عليها على نحو أكبر فحسب. أتمنَّى أن يَجِد جميع أنواع القُرَّاء شيئًا مفيدًا لهم في هذا الكتاب، حتى ولو كان شيئًا يختلفون معه.
(٢) البحث عن الأصول
كي نفهم جيدًا الاختلافات بين رؤية المتعبِّدين والباحِثِين، سنتَّخِذ التاريخ الهندي المبكِّر كمثال. سوف يُفِيدنا هذا أيضًا في تقديم بعض الأفكار المرتبطة بالتطور التاريخي للهندوسية (انظر أيضًا الخط الزمني للهندوسية في نهاية الكتاب).
كيف يَفهَم الهندوس أصولَهم والتشكُّل المبكِّر لدِينِهم؟ يَصِف الكثيرون الهندوسية بأنها «ساناتانا دارما»؛ أي التقليد أو الدِّين الخالد. وهذا يُشِير إلى الفكرة القائلة إن أصول الهندوسية تتجاوَز بداية التاريخ البشري، وحقائقها قد أُوحِيَتْ من قِبَل الآلهة (شروتي) ثم انتقلَتْ عبرَ العصور إلى وقتنا الحالي في أقدم النصوص المقدسة في العالَم وهو «فيدا». يتبنَّى كثيرون الرؤية الدينية هذه، لكنْ عندما يتعلق الأمر بتفسير التاريخ البشري في الهند القديمة، نجد العديد من الآراء المختلفة. ومن الآراء الشائعة اليوم بين بعض الهندوس، وخصوصًا هؤلاء الذين عادة ما يُشار إليهم على أنهم قوميون هندوس وهم الذين يَرَوْن أن الهندوسية هي الدِّين الحق للهند؛ أن الحقيقة الإلهية قد نَزَلَتْ على الآريين الذين يَعتَبِرونهم الجنس النبيل المستنير الذي عاش في الهند منذ آلاف السنين. تحدَّث الآريُّون بلغة سامية هي السنسكريتية التي كُتبتْ بها نصوص فيدا المقدسة، وأقاموا حضارة هندوسية عظيمة لا تَزَال طقوسُها وأدَبُها وقانونها تُشكِّل معًا ثقافة الهندوس المشتركة اليوم وتراثًا قوميًّا حقيقيًّا للهند. وطبقًا لهذا الرأي، فإن الأشخاص الذين ينتمون إلى الأديان التي تطورت في الهند بعد حقبة الآريين — مثل البوذيين والجاينيين والسيخ — يُعتَبَرون جميعًا جُزْءًا من الديانة الهندوسية، غير أن العديد من الهندوس — بل والبوذيين والجاينيين والسيخ أنفسهم — لا يتفقون مع هذا الرأي؛ فهم يُعارِضون فكرة أن أصول الهندوسية كانت آرية جملة وتفصيلًا، بل يؤمنون أن بعض الآلهة الكبرى والتطورات الدينية المهمة التي نربطها اليوم بالهندوسية مصدره الشعوب الأصلية التي عاشت في الهند قبل الآريين. ووفقًا لهؤلاء، كان الآريون هم الوافدين؛ إذ هاجَروا إلى شمال غرب الهند، وغَزَوا المجتمعات المسالِمة المستقِرَّة وفرضوا أيديولوجياتهم في الوقت نفسه الذي استوعَبُوا فيه ما كان قيِّمًا وشائعًا من الثقافة المحيطة. وقد وافَقَ على هذا الرأي على نطاق واسع أيضًا الباحثون الغربيون الذين أرجعوا هجرة الآريين إلى نحو عام ١٥٠٠ قبل الميلاد، و«ريج فيدا» — أقدم النصوص المقدسة المعروفة لدى الآريين — إلى نحو عام ١٢٠٠ قبل الميلاد.
بالإضافة إلى مَن يُؤمِنون بأيٍّ من هذَيْن الرأيَيْن العامَّيْن، هناك الكثير من الهندوس الآخَرِين الذين يستمِدُّون رؤيتَهم للتاريخ الهندي القديم من التعاليم الخاصة بالجماعة أو الطائفة الهندوسية التي ينتمون إليها. باختصار، لا يوجد منظور تعبُّدي واحِد؛ وبالمثل أيضًا، للباحثين رُؤًى مختلفة. لا يُقدِّم الدليل المادي — سواء من البقايا الأثرية أم النصوص المبكرة — صورةً واضحة، ويَظَلُّ العديد من الأسئلة بلا جواب للمتعبِّدين والباحثين على حدٍّ سواء.
في مطلع القرن الحالي على سبيل المثال، كشف علماء آثار بريطانيون وهنود عن بقايا العديد من المدن القديمة فيما كان يُعرَف وقتَها بشمال الهند (باكستان حاليًّا) التي يرجع تاريخها إلى مَا بينَ عامَيْ ٢٥٠٠ و١٨٠٠ قبل الميلاد؛ أي قبلَ الفترة التي اعتُقِد أن المهاجرين الآريِّين دخلوا فيها شمال غرب الهند. ويُشار إلى المجتمع والثقافة المنسوبَيْن لتلك المُدُن الآن باسم حضارة وادي السند (في دلالة على موقعها) أو حضارة هارابا (وهارابا هي إحدى المدينتين الكبريين، أمَّا الأخرى فعُرفَتْ باسم موهينجو-دارو). تضمَّن الدين الخاص بهاتين المدينتين طقوسًا تعبُّدية، وطقوسًا خاصة بالخصوبة، واستخدام الحيوانات، ربما لتقديم القرابين، وطقس الاغتسال في مَسبَح كبير مُشيَّد من الحجارة. أما القراميد أو الأختام، فكانت تُصوِّر نصًّا مقدَّسًا لم يُحدَّد بعدُ ورموزًا دينية من أنواع شتَّى.
هل كان الكائن ذو القرون المُتَّخِذ وضعَ الجلوس والمُحاط بالحيوانات الذي عُثِر عليه على أحَدِ الأختام صورةً قديمة للإله شيفا؟ هل الأشكال الأنثوية الكثيرة التي عُثِر عليها في المُدُن والقرى المجاوِرة مجرَّد رموز للخصوبة، أم هي دليل على أحد أشكال عبادة الإلهات التي استمرَّت بلا انقطاع على مرِّ القرون، ولا تزال موجودة اليوم؟ هل نص سكان وادي السند مكتوب بلغة قديمة من عائلة اللغة السنسكريتية؛ ومن ثَمَّ تُعتَبَر من اللغات الهندية الأوروبية، أم إن اللغة المستخدمة لغة درافيدية، تحدَّث بها وكَتَبَها السكان الأصليون؟ وهل طَغَتِ الثقافة والمجتمع الريفيان للمهاجرين الآريين على الحضارة المدنية لوادي السند، أم إن كل أو بعض سكان مدينتَيْ هارابا وموهينجو-دارو كانوا هم أنفسهم من الآريين؟
يبحث دارسو الحضارة الهندية سواء من الهند أم الغرب على نحو حثيث هذه المسائل وغيرها على أمَل إلْقَاء المَزِيد من الضوء على التاريخ القديم للهند. وتستخدم مجموعة أخرى من الباحثين الهنود قدْرًا هائلًا من البيانات والحسابات من أجْل تأريخ الأحداث المذكورة في النصوص القديمة. لكن الكيفية التي يُفسِّر بها المهتمُّون — سواء من الباحثين أم المتعبِّدين — ما يحصلون عليه من أفكار ومعلومات جديدة ليست بالأمر البسيط؛ فعادةً ما تكون لهم نظرياتهم الخاصة التي يوائمون تلك البيانات الجديدة معها، وكثيرًا ما يزعم الباحثون أن الدليل المُتاح هو وحدَه الذي يُوجِّههم في الوصول إلى استنتاجاتهم، لكنَّنا لا نحتاج سوى النظر إلى الأعمال البحثية الأولى التي قام بها الغربيون في الهند حتى نرى كيف أثَّرت الاهتمامات الأيديولوجية في ذلك الوقت في عملهم.
معظم الباحثين في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر (الذين نُشِير إليهم عادةً باسم «المُستشرِقين») الذين أخَذُوا على عاتِقِهم ترجمةَ النصوص السنسكريتية وإحياء الماضي الآري كانوا أيضًا مسئولين سياسيين بريطانيين، وعلى هذا النحو، فقد احتاجوا إلى الوصول لفهْم جيد للتقاليد والثقافة الهندوسية كي يُساعِدوا في تأسيس الحكم الاستعماري البريطاني في الهند. وقد توصَّل بعضُهم — بإيعاز مما تعلَّموه عن أوجه التشابُه بينَ اللغة السنسكريتية واللغات الأوروبية وما تعلَّموه عن الشعب الآري الوارد وصفُه في النصوص السنسكريتية — إلى استنتاجات حول الأصول المشتركة للمجتمعات والثقافات الأوروبية الهندية. وقد راقَ الرأيُ الرومانسي الذي توصَّلوا إليه للبعض في أوروبا والهند؛ لأنه افتَرَض وجودَ انحدار مشترك من أصول (آرية) نبيلة، ولأن هذا الرأي — القائل برقي الجنس الآري وعِظَم الحضارة الآرية — له جذوره في الدراسات الغربية المبكِّرة، فإنه قد أصبح الرأيَ الشائعَ لاحقًا بين القوميين الهندوس. وقد كان قادة حركة الإصلاح الهندوسية التي انطلقتْ في أواخر القرن التاسع عشر تحت اسم «آريا ساماج» — وتعني في السنسكريتية «المجتمع النبيل» — من بين أوائل مَن تطلَّعوا إلى ذلك العصر الذهبي، وزعموا وجود تاريخ متَّصِل موحَّد لمجموعة منتقاة من المعتقدات والقِيَم والممارسات الهندوسية الخاصة بتلك الفترة. وما كانت في الأساس رُؤًى بحثية استعمارية أصبحتِ الآنَ مُعتَنَقَة لدى هذه المجموعة وغيرها ممَّن تتَّفِق آراؤهم السياسية والدينية معها.
وهناك رغبة كبيرة بين العديد من الهنود وأولئك الذين يَعكُفون على دراسة الهند في فهْم ماضي الهند وإيجاد أجوبة لتلك الأسئلة الإشكالية. ولا يَقتَصِر الأمر على الكشف عن المزيد من المعلومات التاريخية من أجْل استكمال الفراغات في الصورة غير المكتملة، هذا غالبًا حال الاكتشافات الجديدة؛ تُجِيب على بعض الأسئلة وتطرح أسئلة أخرى، ونادرًا ما تَظهَر الصورة الكاملة، ودائمًا ما تكون هناك مساحة لظهور المزيد من التخمينات والفرضيات، علاوة على ذلك، فإن فهْم المتعبِّدين للتاريخ المبكِّر يتبع قواعدهم الخاصة، بدلًا من اتباع الأدلة والحُجَج الخاصة بالباحثين؛ إذ يَسترشِد المتعبِّدون في المقام الأول بالوحي. وعندما يدعم الدليلُ التاريخي أحد آراء المتعبِّدين، فإنه يكون محل ترحيب؛ لكن القناعة الدينية الراسخة لا تتطلَّب دليلًا كهذا كي تَقوَى وتزداد رسوخًا، بل إنها تعتَمِد على الإيمان. وعلى ذلك يَنظر بعض الهندوس إلى كل هذا الجدل حول ما حدث في الهند قديمًا على أنه ذو صلة فحسب عندما يتفق مع ما تُخبِرهم به النصوص المقدسة، لكن كما أشرنا سابقًا، فإن هناك كثيرين من الهندوس المعاصِرين لديهم قناعة راسخة بأن النظريات البحثية والبيانات التاريخية تقدم دعمًا مهمًّا لما يؤمنون به.
إن ما حدث في تاريخ الهند المبكِّر ليس سوى واحد من عدة مسائل خلافية تؤكِّد على تلك الاختلافات في الآراء. وسوف أتطرَّق بإيجاز هنا إلى مسألتين أخريين، هما تاريخ وأهمية النصوص الهندوسية المقدسة، والممارسات الهندوسية.
(٣) فهم النصوص الهندوسية المقدسة
كما أشرنا من قبلُ، يرى الهندوس المتديِّنون أن «فيدا» كتاب مُنَزَّل؛ ومن ثَمَّ فليس لنشأَتِه وقتٌ محدَّد في التاريخ، بل هو أبديٌّ وإلهيُّ المصدر. واتفق الفلاسفة الهندوس، من أمثال شانكارا ورامانوجا، الذين سنتناول أفكارَهم في الفصل الثالث، مع هذا الاعتقاد واعتبروه أساسًا لأفكارهم حول العلاقة بين ما هو إلهيٌّ وما هو إنسانيٌّ. لكن الباحِثِين الغربيِّين الدارسِين للنصوص كانت دوافعهم مختلفة تمامًا؛ فمَن درسوا «بهاجافاد جيتا» — أشهر النصوص المقدسة الهندوسية — كانوا مدفوعين بمبدأ الصرامة العلمية في سعيهم لتأريخ النص، وترجمته بدقة، والسماح له — من وجهة نظرهم — بالتعبير عن نفسه بدلًا من أن يعكس اهتمامات المفسِّرين اللاحِقِين له. وعمد بعض هؤلاء الباحثين إلى الاعتراض على دقة الترجمات والتفاسير التعبُّدية. بَيْدَ أن النقَّاد الهندوس تشكَّكوا مؤخرًا في منهج هؤلاء الباحثين وفشله في إعطاء أهمية لدور الوحي في المُعتَقَد الهندوسي أو تقليد التعليقات التعبُّدية. ورأى بعض هؤلاء النقَّاد أن المنهج البحثيَّ الغربيَّ القائم على التفكير النقديِّ نفسه يُحرِّف معنى النص المقدَّس. ويقولون إن النصوص المُنزَّلة لا يَستَوْعِبها استيعابًا كاملًا سوى مَن يتقبَّلون مكانَهم داخل تقليد حيٍّ وديناميكي؛ حيث تُسمَع وتُكرَّر وتُتذَكَّر الآيات والقصص، وتُنقَل إلى الأجيال التالية. وفي الفصل التالي، سنُناقِش بمَزِيد من التفصيل النصوص الهندوسية المقدسة وأهميتها.
(٤) الجدل حول الممارسات الهندوسية
تأثَّر هؤلاء المُستشرِقون، الذين درسوا لأول مرة ديانةَ الهندوس في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تأثُّرًا شديدًا بالمفاهيم المُكوَّنة سابقًا لديهم عن الدين. فتمثَّلت خبرتهم في المسيحية، وهي الدِّين القائم على الإيمان بالرب وابنه يسوع وكلمة الرب المُنزَّلة في الكتاب المقدس، وتوقَّعوا أن تكون الديانة الهندوسية مشابهة لذلك؛ لذا، ربما ليس ثمة ما يثير الدهشة في تركيز هؤلاء على النصوص الدينية، مثل «ريج فيدا» و«بهاجافاد جيتا»، وما تحتويه من تعاليم وأحكام؛ بينما لم تحظَ الطقوس والأنشطة الدنيوية للهندوس بالقدر نفسه من اهتمامهم، وعندما كانوا يذكرونها، كانوا يفسرونها عادةً على نحو نقدي بوصفها إضافات متأخرة لما هو في الأصل نظام عقائدي نبيل. لقد تناول هؤلاء الباحثون الهندوسية تناولًا عقلانيًّا، ووصفوا الممارسات الهندوسية في أغلب الأحيان بأنها خرافية ووثنية، ورأَوا أن الهندوسية يمكن أن تكون دينًا أفضل إذا تمَّ التخلص من هذه الممارسات والتركيز على العناصر الإيمانية والفلسفية والروحانية فيها. تأثَّر بعض الزعماء الهندوس أنفسهم في القرن التاسع عشر بهذه الآراء. فنجد أن رام موهان روي — الذي يُشار إليه أحيانًا بأبي الهندوسية الحديثة — كان معارضًا لكلٍّ من «عبادة الأوثان» و«تعدد الآلهة» و«حرق الأرامل» (ساتي). وكانت كتاباته مؤيدة للتوحيد؛ أي الإيمان بإله واحد بدلًا من عدة آلهة، مستعينًا في دعم رأيه بمختارات من النصوص الهندوسية المقدسة ومذهب التوحيد المسيحي. وقد أسَّس جمعية باسم «براهمو ساماج»، وهي الجمعية التي سَعَتْ لإصلاح الممارسات الهندوسية ونشر الأفكار التي تبني جسورَ التفاهم بين الفكر المسيحي والهندوسي. لاقَتْ هذه الأفكارُ قَبولًا لدى عدد قليل من الهندوس الحاصلين على تعليم غربيٍّ، بينما لم يتقبَّلها أغلبية الهندوس. ودافع البرهميون المحافظون عن تقاليدهم. وانضم إليهم باحث غربيٌّ يُدعَى إتش إتش ويلسون احتجَّ بأنَّ طقوسًا مثل حرق الأرامل كانت جزءًا من التقليد الهندوسي، ويجب ألا يتدخل أحد من غير الهندوس في ذلك، وإن كان بحسن نية. (انظر الفصل السادس للاطلاع على مزيد من المناقشة حول رام موهان روي، والمُستشرِقين الغربيين، والجدل حول حرق الأرامل.)
يخلص كاتب يُدعَى نيراد تشودري، وهو الذي كتب بحماس عن هذه المجادلات، إلى أن الهندوسية لا تعتمد في تعريفها على تقاليدها الروحانية والفلسفية بقدر اعتمادها على جانبها «الدنيويِّ»؛ أي تركيزها على الأشياء الخاصة بهذا العالم، مثل جَنْيِ الثروة والحب وممارسة الواجب. ويذهب نيراد تشودري إلى أن الممارسات الطقسية والتعبُّدية والاجتماعية لأتباع كريشنا وشيفا وديفي قد تجاهلها كثير من الدراسات الغربية. ويعتقد نيراد أن القوة أحد الجوانب المهمة في الهندوسية، فيهتم معتنقوها بالسعي للحصول على المساعدة الإلهية لاكتساب هذه القوة واستخدامها لتحقيق الغايات والمكاسب المرجوة.
لقد رأينا أن الباحثين والمتعبِّدين دفعتْهم في الغالب مبادئ مختلفة في أفكارهم بشأن الهندوسية، وتاريخها، ونصوصها المقدسة، وممارساتها، لكن ثمة اختلافات ظهرت أيضًا داخل كلِّ فريق من هذين الفريقين، فحاول بعض الباحثين من غير الهندوس التعرف بأسلوب خلَّاق على الرؤى الهندوسية بشأن العالم، بينما نظر باحثون آخرون لهذه الرؤى من منظور اهتماماتهم الاستعمارية أو المسيحية. وطوَّر بعض الهندوس نوعًا من البُعد النقدي تجاه دينهم، يمكِّنهم من التفكير في دينهم بأسلوب أكثر موضوعية، بينما نشأ آخرون على الأساليب الهندوسية التقليدية، ولم يَرَوْا أيَّ داعٍ للتشكيك فيما تعلَّموه. وفي الفصل التالي، سنلقي نظرةً أكثر تعمُّقًا على الطريقة التي يتعلَّم بها الهندوس تقاليدهم، والأهمية التي يُعطونها لمسألة الحفاظ على هذه التقاليد ونقلها إلى الأجيال القادمة.